الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
صفحه نامشخص
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
صفحه نامشخص
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
سيدة القصور
سيدة القصور
صفحه نامشخص
آخر أيام الفاطميين بمصر
تأليف
علي الجارم
الفصل الأول
كان النهار في صولة شبابه، وكانت الشمس تبعث بأشعتها وهاجة ملتهبة تكاد تشوي الوجوه، وكان الجو على حرارته كثير الرطوبة، والندى المتصاعد من البحر، وكأن النسيم الذي أكثر الشعراء من ادعاء أنه عليل، قد طالت علته فقضى نحبه، فلا تسمع له جرة ذيل، ولا همسة أنين.
وقد أضنى الناس بمدينة عدن هذا الومد، وهزل أجسامهم القيظ بعد أن توالت عليهم شهور الصيف شديدة لواحة، كأنما كانت تتنافس في مسهم بشواظها، فلا يجيء شهر إلا وهو أشد وأنكى من صاحبه.
وظن أهل المدينة أن العري يخفف عنهم بعض ويلات الحر، فتسلبوا من الملابس إلا أزرا قصيرة يشدونها إلى أوساطهم، ولو علموا لصانوا أجسامهم من هذا السعير اللافح، الذي كساهم ثوبا لماعا من العرق، كلما تساقط نسجت لهم الشمس ثوبا جديدا، وكلما مسحوه بأيديهم سال نبعه وتقاطر، حتى كأن كل رجل أصبح إنبيقا يتحول كل ما فيه ماء بالتصعيد والتقطير.
خلت طرق المدينة من السابلة إلا من دعته شدة الحاجة إلى المسير، وفزع المتعطلون إلى الظل والنجائر يتقون بها شدة الهاجرة، أما الأغنياء والموسرون: فلبسوا البيوت، وزرروا الأبواب، والتجأوا إلى سراديب عميقة في الأرض، ينفذ إليها الهواء من بناء إسطواني كالداخنة، يشق طبقات الدار، وتنفذ فوهته إلى سطحها، وكان علي بن مهدي - وهو من دعاة الفاطميين، وكبار رجالهم - في داره في هذا اليوم، ومعه جماعة من الأدباء والعلماء، بينهم أبو كاظم الحراني، والفقيه أبو الحسن النيلي، وأسامة الحضرمي. وكانت الدار على سيف البحر، فخمة شاهقة البناء، تدل على عظمة صاحبها، واتساع جاهه، وقد أسرع العبيد فبلوا دهاليز السرداب بالماء، حتى بدت فيها بحيرات صغيرة هنا وهناك.
وجلس ابن مهدي وأضيافه في حجرة كان أثاثها غاية في الحسن وجمال التنسيق، وقد كسيت فيها الأرائك بالحرير الأرجواني، واختيرت الستور من الخز التنيسي، وفرشت الأرض بالبسط الهندية، ودل كل شيء فيها على ذوق سليم وبذخ وإسراف، وقد وقف في نهاية الحجرة أربعة عبيد، يمسكون بحبال مروحة مستطيلة، عملت من القطيفة الغليظة النسيج، وعلقت بسقف الحجرة على طول امتداده، فهم لا يفتأون يجذبون الحبال ويرخونها، والمروحة تتحرك إلى الأمام والخلف؛ أملا في أن تجود على من بالحجرة بنفس من نسيم.
بدأ ابن مهدي فقال: هذا يوم لم تر عدن له مثيلا، وستصبح سنة تسع وأربعين وخمسمائة ذكرى خالدة لأهلها، يوقتون بها ويؤرخون.
صفحه نامشخص
فقال الحراني - وكان فكها: سيقولون زار الحراني عدن سنة الحر، فعاجله النيلي، وقال: وسيقولون سرق خرج النيلي سنة الحر؛ فضحك القوم، والتفت إليه ابن مهدي وقال: أسرق منك خرج حقا؟؟ - لا أدري ... أسرق؟! ... أم ابتلعته الأرض؟! ... أم تخطفته السماء؟! ...
وصلت القافلة من زبيد عند باب المدينة الذي يسمونه هنا (باب الصدقات)، أو هو باب السرقات على الأرجح، وحط رحلي، ووضع ما عليه من متاع وأثقال، وأنا أنظر إليه لا تكاد عيني تذهب عنه، وكان الخرج بين المتاع، وقد ازدحم حول السفار جماعات من الحمالين والمجتدين، وبينهم امرأة هزيلة شاحبة في أسمال - أو فيما كانت أسمالا - لا تكاد تستر جسمها، وكان وجهها يحكي وهو صامت حكاية مؤلمة للسغب، والفاقة، ومرارة الحاجة، وقد حملت بين يديها طفلا أو جعلا، تركه الجوع عظاما في جلد، أو جلدا على عظام، وأخذت تمد ذراعيها به في وجهي، فراعني سوء حالهما، وبحثت في جيبي عن درهم أمسك به رمقهما، وما كدت أمد يدي به إليهما، وأعود بعيني إلى أمتعتي حتى وجدت مكان الخرج خاليا!!
فقال الحراني: هذه هي اللعبة يا سيدي التي لم تدرسها في الكتب، ولم تجد لها مثيلا في كتاب الحيل الفقهية للخصاف، وكأنما كان أبو نواس اللئيم يشير إليك بسبابته حين يقول:
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة
حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
هذه المرأة يا مولانا تعمل مع اللصوص والشطار، وهي آلتهم التي بها يصلون إلى غاياتهم، هي الطعم الذي يقذفون به إلى السمك لاصطياده، هي الحب الذي ينثر حول الفخ ليقع عليه الطائر الغر، هي البؤس المزوق الذي جاء يستلب مالك اضطرارا لما عجز البؤس المحقق عن أخذه منك اختيارا، هذه المرأة وأمثالها يرسلها العيارون إلى من ينكب بهم؛ ليثير منظرها المؤلم نفسه، فيصرفه عن النظر إلى ما حوله، وقد يكون مقدار ذهوله لحظة أو دونها، وهذه اللحيظة كافية لأن يسلبوه ما يشاءون.
فقال النيلي - وقد ظهرت في وجهه آلام من يشعر بالتفريط، أو من يتوقع أنه سيوصم بالغلفة والبلاهة: حقا إنهم شياطين!!
وهنا سأله ابن مهدي في شيء من الاستنكار: ألم تذهب إلى والي المدينة، وتقص عليه قصتك؟ فلعله يجد سبيلا إلى الوصول إلى ما سرق منك!! - ذهبت إلى داره، وهي تقع في محلة الحدادين إلى الجانب الشرقي من المدينة، فوصلت إليها بعد لأي وجهد، فلما طرقت الباب خرج لي أحد غلمانه، فلما سألته عنه، قال: إنه مريض منذ يومين، أكل لحم جزور زهمة فأصيب بالزحار.
فسألته عن وكيله، وأين مكانه؟ فقال: إنه أعرس بالأمس، وإنه نازل عند أصهاره «بذي جبلة»، وإن المسافة بين عدن وبينها سبعة عشر فرسخا؛ فحوقلت ورجعت، وقلت لنفسي: ضاع خرجك يا أبا الحسن بين معاناة الزحار، ومناغاة الأبكار!!
فضحك القوم، وأغرقوا في الضحك، ثم قال ابن مهدي في مواربة ودهاء: خل عن المزاح الآن أبا الحسن ... كيف حال الدعوة الفاطمية بزبيد؟؟ ... لقد جاءت رسالة من الخليفة الفائز إلى محمد بن سبأ ينعي عليه فيها التهاون في نشر الدعوة، ويستحثه على أخذ كل من نكل عنها بالبطش وقوة السلطان.
صفحه نامشخص
فأجاب الحراني: إن الدعوة الفاطمية بزبيد على خير ما يتمنى لها من القوة والانتشار، فإن الملك فاتكا لا يفتأ ناشرا لها، عاملا على بثها في كل نفس، ونائب داعي الدعاة هناك، ونقباءه، ونوابه لا يتركون سنيا حتى يضموه إلى حظيرتهم، فقال ابن مهدي: ذاك كلام أبا كاظم، فإن ما لدينا من الأخبار يجبه ما تقول، ولعل حبك لفاتك هو الذي دفعك إلى الذود عنه!
فأسرع الحراني قائلا: لقد صدقتك يا سيدي، وإذا كان لا بد من الحق الصريح الذي لا يخالطه استثناء، فإنني أوكد لك واثقا أن زبيد كلها فاطمية، إلا أسرة زيدان، وأسرة المثيب، وهما أعمام عمارة بن زيدان وأخواله.
فانبري له الحضرمي - وكان صديق عمارة الوفي - قائلا: ما لك أبا كاظم وعمارة؟! إنك في النيل منه والكيد له جد متهم ... وإن كنت لا أعرف أسباب نقمتك منه وحقدك عليه؟!
وهنا صاح ابن مهدي، وقد رأى الشر يتصاعد شرره: مه أيها الأخوان ... فإننا اجتمعنا للمحادثة والمحاضرة، لا للتنابذ والمهاترة ... أعلمتم أن عمارة بن زيدان، قدم منذ أيام وافدا على محمد بن سبأ صاحب عدن؟ أتعرفون سبب هذه الوفادة؟ فأسرع الحراني قائلا: إنه قناص سديد الرماية، فلعله اشتم هنا رائحة صيد جديد، ثم قال النيلي: إن عمارة اليوم يا سيدي غيره بالأمس، فقد كنا نعرفه بالمدرسة العصامية بزبيد فقيرا مملقا، يعيش عيشة طلاب العلم في عسر وشقاء، ولكنه بعد أن اتصل بأمير زبيد ومدحه أغدق عليه، فأصبح صاحب الحول والطول، وصار موضع الشفاعات، وقاضي الحاجات، ثم إنه تاجر فراجت تجارته، وسارت سفنه بين زبيد وعدن وجدة، لا تكاد تنقطع في ليل أو نهار، حتى لقد قال له يوما أبو عبد الله الحفائلي - وهو رأس العلم والأدب بزبيد: ته علينا أبا محمد، فقد أصبحت ولا مثل لك في الجاه والعلم والثراء! وليته بعد أن أسبغ الله عليه هذه النعمة الطارئة شكر الله عليها بقليل من التواضع، أو أدى زكاتها بشيء من اللطف والمجاملة! ولكنه صلف متكبر مغرور - وإن كره الحضرمي،. فأسرع الحضرمي وقال: كفى كفى أبا الحسن؛ لقد أكلتم لحم أخيكم ميتا، ومزقتم من الرجل وهو غائب ما تخرس دونه ألسنتكم وهو حاضر، إن عمارة لم يكن دعيا في جاهه، ولم يكن محدثا في نعمته، إن عمه علي بن زيدان أكرم من نثر مالا، وأشجع من جرد سيفا، وخاله محمد بن المثيب أشرف قومه، وسيد قبيلته، ولولا الجدب المحرق الذي أصاب «مرطان» سنة تسع وعشرين وخمسمائة، فأهلك الحرث والنسل - ما احتاج عمارة إلى السعي في الرزق، والتنقل في طلب المال، وما سمعنا مثل أبي الحسن النيلي يلمزه اليوم بأن نعمته طارئة، وثروته محدثة. فقال ابن مهدي: إن عمارة رجل يجمع كل صفات الرجولة، وقد حادثته بالأمس في دار ابن سبأ، فرأيت فيه علما وأدبا ودهاء، والذي قرأته في وجهه، واستنبطته من خلال حديثه: أنه رجل عظيم الآمال، كبير النفس، طموح بعيد المدى، وهو يذكرني بالمتنبي شاعر كافور، وأرجو ألا تكون له مثل خاتمته.
ثم مدت مائدة الطعام، وقام الغلمان بالخدمة، وقدمت الألوان الشهية، وأنواع التوابل الهندية، فأكل القوم وشربوا، وهم يتنادرون ويتسامرون، ثم استراح الضيوف بعد الأكل قليلا، حتى إذا قاربت الشمس المغيب، ودعوا رب المثوى وانصرفوا.
الفصل الثاني
خرج الحراني والنيلي والحقد يأكل قلبيهما، لما سمعاه من إطراء ابن مهدي صفات عمارة، وهما يعلمان ما لابن مهدي من عظيم التأثير والكلمة المسموعة عند محمد بن سبأ، وأنه إذا ظفر عمارة بمودتهما، بعد أن فاز عند أمير زبيد بعظم المكانة لم يأمنا شره.
وأسفا على أن طعناه، ونالا منه أمام صديقه الحضرمي، الذي سينقل إليه صورة ما دار بالمجلس كاملة وافية، إن لم يزد عليها كثيرا من ألوان التحسين والتزويق.
بدأ الحراني الحديث قائلا: ما العمل أبا الحسن؟! فقد زلق لساني، وتجاوزت حد الحزم في ثلب عمارة، وتمزيق عرضه؟!
