صلاح الدين الأيوبي وعصره
صلاح الدين الأيوبي وعصره
ژانرها
خريطة دولة نور الدين وما جاورها.
وقد كانت سياسة نور الدين في فتح البلاد التي بيد أمراء من المسلمين: أن يقنع بدخول الإقليم في دائرة دولته، لا يريد من وراء ذلك زيادة في الملك والثروة، بل كان كل قصده أن يجعل تحت سلطته دولة قوية يستطيع أن يصدم بها الصليبيين صدمة قوية تصدع أركان دولتهم، فإنه قد جعل قصد حياته الجهاد وإخراج المسيحيين من بلاد الشام، وكان قوي الإيمان بما هو فيه من عمل ينظر إلى حروبه نظرة شبيهة بنظرة المسلمين السابقين في أول الإسلام إلى حروبهم مع أعدائهم، ولا أدل على ذلك من أن أخا له فقد عينا له في موقعة إذ أصابه فيها سهم، فقال له معزيا: «لو كشف لك عن الأجر الذي أعد لك لتمنيت ذهاب الأخرى.» فكان ذلك الرجل المجاهد لا يتطلع إلا إلى جمع الدولة الإسلامية تحت يده لتكون له قوة على الجهاد؛ فكان إذا فتح حصنا إسلاميا سلك أحد مسلكين: فإما أقر عليها حاكمه الأول إذا اطمأن إليه وعرف أنه يقدر على الدفاع عنه والبقاء إلى جانبه، وإما أن يقطع ذلك الحاكم أرضا بدلا عن حصنه ويضمه إلى بلاده. وقد كان إذا أعطى بدلا أجزل في عطائه كيما يرضي المحروم؛ وأمثلة هذا كثيرة؛ منها أنه عندما استولى على قلعة «جعبر» - وهي حصن منيع على الشاطئ الشرقي للفرات الأعلى - أعطى صاحبها شهاب الدين العقيلي إقطاعا عظيما بدلها قرب «حلب» ومقدارا من المال (نحو عشرين ألف دينار)، وما كان في تلك القلعة من غنى ينتظره أو مال يحصله إلا أنها موقع حربي ينفعه في غرضه. ويمكن أن نصف دولة نور الدين بأنها كانت دولة إقطاعية على نسق الإقطاع في أوروبا؛ فقد كان العصر عصر إقطاع في الشرق والغرب على السواء، وكان هو رئيس تلك الدولة الأعلى، وتحت أمره عدد كبير من الأمراء، كل في جهته يحكم مستقلا على أن يكون هو وجنوده في حروبه. ومما يسترعي النظر في تلك الدولة كثرة القلاع الحصينة والقصور المنيعة المبعثرة في السهل وعلى قمم الجبال؛ ولعل الأسباب التي دعت إلى بناء تلك القلاع في الغرب في أوروبا هي نفسها التي دعت إلى بناء مثلها في الشرق الإسلامي؛ فقد كانت الحكومات المركزية في ذلك الوقت مزعزعة، وكانت الإغارات كثيرة لا حصر لها ؛ بين ترك يغيرون من الشرق، ومسيحيين يغيرون من الغرب، وفرق دينية (كالشيعة الإسماعيلية)
5
تهبط بين حين وحين كالعاصفة المخربة؛ ولهذا كانت حاجة الشرق إلى القلاع والفرسان مثل حاجة الغرب على السواء، ونشأ من هذه الحاجة نظام إقطاعي كما نشأ في أوروبا لنفس الأسباب.
مصر
أما في مصر فكانت دولة أخرى تخالف ما في الشام والجزيرة في وجوه كثيرة؛ فقد كانت دولة الفواطم - وهم شيعة علويون - لهم خليفة غير خليفة السنيين وحكومة مستقلة موحدة، ومدنية تالدة خلفها مؤسسو الدولة منذ قرنين.
وكانت مصر في القرن الثاني عشر ميدانا لحوادث عظيمة كان لها أثر كبير في مصير العالم الإسلامي؛ كان شعب مصر الهادئ المنصرف إلى أعماله تاركا الحكم إلى حكامه الذين استولوا على البلاد عنوة منذ أيام المعز لدين الله في أواخر القرن العاشر للميلاد، وكان المصريون من أهل السنة، ولكنهم خضعوا لتلك الدولة الشيعية وانصرفوا إلى أعمالهم لا يهتمون بشيء من أمر الدولة؛ إذ كانت الحكومة - على وجه الإجمال - لا تتداخل كثيرا في عقائدهم.
وقد حدث على مر الأيام شيء عظيم من التفاهم بين الحاكم والمحكوم، حتى كادت الشيعية المصرية تكون سنية إلا في بعض المظاهر والرسوم، ولكن هدوء تلك البلاد لم يبق كما كان، بل حدث تغير في القرن الثاني عشر عندما ذهبت أجيال الخلفاء العظام من الفواطم ووقع الأمر إلى سلسلة متأخرة من خلفاء لا حول لهم ولا قوة، فصار الحكم إلى قواد الجيش والوزراء من عز منهم غلب واستولى على الخليفة. وكان الخليفة في العادة يختار طفلا من البيت الفاطمي، فكان بعضهم لا يعدو سن الرابعة؛ كالفائز بنصر الله الذي حكم بين سنتي 1154-1160م من الميلاد/549-555ه، وجاء بعده العاضد لدين الله وكان في التاسعة من عمره عندما صار خليفة بمصر.
في أثناء ذلك العصر كان نور الدين قد هزم الفرنج ووحد دولة عظيمة في الشام والجزيرة، وكان من بين الوزراء بمصر من طمع أن يجعل صلة بين دولة نور الدين وبين مصر، وذلك هو الرجل العاقل الصالح ابن رزيك ، لولا أن اختلاف المذهب الديني كان حائلا لا يمكن تجاوزه.
وكان الصليبيون يعرفون أن مصر بلاد غنية وأنها أسهل فتحا من قلاع الشام وليس بها أمثال نور الدين وجنوده، وكانوا يتطلعون إلى أن يقيموا ضعفهم بضمها إلى ملكهم، ولولا خشية نور الدين أن يهوي على بلادهم في أثناء محاولتهم ذلك الفتح، لبدءوا به منذ أخفقوا في الاستيلاء على دمشق واسترجاع الرها في حربهم الثانية في منتصف القرن الثاني عشر.
صفحه نامشخص