وإنا لندهش من أن مراسل الآنسة مي يحرم نفسه الآن لذة التمتع بمشاهدة ما تتجلى به الأفكار الحديثة من مظاهر الرقي وتهذيب الطباع وتلطيف الهمجية القديمة باستعمال الغازات السامة وطرق القرصنة وأساليب صب البلاء على الأبرياء والضعفاء، فضلا عما أفادت الألمان - وهم أخص مروجيها ودعاتها - من القدرة التي سمت بهم إلى قتل الأسرى والفتك بالأحداث والشيوخ والنساء.
فأحرى بالكاتب الغيور أن يذهب إلى ميادين القتال هناك ويساعد الألمان في هدم معاهد تلك الأفكار القديمة ومعاقل تلك المعتقدات الدينية التي أثقلها صدى الأجيال كريمس وشقيقاتها. ولا يخفى أن المجال هناك رحب لغيرته، فهذه «الأفكار القديمة» تتجلى الآن بأبهى مظاهرها في فرنسا في الخنادق والمعابد والمعاهد والمعسكرات؛ حيث تقام الشعائر الدينية ويجهر الجميع بالصلاة. ولم يفت أصدقاء الكاتب في مصر الوقوف على شيء من مظاهر هذه الأفكار في وفاة ومشهد الجندي لروى ومن كلام الكولونيل موكور الذي أبنه بألطف كلام وسكب على جراح ذويه بلسم التعزية بذكر وفاته المسيحية متزودا الأسرار المقدسة.
ويحسن في هذا الصدد أن نذكر ما نقل عن العلامة الإفرنسي الشهير إميل أماجات الذي خسرته العلوم ونعتته فرنسا إلى العالم حديثا، وهو أحد أعضاء الجمعية العلمية في باريس والجمعية الملكية في لندن، له المباحث الخطيرة والاكتشافات النافعة في كثير من فروع العلوم الطبيعية، فهذا الفقيد لما اشتدت عليه وطأة المرض استدعى الكاهن وقال له: «طلبتك لتؤهلني للحضور أمام الله. أموت مؤمنا بكل ما تعتقد به الكنيسة الكاثوليكية ... قد كان لي ديني راية، يعلم الله أني ما دنستها بما يشين لأجل مجد أو مقام.»
أفلا يخجل حضرة الكاتب من امتهانه الأفكار القديمة والعقائد الدينية ورميه بالجهل الناس الذين يقبلونها بلا بحث ولا جدال. وهو يرى أمثال إميل أماجات متمسكين بها منتمين بكل افتخار إلى الكنيسة التي تعلمها؟
ب. ر.
إلى حضرة ب. ر.
1915
أشكر لحضرة معترض جريدة «الأخبار» اهتمامه بما نقلت عن الكاتب الأمريكي. وما كنت لأزعجه بجوابي هذا لولا أني شعرت في رده بشيء من سوء التفاهم بيننا؛ فإما أن تكون «الأخبار» نسيت سهوا نقل الجملة كما هي فأستأذنها بالإشارة إلى ذلك. وإما أن أكون أسأت التعريب - وهذا هو الأصح - فوجب علي الإصلاح قدر المستطاع.
لست بمناقشة؛ لأني يوم عربت رسالة الكاتب الأجنبي لم أكن ناشرة إلا رأيه دون رأيي، ولا أنا بمعترضة على قول حضرة ب. ر أن الكاتب أخطأ إذ خاض في الموضوع «بكلام خيالي شعري»؛ أولا: لأن الرجل ليس شاعرا. ثانيا: لأني أضطر آنئذ أن أذكر حضرة ب. ر أن التوراة والإنجيل الشريفين مكتوبان بأسلوب شعري خيالي، ففي التوراة يفيض الشعر فيضانا جميلا من مزامير داود إلى نشيد سليمان، إلى سفر أيوب، إلى نواح أرميا. وأما الإنجيل فمملوء بالرموز والإشارات، كما أنه مملوء بالتعاليم العالية المؤدية إلى الكمال الأسمى. والسيد المسيح نفسه قال إنه يتكلم بالرموز ويضرب الأمثال.
على أني أستأذن حضرته بإلفاته إلى قول الكاتب الأجنبي أن «أمثاله (الدكتور شميل) يهدمون ما في الأديان والجمعيات من الغلو والإفراط.» هذا صريح لا يحتمل تدليلا، فهل «الغلو والإفراط» يعنيان الإيمان بإله أزلي سرمدي؟ كلا، إن هذه الفكرة العظيمة أم العقائد الدينية وغير الدينية جميعا. إنها ملازمة لفكرة الخليقة ملازمة لا تقبل انفصالا. وسواء دعيت تلك العناية المثلى «هو وهي» كما يدعوها الإسرائيليون القدماء، أم الله، أم الطبيعة، فهي هي، وما كان البشر إلا معددين لها الأسماء والألقاب. «وأصدقاء» الكاتب الأجنبي يؤكدون لحضرة ب. ر أن الرجل مؤمن بالله، فلماذا لا يكون «الغلو والإفراط» في التجاء امرأة ضاع منها منديلها مثلا، إلى القديس أنطونيوس تستحلفه بأمه وأبيه أن ينزع منديلها من أيدي الشياطين ويضعه في جيبها مباشرة، وذلك بمقابل بخور بكذا قروش تهديه إليه في الغد؟ ولماذا لا يكون «الغلو والإفراط» في التجاء السيدات المسلمات إلى «الزار» والمشعوذين؟ ولماذا لا يكون «الغلو والإفراط» في حرق المرأة الحية قرب زوجها الميت عند الهنود؟
صفحه نامشخص