إن عمارة اللئيم الداهية استطاع أن يحافظ على مذهبه السني، وأن يجتذب هؤلاء الفاطميين من ناحية، ورؤساء زبيد من ناحية أخرى. حقا إن أمر هذا الرجل لعجيب! إن له في التأثير في الكبراء ما يشبه السحر، حتى كأنه بقوة روحه أنسى دعاة الفاطمية التشدد في إلزامه مذهبهم، وكأنهم يرونه خلقا عظيما فوق المذاهب والعقائد؟
صفحه نامشخص
إنه يمدح الفاطميين، ويمدح السنيين بشعره، ولو رأى مجوسيا لمدحه، وإذا خاطبه الناس في هذا ولاموه قال: إن تجارة السلع علمته التجارة في الشعر، وإنه ينسج من قصائده أثوابا مختلفة الأثمان، متنوعة الطول والقصر، يبيعها لكل من تقدم لشرائها، وإنه لم ير في حياته بزازا امتنع عن أن يبيع لوثني أو رافضي، ويظهر أنه بهذا الطريقة نجا بمذهبه السني. - هو في الحق شديد الحرص عليه، وهو في الحق يمتاز علينا في هذا، فإننا أظهرنا التمسك بالمذهب الفاطمي عند أول تهديد من داعي الدعاة. - هون عليك أبا الحسن، فإن قليلا من الرياء في هذه الدنيا ليس بالأمر الجلل، وهو سلاح خلقه الله فينا نتقي به الخطر، كما خلق الدرقة في السلحفاة، والقدرة على التلون في الحرباء، ولو أن سائلا سألني عن منفعة اللغة لأجبته بأن أعظم فوائدها: أنها لا تعبر عما في الضمير!! وهؤلاء السادة الذين تراهم، وهؤلاء العلماء، وهؤلاء الأثرياء لن يستطيعوا العيش بلا رياء.
إن الأطفال في هذا الزمان يراءون! ولست أدري أكان أكثم ين صيفي يدعو إلى الصدق، أم كان يدعو إلى الكذب حين قال: إن قول الحق لم يدع لي صديقا. - صدقت!! لو أن كل إنسان قال ما يجول بنفسه بشأن من يعرف من الناس، ومن لا يعرف - لفتك به الناس ... تخيل أبا كاظم أنني وثبت اليوم علي ابن مهدي مضيفنا، وأخذت بتلابيبه وصحت: إنك ثقيل ورب الكعبة!! إن كبرك لا يحتمل!! إن تعاقلك وزهوك، وتكلمك من أطراف أنفك فوق طاقتي!! اغرب عن وجهي إنك سمج دنيء!!
تخيل أني فعلت هذا، ثم تخيل ماذا يكون.
وهذا الشيخ الذي تراه الآن راكبا بغلته، وخلفه عشرة عبيد يلهثون من التعب، وهو ينظر في الناس يمينا وشمالا في بلاهة وعجب كأنه يريد أن يصيح فيهم: «انظروني أيها العميان، وانظروا ما أنا فيه من جاه وثروة» - ألا تحب أن تعدو خلفه، وتبصق في وجهه، وتعرفه أنه مأفون متبجح نذل؟! - إن أمثال هذا كثير، فدعنا الآن نفكر فيما ينجينا من عمارة وويلاته. - علمنا اليوم من ابن مهدي الأبله: أن عمارة اجتمع به في دار ابن سبأ، وفهمنا من حديث ابن مهدي الغر: أنه جاء إليهما ليتحدثا معه في أمر جسيم، ألم يقل ابن مهدي: «إن عمارة رجل عظيم الآمال، كبير النفس، طموح بعيد المدى»؟؟ - هذا صحيح، فماذا ترى كان موضوع الحديث؟؟ - إنه فيما يغلب على ظني لم يكن حديثا للمسامرة والتسلية، بل كان مفاوضة ذات شأن. - في أي شأن كانت المفاوضة يا أبا الحسن؟ - لا أدري، ولكن ألا تعرف «مفلحا» خادم ابن سبأ الخاص به، والأثير عنده؟ - أعرفه ... وهو صديق لي حميم ... وهو سني في الباطن، وكثيرا ما كان يرد إلى زبيد ليسألني في فقه الشافعي، و«مفلح» هذا إذا عرف شيئا من المفاوضة، ومما دار بين هؤلاء الثلاثة من الحديث - فلن يتوانى عن إخباري به. - هلم بنا إليه بحقك.
فيأخذ الحراني بيد صاحبه، ويخرجان من درب قذر إلى زقاق كريه الرائحة حتى يصلا إلى غربي المدينة؛ فيظهر لهما بناء شامخ كأنه الحصن، وحوله الحدائق المزهرة، والرياض الباسمة، فيشير الحراني إليه ويقول: هذا هو القصر المسمى بالمنظر، وهو قصر ابن سبأ صاحب عدن، والقائم بدعوة الفاطميين فيها، وخير لنا أن نذهب إلى الباب الخلفي؛ خوفا من أن نلتقي بالأمير.
دخل الشيخان من الباب الخلفي، فقابلهما غلام لمفلح لا يتجاوز الخامسة عشرة، وسيم الوجه، صبيح الطلعة، امتزج فيه الدم العربي بالهندي، فأخرج هذا الامتزاج للناس صورة من الإنسانية بديعة رائعة، فسأل الحراني عن صديقه «مفلح»؛ فأجلسهما الغلام في حجرة، وذهب لدعاء سيده، وأقبل «مفلح» وكان رجلا في الأربعين، وقور السمت، جميل الوجه، يلبس من الحرير والديباج ما لا يجد طريقه إلا حول أعطاف الملوك؛ فحيا الحراني وصاحبه في تجلة وإكرام، وانتقل الحديث إلى جو عدن، وشدة حرارته، وما سيصيب الناس في هذه السنة من الجدب؛ لامتناع المطر، وقسوة الجفاف.
وبعد قليل قال له الحراني: أيتفضل سيدي بأن أستفسر منه في خلوة عن أمر أراه خطيرا؟! - نعم نعم، وكرامة.
ثم يأخذ مفلح بيده إلى حجرة أخرى ، ويغلق بابها ويقول: ماذا تريد أبا كاظم؟؟ إني لا أنسى لك فضلك في شرح كثير مما التبس علي فهمه من مذهب الشافعي، ولم أجد من فقهاء زبيد من هو أكتم للسر، وأرعى للأمانة منك، فلو عرف ابن سبأ حقيقة مذهبي، ما أبقى رأسي بين كتفي. - يا سيدي، لقد وضعت سرك عند شقيق روحك، نجي نفسك، وكأنك والله ما نقلته إلا من ناحية صدرك اليسرى إلى ناحيته اليمنى ... إننا لا نزال يا سيدي نأمل لك عزا كبيرا، ولا نزال نرجو أن تتقوى السنية وتظهر، لنراك زعيمها المرجى، والملك الحاكم المسيطر في هذه البلاد. - تلك آمال أبا كاظم. - آمال وستحقق إن شاء الله ... أجاء عمارة بن زيدان لمقابلة ابن سبأ هنا بالأمس؟؟ - نعم، وقد كان معه علي بن مهدي، فقضوا وقتا طويلا في حديث طويل. - أتعتقد أنهم كانوا في مفاوضة بشأن أحوال الحكم في اليمن؟؟
فابتسم «مفلح»، وهز بلطف كتف الحراني وقال: إن عمارة شاب طماح، يريد أن يكون زبيبا قبل أن يكون حصرما. - أسمعت بعض ما قالوا يا سيدي؟
فأطرق «مفلح» مليا، ثم رفع رأسه وقال مترددا: الذي فهمته من كلمة تتناثر هنا، وأخرى تسقط هناك، وثالثة يرتفع بها الصوت قليلا: أنهم كانوا يتحدثون في شأن زبيد. - ماذا سمعت بالله يا مولاي؟ فإن حياتنا وآمالنا معلقة بما ينقض هؤلاء ويبرمون. - سمعت ما يفهم منه: أن فاتكا ملك زبيد عدو للفاطمية، وأنه يجتهد في إماتة دعوتهم، وأن ابن سبأ قد يجهز عسكرا بقيادة علي بن مهدي؛ لمحاربته والاستيلاء على المدينة، على أن يسبقه عمارة إليها للتمهيد لهذا الغزو، واجتذاب القبائل إلى ابن مهدي، وأن يقلد ابن مهدي حكم زبيد بعد زوال فاتك، وأن يكون عمارة شريكه ونائبه في الحكم، ثم رأيتهم يتعاهدون على الكتمان، حتى تأخذ أهل زبيد الصيحة وهم نائمون. - يا للداهية!! ضعنا بين جنون ابن مهدي، ودهاء عمارة! - كل شيء بقضاء وقدر يا شيخ، ولعلهم كانوا يتحدثون، واللوح المحفوظ يسخر ويقهقه!! - نحن لم نر اللوح المحفوظ يا سيدي، ولكننا نرى بين الرماد وميض نار، سيكون له تأجج وضرام، وليس لنا في رفع هذا المكروه عنا إلا الله وأنت.
صفحه نامشخص
ثم استأذن الشيخان في الانصراف وخرجا، فقال النيلي: أراك عابسا جازعا أبا كاظم، فماذا قال لك؟؟ - ماذا قال لي؟؟ إني لم أسمع كلاما، إنما سمعت رعدا وعزيفا وصواعق ... إنها مصيبة جارفة ... هلم إلى فندقنا، فإننا لا نستطيع الكلام في الطريق.
وصلا إلى الفندق واجمين، ودخلا حجرتهما، وأغلقا بابها، وحدث الحراني النيلي بما سمعه من مفلح، فاكفهر وجهه وقال: ضعنا وضاعت زبيد. - الرأي عندي: أن أذهب الليلة مستخفيا إلى زبيد، حتى إذا نزلتها أخذت سمتى قدما إلى قصر فاتك، وطلبت مقابلته وحده، حتى إذا نفضت إليه جملة الخبر عدت من ليلتي غير متوان، ولا معوق ... سأرحل الآن.
ثم قام وذهب إلى سوق البزازين، فاشترى إزارا ورداء، حتى إذا لبسهما لم يكن يميز من أعراب البادية، وودع النيلي، وذهب إلى محط القوافل ليستأجر جملا إلى زبيد.
الفصل الثالث
امتطى الحراني جملا شديد الأسر، موثق الخلق، مارس الصحراء ومارسته، وتحدته بوعورتها، وبعد شقتها، فتحداها بصبره وشدة جلده، حتى لقد أصبح الضرب في الفيافي جزءا من حياته، لا يكاد يجد له ألما، أو يشكو منه عنتا! سار الحراني وقد لفه الظلام برداء حالك السواد، طرز بثواقب النجوم، سار في صحراء لا يسمع بها إلا عواء ذئب برح به السغب، وشفه الظمأ، ولا يرى فيها إلا تهاويل من الخيال، دميمة الوجوه، فاغرة الأفواه، تتراقص أمامها كأنها تستهويه إلى موت محقق، وكان الحراني متجهم الوجه، منقبض الصدر، مضطرب الفكر، يخشى أن يكون بغض أسرة زيدان قد جاوز به حد الحزم، ودفع به إلى ما لا يجمل بالحذر الحريص، وكلما صور الحوادث التي زلقت بها رجله، وزجه فيها حقده، رأى أنها لم تكن من الإحكام ودقة التدبير بحيث يرضى عنها دهاؤه، أو يستسيغها ذوقه الفني في نصب الأشراك، وابتداع الجرائم، وقد كان في متناول ذكائه من ضروب الحيلة وأساليب المكر ما كان أدق صنعا، وأبعد عن العقول إدراكا، وأخفى على الباحث المنقب، ماذا فعل؟ وماذا قدر؟ وماذا دبر؟ مكيدة مكشوفة مهتوكة الستر، كأنها عبث أطفال، لقد نال من عمارة، وانتقصه أمام الحضرمي، وهو له أصدق صديق، وأوفى خليل، فإذا أصاب آل زيدان من فاتك أذى أو ضرر كان من الهين السهل أن تتجه العيون إلى الحراني، وأن تشير إليه بالأكف الأصابع، ثم ماذا فعل بعد هذا؟! ذهب مع النيلي إلى «مفلح»، ومن هذا المفلح؟! بائس تركه مبضع الجرائحي وسطا حائرا بين الرجال والنساء، فلا شهامة الرجل نال، ولا بدهاء المرأة ظفر، ثم إن الذي يفرط في سر سيده - وهو سر دولة - أجدر بأن يهب ما في صدره مسئولا أو غير مسئول، وأن يبعثر ما في نفسه في الأسواق على أن هذا الغر الأحمق مفتون بشيء اسمه السنية عدو خفي للفاطمية.
