وقبل أن يرقى الجيب طلب للمرة الثالثة والأخيرة أن يرى زوجته وأولاده، وللمرة الثالثة والأخيرة سمع الجواب نفسه، فتبينت ملامحه. وفي تلك اللمحة العابرة فقط من عمر ذلك الليل لمحت وميض العاطفة خلال زوبعة الرجولة.
وسارت الجيب بالزعيم يحف به الضباط وخلفه تابوته، وقافلة سيارات وشاحنات من ورائه وأمامه ملأى بالجنود المسلحة. ولعل مسا من البله اعتراني، فبدا لي أن تنفيذ الإعدام سيؤجل، أو أن عفوا سيصدر. سيطر علي هذا الوهم فخدرني حتى انحرفنا عن الطريق العامة إلى درب ضيقة بين كثبان، ووقفنا في فجوة بين الرمال كأنها فوهة العدم.
وقفز من بينهم مكبلا إلى عمود الموت المنتظر، فاقتربوا منه ليعصبوا عينيه، فسألهم أن يبقوه طليق النظر، فقيل له: القانون، أجاب: إنني أحترم القانون.
وأركعوه وشدوا وثاقه إلى العمود. وكأن الحصى آلمته تحت ركبتيه فسألهم إن كان من الممكن إزالة الحصى، فأزالوها، فقال لهم: «شكرا شكرا.» رددها مرتين وقطع ثالثتها الرصاص.
فإذا بالزعيم وقد تدلى رأسه وتطايرت رئته اليمنى، وتناثرت ذراعه اليسرى، فلم يعد يصل الكف بالكتف إلا جلدة تتهدل.
وكوموا الجثة في التابوت، وتسارعت القافلة نحو المقبرة، وهناك كادوا يدفنونها من غير صلاة لو لم يتعال صياحي. أخيرا قالوا لي: «صل إنما أسرع، أسرع، صل من قريبو.»
ودخلنا الكنيسة ووضعنا التابوت على المذبح، ورحت أصلي والدم يتقطر من شقوق الخشب ويتساقط على أرض الكنيسة نقاطا نقاطا ليتجمع ويتجمع ثم يسيل تحت المذبح.
وخرجنا من المعبد، ووقفت أمام بابه أواجه الفجر الذي أطل وأناجي الله، وأسمع رنين الرفوش ترتطم بالحصى وتهيل التراب، وترتطم بالحصى، وتهيل التراب.
بذا حدثني الكاهن الذي عرفه.
أقول لك إن تراب الدنيا لن يطمر تلك الحفرة.
صفحه نامشخص