فسرت في ذلك اليوم. إلى فقيه من جلة القوم. قد كبر عمامته وكورها. ووسع جبته وزورها. فقلت افتني أيها الفاضل الأحذق. أي القولين عندك أحق وأصدق. فقال أما إذا جئتني مستنفيا. ورمت أن تكون برأيي مستهديا. وبطريقي مقتديا. فإني أقول لك بعد التروي في هذا المذهب المتحوي أنا معاشر الفقهاء من أهل الكلام. القائمين بأحكام الأحكام. وتبيين المتشابه بين الأنام. وان من دأبنا إظهارًا للحق أن نسهب في التعليل. ونكثر من قال وقيل. إِذ لا بد من انتشاء عرف الصواب من الإسهاب. ومن الاهتداء إلى بعض المذاهب. بفرض المستحيل وجعل المعدوم كالموجود الواجب. فعندي أنه لا بد من عد ألفاظ القولين. وإحصاء حروف الجدولين. فما كان منهما اكثر حروفا فهو أرجح وأحسن تأليفا. والله اعلم. ففصلت من عند الفقيه كما فصلت من عند صاحبه السفيه. وقلت إنما اللوم على مستفتيه.
ثم قصدت شاعرًا كنت أعهده يتلهوق ويتشدق. ويتفصح. ويتمدح. ويتبجح ويتزنح، وقلت له هاك ما تحرز عليه أجرًا. ويكسبك بين الناس فخرًا فأبن لي أي الأهلوبين أبدع. وبالحق فاصدع قال أما أنا فما لي من خلاق في الدنيا ولا نصيب غير المدح والنسيب. ففي الأول غصتي وفي الثاني لذتي. فاصبر عليّ ريثما أطالع ديواني كله. وأتصفحه جملة. فإن وجدت المديح فيه اكثر من الغزل. كان الخير في الدنيا اقل. فألحقته بصاحبيه الفقيه والمعلم وقلت كم من متكلم مكلم. ثم سرت إلى كاتب الأمير. وكان مشهودًا له بالتحري والتحرير. فأثنيت عليه قبل السؤال مطرئًا. وقلت لم يكن غيرك في ذا مجزئًا. فقال إن سعادتي في الكون هي أن أرضى عن أميري ويرضى عني. وشقاوتي هي أن أغضب منه ويغضب مني. وقد نسيت كل ما جرى عليّ من الغضب والرضى. لكثرة المشادة والمقتضى فإن صبرت عليّ في المستأنف شهرًا. لأقيد في دفتري ما ألقاه منه حلوًا ومرًا. ونفعا وضرًا. أفدتك الجواب فاقبل عذرًا فصيرته رابع الثلاثة. وقلت لأستشيرن ذا حداثة. فإن أهل المراتب والمناصب قد ذهبت صدارتهم بألبابهم. فلم يبق فيهم خير لقارع بابهم. فجئت الفارياق وهو مكب على النسخ. وفي طلعته مبادئ المسخ. فقد رأيت عينيه غائرتين. ويديه ذاويتين. وعظم خديه نانئًا. وجلده كالظل زائنًا. حتى رثيت لحالته. وكدت امسك عن الكلام إشفاقا من بطالته. لكنه لما رآني قام إلي. ثم أقبل عليّ. وقال هل من خدمة اقتضيت سعيي. أو نجوى أو جبت وعيي. فقلت قد أقدمني كذا وكذا. فاكفني ذل السؤال كفيت الأذى. فأخذ رقعة من تحت أسمال. وكتب فيها في الحال
أتيتني مستفتيًا في أمر ... يعلمه كل امرئ ذي حجر
الخير إن قابلته بالشرّ ... في العمر كان قطرة من بحر
ألا ترى الأجرب كيف تسري ... عدواه في جميع أهل المصر
وليس من ذي صحة ويسر ... عدوى لمن داناه طوال العمر
والطفل إذ يثغركم من ضر ... يلقي ويلقىَ عنده في قبر
وعند إشعار ونبت ظفر ... ليس له من لذة وسر
وكل عضو لقبول الكسر ... أقرب منه لقبول الجبر
وما فساده سريعًا يزري ... كالعين لن تصلحه في دهر
ونعي طفل لأبيه يفري ... فؤاده وكل عظم يبري
وليس في مولده من بشر ... ندّ لحزن موته الأضرّ
وما تكون لذة عن فكر ... إذا تحققت ولا عن ذكر
وإنما ذا هوس قد يجري ... في خاطر المغفل المغتر
فهل تصور الشفاء يبري ... ذا مرض أمرض منذ شهر
وهل لمن يبرد وقت القرَّ ... دفء بتذكار أوان الحرّ
فليس دنيانا لأهل الخبر ... سوى بلاء دائم وخسر
يولد فيها العبد غير حرٍ ... وهكذا يموت رغما فادر
قال فلما أخذت الرقعة وتأملت فيها. وتحققت معانيها. علمت أن قوله هو الأسد. وإن قول غيره هذيان وفند. فقلت له بورك في زمن جاد بمثلك. وهدى المستفيدين إلى رشدك وفضلك. وقبحا لأهل الثرا إذ لم يحلوك ارفع الذرى. ثم انصرفت من عنده داعيا ولما قاله واعيًا.
سرّ الاعتراف
1 / 41