وبنو زيدان أقوى قبائل اليمن، وأشدها تمسكا بالمذهب السني، فليس في مجال الوهم ببعيد أن يبعث إليهم هذا الجاهل رسولا، يخبرهم بما كان من زيارتي، وزيارة النيلي لداره، ثم إن ما بيني وبين علي بن زيدان من الثأر القديم كفيل بأن يحمله على الاعتقاد بأن لي في هذه المكيدة يدا، وأني كنت أول ساع بعمارة عند فاتك، وأول مؤلب عليه، حقا إنها دسيسة لم تحكم أطرافها، ولم تستر فخاخها، ولكن ماذا أعمل الآن، وقد انطلق السهم الطائش!؟
ألا سحقا لعلي بن زيدان، لقد كان ما أوقعه بأبي منذ سنين من شديد العقاب والخزي الدائم سببا لهذا الحقد الذي يملأ صدري على أسرة زيدان، وكل من يتصل بها. وماذا كان فعل أبي في شبابه؟ أحب فتاة من حيهم وأحبته، فأبوا أن يزوجوه إياها كبرا وصلفا؛ لأنهم يرون الناس جميعا دونهم، ولأنهم لا يصاهرون إلا من كان من قبيلتهم، كأنهم يخشون على هذه السلالة الطاهرة أن تدنس بغير نسبهم، وكان يجدر بأبي - سامحه الله - أن يقابل كبرهم بمثله، وأن يخضع تلك النزوة الطائشة التي يسمونها الحب لسلطان الكرامة والاعتزاز بقومه وقبيلته، ولكنه لم يفعل، واختطف الفتاة من خبائها في ليلة سوداء ، فأحس به القوم فأدركوهما، وقتلوا الفتاة، وهموا بقتل أبي، ولكن شريرا لئيما منهم أشار بأن يستبقوه لحياة هي شر من الموت، أشار بأن يبقى حيا، وأن يوصم وصمة اللصوص؛ فاستطابوا الرأي، وأوقدوا النار، ووسموه فوق جبهته، وفوق خديه بعلامات يوسم بها السراق وقطاع الطريق، ثم تركوه بالصحراء يئن من الألم، ويئن من الخزي والعار. ووالله ما جلست بعد هذا اليوم مجلسا، ولا سرت في طريق إلا وكأني أرى جميع الأصابع تشير إلي: هذا ابن السارق الموصوم! لا ... لا ... لا بد من الانتقام من آل زيدان، كيفما كانت قوتهم، وكيفما كان عديدهم، وسأتخذ من ضعفي قوة للكيد لهم والوثوب عليهم؛ إن البعوضة لا تنال باليد، ولكنها تطن وتلسع، فإذا حاول من لسعته قتلها لطم خديه، وهذا عمارة صيد سهل، سريع الوقوع في الشرك، فإن ما جبل عليه من الصراحة والطموح والتهور في طلب ما يريد كفيل بأن يوقعه في أهون الدسائس حبكا.
كان الحراني يناجي نفسه وهو حزين مطرق، تتناهبه الأفكار، ويؤلمه طائف الذكريات، ويقبضه الخوف من الإقدام فيبسطه الحقد وشهوة الانتقام، وهو بين هذا وذلك يتسمع أحيانا لصوت ضئيل خافت يهتف به ضميره، أو ما بقي له من ضمير، فيقول: ما هذا الذي أنت فيه أبا كاظم؟! وما هذه العربدة التي ستعود عليك نكالا ووبالا؟! أنت تقف أمام أسرة زيدان! وأنت تكيد لها! وأنت تنصب لها الحبائل! لقد جاوزت طورك، وقذفت بنفسك بين براثن الأسود! وألقيت بيدك إلى التهلكة! إن عبدا من عبيد آل زيدان وحده عسي بأن يقضي عليك وعلى أولادك وأهلك، من غير أن يترك لفعلته أثرا، إن أباك مات منذ حين، ودفن معه عاره، ونسي الناس تلك العلامات البشعة الدميمة التي كانت تشوه وجهه، وطوي ذلك السجل المشئوم، سجل الذل والخزي والشنار. مالك تنبش الماضي؟ وكلما نبشته ملأت جيفته الجو خبثا. أنت تعادي آل زيدان!
هذا إذا عادت النمال الجبال، وصاولت الكلاب السحاب!
عد إلى صوابك أبا كاظم، ثم عد من حيث أتيت، واغسل تلك السخائم التي سودت صدرك بماء من التسامح والغفران، واقتل تلك الحيات التي أكلت قلبك، وأقضت مضجعك بسلاح من الصفح الجميل، فإن الحاقد ينال من نفسه فوق ما ينال من عدوه، وهو أشبه بالنحلة تلسع وتموت، والسهم يقتل ويتحطم، لم لا تعود إلى علمك ودروسك أبا كاظم، وإلى الضحك من ذقون الناس، فتنال من عقولهم وأموالهم، وتعيش بين أهلك هانئا سعيدا؟ دع الدسائس، ودع النمائم، فإن من يكثر من إيقاد النار يوشك أن يحرق كفيه. إن حديث أبيك مضى وانقضى ذكره، ولا يعرف الجيل الجديد عن الحراني إلا أنه شيخ المتأدبين، وزين المحافل. إن في الحياة أمورا كثيرة علاجها النسيان، والجرح إذا أكثرت من حكه التهب ونغل، الو زمام بعيرك أبا كاظم، وعد إلى زبيد، وتجنب فيها مواطن الشبهات حتى تهدأ الفتنة، وتسكن هذه الثائرة، ما لك وللنيلي! ومالك ولابن مهدي! ومالك ولفاتك! ... كل هؤلاء لا يستطيعون أن يدفعوا عنك شر بني زيدان. أنت تدعي الحزم، وهذا هو موطن الحزم. أتسمع؟ ... ولكن الحراني كان في ثورة من الغل غظت على عقله، فصاح: لا أسمع، ولن أسمع، ولن أترك عمارة، ولن أترك آل زيدان، سأنتقم لأبي، وسأذهب إلى فاتك، وسأكشف إليه سر المؤامرة، ولن يصدني عما اعتزمت عليه صاد مما يسميه الناس عقلا أو حزما.
صفحه نامشخص
ثم رفع الحراني رأسه كما يرفع الغائص رأسه من الماء بعد طول المكث فيه، وكأنه كان في عراك عنيف بينه وبين نفسه، خرج منه ظافرا منصورا، فبدد الظنون، وقضى على الشكوك، ثم رمى بعينيه أمامه؛ فرأى في ضوء النجوم شبحا يظهر ويختفي، مرة تبتلعه الوهاد، وأخرى تلفظه الآكام، فحدد النظر، واستحث بعيره، فإذا راكب يجد السير! فخاف الحراني أن يكون الرجل من عبيد عمارة، سبقه ليفتك به في الصحراء قبل أن يلقي بنميمته، وظن الرجل حينما رأى الحراني وراءه أنه من رجال ابن مهدي أسرع خلفه من عدن ليقضي عليه قبل أن يبلغ رسالته إلى فاتك. وبعد قليل التقيا على رأس أكمة، وكلاهما خائف ومخوف، فبدأ الحراني في خوف وتلعثم: السلام عليكم، لقد كنت أظن أن الصحراء لم تحمل في هذه الليلة إلا جنينا، فإذا هي تحمل توأمين. - إن الصحراء كالليالي تلد كل عجيبة.
رأى الحراني في صوت صاحبه رجفة، وفي لمحاته ما يشعر بالذعر، فقوى قلبه قليلا، واطمأنت نفسه، وقال: ولكنها أحيانا كالهرة تقتل بنيها. - إنها لا تقتل من أبنائها إلا الجبناء الرعاديد، وإن من كان قلبه أمضى من سيفه، وسيفه أثبت من قلبه، لن يموت إلا ميتة الأبطال.
وكأن الرجل لمح في الحراني ما يدل على الضعف، فتابع الحديث بقوله: ولقد يكون من أسباب التسلية والقضاء على السآمة في الصحراء أن يصادق المرء فيها وحشا يداعبه بسيفه، أو لصا فاتكا يلقنه برمحه درسا في الأمانة وصون الحقوق. - ليس بالصحراء لصوص، ولو كان بها الليلة لص لتاب إلى الله على يد رحلي، بعد أن يراه أفرغ من فؤاد الجبان. - إن الساري في مثل هذه الليلة يحمل ما يحرص عليه في صدره لا في رحله، ولعل في صدرك من الأسرار ما هو أغلى من الذهب النضار. - من أين لنا أن نصل إلى الأسرار يا ابن أخي، وإن من ضاق صدره بهموم الحياة أجدر بألا يزيده ضيقا بحفظ الأسرار. من أين الرجل؟ وإلى أين؟ - من عدن إلى الحديدة، اتجر في الإبل بين البلدين. وإلى أين أنت؟ - إلى صنعاء. اتجر في الثياب بين البلدين. - أخشى يا صاحبي أن تكون من ثياب الرياء التي تشف عما تحتها، ولكن ما لنا ولهذا! عم مساء. ثم ألهب بعيره بالسوط، فعدا به ينهب الأرض نهبا.
تنفس الحراني وأطال التنفس، وكادت تعود إليه وساوسه، لولا أن زجرها بالترنم بشعر البطولة، والاعتماد على النفس، والتشفي بأخذ الثأر، وما زال يطوي الصحراء وتطويه أياما، حتى بلغ زبيد في مساء ليلة، فسار قدما إلى قصر فاتك، فالتف عليه الحراس، وسألوه عن شأنه؟ فقال: إنه قادم من مكة برسالة من أميرها: قاسم بن هاشم إلى الأمير فاتك، وبعد قليل استؤذن له، فتقدم من الأمير، وقبل يده، ثم أخذته الرعدة، وهاله ما هو مقدم عليه من أمر خطير، فأخذ يتمتم بكلمات متقطعة يفهم منها الإخلاص للأمير، والنصح له، والاستهانة بالموت في خدمته؛ فهدأ الأمير من نفسه حتى أفرخ روعه وثبت جأشه، ثم قال فاتك: كيف حال أمير مكة؟ فعاد الذعر إلى الحراني، وطفق يفرك أصابعه في اضطراب عصبي عنيف، ثم قال: لم أجئ من مكة يا سيدي، وإنما جئت من عدن. - لم تجئ من مكة؟! هذه أول أكذوبة للمخلص لنا، المستهين بالموت في خدمتنا. - إنما دعاني إلى الكذب يا سيدي خوف أعدائي، فقد يكون بقصرك عيون لهم. - إن قصري أطهر مما تظن، وخدمي أعف وأشرف مما تصفهم به. أخشى يا رجل أن تكون من هؤلاء الدساسين، الذين يلبسون مسوح الزهاد، ويتقدمون بالنصح إلى الأمراء ليجعلوا منهم آلة للبطش بأعدائهم. إن بابي هذا يطرقه كل يوم كثير من أمثال هؤلاء، حتى لقد التبس علي الحق بالباطل، وكدت أغفل عن شئون الناس بالنظر في شئون هؤلاء الخادعين، والتحقق من أكاذيبهم، فإن كنت فقيرا أعطيناك، وإن كنت مستجيرا بنا أجرناك، وإن كانت لك ظلامة كشفناها، قل الحق يا رجل صريحا، ولا تنل من أحد في حضرتي. - إنني لم أجئ يا سيدي لأطلب مالا، ولا لأبتغي على نصيحتي للأمير أجرا، ولكني علمت بمؤامرة دنيئة تدبر لإسقاط الأمير عن عرشه وعرش آبائه، فأسرعت إليه من عدن أطوي الليل بالنهار، وللأمير بعد ذلك ما يشاء، إما أن يصدق ما أقوله، فيتخذ الأهبة، ويعد العدة؛ ليدفع الشر بالشر، وإما ألا يصدقه فيعرف بعد طول الندم أنني كنت صادقا مخلصا. - وما تلك المؤامرة؟! - المؤامرة: أن يفجأك علي بن مهدي، ومعه عمارة بن زيدان بجيش جرار، فيستوليا على زبيد، ويقتلا أميرها، ويبيدا أهله ونصراءه، ثم يجلس ابن مهدي على عرش المدينة، ويجعل عمارة وزيره ومشيره. هذه هي المؤامرة فصدقها أو كذبها، اللهم إني قد بلغت ونصحت!! - صدقتها، وقد جاءني قبلك رسول من قبل «مفلح» خادم ابن سبأ يبلغني أمر هذه المؤامرة على النحو الذي شرحته. - إذا هو ذلك الرجل الذي صادفته في طريقي. مفلح أرسله؟ هذا المفلح غربال أسرار! - إنه رجل يكتم إيمانه بالمذهب السني، ويحارب الفاطمية في الخفاء بكل ما يستطيع. آه! عمارة في المؤامرة ...؟! ويل له مني، وويل لقومه بني زيدان، ثم دعا خادمه، وأمره بإحضار صرة بها مائتا دينار، فأعطاها الحراني، وشكر له حسن بلائه.
