فالتحدث عن العدل من طبيعة الإسلام لا من طبيعة الجاهلية. وله قصيدة لطيفة يبكي فيها ابنه خراشا. وكان خراش هذا جنديا في جيش المسلمين أيام عمر بن الخطاب فحز ذلك في نفس أبيه. وكانت قد تقدمت به السن، فلما سمع عمر لهذه الأبيات نهى أن يخرج إلى الغزو من كان له أب شيخ كبير إلا بعد أن يأذن له. وفي ديوان الهذليين المطبوع قطع كثيرة من شعر أبي خراش تقدم لنا صورا لطيفة من صعلكته.
وعلى الجملة فإن شعر الصعاليك كثير، بعضه في أشخاصهم وبؤسهم وبعضه في إنسانيتهم. وبما كان بنوعيه يصور لنا جانبا كبيرا من جوانب الحياة العربية، وربما كان من الظواهر الغريبة أن أكثر شعرهم مقطوعات لا قصائد. وهو ظل ينسجم مع طريقة خطفهم، فهم يخطفون في حروبهم ويخطفون في شعرهم.
فإن رأينا قصيدة طويلة كلامية الشنفرى، فذلك استثناء، وربما أنشأها في حالة استقرار تستدعي الطول.
ولهم في شعرهم خواص أخرى، من ذلك وحدة الموضوع - فشعرهم في التصعلك من جميع نواحيه. كما كان شعراء الفروسية في الإسلام والنصرانية. وقد ألجأتهم حياة السلب والنهب والتوزيع إلى أن يكون شعرهم واقعيا لأنهم يشعرون فيما يفعلون لا فيما يتخيلون. وقد نلاحظ أنهم يتجافون عن الحب وقل أن نجده في شعرهم، إنما نجد في شعرهم مخاطبة زوجاتهم بعدم العتب عليهم في سيرتهم، وربما كان سبب ذلك أن الحب يبنى على أساسين: حياة مترفة بعض الترف ليست كحياة الصعلكة من بؤس وفقر، لأن الحب كالزهرة على المائدة لا ينتفع بها إلا بعد القوت، والثاني أن الحب يحتاج في أول تكوينه إلى استقرار والصعاليك أبعد الناس عن الاستقرار.
كما نلاحظ في شعرهم التدفق والسرعة، إذ كانوا مشهورين باسم العدائين، فكأنهم يعدون بأرجلهم ويعدون في شعرهم.
وعلى الجملة فقد كانوا في شعرهم خير مثال لتصوير حياتهم في بساطة وإخلاص. ولعل هذا ما يفسر أن شعر كثير منهم كان رجزا، والرجز أسرع من البحور الأخرى. فيروون أن قيس بن الحدادية كان يقاتل أعداءه وهو يرتجز. والشنفرى لما قطع أعداؤه يده رثاها بالرجز، ويروون أن لعمرو ذي الكلب الصعلوك أرجوزة طريفة يقص فيها قصة طريفة، قصة ذئب فاتك أغار على غنم. ولعل الذئب في هذه الأرجوزة رمز للصعاليك تستلب حقوق الفقراء، والغنم رمز للأغنياء البخلاء تفترسهم الصعاليك. وهو يختم أرجوزته بأنه رمى الذئب بسهم من سهامه أرداه صريعا. ولئن كان كثير من الشعراء في الجاهلية بدءوا شعرهم بالغزل أو بالبكاء على الأطلال ثم تخلصوا منه إلى المديح، فهؤلاء تحرروا من ذلك كله، أما تحررهم من الغزل وبكاء الأطلال فقد أبنا سببه من قبل، وأما تحررهم من المديح فلأنهم لم يعتادوا أن يستجدوا عن طريق المديح، وإنما اعتادوا أن يتكسبوا بطريق القوة. •••
فإذا نحن خطونا خطوة في التاريخ، وقاربنا الإسلام، وجدنا نوعا من الفتوة أو الصعلكة الشريفة في التاريخ، وذلك ما عرف في التاريخ وفي كتاب السيرة «بحلف الفضول». فقد جاء في الروض الأنف للسهيلي أنه «حلف عقدته قريش بينها على نصرة كل مظلوم بمكة» وقد قال ابن قتيبة: إنه قد سبق قريشا إلى مثل هذا الحلف جرهم في الزمن الأول فتحالف منهم ثلاثة، أحدهم الفضل بن فضالة، والثاني الفضل بن وداعة، والثالث فضيل بن الحارث.
ومن أجل تسميتهم كلهم بالفضل والفضيل، سمي حلف الفضول، وسمي الحلف الثاني بهذا الاسم أيضا. وكان سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاصي بن وائل، وكان ذا قدر بمكة وشرف، فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي عبد الدار ومخزوما وغيرهما، فأبوا أن يعينوه وزجروه، فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فصاح بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته
ببطن مكة نائي الدار والنفر
صفحه نامشخص