فصاحت بغضب: قطعا لألسنتهم، إنهم ينفسون عليك أدبك الكامل، والحنطور الذي يحملك؛ بينما يتسكعون على أقدامهم، إياك وأن تتخذ منهم صديقا!
ومتى كنت في حاجة إلى مثل تلك النصيحة؟! وهكذا كابدت الحياة في المدرسة في وحدة، يطالعني روح عداوة وبغضاء من الجو المحيط بي. ولعلها كانت لا تخلو من غبطة لو أنني أسهمت في مسراتها، ولكن خجلي الشديد أجبرني على مقاطعة الألعاب بأنواعها كالكشافة والكرة والقسم المخصوص، حتى الرحلات المدرسية لم توافق أمي على الاشتراك فيها؛ أن يصيبني مكروه، وكان التلاميذ يتحدثون عن الأهرام وأبي الهول ودار العاديات والفسطاط، فأسترق السمع في حيرة وحزن وكأني أستمع إلى سائحين يقصون عن بلاد نائية! ولشد ما ينتابني من خجل إذ أقرر أن عيني لم تقعا من القاهرة - المدينة الوحيدة التي عشت بين أسوارها - إلا على شوارع معدودات هي كل حظي من مشاهدات في هذه الدنيا الواسعة. ولم يكن لي من عزاء في تلك الأيام إلا أن أنفرد بأمي في الشرفة أو في حجرتها، ثم نأخذ بأطراف الحديث، كأن ليس لحديثنا من نهاية. وكانت عصا المدرس تذكرني بأن علي واجبا ينبغي أن أؤديه قبل النوم، فأقبل على الكتاب مستكرها، وأذاكر بلا روح ولا حماس، وسرعان ما يترنح رأسي ويرنق النوم بجفني. •••
ويوما قرئت علينا - في حصة الديانة - هذه الآية الكريمة:
فإذا جاءت الصاخة * يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه ...
فلا أذكر أني انزعجت لشيء انزعاجي لها، لم أطق أن أتصور أن أفر من أمي في يوم مهما كانت فظاعته، وأن أغادرها في أهواله بقامتها النحيلة الرقيقة وعينيها الخضراوين الحنونين، فقاطعت الشيخ على غير وعي مني هاتفا: كلا .. كلا!
وأحدثت مقاطعتي دهشة في الفصل؛ لأني لم أكن أنبس بكلمة، ولم يدرك أحد ماذا أردت، ولم يلبثوا أن ضجوا ضاحكين، وغضب الشيخ، وحملني مسئولية الإخلال بالنظام، فأقبل نحوي متغيظا ولطمني على وجهي بعنف وحنق. ورحبت باللطمة كعذر ظاهر للبكاء؛ إذ كنت أقاوم دموعي جاهدا ودون جدوى.
لقد زلزلتني هذه الآية الكريمة، وكانت أول نذير لي عن مأساة الحياة!
8
حياة رتيبة كابدتها على استكراه؛ بيد أنها لم تخل من هزات عنيفة. فذات مساء عاد جدي مبكرا على غير عادته، وقلقت أمي لأنه لم يكن يرجع إلى البيت قبل الفجر. واقتحم علينا الحجرة متجهما، فنهضت أمي مستطلعة، ورفعت رأسي عن الكتاب، وقبل أن تسأله عما به قال بحدة وهو يضرب طرف حذائه بعصاه: زينب، كارثة نزلت بالأسرة .. فضيحة ستجعلنا مضغة الأفواه!
فنطقت عينا أمي بالفزع، وهتفت بصوت متهدج: رحماك يا ربي! .. ماذا حدث يا أبي؟
صفحه نامشخص