خرج الحراني يتعثر خائفا من عواقب الشر الذي زج بنفسه فيه، وهو يرجو ألا يراه من يعرفه، ولكنه وهو في أحد دهاليز القصر، رأى إسماعيل بن محمد جليس فاتك مقبلا - وكان من أصدقاء عمارة وخلصائه - فعرفه إسماعيل، ودهش لما رأى من تغير زيه، فقال: خير ما جاء بك إلى القصر أبا كاظم؟ ولم هذا الزي الغريب؟! فبهت الحراني، وتلعثم وجف ريقه، وقال: جئت في نصيحة للأمير، وأرجو أن يبقى الأمر بيننا سرا. - إذا جئت في نصيحة فأدعو الله أن تكون خالصة لوجهه! أما السر في زبيد فكالسر في صدر المرأة، تفشيه لكل من تقابله بعد أن توصيه بكتمانه! عم مساء أبا كاظم، فإني لا أرى في زيك وأسارير وجهك ما يبشر بخير.
انصرف الحراني وهو يلعن إسماعيل بن محمد، ويلعن المصادفة التي أوقعته في طريقه، ويلعن نفسه على ما اندفع إليه من أمر لا يستطيع الخروج منه سالما.
ودخل إسماعيل على فاتك، فرآه يهدر كالبعير الصائل، وقد استأثر به الغضب، فحينما رآه صاح بصوت خشن أجش: أرأيت كيف انتهت بنا الدسائس والمؤامرات؟! أرأيت كيف يعمل هؤلاء الفاطميون أعمالهم في ظلام من الخبث والرياء، ثم يفجأون بها الوادعين الآمنين؟! أعلمت أن ابن مهدي ذلك الرافضي السفاح، سيدهم زبيد على حين غرة منا ليذل رقاب أهلها، ويثل عرشنا وعرش آبائنا؟ أعلمت أن عمارة بن زيدان ذلك اللئيم النذل، الذي أغدقنا عليه، وآويناه حتى أصبح من المقربين في القصر، ومن كبار رجال المال والجاه، هو الذي يمالئه ويغريه، ويرشده إلى مواطن الضعف ليكون وزيره في زبيد!! ويل للخائن المخاتل، دخل القصر فقيرا مملقا، لا يتشفع إلا بأبيات واهنة من الشعر، فما زال يخدعنا بمدائحه، ويستهوينا بعذب كلامه وسحر حديثه، حتى رفعناه بعد ذلة، ويل لعمارة ... ويل لعمارة ... - هدئ من غضبك يا سيدي، فقد يكون ما وصل إليك نميمة أفاك أثيم، وعمارة رجل ... - لا يا إسماعيل، إن الخبر وصل إلي من مصدرين، إن شككت في أحدهما فلن أشك في الآخر، جاءني به رسول من «مفلح»، ثم نقله إلي الآن أعرابي لا أعرفه، وكانت الرسالة واحدة لا تكاد تختلف. - إن الأعرابي الذي يذكره مولاي عالم من زبيد غير زيه، ولعل له مأربا في الكيد لعمارة. - له مأرب أو ليس له مأرب، إن رسالة «مفلح» تكفيني، ثم نادى خادمه، وأمره أن يدعو إليه الوالي، وقائد جيشه، فلما حضرا أمر القائد بجمع الجيش، واستكمال العدة، والأخذ في تحصين مواضع المخافة من المدينة، ثم أمر الوالي بمصادرة جميع أموال عمارة، وما له من ناطق وصامت، والقبض عليه وقتله أينما كان، وحيثما وجد.
مر إسماعيل بن محمد في صباح هذه الليلة بسوق البزازين، فرأى علي بن زيدان يمشي ووراءه عبيده وخدمه، فدهش لرؤيته، وتقدم للسلام عليه، ثم اجتذبه إلى ناحية، وقال: لقد نقل بعض الجواسيس إلى الأمير فاتك أمس نبأ مؤامرة تدبر لاغتصاب ملكه وقتله، وأن لابن أخيك عمارة يدا طويلة في هذه المؤامرة، فأمر بمصادرة أمواله، وأهدر دمه، وقد حاولت أن أسكت غضب الأمير، فلم أستطع. - إنها دسيسة على ابن أخي، إن عمارة أشرف وأنبل من أن يدنس بهذه الأقذار. نحن نقتل في الضياء، ولا نقتل في الظلام، ومن هذا الجاسوس الذي نقل هذه الفرية؟ - رجل من زبيد يسمى أبا كاظم الحراني. - الحراني! الحراني! لعله ابن ذلك الحراني لص الأعراض الذي وسمنا وجهه بميسم العار منذ أكثر من عشرين عاما؟! - أظنه قضى كل هذه المدة في انتظار الفرصة، حتى إذا لاحت اقتنصها ليشفي صدره بهلاك ابن أخيك، أيعرف عمارة هذه الحادثة؟ - لا، لقد أمرت عبيدي الذين اشتركوا فيها يومئذ، أن يبقوا الأمر سرا دفينا، فإن مثل هذه الفضائح يجب ألا تذاع، هل لهذا الحراني ولد؟ - له ولد في الخامسة والعشرين من عمره، يتجر في الغنم، ولم تسأل عن هذا؟ - لا لسبب، غير أني كنت أظن أن من ذاق حلاوة الأبوة يتردد في إيذاء الناس في أبنائهم. - وعلام عولت؟ - عولت على السفر إلى مرطان في الغد، ويفعل الله ما يريد.
ولما انصرف إسماعيل، عاد ابن زيدان مع عبيده إلى الفندق الذي نزل به، ثم اختلى بعبده مرداس، وكان أسود فاحم اللون، طويلا ممعنا في الطول، قوي العضل، كبير الرأس، أفطس الأنف، يخالط بياض عينيه حمرة قاتمة، فقال له سيده: يا مرداس، سنسافر غدا؛ فمر العبيد بإعداد الرواحل، أما أنت فستبقى هنا، ولن تعود إلى مرطان حتى تقتل رجلين: الشيخ الحراني، وابنه، وابحث عنهما، واستدرجهما من حيث لا يشعران إلى مكان لا يراك فيه أحد، ثم اقتلهما فإذا قتلتهما فأنت حر، أفهمت؟ اذهب.
وفي صباح الغد يسافر ابن زيدان، ويبقى مرداس بزبيد، يسأل ويبحث حتى يعثر بابن الحراني، فيدخل عليه بحيلة محكمة، يستهويه بها، حتى إذا خرجا إلى ظاهر المدينة وانفرد به في مكان موحش، قتله واختفى.
صفحه نامشخص
ويبقى الحراني منتظرا عودة ابنه فلا يعود، ثم يعثر بعض المارة بجثته في الصحراء، ويصل الخبر إلى أبيه، فيعصف به الحزن، ويتملكه الجزع، ويرى والدموع تتساقط من عينيه أن ما أصابه في ابنه إنما هو جواب رسالته لفاتك، وانتقام سريع من آل زيدان على إيقاعه بابنهم عمارة، وأنهم لن يسكتوا عنه، وأن ذراعهم ستمتد إليه بعد أن امتدت إلى ابنه، وأنه يجب أن يفر بنفسه وأهله بعيدا عن اليمن؛ فيجمع بقية ما لديه من مال، ويركب مع أهله سفينة من زبيد إلى جدة، ليأخذ منها سفينة أخرى إلى مدينة القلزم (السويس)، فقد رأى أن مصر خير مكان ينجيه من آل زيدان، ورأى أن يختفي بها رابضا حتى تحين له فرصة الوثوب.
الفصل الرابع
حينما غادر الحضرمي دار ابن مهدي، سار وحده في الطريق، واتجه نحو دار عمارة، فوجده لا يزال نائما، حتى إذا استيقظ حدثه بما دار في مجلس ابن مهدي من حديث، وبما قاله فيه الحراني والنيلي.
فهز عمارة كتفيه استخفافا، وقال: من الحراني هذا؟ فإني لا أعرفه، وعجيب أن يحقد علي من لا أعرف!! - إنه رجل من الفقهاء الجوالين، لا يعرف صبحه أين يستقر في مسائه، ولكنه فيما يظهر من عينيه، شديد البغض لك، والحقد عليك. فأجاب عمارة: عجبي من صعلوك ينافس الملوك! - هذا كلام تشم منه رائحة الإمارة!!
فابتسم عمارة ابتسامة ألم واستنكار، وقال: لا يا أسامة ... إنه كلام رجل يحب العدل، ويكره الظلم والظالمين ... رجل نصب نفسه لنصرة الحق، فوهب له دمه وأهله وماله، لا يهاب في سبيله - إذا جد الجد - أشفار السيوف ولا أسنة الرماح ... رجل إذا وفى لقوم نافح عنهم، وكافح دونهم، حتى يحبس الموت لسانه، ويعطل ساعده. - وقد يحتال أحيانا، ويلبس لكل حالة لبوسها. - وقد يحتال أحيانا يا أسامة!! وقد يمدح أحيانا من يصغر عن الهجاء، رجاء الوصول إلى الغاية التي رسمها لنفسه، وقد يصانع أحيانا أناسا أقل ما يستحقون ضرب السياط ... متى ترحل إلى زبيد؟ - بعد عشرين يوما، حتى أبيع جميع البن الذي جئت هنا لبيعه. - ربما رحلت بعد عشرة أيام، فإن الحر هنا لا يطاق.
وبعد عشرة أيام أو نحوها، قامت القافلة إلى زبيد، وكان بين المسافرين عمارة بن زيدان، وبعد ليال بلغت القافلة أسوار المدينة، وكان وصولها عند الغروب فاتجه عمارة نحو بيته، وبينما هو في طريقه مر به القائد إسماعيل بن محمد جليس الملك فاتك، وكان راكبا فرسا، فلما رآه أخذ يقرأ: «يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، فاخرج إني لك من الناصحين».
فأسرع عمارة إليه، وأخذ بعنان فرسه، وقال: بحق مودتي عليك، إلا ما أفصحت يا ابن محمد!! فقال: أحاط فاتك بجميع أموالك وتجاراتك، وجعل لمن يأتيه برأسك ألف دينار. - ولم فعل هذا يا ابن محمد؟! - هبط عليه نمام أثيم من عدن، فنقل إليه أنك تتآمر أنت وابن مهدي وابن سبأ على قتله، واستلاب ملكه ... ارحل أبا محمد ... وأسرع، واتخذ الليل مركبا.
فدق عمارة بكف على كف، وقال: لقد أصابتني عين الحفائلي - عليه لعنة الله - فلطالما قال لي: أنت من كبار التجار ... أنت من أصحاب الوجاهة ... أنت في ثروة ونعيم ... فليهنه اليوم أني أصبحت الفقير إلى الله تعالى لا إليه ... عمارة بن زيدان اليمني الشريد الطريد.
قاتل الله العلم والأدب!! فإن عقارب الحقد لو أرادت أن تتخذ جحرا ما اختارت لها إلا صدور الأدباء.
ثم أسرع عمارة إلى داره، وجمع متاعه، وما بقي لديه من مال قليل، وأعد لأهله وأولاده أربعة من الإبل، وألح على الجمال أن يسرع في السير، فقال الجمال: إلى أين؟؟ قال: إلى مكة ... إلى أم القرى ... إلى البيت الحرام الذي من دخله كان آمنا.
صفحه نامشخص
وصل عمارة وأهله إلى مكة فقيرا بائسا، بعد أن كان في بسطة من الرزق، وظل من السعادة، يعيش عيشة الترف، ويتقلب في أكناف العز والنعيم، فاكترى دارا بالقرب من البيت المحرم، وأخذ ينفق على أهله في ضيق وشدة مما بقي له من مال، انتشله من يد الزمان، وجلس ذات يوم في المسجد، وبدأ درسا في التفسير، فأقبل الناس إلى الاستماع له، فسحرهم ببيانه وفصاحته، وقوة عارضته، ورنين صوته، فتحدث أهل مكه بالشيخ اليمني، وسار ذكره، وتنقل اسمه من لسان إلى لسان، وأقبل عليه عظماء مكة كبار تجارها، يبذلون له ودهم، ويتسابقون إلى إكرامه بالهدايا والأموال.
بقي عمارة على تلك الحال أشهرا، وفي أصيل يوم وهو في داره، أقبل عليه رسول أمير الحرمين - قاسم بن هاشم - يدعوه إلى لقاء الأمير.
