حدس الهارس بن هشام قال أرقت في ليلة خافية الكوكب. بادية الهيدب. طويلة الذنب ملأى من الكرب. إلى الكرب. فجعلت أنام على ظهري مرة وعلى جنبي أخرى. وأتصور شخصا ناعسا أمامي يتثاءب وآخر ينخر نخرا. وآخر يتهوم سكرا. فإن التصور فيما قالوا يبعث على فعل ما ترغب النفس فيه. وينشط إلى ما تصبو إليه وتشتهيه. ومع ذلك فما اكتحلت غمضا. ولا فتح فمي تثاؤب طولا ولا عرضا. وكان يخيل لي أن أهل الأرض كلهم رقود وأنا وحدي من بينهم ارق. وإن جميع جيراني في سكون وأنا دونهم قلق. فقمت إلى الشراب فحسوت منه حسوة. فلم تك إلا غفوة. كإنما كانت هفوة. فأفقت في أسوأ حال. وشر بلبال. والهموم قد انثالت عليّ من كل جانب. والأفكار متطايرة على كل مقارب ومجانب. فكان يخطر ببالي كل ممكن ومحال ويعاودني ما كنت فكرت فيه من الأحوال مرة منذ أحوال.
فلما علمت أن النوم قد ند عني. وإن تناومت. وأنه لابد من ترقب الفجر أن أذعنت وأن قاومت. مددت يدي إلى كتاب أطالع فيه. وقلت إن لم ينمي فينبهني ببعض معانيه. فتناولت أقرب ما وصلت إليه يدي. وأنا غير مؤثر أحد الكتب على غيره في خلدي وإذا به كتاب موازنة الحالتين. وموازنة الآلتين. للشيخ الإمام العالم العامل. الفاضل الكامل. أبي رشد نهية بن حزم. المشهور بالبلاغة في النثر والنظم. وهو كتاب لم يسبقه إليه أحد من المؤلفين. ولم يجاره فيه كاتب من المجلين. فقد وازن فيه بين حالتي بؤس المرء ونعيمه. وروحه وهمومه. ومنافعه ومضاره. وأحزانه ومساره. منذ كونه طفلًا. إلى أن يصير كهلا. ثم شيخنا قحلا. وقد جعل ذلك في جدولين متقابلين. وأسلوبين متفاضلين. إلا أنه لما الشيخ قدس الله سره. ورفع في أعلى عليين مقامه وقدره. على ما يظهر لي ذا عشية راضية. وسعادة وافية. وهمة ماضية. رجح طرف اللذات على غيرها. واستقل شر الحياة بالنسبة إلى خيرها. حتى أنه زعم أن اللذة تكون عن الفعل والتصور معًا. بخلاف الألم فإن الفكر لا يقع منه موقعا وأنه كان إذا امتثل خودا يداعبها وتداعبه. هزته نشوة طرب مال بها سريره ومركبه وكلكله ومنكبه. بيد إني ارتبت في كلامه في هذا المحل. وقلت سبحان الله لا بد لكل مؤلف من هفوة وإن جل. وذلك إني لما تصورت الشخص المتهوم. والناعس والمتثائب وأنا متناوم. لم يغنني التصور عن الفعل نقيرًا. ولا وجدت فيه لذة لا قليلا ولا كثيرا. على أني أذهب إلى ما ذهب إليه بعض المجانين. من أن لذة اليوم لا تكون قبله ولا معه ولا بعده للنائمين. وهي عقدة للطبائعيين لا يمكنهم حلها بلسانهم وأفكارهم. ولا بسنانهم وأظفارهم. غير أن عبارة المصنف كانت من العلم والحكمة بحيث تخلب عقل الناقد الخبير. وتربك في تحري أحد القولين كل نحرير فلما أطلقت النظر فيهما وعاد إلي كليلا وأعلمت حد النقد ورجع مفلولا. عزمت على أن أسجل هذه الأشكال. من بعض ذوي الدراية والجدال. فقلت في نفسي كما أن يدي نالت أدنى الأسفار. كذلك يكون مراوحي عليه أدنى الجار.
وكان يسكن بالقرب مني مطران يطري قومه على حليته. ويعظمون فضله وأدبه على طوال لحيته. فقصدته ضحوة النهار. بادي الاستبشار. فرأيته ذا بكلة تروق. وبزة تشوق. فعرضت عليه الجدولين وقلت افتني في هذه القضية. ولك الأجر من رب البرية. فنظر فيهما ثم حرك رأسه. وجعل يرمش ثم يشكو نعاسه. وقال لي ما ترجمته إذ لم يكن ممن تسمو إلي السجع همته ما لحنت مغزاهما. ولا دريت فحواهما ولو كانا بعبارة ركيكة. كان ذلك عليّ أسهل من الجلوس على هذه الأريكة. فقلت أخره في العلم والثقف. تقدمه في الصف. ونقص من عقله وفهمه ما زاد في لحيته وكمه. فلا ستعملن بعده أكثر الناس حمقا وهوجا. وما ذلك إلا معلم الصبيان الهجا وكان في البلد من اتصف بهذه الصفة. وهو مع ذلك ذو كبر وعجرفة. فقصدت محله. وألقيت عليه المسألة. فإذا به قام يصفق بيديه. ويراريء بعينيه. ويقول لقد سقطت على الخبير. واهتديت برأي بصير. إن شئت أن تعرف أي القولين أرجح. وأصدق وأصح. فزن الجدولين دون جلد الكتاب في ميزان. فما رجح منهما فهو الراجح ما اختلف في ذا اثنان. فقمت من عنده غضبان نادما. ولعنت الأرق الذي كان السبب في أن أكون لمعلمي الصبيان مكالما. بعد أن قرأت في غير كتاب وسمعت من ذوي الألباب. أنهم اسخف خلق الله عقلًا. وأكثرهم جهلًا. وأبعدهم عن الفهم وأسفهم إلى الوهم.
1 / 40