ثم تركني وسار، واقترب مني يونس واد وكيم حاكم دنقلة وأحد قرابة الخليفة، فهز يدي قال لي: «تشجع، لا تخش شيئا، كل شيء سيصلح قريبا.»
وابتدأت أحوالي تتحسن منذ هذا اليوم، ولكن كنت أشعر بطول الوقت.
وانتشرت وافدة الجدري في أم درمان، وكانت تحصد المئات كل يوم حتى بادت أسرات عن آخرها. واعتقادي، أن الخسارة من هذا المرض كانت أكبر من أية خسارة خسرها الدراويش في المعارك الماضية. والغريب أن العرب أصيبوا به أكثر من غيرهم ومات منه معظم المساجين، أما نحن المسجونين فلم نصب بشيء وإن كنا قد فزعنا فزعا شديدا، ولعل الله في رحمته رأى أن فيما نقاسيه أكثر مما نتحمل.
وأتيحت لي الفرص الآن للتحدث مع لبتون الذي كان يزداد سأما كل يوم، وقد كان يبلغ به الحنق والغيظ أن يشكو أحيانا مر الشكوى وبصوت عال، حتى كنت أخشى عواقب فعله هذا، ولكن المعيشة التي كنا نعيشها في السجن كانت قد أثرت فيه حتى خفت على صحته، وتمكنت بعد محادثات طويلة معه من تهدئته، وكان مع عمره الذي لم يعد الثلاثين قد شاب رأسه ولحيته في مدة سجنه هذه.
وأشيع في أحد الأيام أن الخليفة مزمع المجيء إلى السجن، فهيأت خطبة وعنيت بإنشائها، وفعل لبتون مثل ذلك، وكان المرجح أنه سيخاطبني أولا.
ثم جاءت الساعة الخطرة ودخل الخليفة إلى صحن السجن، وبدلا من أن يطلب المسجونين واحدا بعد آخر، وضع له عنجريب وقعد عليه وأحضر له المساجين وقعدوا في نصف دائرة، فأفرج عن البعض ووعد الآخرين ببحث قضاياهم، ولكنه لم يلتفت إلي ولا إلى لبتون.
فنظر إلي لبتون وهز رأسه فوضعت أصبعي على فمي أحذره من عمل أي شيء طائش. والتفت الخليفة إلى رئيس السجن وقال: «هل بقي علي شيء؟»
فقال السجان: «أنا في خدمتك يا مولاي.»
ثم قعد الخليفة بعد أن كان قد هم بالقيام والتفت إلي وقال: «عبد القادر، أنت طيب.»
فقلت: «يا مولاي، اسمح لي بالكلام أخبرك عن حالي.»
صفحه نامشخص