فلبس خير ثيابه وتطيب، وأخذ يحدث نفسه ويقول: ليت شعري لم دعاك ابن هاشم؟؟ لقد جربت معاشرة الأمراء والملوك فلم تعد منها إلا بصفقة المغبون!! ... ولكنك يا عمارة لم تخلق لتلقي درسا في مسجد على أغرار مهازيل ... إنما خلقت لتكون زعيما، ولتترك في الدنيا دويا ... ولا بد لهذا من صحبة الأمراء والملوك، سر إليه يا عمارة، فلعل الدهر أراد أن يستغفر من زلته!! ولعله - وأنت من أبنائه - أراد أن يؤدبك تأديب الآباء لأبنائهم!! ثم عاد فأدركه عطف الأبوة وحنانها.
سار عمارة حتى بلغ دار الأمير ، فاستقبله عبيده وخدمه، وأوصلوه إلى حجرة ثمينة الأثاث، أنيقة الترتيب.
حتى إذا استقر به المجلس، أقبل الأمير بين حاشيته ورجاله، فحياه عمارة في أدب وخشوع.
وأمره ابن هاشم بالجلوس، فجلس بعيدا، فدعاه للجلوس إلى جنبه، وأقبل عليه يسأله عن حاله، وكثير من شئونه، ثم قال: إننا هنا لا نرى الدنيا إلا في موسم الحج، حتى إذا انقضى الموسم عدنا إلى عزلتنا، كأننا في صومعة راهب.
فقال عمارة: هذه يا مولاي نفحة من نفحات البيت الحرام، وبركة من بركاته، ألا ترى أن الدنيا جميعها تسعى إلى أهله وهم لا يسعون إليها؟! ... هنا يا مولاي نرى جميع أمم الأرض في أحسن حوالهم ... نرى هنا: اليمني، والمصري، والمغربي، والعراقي، والهندي، وأبناء كل قطر، ترف عليهم راية الإسلام. هنا البحيرة العظمي المقدسة التي تصب فيها أنهار الدين القيم الحنيف ... هذه يا مولاي دعوة إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام حين قال:
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون . - حياك الله يا شيخ!! إن لحديثك لسحرا!! ولو أن علماء الإسلام كان لهم هذا البيان الرائع، وتلك القوة النادرة في التفكير، واتجهوا إلى هداية الناس وإرشاد الأمراء لكان للإسلام شأن غير شأنه اليوم ... أزرت مصر يا مولانا الشيخ؟؟ - لم أزرها يا مولاي، وقد عزمت على مجاورة بيت الله الحرام، حتى ألقى الله على عتبته. - لا ... لا ... أنت لا تزال في قوة شبابك، ومثلك - فيما أرى - من تضيق بآماله الدنيا إذا اتسع بها صدره.
حدثت في العام الماضي بموسم الحج بعض حوادث صغيرة للحجاج المصريين، بلغت إلي في حينها فلم آبه لها، ولكن يظهر أن الخلافة الفاطمية بالقاهرة، قد عدت وقوعها تعديا عليها، واستهانة بسلطانها؛ لذلك منعت في هذا العام الصدقات التي كانت تبعث بها لفقراء مكة، والمنقطعين إلى مجاورة البيت. - ماذا كان نوع هذه الحوادث يا مولاي؟ - حوادث تافهة ... أغار بعض خدمي على التجار المصريين، واستلبوا جميع أموالهم. - حقا إنها حوادث تافهة!! ... وما مقدار ما كان يرسله الخليفة إلى مكة في كل سنة من الصدقات؟؟ - كان يرسل عشرين ألف جريب من الحنطة، ومائة ألف دينار. - هذا مقدار عظيم. - نعم هو مقدار عظيم، أحس أهل مكة فقده، وقد جاءني وكيلي منذ أيام، يرجوني في عمل شيء لاسترضاء الخليفة الفاطمي، ووزيره الملك الصالح طلائع بن رزيك، وقد توسمت فيك مما سمعت ورأيت أنك خير من يستعان به في مثل هذه الأمور. - إنني طوع أمرك لولا ... - لا تقل «لولا»؛ فإنني أعددت لك خمسمائة دينار، تعصف بكل ما تجره «لولا» من معاذير، ثم إنني أعددت الرواحل لك ولأهلك، وأمرت أن تصرف لك مئونة السفر بسعة وإغداق ... أرضيت أبا محمد؟؟ - رضيت يا مولاي شاكرا. - تذهب إلى سيدة القصور: عمة الخليفة الفائز، وإلى وزيره: طلائع بن رزيك، وتلقي إليهما بسحرك، وما وهب لك الله من فصاحة وبيان، وقوة حجة وبرهان، وكلما زاد ما يرسلان به إلى البيت الحرام زدناك. - وهل لسيدة القصور شأن كبير في إدارة شئون الدولة الفاطمية؟؟ - لها كل الشأن: فهي العقل المفكر، واليد الباطشة، ولها فنون من الحيل والخداع يعجر عن إدراكها أذكياء الرجال، ثم إنها تتخذ من أنوثتها ستارا لدسائسها، ومن جمالها البارع شباكا لاقتناص أعدائها، فقد سمعت من حجيج مصر: أنها في الحسن والرشاقة واجتذاب العقول آيه الله في خلقه، وأنها فتنة لكل من رآها، ولا يزال العهد قريبا بما كان من قتل نصر بن عباس لابن أخيها الخليفة الظافر، وفراره وفرار أبيه عباس الصنهاجي إلى الشام، أتدري ما فعلت سيدة القصور؟ لم تبك كما تبكي النساء، ولم تضرب كفا بكف كما تفعل العجائز، ولكنها أرسلت رسلها إلى قائد الإفرنج بعسقلان، ومعهم مائة ألف دينار على أن يقضي على عباس وابنه؛ فقتل القائد عباسا، وأرسل ابنه نصرا إلى سيدة القصور، وأظنه الآن في طريقه إلى القاهرة. - إنها حقا امرأة داهية!! - فوق ما تظن!! ... والخليفة الفائز الآن في يدها، وهو صبي لا تزيد سنه على ست سنوات، وهي لذلك تلعب برجال الدولة، هذا مرة، وذاك أخرى ... فاحترس منها أبا محمد. - وما حال الوزير طلائع بن رزيك معها؟؟ - لا أدري ... ولكنه لا يقل عنها دهاء وخبثا، وسنشهد قريبا صراعا بين ثعبانين.
وهناك رجل آخر أعيذك بالله منه ومن مكره ومحاله: هو مؤتمن الخلافة، خادم الخليفة وسيدة القصور، ورئيس الخدم والجنود السودانية. هذا رجل لو أراد إبليس أن يتخذ له خليفة في الأرض ما اختار غيره ... فاحذره أبا محمد!!
صفحه نامشخص
ثم قام وفتح خزانة، أخرج منها صرة بها خمسمائة دينار، فناولها عمارة، وقال: متى الظعن؟؟ - كما تأمر يا سيدي. - بعد ثلاثة أيام ... اكتب عن لساني كتابين: أحدهما للفائز، والآخر لابن رزيك، يمتزج فيهما الاستعطاف بالعتاب، ويلتبس فيهما الاستجداء بالشمم والإباء.
أنت تعرف أبا محمد كيف تكتب مثل هذا ... عم مساء.
الفصل الخامس
وصل الحراني إلى القاهرة بعد أن أجهده السفر، ونال منه بعد الشقة، إلى ما كان ينتابه من أحزان على ابنه، وأحقاد على عمارة وأهله، وهو بين هؤلاء وأولئك مطرق الرأس دامع العين، يدركه الضعف فيرجع ويحوقل، ويثور به الغضب فيهز قبضته في عنف وقوة: لا ... لا ... لن أبكي بكاء النساء، ولن أستكين استكانة الإماء، وهذه اليد التي لم تخلق لهز السيوف، ولا للعب بالرماح، أعاضني الله بها عقلا يهزم الجحافل، ويدك المعاقل. ولأمر ما يقول المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
ولأمر ما يقول:
لولا العقول لكان أدنى ضيغم
أدنى إلى شرف من الإنسان
إن المستعين بالقوة يحارب بسلاح مكشوف، والمستعين بالعقل يحارب بسلاح خفي مستور، وصاحب القوة قد يزل فيهزم، وصاحب الحيلة إن أخطأ استطاع أن يتدارك خطأه بحيلة أخرى، وصاحب القوة يتقيه عدوه فلا ينال منه منالا، أما صاحب الحيلة فهو صديق عدوه، وموضع أمانته ومكان ثقته.
إن الله خلق الإنسان، ومنحه القدرة على التشكل، فهو يستطيع أن يكون أسدا، ويستطيع أن يكون ثعلبا، ويستطيع أن يكون ثعبانا، ويستطيع أن يكون ذبابة تطن وتطير، فلم لا نتشكل؟ ولم لا نقابل كل حالة بحيوان مما في أنفسنا؟ إن البله هم الذين لا يستطيعون أن يستروا غضبهم بالضحك، وحزنهم بالسرور، وكراهتهم بالبشاشة والتسليم، والعاقل هو الذي يستطيع أن يقف أمام المرآة، بعد أن يقطع الحبل بين وجهه وقلبه، ثم يصور ملامحه كما يشاء ويهوى.
صفحه نامشخص
تجول هذه الخواطر بصدر الحراني، فينتعش ويعود إليه نشاطه، ويثوب إليه أمله في الحياة.
أنزل أهله بدار بحي الروم بالقرب من الباب المحروق، وأول شيء أوحى إليه به دهاؤه أن يغير اسمه، فسمى نفسه زين الدين بن نجا، وأن يظهر الزهد والقناعة والتبتل، وأن يدعي أنه من الطائف بالحجاز، ثم رأى أن خير وسيلة تقربه إلى قلوب العامة والخاصة أن يظهر غيرته على المذهب الفاطمي، وشدة التمسك به، وإذاعة محاسنه وفضائله، فتنقل في المساجد والجوامع يخطب في فضل المذهب، ومناقب آل النبي، وكان فصيح اللسان، قوي الحجة، حاضر البديهة، قصاصا بارعا، فكه الحديث جذابا؛ فالتف عليه الناس، وجاء بعض رجال القصر ليستمعوا له بعد أن طارت إليهم شهرته، وكان أحفل أهل القصر به وأكثرهم به ولوعا: إبراهيم بن دخان رئيس ديوان الرواتب بالدولة الفاطمية، وكان ابن دخان في نحو الأربعين، معتدل الطول، نحيف الجسم، أسمر اللون، له عينان شديد سوادهما، بيسراهما حول خفيف لم يذهب بما لها من تأثير نافذ وقوة مسيطرة. وكان أنفه كأنوف أكثر المصريين، كاد يكون أفطس، لولا أن تداركه ارتفاع وبعض استواء في قصبته، وكان بشفته السفلي بعض الغلظ دفعها إلى التدلي قليلا، وكأنه أحس هذا النقص، فهو لا يفتأ يجمع شفتيه كلما خطر له هذا الخاطر. وكان وجهه في جملته يدل على الشره والشهوانية، والختل والأثرة، وكان ابن دخان عارفا بتاريخ مصر واسع الاطلاع فيه، وكان يحب مصر، أو يحب نفسه، ويحب المذهب الفاطمي، أو يحب نفسه، فكلما استطاعت مصر أن تدر عليه الأموال، وتهيئ له عيشة البذخ والنعيم أحبها، وكلما استطاع المذهب الفاطمي أن يمنحه الجاه والنفوذ أحبه ونافح دونه. دعا ابن دخان مرة الحراني إلى داره أو زين الدين بن نجا - كما اختار أن يسمي نفسه - وبعد أن نالا من طعام العشاء جلسا في روشن يطل على خليج أمير المؤمنين، وتنقلا في ضروب من الحديث، فقال ابن دخان: كيف رأيت القاهرة يا سيدي الشيخ؟ - إنها اليوم زينة العواصم، وموئل الدين، وعش العلماء، وقبلة الشرق. - إن الفاطمية يا سيدي مظهر تلك العظمة، ومبعث ذلك الجمال، وإن مصر لم تر منذ عهد ابن العاص عهدا كعهد الفاطميين، فهو عهد رخاء وعدل، وطمأنينة وثروة، وابتهاج وسرور، أتعرف أن خراج الدولة لا يقل عن ألفي ألف ومائتي ألف دينار؟! وأن ما ينفق على القصر ورجال الدولة، وفي الهبات وإظهار عظمة الملك، يزيد على ثمانمائة ألف دينار؟! - إن مصر يا سيدي هي الجنة التي وعد المتقون، أكلها دائم وظلها، وقد يدهش المرء لما يرى بها من كثرة العلماء والطلاب، وكثرة ما يؤلف من الكتب في العلوم على شتى أنواعها. - لقد كثر العلماء الوافدون على مصر، حتى تضاعف ما تنفقه الدولة عليهم، ولو كانوا جميعا مثلك في الزهد والتقشف، والبعد عن مطامع الدنيا، ما أخذت عليهم مأخذا، ولكن أكثرهم يفد للاستجداء، وانتهاب الغنائم والرواتب!
