فسارت «باسمة» معه من سلم إلى سلم، ومن بهو إلى بهو، وقد جاذبته الحديث طويلا في هذه الأثناء، ورمت إليه بكثير من شباكها، وألقت إلى قلبه بالمجرب النافع من سحرها، ولكن عمارة كان عنها وعن فنونها في شغل شاغل، فلم يقابلها إلا بالصد والعبوس؛ فحزنت «باسمة» ولكنها لم تيأس، وقالت في نفسها: ويل لهذا المهر الحرون مني!! سيأتي إلي خاضعا، وسيلقي عنانه بين يدي ذلولا، ثم قابل راجحا فودعته «باسمة» وانصرفت، فركب عمارة وراجح جواديهما، وإذ هما يخرجان إلى الطريق سمع عمارة مؤذن الصبح من مئذنة الجامع الأقمر، وهو يردد بصوت رنان: حي على خير العمل!! ... حي على خير العمل!!
أقام عمارة بالقاهرة طويلا في عز وثروة وهدوء بال، وكان يستدعيه راجح في كل أسبوع للقاء الأميرة، فزاد هيامه بها، وبجودها وذكائها، وحرصها على حياطة الدولة، وكانت «باسمة» في كل زيارة تغازله على أن تصبيه، فيصرفها عنه في تعفف واستنكار.
وبينما كانت تودعه إلى باب القصر في بعض زوراته، دخلت به إلى إحدى الحجرات، وسألته في رشاقة تستنزل العصم، وفي دلال يلين الصخور الصم أن يكتب لها بعض أبيات رقيقة قالها في الغزل، وكانت تحدثه وهي ترفع خصلة متهدلة من شعرها الذهبي اللماح، وتصوب إليه عينيها في ضعف وفتور، يوقظ الفتنة النائمة، ويثير العاطفة الخامدة، والجمال يستعين دائما بقوته إذا ملك، وبضعفه إذا حاول أن يملك، والجمال الهادئ المستكين أقوى أنواع الجمال تحكما في قلوب الرجال، وهو أحبولة المرأة، وأداة وثوبها، ودرع دفاعها، عرفت المرأة بفطرتها الصادقة، وغريزتها النافذة، ما في الرجل من غرور وكبرياء، واعتزاز بحوله وطوله؛ فهي دائما تأتيه من هذه الناحية، فتتوسل بضعفها إلى قوته، وبأنوثتها إلى رجولته، وبلينها إلى خشونته، وبأنها تريد أن تتخذ من قلبه حصنا تلجأ إليه من عواصف الأيام، ومن عطفه حمى تلوذ به من أعاصير الحياة، ثم تبعث بجمالها الوادع الذليل شفيعا إليه، فلا يزال به حتى يجتذب عطفه، ويستهوي حنانه - والحنان أول مراتب الحب ، والإشفاق أول مراحل الغرام - حتى إذا فازت بعطفه، أخذت في إنمائه بالإيحاء، وبأساليب يعرفها النساء وحدهن: أساليب كأنها غير مقصودة، وهي مقصودة، وكأنها من المصادفات، وليست من المصادفات، وكأنها تصدر على الرغم منهن، وليست إلا من قصدهن، وهنا يقع الرجل في الشرك، وهنا يتغلب الحب، وهنا تتحكم المرأة، وهنا يعود ذلك الضعف المتصنع قوة وجبروتا!!
قالت «باسمة»: إنها ليست أبياتا يا سيدي، إنها همسات الحب في أذن العاشق المهجور، أتعرف أنني كلما سمعت «طروب» تغنيها لم أملك دموعي!!
إن الشعراء يجتذبون المرأة بمثل هذا الشعر الذي لا يخطئ سبيله إلى القلوب، فإذا اهتزت مشاعرها له جاء الحياء فكتم ما تحس ودفنه بين جوانجها حيا، لا لشيء إلا لأنها امرأة يجب ألا تتكلم، ويجب ألا ينم وجهها عن السخرية بالغزل، وأغاني الغرام، أما الرجل فمباح له أن يبوح بما في نفسه، ومباح له أن يغري من يشاء بما شاء، ولقد يكون خداعا، ولقد يكون ماجنا عربيدا، يلهو بقلوب الحسان كما يلهو الطفل بلعبه، حتى إذا سئمها داسها بقدميه، وتركها حطاما.
ليس للمرأة المسكينة أن تقول: أحب، وليس لها أن تجيب عن ابتسامة بابتسامة، ولا عن زفرة بزفرة، وإنما عليها أن تصرف وجهها عن مائدة الحب، ونفسها تشتهي كل ما عليها من ألوان؛ لأنها صنم من جمال، وتمثال من حسن، لا يتكلم ولا يريد، فإذا ضحكت أحيانا ضحكة فيها رنين، أو انزلق لسانها بكلمة تصور خلجة من خلجات النفس الحائرة، أو أدلت برأي في معنى الحسن - سلقتها الألسنة، وحملقت نحوها العيون، وترحم الناس على الحياء والفضيلة، وهزت العجائز رؤوسهن في رعب ودهشة، وبكين ماضي أيامهن، حين كانت البنت ترى ولا تسمع، ثم ينتقلن بالحديث إلى فساد الزمان،. واضطراب الأوضاع، وضياع آداب السلف.
