فأذن لي بالكلام فقلت: «أنا يا مولاي من قبيلة غريبة، وقد جئت أطلب حمايتك فحميتني، ومن طبع الإنسان أن يخطئ ويذنب إلى الله وإلى الناس، وأنا قد أذنبت ولكني الآن أتوب، أتوب إلى الله وإلى الرسول، ها أنا ذا يا مولاي في القيود والسلاسل أمامك، ها أنا ذا عريان جوعان أفترش الأرض وأرقد هنا صابرا أنتظر قدومك لكي تعفو عني، مولاي إني أتذلل لك وأرجو أن تفرج عني، ولكن إذا رأيت بقائي في هذه الحال التعسة، فأدعو الله أن يقويني على تحملها.»
وكنت قد حفظت هذه الخطبة جيدا وألقيتها بفصاحة نادرة، ورأيت أني بلغت بها الأثر الذي أردته في نفس الخليفة، ثم التفت إلى لبتون وقال: «وأنت يا عبد الله.»
فقال لبتون: «لا أزيد شيئا على ما قاله عبد القادر، اعف عني وأفرج عني.»
فالتفت إلي الخليفة وقال: «منذ مجيئك من دارفور عملت كل ما يجب أن يعمل لأجلك، ولكن قلبك بقي بعيدا عنا وأردت أن تلحق بغوردون الكافر وتحاربنا في صفه، ولقد وفرت عليك حياتك لأنك أجنبي، ولكن إذا كنت قد تبت حقيقة فأنا أعفو عنك أنت وعبد الله، يا سجان انزع عنهما القيود والسلاسل.»
فحملنا السجانون، وبعد استعمال الحيل تمكنوا من نزع القيود ثم أعادونا إلى الخليفة الذي كان قاعدا على العنجريب ينتظرنا، ثم أمر بإحضار القرآن فوضعه على فروة وطلب منا أن نقسم يمين الولاء له، فوضع كل منا يده على القرآن وأقسم بأن يخدمه بأمانة وولاء في المستقبل، ثم نهض وأمرنا بأن نسير وراءه، ونهضنا ونحن نكاد نجن من الفرح بالإفراج عنا بعد هذا السجن الطويل وسرنا في أثره.
ولما بلغنا منزله أمرنا بأن نبقى في مكان بعيد عنه وتركنا، وبعد دقائق عاد إلينا وقعد إلى جانبنا وحذرنا من عصيان أوامره، ثم قال إنه تسلم خطابات من قائد الجيش في مصر يقول فيها إنه قد أسر أقارب المهدي الذين كانوا في دنقلة، وإنه يعرض أن يقايض بهم على ما عند المهدي من الأسرى الذين كانوا مسيحيين.
وقال: «لقد قررنا أن نجيب بأنكم جميعا مسلمون وأنكم متحدون معنا ولا ترغبون في أن نقايض عليكم برجال ولو كانوا من قرابة المهدي، فليفعلوا ما شاءوا بأسراهم.»
ثم أضاف إلى ذلك قوله: «ولكن لعلكم تحبون العودة إلى النصارى؟»
فأكدنا له أنا ولبتون بأننا لا نرغب في تركه وأن مسرات الدنيا كلها لا تغرينا بمفارقته، وأن بقاءنا معه يفيدنا لأنه يرشدنا إلى طريق الخلاص، فجازت عليه أكاذيبنا ووعدنا بأن يقدمنا إلى المهدي الذي كان قد وعد الخليفة بزيارته في عصر ذلك اليوم في منزله، ثم خرج وتركنا.
وجاءنا كثير من الأصدقاء يهنئوننا بالإفراج عنا، وكان بينهم ديمتري زيجادة ولكن لم يكن معه المقدار المعتاد من التبغ، وكان بينهم أيضا صديقي القديم الشيخ عليش، فلما أخبرته بأننا سنقابل المهدي نصح لي بعض نصائح مفيدة في هذه المقابلة.
صفحه نامشخص