لم أدعك الليلة للتحدث في شأن الدولة، ولكني دعوتك للائتناس بك، والتمتع بمجالستك، ولأخبرك أن المشرف على خزائن الكتب بالقصر الحسين بن زيد قد انتقل إلى جوار ربه منذ أيام، وأني قد رأيتك خير من يصلح لهذا المنصب؛ لما عرف بين الناس من علمك، وفضلك، وتعصبك للفاطمية. - إنني أزهد الناس يا سيدي في هذه المناصب، وإني أكره أن يكون رزقي محدودا معينا، فأفقد فضيلة التوكل على الله توكلا مطلقا خاليا من الشوائب، ولا أحب من رزق ربي إلا ما كان مجهولا مغيبا. - إن قاضي القضاة، وداعي الدعاة، وجميع زهاد الفاطمية لهم رواتب محدودة معينة، فاقبل هذا الراتب يا مولانا، وتصدق به إن شئت. - هذا حل معقول. - لقد أخبرت مؤتمن الخلافة بك، واقترحت أن يسند إليك هذا المنصب، فقبل مسرورا، ورأى أن يكون الراتب ثلاثين دينارا. - أرجو أن نوفق جميعا إلى الخير.
ثم نهض زين الدين وقال: سبحان الله وبحمده!! اللهم بجاه فاطمة وابنيها الشهيدين، وخلفائك الطاهرين من عترتها أن تملأ هذا المكان أمنا وإيمانا ونورا وبركة.
ثم ودعه وانصرف، وفي الصباح ذهب إلى القصر، وعرفه ابن دخان بكبار الأساتذة والقواد، وبدأ عمله الجديد.
وكانت خزائن الكتب تشغل بهوا واسعا وحجرا كثيرة، قد قسمت رفوفها أقساما: لكل علم قسم خاص به، وكانت تشتمل على أكثر من مائتي ألف كتاب في الآداب والعلوم، كتبها بالذهب كبار الخطاطين كابن مقلة، وابن البواب، وبها أكثر من ألف نسخة من تاريخ الطبري، منها نسخة بخط الطبري نفسه، وأكثر من مائة نسخة من الجمهرة لابن دريد، وأكثر من ثلاثين نسخة من كتاب العين للخليل بن أحمد، إحداهن بخط الخليل، وجملة القول وقصاراه: أنها كانت أعجوبة الدنيا، بزت جميع دور الكتب في بغداد والأندلس.
بقي الحراني في هذا المنصب الجديد وادعا هانئا، لا يكدر عليه عيشه إلا فجيعته في ابنه، وقصر يده عن أن تنال عمارة أو أحدا من أهله بانتقام.
الفصل السادس
غادر عمارة وأهله مكة، ومعه كتابا الأمير: قاسم بن هاشم، وسارت به النجائب تشق أديم الصحراء، كأنها ساريات الأحلام في الليل البهيم، وقد بدت الكثبان وسني يوقظها وخد الإبل، وأراجيز الحداة، فتصحو قليلا ثم تغفي.
هدوء وسكون، وصمت، وجلال ورهبة.
صفحه نامشخص
هذه هي الصحراء ... من صخورها خلقت أخلاق العرب، ومن أطيافها تلقوا وحي شعرهم، ومن مداها الفسيح المترامي استمدوا خيالهم، وفي جدبها نبت الإباء العربي، والاعتزاز بالنفس، والكرم، والحمية، والصبر على المكاره.
نظر عمارة أمامه - وهو فوق قتب بغيره - فرأى بحرا مائجا من الكثبان والرمال، ورأى فضاء لا تبلغ العين غايته، ورأى نجوم ليل الصحراء وقد زدن لألاء والتماعا وقربا، كأنها اللؤلؤ اللماح علق بخيوط القدرة بين الأرض والسماء؛ فتنهد وقال: آه أيتها الصحراء!! أين أبطالك الذين ملأوا الدنيا عمرانا وعلما، وشرائع وفنونا؟! أين أبطالك الذين كانوا ملائكة العروش، وشياطين الهيجاء!!
علميني يا صحراء تلك الدروس التي تلقاها خالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح!! بوحي أيتها الصحراء لي بسرك الدفين ... فإني عليه جد أمين!!
إني يا صحراء أود أن أكون لك ابنا، فأوصيني بما تشائين ... لي آمال أوسع من مداك، ومطالب صعبة المرتقى كجبالك، فهل أنا بالغ آمالي، فائز بمطالبي؟؟ قولي يا صحراء ماذا يجب أن أفعل!! واهمسي في أذني كما همست في آذان أبنائك الأولين ...
وهكذا ظل عمارة يحدث نفسه، وظلت الإبل تطوي الفلاة، حتى بلغت جدة، فنزل الركب، وتقدم من عمارة نائب الأمير قاسم - وقد سبق إليه خبر قدومه - فأنزله خير منزل، وغمره بصنوف من الحفاوة والإكرام، ثم أعد له سفينة تنقله إلى مصر فأبحر بها في بحر «القلزم»، وكان الجو صحوا، والريح رخاء، فوصل بعد أيام إلى مدينة القلزم «السويس»، ومن ثم استأجر إبلا تحمله، وتحمل أهله ومتاعه إلى القاهرة، وكانت القاهرة في هذا العهد تمتد من ناحية الشمال إلى باب النصر وباب الفتوح، ومن ناحية الجنوب إلى باب زويلة الجديد، ومن الشرق إلى باب البرقية، والباب المحروق، ومن الغرب إلى خليج أمير المؤمنين، وبهذه الجهة باب سعادة، وباب الفرج، وباب القنطرة.
وكانت مزدحمة السكان، واسعة العمران، بها كثير من الجوامع، والربط، والدور العظيمة، والمساكن الجليلة، والأسواق المملوءة بأنواع التجارات، والخانات، والفنادق المكتظة بالمسافرين.
وصل عمارة إلى القاهرة في ظهر يوم من ربيع الأول، سنة خمسين وخمسمائة، وهو شاب في الثلاثين، وسيم الطلعة، مشرق الديباجة، رائع القسمات، معتدل الطول، شديد الأسر، قوي العضل، فسار بأهله من الريدانية إلى باب الفتوح، ونزل في دار تشرف على جامع الحاكم بحارة الريحانية، حتى إذا استراح من لغوب السفر أياما بعث برقعة إلى الوزير ابن رزيك، يطلب فيها شرف المثول أمامه، وأمام الخليفة الفائز، وكتب في آخرها:
دعوا كل برق شمتم غير بارق
يلوك على الفسطاط صادق بشره
وزوروا المقام الصالحي فكل من
صفحه نامشخص
على الأرض ينسى ذكره عند ذكره
ولا تجعلوا مقصودكم طلب الغنى
فتجنوا على مجد المقام وفخره
ولكن سلوا منه العلا تظفروا بها
فكل امرئ يرجى على قدر قدره
فأرسل إليه ابن رزيك رسولا يخبره بأن المقابلة يوم الاثنين بالقصر الكبير، فأعمل عمارة خياله، ودعا إليه شيطان شعره، وكتب قصيدة طويلة أعدها للإنشاد أمام الخليفة.
فلما جاء الموعد استأجر بغلة أوصلته إلى القصر الكبير، فرأى من عظمته، وضخامة بنائه، وإبداع نقوشه، ما أدهشة وأطار لبه، وقصور الفاطميين وما كان لها من سموق بنيان، وبراعة نقوش، وجمال أثاث، وحسن تنسيق - يكل القلم دون وصفها، ويعجز البيان أمام سناها وسنائها - فليس في طوق الخيال أن يلم بما كانت توحي به من عظمة ملك، وقوة سلطان، وضخامة ثروة، وسطوة دولة، وإسراف في الترف، وإغراق في النعيم.
لا يستطيع القلم أن ينقش، ولا البيان أن يرسم، ولا الخيال أن يصور، فخير لنا أن نلقي القلم، ونسكت البيان، ونحبس الخيال، ونترك للقارئ أن يتخيل ما يشاء ويرسم من صور العز والملك والسلطان ما يريد.
وصل عمارة إلى القصر الكبير، فاستقبله الأستاذون المحنكون، وعلى رأسهم مؤتمن الخلافة، يتسلمه أستاذ ليوصله إلى آخر حتى انتهى إلى قاعة الذهب، وكأنها بنيت من الذهب حقا؛ لكثرة النقوش الذهبية التي تملأ حيطانها وسقفها، وهي قاعة العرش التي يستقبل فيها الخليفة رجال دولته في أيام المحافل والأعياد والمواسم.
دخل عمارة خاشعا مطرقا، وكلما حاول أن يرفع من طرفه قليلا رأى مهابة وجلالة، وملكا يبهر العيون، ويهول النفوس. رأى الخليفة الفائز على العرش في أثواب كلها ذهب وديباج، رآه صغيرا لا يتجاوز السادسة، نحيل الجسم، مصفر الوجه، له عينان واسعتان كعيني النمر كلهما بريق والتماع، ورأى الأستاذين المحنكين حوله في رهبة وخضوع، كأنهم يحرسون سرا سماويا مقدسا، ورأى وزيره الصالح بن زريك واقفا إلى يمينه في خشية وقنوت، كأنه في معبد صلاة وتبتل، وإلى يساره داعي الدعاة، وقاضي القضاة، والأمراء، وكبار الرؤساء والقواد، وفيهم الأوحد بن تميم، وشاور بن مجير، وضرغام اللخمي، ومجد الإسلام بن صالح، ونقباء المعلمين.
صفحه نامشخص
أما كبار الكتاب، ورجال القصر فجلسوا خلف هؤلاء، وكان بينهم: ابن الخلال صاحب ديوان الإنشاء، والجليس بن الحباب، والمهذب أبو محمد الأسواني، وزين الدين بن نجا، وإبرهيم بن دخان، رئيس ديوان الرواتب.
وكان الصمت يملأ النفوس هيبة، فتقدم عمارة من الخليفة، فقبل يديه وقدميه، ثم تقهقر قليلا، وأنشد بصوت ندي، ونبرات ساحرة أخاذة:
الحمد للعيس بعد العز والهمم
حمدا يقوم بما أولين من نعم
قربن قرب مزار العز من نظري
حتى رأيت إمام العصر من أمم
فهل درى البيت أني بعد فرقته
ما سرت من حرم إلا إلى حرم
حيث الخلافة مضروب سرادقها
بين النقيضين: من عفو ومن نقم
صفحه نامشخص
وللإمامة أنوار ... مقدسة
تجلو البغيضين: من ظلم ومن ظلم
وللعلا ألسن تثنى محامدها
على الحميدين: من فعل ومن شيم
أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا
فوز النجاة وأجر البر في القسم
لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما
وزيره الصالح الفراج للغمم
اللابس الفخر لم تنسج غلائله
إلا يد الصانعين: السيف والقلم
صفحه نامشخص
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها
عقود مدح فما أرضى لكم كلمي
وكان الصالح شديد التأثر بالشعر الرائع، يؤديه صوت رائع، فاهتز طربا، وأخذ يطلب الإعادة بين بيت وبيت، وملك حسن الشعر على الأستاذين، ورجال الدولة وأدبائها شعورهم، فلم يستطيعوا إلا أن يجهروا بالاستحسان والإطراء.
وكان بقاعة الذهب باب عليه ستار من الحرير المطرز بالذهب، كان ينفرج أحيانا فتطل منه عينان ساحرتان، في وجه يمتزج فيه ماء النعيم بماء الفتنة والجمال، وما كاد عمارة يتم إنشاده، حتى أفيضت عليه الخلع المذهبة من أثواب الخلافة، ووصله الملك الصالح بخمسمائة دينار، وجاء بعض الأستاذين إليه يحمل صرة بها خمسمائة دينار، وهو يقول: إن سيدتي سيدة القصور، قد أعجبت بك وبشعرك أعظم الإعجاب، وهي تبعث إليك بصلتها هذه، وقد أمرت أن تخلى لك «منظرة الغزالة» المشرفة على خليج أمير المؤمنين، ثم ابتسم وقال: على شرط أن تعيد أمامها إنشاد قصيدتك الرائعة؛ لأنها لم تستمتع خلف الستار بكل ما فيها من جمال.
ثم أقبل عليه المهذب أبو محمد الأسواني - وكان زعيم الشعراء بمصر، وسيد كتابها - فشد على يديه مهنئا، وقال: أيها الشاعر اليمني، هل أطمع في أن أكون لك صديقا، فإنني عندما رأيتك أحسست بحبي لك، وحينما سمعتك أحسست بإكباري لأدبك، لقد ألح علي مولاي الملك الصالح ألا تنقطع عنه، وألا تحرمه زيارتك، وأن تنثر عليه من حين إلى حين فرائد شعرك، فإنه كريم أريحي يهتز للمديح، ويجزل الثواب عليه، وقد أمر أن أن يخلع عليك لقب: شاعر القصر، وأن تمنح راتبا كل شهر يقرب من رواتب كبار الدولة.