ويا ويل الشباب من المشيب!! فإنه حينما يرى أنه تسلب من القوة، وماتت فيه غرائز اللهو، وقعدت به السن عن الاستمتاع بلذائذ الحياة - يمتلئ صدره على الشباب حقدا، وتغلي نفسه منه غيظا، ويرميه بالجنون والطيش، وتمزيق ستار الأدب، وتمريغ الفضيلة في التراب، ولو أن شيخا هب من نومه، فأحس بالشباب وقد عاد إليه، والفتوة وقد تمشت في عروقه الواهنة الذابلة، ونظر في المرآة فرأى شيبه، وقد ارتد سوادا، ووجهه وقد صقله الصبا، ومحا منه الغضون - لغير رأيه في الفضيلة، وكان أوسع أفقا، وأكثر تسامحا، وأسرع إلى داعي اللهو استجابة، ولضحك مما كان يراه بالأمس من وجوب التحرج والتزمت، والابتعاد عن التمتع بزينة الله التي أخرج لعباده. - هذه صحيح يا فتاة، ولكن ما لك تعذبين نفسك بهذا التفكير الذي لا يجر إليك إلا الحزن والبلبال؟! - إنني يا سيدي لم أخلق نفسي، ولو خيرت لاستبدلت بهذه النفس التي أشقى بها نفسا جامدة بلهاء، لا تشعر بالمعاني السامية، ولا تهتز للجمال الروحي الذي فيه غذاؤها وريها وحياتها، أنا يا سيدي فتاة منكوبة، أعيش حبيسة في هذا القصر، بين سادة يسومونني الذل والخسف؛ لأنني في أعينهم أمة اشتروها بمالهم، واشتروا معها في زعمهم كل ما فيها من حس وإدراك وشعور، فيجب ألا تحس وألا تدرك وألا تشعر، وبين خدم يحسدونني على منزلتي من سيدة القصور، ويدبرون لي المكايد، وينصبون الحبائل، أرأيت يا سيدي أسوأ من هذه الحال؟ أمة ذليلة محسودة، أمة تضطهد في ضوء النهار، وتحاك لها الدسائس في ظلمة الليل.
أمة ...؟ وهل أنا أمة ...؟! ولكنهم أماتوا روحي، وقتلوا ما كان في نفسي من عزة، فلن أستطيع أن أتكلم!! - إني أتألم لألمك يا فتاتي، تكلمي ... تكلمي ... فلن يزيح عن النفس أحزانها إلا البوح والبكاء. - لك يا سيدي أبوح، ولمثلك أشكو، فإن لك قلبا لا يضيق بفتاة بائسة مثلي، تلتجئ إلى ركن فيه لتعتصم من ويلات الزمان.
أنا لست أمة أبا محمد، إن لي قصة تستنزف ماء الشئون، وتثير لواعج الشجون، ولكن لساني لم ينبس بها لأحد، وماذا في أن تكشف ذات نفسك لقوم لا يلقونك إلا بالسخرية والتكذيب والمراء! أنا لست أمة، ولكن أبي كان حاكما ببلاد الجركس، ولم يكن له من ولد غيري، وكنت ريحانة حياته، وفلذة كبده، وحبة قلبه، وكان بي مشغوفا ، وبحبي كلفا، وكان أبي شديدا في مطاردة اللصوص، مستقصيا لهم، صارما في عقوبتهم، فقبض مرة على زعيم من زعمائهم فأذاقه صنوف العذاب، ثم وسطه في ميدان المدينة، ويظهر أن أحد رجاله أراد أن ينتقم له، فرأى أشد ما ينتقم به منه أن يختطف ابنته، وأن يذيقه لوعة فقدها - فخطفت في السابعة من عمري، ونقلت إلى الشام في بيت نخاس، كان يحفني بعناية فائقة، ويشملني بعطف سابغ، ويدللني تدليل الأب الشفيق. وقد أحضر لي عجوزا كانت تختلط بنساء الأكابر، لتلقنني آداب السلوك، وآيين القصور، وكنت وأنا بين هذا الترف الكاذب، والنعيم الزائف أسكب الدمع في خلواتي مدرارا، وأكاد أبخع نفسي على أهلي حزنا.
وقد أقمت عند صاحبي طويلا حتى بلغت مبلغ الأنوثة الكاملة، وتفتحت في أكمام الشباب الناضج، وأظهرت مني الخامسة عشرة مكنون الجمال، ومستور الفتنة، وإذا كان الشباب جمالا، فأجمل منه أن يكون جميلا، وكلما تبلج حسني زاد صاحبي بي حفاوة ولي إكراما، وذاع في دمشق أن لدي حسين الدفاني النخاس فتاة لم تحو قصور الملوك مثلها، فتزاحم على بابه سماسرة العبيد والجواري، يغرونه ببيعي، ويزيدون في ثمني بالمئات من الدنانير، وكان الرجل يقابل إسرافهم في العرض بإسراف في الإباء، وكنت في أثناء هذه الضجة وهذه المغالاة بقدري، لا يفارقني خيال أبي، ولا تنأى عني ذكراه، وكان قلبي بالحنين إليه خفاقا، وبالشوق إليه دائم الوجيب، حتى زارتنا في عصر يوم امرأة من بلاد الجركس، فجاذبتها أطراف الأحاديث، ثم انفلت في حذق ولباقة إلى السؤال عن أحوال البلاد، وعادات أهلها، كأني لا أعرف من أمرها شيئا، فانطلقت المرأة في القول، وأسهبت فيما يصيب البلاد من فوضى، وما فيها من عصابات ضارية، مردت على اختطاف البنات وبيعهن في أسواق الرقيق، وعلمت منها أن أبي بعد أن نكب في ابنته، برح به الحزم فمات كمدا، حينئذ يئست من الحياة، وعرفت أني خلقت للذل والمهانة، وأن هذه الحلي التي تزين معصمي وصدري، والحرائر الثمينة التي أرتديها، إنما هي من عبث القدر وأضاحيكه، وأنها أشبه بزخرف القبور، منها بزينة فتاة تستقبل الحياة.
صفحه نامشخص