ليس في الدنيا موضوع نخاف بحثه لا مسمعين ولا مستمعين. وليس الأجانب بيننا بأسيادنا، ولا هم أعداؤنا حتى، وليسوا هم ضيوفنا. ونحن هنا قد خبرنا معنى اللفظة «أجنبي» سلبا وإيجابا. عرفناها ومئات الألوف منا أجانب في مغتربات، وعرفناها في أرضنا وألوف الأغراب أجانب بيننا.
ونحن نعلم أن الإنسان ما هو بحيوان تحفزه بهيمية المادة فقط، فهو حين شرد عن أدغاله في التاريخ القديم أو هجر وطنه في التاريخ الحديث لم تكن حاجات العيش الملحة وحدها التي تحدوه، بل كان ولا يزال يحب الاستطلاع، ويتحدى المجهول، فكان فاتحا ومستعمرا، وسائحا ومتفرجا، وطالب ثقافة في آن واحد.
ونشب بين الأجنبي الفاتح والمواطن المقهور معارك استعملت فيها كل الأسلحة المادية والروحية، فكان الأجنبي المستعمر المستغل، وكان الأجنبي المبشر المثقف، وكان التاجر المسالم أو التاجر الجشع. ونشأ في المعسكر المقابل المجاهد البطل المقاوم، أو الضعيف المستنيم، أو المرتزق الذي همه العيش لا يأبه كيف جاءت وسائله. وكان هنا وهناك خليط من كل هؤلاء. واليوم وهذه الدنيا تصغر وتتقلص، واليوم وفي طبيعة بلادنا وجغرافيتها ما يجعل هذه الأمة منسجمة مع سواها أو متضاربة، فما الموقف الذي يجب أن نتخذه من كل ما هو أو من هو أجنبي؟
يجب أن نطرد الضعف والخوف من نفوسنا. الخائف هو أبدا خاطئ التفكير. إن مئات السنين من الاستعمار وخيبات كبرى نزلت بنا ولدت في نفوس الكثيرين منا هزالا في الإيمان. هذا الضعف يتجسد أحيانا في ميوعة يقولبها كل إناء. وهذا الضعف يرفه عن نفسه أحيانا في أناشيد من التبجح والمباهاة. وهذا الضعف يرسب في بعض الأحيان وحلا من تعصب ونقمة وحقد على كل ما هو أجنبي. ليس الأجنبي بسيدنا، ولا هو عدونا، حتى ولا هو ضيفنا. إن البشر في سيرهم الحضاري نحو الأسمى والأكمل والأجمل وحدات قومية اجتماعية كان لا بد لهم من التعامل والاختلاط، وكان لا مفر لهم من الاصطدام، كما كان لا مفر من التفاهم والتسويات. ونحن نساهم في بناء هذه الإنسانية الشاملة حين نطلب القوة في نفوسنا أولا، وحين نرسخ هذه القوة في مجتمعنا حتى تتوفر فتنطلق فعالية إنسانية. إذ ذاك لا نكره الأجنبي؛ لأننا لا نخافه، وإذ ذاك لا نخضع للأجنبي لأننا لا نخافه؛ إذ ذاك لا نتهافت على (دفاع مشترك) في استسلام الزحفطون، ولا نرفس الدفاع المشترك في قرطزة العنجهون.
غير أن هذه القوة - التي هي وحدها ضمان التعامل مع الأجنبي على الصعيد الإنساني الصحيح - لن تأتينا إن نحن بقينا في هذه اللحظات الحاسمة، وفي أشداق هذه المخاطر متناثرين متخاذلين متخاصمين. إن ضعفنا في الميدان العالمي أمام الأجنبي، وأمام العدو، هو في جوهره ضعف الشركاء المتخاذلين المتخاصمين أكثر منه ضعف الذين تنقصهم قوة الذات على الصعيد الفردي. وإن فينا قوى هنا وعبر البحار لا نجندها ولا نعبئها؛ لأن تخلقنا وتخاذلنا وتخدرنا لا تستنفر هذه القوى، ولا توحي لها الجهاد.
أريد أن أحدثكم عن إحدى هذه القوى ماذا فعلت حين أوحي لها الجهاد. كان ذلك منذ خمس سنوات عام 1948، وكنت مدعوا إلى عشاء عند سيدة من كفر شيما هي السيدة وديعة هاشم حمادة. كنا تلك الليلة في «مانيلا» حول صينية كبة حين رن التلفون: نيويورك على الخط. أخذت السماعة وأصغيت إلى صوت كميل شمعون؛ مندوب لبنان في منظمة الأمم: التصويت على تقسيم فلسطين بعد أسبوع، ويجب أن نقنص صوت مندوب «الفلبين» في منظمة الأمم. وكان رئيس جمهورية الفلبين «مانويل. أ. روهس» رجلا ربي في بيت وديعة هاشم حمادة، حنت عليه فتى فقيرا ذكيا طالب حقوق. كان يناديها «أمي»، وكانت تدعوه تحبيبا «مانولين». إني أراها الآن وسماعة التلفون في يدها تخاطبه: بربك يا «مانولين». إني أراها الآن في تلك الليلة وأنا وزوجها المرحوم كامل حمادة نركض نحو السيارة لمقابلة رئيس الجمهورية الفلبينية. إني أسمعها تستوقفنا مداعبة، مشيرة إلى التلفون الذي تلقيت منه كميل شمعون: «يا عيب الشوم، رجلان من بعقلين يسوقهما رجل من دير القمر.»
إن الخطاب الوحيد الذي ألقي قبل تقسيم فلسطين في منظمة الأمم عام 1948 ألقاه كارلوس. ب. روميلو؛ مندوب الفلبين ورئيس منظمة الأمم فيما بعد. إن ذلك الخطاب ألقي على الأكثر بسبب امرأة من «كفر شيما».
هذه قوة إحدى قوانا فعلت. إنه لم يقل لي شيئا غريبا ولا شيئا جديدا ذلك الذي قال: «إن فيكم قوة لو فعلت لغيرت وجه التاريخ.»
يا حضرة الرئيس، أيها السادة:
موضوع خطابي نحن والأجانب، ولكني بدأته بحكاية برنيطة باعني إياها رجل من «كفر شيما»، وانتهى بخطاب في منظمة الأمم أوحته امرأة من كفر شيما.
صفحه نامشخص