فما استطاع عمارة إلا أن يشد على يدي صديقه الجديد، بحماسة وإخلاص صادق، ورجاه أن يبلغ عظيم ثنائه، وجميل شكره للملك الصالح على جزيل ما وهب، وكريم ما أعطى.
وخرج ابن دخان صاحب ديوان الرواتب، وزين الدين بن نجا، فمال ابن دخان على صاحبه، وقال: ما هذه الشعوذة التي شهدناها اليوم يا سيدي؟! شاعر مستجد متكسب بشعره ... يلقي أبياتا سمجة غثة، فينال من الجوائز والعطايا ما لم يستطع المؤرخون ادعاء مثله في عهد الرشيد؟! ماذا قال يا صاحبي بالله عليك ...؟! ماذا قال ...؟! «بين النقيضين: من عفو ومن نقم»؟! ... «تحلو البغيضين: من ظلم ومن ظلم»؟! ... ما أسخف!! ... وأنا أقول له: يا ابن الشقيين: من عاد ومن إرم!! ... وسارق الهاربين: النوق والغنم. وكان زين الدين مربد الوجه حزين النفس، بعد أن رأى عدوه الذي طالما تمنى له الغوائل، يصل إلى هذه المنزلة، ويحظى بذلك الإقبال، فتكلف الابتسام وقال: ما كنت أظنك شاعرا أبا الفضائل، يجب أن تحمد الرجل لا أن تذمه؛ لأنه أول من ألهمك الشعر. - أحمده؟! أنا لا أطيق يا أخي هؤلاء الأفاقين الذين يردون مصر من كل صوب لامتصاص دمائها، واشتفاف لبنها، كأنها بقرة حلوب خلفها لهم أبوهم آدم، هذا يأتي ببيت من الشعر فنسميه سيد الشعراء، وهذا يجيء بحفنة من علم، فنصيح: إنه أعلم العلماء، وهذا متبتل ناسك قطع الفيافي والقفار إلى مصر، ليزور مشهد الحسين رضي الله عنه فنصب عليه العطايا والنعم حتى ننسيه نسكه وتبتله ... ما هذا يا ابن نجا؟! أليس في مصر شاعر يفوق هذا اليمني المحتال؟ أليس بمصر عالم يفوق هؤلاء الذين يسقطون علينا كل يوم من كل نواحي الأرض؟!
وغدا يا سيدي غدا، يجيء هذا الصعلوك ليطالب براتبه الذي رتبه له الملك الصالح في كل شهر ... وما راتبه؟؟ مائة وخمسون دينارا، أنت تكدح وتنصب، وتعمل نهارا وليلا في خزائن الكتب، ولم يزد راتبك على ثلاثين دينارا، أنا لا أدري ماذا سيكون من شأن الخزانة إذا استمررنا في هذا الإسراف؟!
فابتلع الحراني ريقه من هول ما دهمه من قدوم عمارة والحفاوة به، وقال: هون عليك أبا الفضائل؛ إن مصر كثيرة الخيرات، واسعة الثروة، وإن من المحتوم عليها أن تكرم أبناء العربية، وأن تحسن لقاء الوافدين عليها، ثم إني لا أعرف سببا لبغضك هذا الرجل، وهو وسيم الطلعة، خفيف الروح، وإن كان وجهه يدل على الخبث والدهاء واللؤم؟! - لا أدري لم أبغضه يا ابن نجا؟! لقد سمج في عيني منذ رأيته، وأحسست ببغض له يملأ قلبي، وهذا وحي يا أخي، وإذا كان «لهوى النفوس سريرة لا تعلم» فإن لبغضها سريرة لا تعلم كذلك ... لا أدري والله! ولكنني أشعر أنه يجب أن يزول هذا الرجل من طريقي، حتى لكأن غرائز النمر تتحرك في نفسي للوثوب عليه والتهامه. - هذا ما أحس بقليل منه، ولكن ما لنا وللرجل! دعه إلى الأقدار ... دعه إلى الأقدار.
الفصل السابع
صفحه نامشخص
بعد عشرة أيام من إقامة عمارة بالقاهرة، أرسلت سيدة القصور إلى عبدها «راجحا» ليدعوه إليها، فركب حصانا أشهب أهداه إليه الوزير طلائع، وصحبه راجح على جواد عربي كريم، فسارا من حارة برجوان، وكانت طويلة كثيرة التعاريج، والمنحنيات، حتى وصلا إلى طريق باب الفتوح، وبدا لهما الجامع الأقمر إلى اليسار، فانحدرا جنوبا إلى ما بين القصرين، وتقدم راجح بجواده نحو باب الزمرد: وهو أحد أبواب القصر الكبير، يمتاز بحسن بنائه، وجمال زخرفه، وكثرة ما به من أعمدة الرخام الضخمة، دهش عمارة لفخامة الأثاث وجماله: فالأبسطة الفارسية تغرق فيها الأرجل، والستائر المذهبة تذهب العين من جمالها، والأرائك والكراسي كلها من خشب الصندل، والعود المضبب بالذهب، المرصع بالجواهر الكريمة، وقد فرشت بأنواع الحرير الثمينة، والمخمل والخسرواني، والديباج الملكي.
واتجه عمارة إلى يمينه، فرأى حائطا مغطي بنسيج من الحرير الأزرق التستري، وقد طرز بالذهب، وعليه صورة أقاليم الأرض، وجبالها وبحارها، ومدنها وأنهارها ومسالكها، وفيه صورة مكة والمدينة ظاهرتين للناظر، وقد كتب على كل مدينة وجبل وبلد ونهر وبحر وطريق اسمه بالذهب أو الفضة أو الحرير، فاقترب عمارة من هذا المصور العظيم، فرأى أنه كتب في حافته: «مما أمر بعمله المعز لدين الله، شوقا إلى حرم الله، وتنويها بمعالم رسول الله في سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة، والنفقة عليه اثنان وعشرون ألف دينار».
أما الستائر فكانت من الحرير الأخضر، وعلى كل ستارة صورة لملك أو خليفة أو قائد لكل بلد من بلاد المسلمين، وقد كتب تحت كل صورة اسمه، ومدة حياته، ومجمل تاريخه.
بهت عمارة لهذا الملك العظيم وهذا العز السامي، وذلك الترف الذي بلغ الغاية وجاوز حدود الوهم والخيال، فلم يشعر بالجواري الذاهبات هنا وهناك، من روميات، وصقلبيات، وتركيات، وجركسيات، وقد زادتهن الملابس جمالا، أو زدن الملابس جمالا.
أصيب عمارة بالذهول، أو بما يشبه الجنون، وما شعر إلا براجح يرفع ستارة من الديباج المطرز باللؤلؤ، ويقول له: تقدم.
فتقدم عمارة ورفع بصره قليلا، فرأى سيدة القصور في صدر البهو على كرسي مرتفع يشبه العروش، وقد كان ما لمحه من جمالها فوق ما يصوره الشعراء، ويجسمه المثالون، خلقها الله لتكون فتنة للعيون، وجوى للقلوب، وحيرة للواصفين، هي جميلة كلها، فإذا أخذتها قطعة قطعة كانت أروع وأجمل.
تقدم عمارة فقبل يدها، ثم قبل طراز ثوبها، ووقف مطرقا خاشعا؛ فأعجبت سيدة القصور بجميل طلعته، واعتدال قامته، وبما يبدو في عينيه من صفات النبل والرجولة؛ فمال إليه قلبها وخفق فؤادها، وشعرت بقوة تجذبها إليه، قد تكون ما يسميه الناس حبا، ولما رأت حيرته وارتباكه أرادت أن تخفف عنه، وتبسط ما انقبض من نفسه فقالت: كيف أنت يا يمني؟؟ لعلك رأيت في «قاهرتنا» ما يسليك عن «صنعاء» و«زبيد»!! فقال عمارة: يا مولاتي، إن الذي يعيش في وارف ظلكم، وعزيز كنفكم، ينسي وطنه وأهله ولو كان في صحراء قاحلة، فكيف والقاهرة بكم سيدة الحواضر، ومدينة المدائن ؟! ... إن مصر يا مولاتي لم تر منذ أن خفقت فوقها راية الإسلام دولة كهذه الدولة: قوة ومنعة، وعدلا، وجودا، وإحسانا، وإن الناس اليوم إذا أرادوا توكيد أيمانهم، لا يقولون إلا: «وحق سيدة القصور»، فمن غير الفاطميين يا مولاتي نشر في مصر الأمن، واليسر، والسرور، والثروة!؟ حتى لو كان الفقر رجلا، وسألني عن صديق يصاحبه لقلت له: لن تجد يا صاحبي لك هنا رفيقا، ولكن عليك باليمن؛ فإنك تجد هنالك أصدقاء بالألوف.
فابتسمت سيدة القصور، وقالت: هذا دأبكم أيها الشعراء تلبسون الحق بالباطل!! - إن وصف مصر في أيامكم يا مولاتي يعجز الشعراء، وكل ما يقال فيها دون ما يجب أن يقال. - أنت لم تر الفاطمية في ذروة مجدها، أظنها الآن تسير بقوة من الماضي. - يا مولاتي: الفاطمية بك، وبمولاي الخليفة دائما في ذروة مجدها. - إن آمالي يا عمارة أبعد ما تناله يدي، ولو استطعت لأعدت أيام «المعز» و«الحاكم»، ولكني أجد الطريق وعرة، والمرمى بعيدا، وأنى تستطيع امرأة ضعيفة مثلي أن تعمل شيئا، ودرعها الخمار، وسيفها البكاء، وعليها جر الذيول لا قيادة الجيوش؟! ... إنني في الحق سررت بمقدمك؛ لأن القصر كان في حاجة إلى شاعر يذيع مآثره، وينشر مفاخره، وينقل صوته من الخاصة إلى العامة، فيزيدهم بالخلافة تمسكا، ولها نصرا وتأييدا. - إن شعري يا مولاتي سيكون جيشا بجانب جيوشكم، وسأكون لكم كما كان «حسان» للمسلمين الأولين. - حياك الله أبا محمد ... هذا ما ترجوه منك الخلافة، إن الخليفة لا يزال صغير السن، وأرى الأعداء يرمقون مصر من كل جانب؛ فالإفرنج نزلوا الشام، وملكوا كثيرا من بلادها، وقد أصبح خطبهم شديدا، وهؤلاء الغز الذين ستروا مطامعهم في اغتصاب الأمم، بدعوى الغزو والجهاد في سبيل الله، والذين يقودهم نور الدين بن زنكي يتحرقون شوقا إلى مصر، وإلى الارتواء من نيل مصر، وهذه الدسائس التي تحاك هنا حولي في سراديب مظلمة في جنح الليل المظلم، تنذر بالخراب والدمار، فماذا تفعل امرأة ضعيفة مثلي يا شيخ في وسط هذه الزوابع والزعازع؟! كان صوت الأميرة حزينا متهدجا ، وقد فرت دمعتان من عينيها أسرعت إلى مسحهما بمنديل في يدها، ثم كأنها أنفت من هذا الضعف النسوي، فضربت بقدمها الأرض، وقالت: أريد أن أنقي هذا الجو حتى أستطيع أن أتنفس ... أريد أن أنام ملء عيني في قصور المعز من غير أن أشعر أن الكيد والخديعة والأعداء من الخارج تنقبها من قواعدها ... - إن قوادك ووزراءك يا مولاتي طوع أمرك، والملك الصالح طلائع الذي قدم بجيشه من «منية ابن خصيب» لنصرة الخلافة، لا يزال كما كان للخلافة أمينا مخلصا.
فظهرت على وجه الأميرة كدرة خاطفة سريعة من الحقد والغضب لم يدركها عمارة، وابتسمت وقالت: صدقت يا عمارة، ما أعلمك بأخلاق الرجال!! ... إن ابن رزيك قوام هذه الدولة، وهو سيفها القاطع، ورأيها النافذ، وإني أسد أذني عما يقول كثير من حساده، يقولون: إنه أرمني اتخذ الإسلام ذريعة للدنيا لا للآخرة، واتخذ المذهب الفاطمي ذريعة للملك ... قاتلهم الله فهم كذابون أفاكون!! لن تجد مصر رجلا كابن رزيك، ولو كان للإخلاص والوفاء صورة لكانت ابن رزيك ... أما «شاور» و«ضرغام» فلا أعرف عنهما إلا أنهما كبيرا الآمال، ولعل هذه الآمال تتجه إلى إعزاز كلمة الخلافة!!
