وإياك أن تخطئ في محروس كما أخطأت أنا في أول عهدي بالعمل، لقد حسبت أن محروس يجلس على باب حجرة عملنا ليقوم بخدمتنا ... وعلى هذا الأساس ناديته لكي يقوم بتوصيل أحد الملفات إلى معاون البوليس.
واسمع حوارنا أنا ومحروس: - وصل هذا إلى معاون البوليس! - أحسن توصله حضرتك.
ورفعت رأسي ويدي ما زالت ممدودة بالدوسيه، فرأيت محروس واقفا لا يحمل وجهه أي معنى ... جامدا كأنني لم أقل شيئا، ولم يقل هو شيئا. - ماذا يا محروس؟ ألا تسمع الكلام؟
ويستدير يمضي إلى الباب كأنه لم يسمع فعلا الكلام، ونهضت من مكتبي منفعلا، وزملائي ينظرون، واتجهت إلى المكتب الخشبي المتهالك في أقصى الممر حيث يجلس الشاويش عبد ربه، ورفع عبد ربه عينيه، وهو يقول دون أن يتحرك من مكانه: أهلا محمد أفندي ... تلزم خدمة؟
وبسطت شكواي من محروس، وانتظرت لأسمع زئير الأسد مناديا محروس ليؤنبه على ما فعل، ولكنني سمعت تأنيبا لي أنا، أجل! أنبني الشاويش عبد ربه في أسلوب خبيث قائلا: له حق يا محمد أفندي، ده عسكري غشيم، افرض وقعت ورقة من الملف ... من يكون مسئولا؟ إوعى تديله ورق تاني.
وعدت بانفعالي، وقد تحول إلى ثورة جبانة، ثورة لم تتجاوز جذب أدراج المكتب بعنف وإلقاء الملفات على اليمين وعلى الشمال، وفتحت علبة سجائري في عصبية، ثورة المهزوم المغلوب الذي استنفد طاقة جهده في الاحتجاج والشكوى، ولمن غير الشاويش عبد ربه كنت سأشكو الجندي محروس؟ إن المركز كله له سيد واحد، هو الشاويش عبد ربه ...
ولندع المأمور في حاله ... إنه نفسه حين يضيق بشيء لا يملك إلا أن يصيح: «يا شويش عبد ربه!»
ولن أنسى حين سألت معاون البوليس أن يوقع على كشف السجن في أول يوم تسلمت فيه العمل، فإذا به ينادي عبد ربه، ويسأله أمامي عما إذا كان الكشف مضبوطا أم لا ... ثم يوقع بعد أن يجيبه عبد ربه بالإيجاب وأجل، لن أنسى أن ضابط المباحث قال لي يوما، وهو يعرفني بشئون المركز: «إن الشاويش عبد ربه هو كل شيء في المركز ... إنه دولاب العمل.»
لقد أنبني دولاب العمل، وبرأ محروس ... وليس أمامي إلا الله ... وإلا أن أحمل أوراقي بنفسي إلى معاون البوليس، وأن أفترض أن محروس على باب حجرتنا كاللوحة الموضوعة فوق رأس القاضي في قاعة المحكمة، وقد كتب عليها «العدل أساس الملك» ...
ومع ذلك ... مع وجود محروس رمزا للحكومة كاللوحة على باب الحجرة، ومع وجود عبد ربه على المكتب الخشبي المتهالك في أقصى الممر، وإشرافه منه على المركز كله بما فيه من حكام ومحكومين ... مع ذلك فقد كنت راضيا عن عملي ... وكان مبعث رضائي أنني كنت محوطا بجو صاف من صداقة أربعة زملاء يهونون علي مشقة العمل، ولا يكفون عن المزاح والضحك، حتى إن ساعات العمل من كل يوم تمر قصيرة هينة ... إني أتخيل جهنم أحيانا، وليس فيها لهب ولا حرمان، وإنما فيها مجموعة من ثقلاء البشر، ويسودها جو من الكراهية والحقد، وعلى العكس أتخيل الجنة ... ثمارها وأنهارها أرواحا مرحة صافية تفيض بالحب والبشر ...
صفحه نامشخص