ثم ضحكت وقالت: أتعبتك من الحديث في شئون الدولة، وكل حديث فيها ممل ثقيل، ما أجمل قصيدتك التي أنشدتها يوم استقبالك!! وأجمل ما فيها:
صفحه نامشخص
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها
عقود مدح فما أرضى لكم كلمي
المعنى قديم مطروق يا أبا محمد، ولكنك أحسنت صياغته، فإيه بالله عليك أبا محمد ... ادن مني قليلا ... ما لي أراك مستوحشا؟! ... انفض عنك هذه الرهبة، وحدثني كما تحدث الناس، فقد سمعت أنك حلو الحديث، عذب المحاضرة والمفاكهة ... اسمع يا عمارة: أتريد أن نكون أصدقاء؟؟ - تلك منزلة لو رأيتها في المنام يا مولاتي ما صدقتها. وأين الثريا من يد المتناول. - لا، صدقها ونحن في اليقظة لا في المنام، وأمامك سيدة القصور بنت الخلائف، وملكة مصر.
فأكب عمارة على يديها، فتركتهما له، فاستمر طويلا يغمرهما تقبيلا ولثما، وقد أحس كهرباهما تسري إلى جسمه، فتملؤه نشوة وانتعاشا ، ثم قال: أنا عبد مولاتي وخادمها، وإن قلمي، ولساني، وسيفي - إن شاءت - ملك يمينها. - لا ... أنت صديقي، ولكننا قبل أن نبني هذه الصداقة، يجب أن نجعل أساسها ميثاقا مقدسا، وعهدا أكيدا. - ألف عهد وألف ميثاق أبذلها تحت قدميك، وأنثرها أمام هذا الجلال الرائع ... ولولا رهبة الملك لقلت أمام هذا الجمال الفاتن ... فابتسمت الأميرة وقالت: لم تطق أن تصبر لحظة عن شاعريتك فحننت إلى الغزل، كما يحن الطائر إلى التغريد عند سفور الصباح! - يا مولاتي أنا شاعر، والشاعر ليس إلا مرجلا يغلي بضروب الإحساس والوجدان، فإذا لم يجد متنفسا انفجر وتحطم، إننا معاشر الشعراء نرى الصور بعيون من الفن لا يبصر بها سوانا ... نرى الجمال فنذهب بخيالنا في روضاته، فيتكشف لنا عن بدائع لا تراها العيون ... نحن نعيش في دنيا غير دنيا الناس، ونفهم من أسرار الحسن غير ما يفهم الناس، إن الحسن أحيانا قد يتحدى الشعر، وقد يعجز الخيال، وقد يبهر العين كما بهرني، ولكنا لا نلقي أمامه السلاح أول مرة، ولا نستسلم خاضعين، بل نأخذ في إطلاق الشعر حوله رصينا أو غير رصين، مبينا أو غير مبين، ثم نصيح كما يصيح المحموم، حتى نخفف من ثورة قلوبنا، وإلا قتلنا الحب، ورحنا شهداء النظرات الفاتكة، والبسمات الفاتنة. - قصيدة منثورة يا أبا محمد!! إن لبيانك سحرا عجيبا!! ثم تهانفت وقالت: نسينا العهد والميثاق. - صوغي العهد يا سيدتي كما تشائين، ولا تبقي شيئا من الأيمان المحرجة، فإني أكرر بعدك كل ما تقولين. - إن عهود الفاطميين ليست هينة يا عمارة، فهي شديدة قاسية، ووراء كل كلمة منها إسماعيلي فدائي، يغمد سكينه في قلب كل من نكث بها. - إن دمي لك يا مولاتي، وهل أقول قلبي؟؟ - قل ما تشاء. - دمي، وقلبي، وحياتي لك يا مولاتي، فهاتي العهد، وتشددي ووثقي كيف شئت كما يوثق كتاب العقود. - ولكني قبل العهد أريد أن أتحدث معك قليلا: أتعلم أن أهل مصر تحولوا جميعا إلى المذهب الفاطمي، وأصبحوا من أشد الناس غيرة على نشره، والمحافظة على تعاليمه ومراسمه ... إنهم قوم يحبون البهجة ومظاهر السرور، وحفلات الأنس والطرب، وضجيج المواسم، وقد أكثرنا من ذلك لهم ... أتعلم أن مواسم الفاطميين تزيد في السنة على ثلاثين موسما؟! هذا إلى ما يعمل في رمضان والعيدين من الحفلات الشائقة، وضروب البذخ والإسراف، أتعلم أننا جعلنا سيف المعز وذهبه شعارا لدولتنا؟! أسمعت بقصة جدي المعز في أول اجتماع عام له بالقاهرة، حينما طالبه ابن طباطبا نقيب الطالبيين في مصر بما يثبت نسبه وحسبه؟ فنثر جدي الذهب على الناس، وقال: هذا نسبي!! ثم جرد سيفه من غمده وصاح: وهذا حسبي!! ومن ذلك الحين أصبحت دولتنا تقوم على هاتين الكلمتين: الذهب لمن أطاع وأصلح، والسيف لمن عصى وأفسد. - هذا يا مولاتي هو العز الباذخ، والملك الشامخ، فبأبناء فاطمة تتيه مصر، ويسعد أهلها.
فمالت إليه الأميرة باسمة، وقالت بصوت عذب النبرات: بعد هذا، وبعدما سمعت منك أبا محمد عن سماحة الفاطمية، وجودها، وعدالة حكمها أحب أن تكون فاطميا. - أنا فاطمي يا مولاتي ... أحب فاطمة الزهراء، وأحب عليا - كرم الله وجهه - وأحب أولادهما، وأعتقد أن حبهم قربي إلى الله وشفاعة. - لا يا عمارة ... لا تغالطني بحقك ... أنت تعلم ما أريده، ولكنك تروغ روغان الثعلب، ولولا ميل أحسه نحوك ما طاولتك هذه المطاولة، ثم ظهرت في وجهها شراسة النمرة فقالت: إن لمثلك عندنا إحدى خلتين: إما أن تعتنق مذهبنا، وإما أن تسيل نفسه على سيوفنا ... أتريدنا الآن يا يمني على أن نعود إلى الانحلال، والتجاوز المميت؟! لا ... لا ... لا بد من إحداهما، إما أن تكون فاطميا، وإما ألا توجد.
فارتعدت فرائص عمارة، وقال في تلعثم: فهمت من مولاتي أنها لا تريد من الحياة إلا إعلاء المذهب الفاطمي، وتثبت أركانه، وفهمت أنها لهذه الغاية نفسها تدعوني إلى اعتناق المذهب، فما رأيك يا مولاتي في أننا متفقان في الغاية؟! ... متفقان تمام الاتفاق!! ... سأكون خير عدة في نشر المذهب الفاطمي ... سأكون له لسانا ناطقا، وقلبا خافقا ... سيكون شعري أغنيته التي يطرب لها كل سمع، ويتفتح لها كل قلب ... سيحسدني داعي دعاة المذهب على حسن ما أبليت في إنهاض الفاطمية، وإعلاء لوائها ... سيرى النقباء الاثنا عشر أنهم لم يعملوا شيئا بجانبي ... سيردد الأطفال في الحارات أناشيد الفاطمية، وستغرد النساء في بيوتهن بمجد الفاطمية، وسيرى الأدباء والعلماء في شعري صورا ساحرة لجمال الفاطمية وسماحتها ... سأعمل كل هذا لأنني أحب مولاتي، ولأنني رأيت من كريم وفادتكم، وجزيل عطائكم، وعميم إحسانكم إلى الناس ما بهرني، وملأ قلبي حبا لكم، ولكل ما يتصل بكم. أما عقيدتي أنا ... التي تنطوي عليها جوانحي، فدعيها لي يا سيدتي ... دعيها بالله فإنها بقية ما يصلني بأهلي الذين فقدتهم ... دعيها فإنها إرث الماضي البعيد ... دعيها فإنها جزء من نفسي، ثم وثب قائما وفي وجهه شهامة العربي الكريم، وقال: لن أغير عقيدتي، ولو طلبت ذلك أجمل امرأة أظلتها السماء، وهي سيدة القصور. - اهدأ أبا محمد. - يا مولاتي، إني أعتقد أنني لو غيرت عقيدتي أول ما تطلبين مني لهزئت بي وسخرت مني، وقلت في نفسك: تعسا له من رجل سقيم الإرادة، هزيل العزيمة!! ثم هبيني كنت رجلا إمعا لا خلق له، ولا عزم، ولا دين، أتظنين أن ذلك يقربك من غايتك؟! لا. سيضحك الناس مني في أكمامهم إذا ناديت فيهم بفضل الفاطمية، ويقولون: يا له من شقي أفاق مأجور!! اشترت منه الخلافة عقيدته بدراهم معدودة، فجاء يدعونا إلى الحرص على مذهبها! وربما همس أحدهم في أذني بخبث وشماتة قائلا: إن رجلا يفرط في مذهبه أولى به أن يتوارى عن الناس، وألا يحثهم على التمسك بمذهبهم، ثم إن الوفاء أظهر خلائقي، وأقوى شيمي، فإذا لم أف لعقيدتي فأجدر بي ألا أفي لمخلوق ... سأعيش للوفاء، وسأموت للوفاء، ولن يقول إنسان: إن ابن علي خان عهدا، أو أخفر ذمة.
فانبسطت أسارير سيدة القصور وقالت: أحسنت أبا محمد، إن هذا البيان وهذا الفكر الواسع لا تستغنى عنهما الفاطمية. - اطمئني يا مولاتي، فسأكون لك عونا، ولمذهبك سيفا ودرعا، وسأكون فاطميا بلساني، سنيا بقلبي، فماذا تريدين مني فوق هذا؟؟ - اكتفيت أبا محمد، فإن لروعة منطقك، إلى وسامة طلعتك، إلى كريم خلقك ، وكمال رجولتك سحرا وفتنة: أيرضيك هذا الإطراء أبا محمد من امرأة كانت تظن أن الأرض أقفرت من الرجال حتى رأتك؟؟
فوثب عمارة على يديها يقبلهما، ويرتفع بفيه قليلا قليلا حتى يصل إلى معصميها، ثم قال: يرضيني يا مولاتي؟! أنا لا أدري: أأنا فوق الأرض، أم سابح فوق السحاب؟! - لا ... لا تعد إلى شاعريتك، أنت معي هنا في قصر الزمرد ... هلم إلى العهد، فتنهد عمارة وقال: هاتي يا سيدتي، هاتي ... فأخرجت سيدة القصور ورقة من منديلها، وأخذت تتلو وهو يعيد: «أقسم وأحلف بالله المنتقم القاهر، وبرسوله الكريم، وبوصيه ووليه، وببنته الزهراء سيدة نساء أهل الجنة، وبكريم نسلها وشريف عترتها على أن أكون للفاطمية عونا ولها ناصرا، ولدولتها مؤيدا، وعلى أن أعاضد أولياءها، وأحارب أعداءها، وأتخذ كل وسيلة، وكل أداة، وكل ذريعة لرفع شأنها، وإماطة الضر عنها، وعلى أن يكون دمي، وشرفي، ومالي هدرا مباحا إن خنت لها عهدا، أو نكثت بوعد، أو توانيت عن وفاء».
وبعد حلف اليمين كان جبين عمارة يتصبب عرقا، فرفع عينيه وقال: بقيت مسألة يا سيدتي، وهي أني شاعر، وقد أمدح قوما تضمرين لهم سوءا، فهل ذلك ضائري عندك؟؟ - لا يا عمارة، أيد بمدحك من تشاء منا، واخدع بمدحك من تشاء من غيرنا، ولا تخش شرا فأنت موضع ثقتي ... هلم إلى الطعام والشراب.
ثم قامت سيدة القصور إلى بهو آخر، أعدت فيه مائدة ملكية يحير وصفها الألباب، وبعد الطعام تقدمته الأميرة إلى بهو الأغاني، وقد كانت الجواري أعددن آلات الطرب، فجلست الأميرة، وجلس عمارة بعيدا، وجلست إلى جانب الأميرة جاريتها «باسمة»، وهي جارية جركسية بارعة الحسن، رائعة الطلعة، تفور فيها الأنوثة، وتصطخب في نفسها ثورات الشباب، لمحت عمارة، فرأت فيه محيا عربيا، ووجها صبيحا، وقامة فارعة، فاضطرب له فؤادها، وأخذت تخالسه النظر، وتتحين الفرصة لمحادثته واجتذابه، واستمر الطرب إلى الهزيع الأخير من الليل، حينئذ وقفت الأميرة وسلمت على عمارة، وهمست في أذنه: سأرسل إليك راجحا في كل ثلاثاء. ثم أمرت «باسمة» أن تسير معه إلى الباب الكبير ، وأن تأمر راجحا أن يصحبه إلى داره.
صفحه نامشخص