الفتوة في الجاهلية
الفتوة في الجاهلية
الصعلكة والفتوة في الإسلام
الصعلكة والفتوة في الإسلام
تأليف
الدكتور أحمد أمين
مقدمة
بقلم أحمد أمين
23 نوفمبر سنة 1951
بسم الله الرحمن الرحيم
صفحه نامشخص
في حوالي سنة 1938م لفت نظري وأنا أقرأ الأغاني في ترجمة حنين بن إسحاق كلمة عن الفتوة، فهمت منها أن لها نظاما خاصا، وأن للفتيان في كل بلد مكانا يجتمعون فيه ويسأل عنهم الغريب ويقصدهم، فتتبعت في الأغاني وغيره الحديث عنها. ثم رجع ذهني إلى الجاهلية، فتصفحت بعض كتب الأدب، وخصوصا ديوان الحماسة والمفضليات، وكيف استعملوا كلمة فتوة استعمالات مختلفة. ثم رأيت أن الصوفيين وضعوا في أشهر كتبهم بابا للفتوة أبانوا فيه معناها. ثم كان أن قرأت رحلة ابن بطوطة فرأيته أثناء رحلته في البلاد التركية يشيد بذكر الفتوة فيها ويبين إكرامهم للضيوف ومعاملتهم بعضهم لبعض، ثم عرضت لكلمة الفتوة في العصر الحديث.
كل هذا دعاني إلى أن أبحث في الفتوة وأتتبع معانيها في العصور المختلفة من العصر الجاهلي إلى اليوم؛ فكتبت في هذا الموضوع بعض ما حضرني، وألقيت إذ ذاك محاضرة في دار الجمعية الجغرافية، ونشرتها عقب ذلك كلية الآداب في مجلتها بمجلدها السادس الصادر في مايو سنة 1942م، وأخيرا اتجهت إلى أن أزيد فيها بعض ما عثرت عليه وأضمنها رسالة صغيرة هي هذه التي أقدمها للقراء.
ثم كان وأنا أبحث هذه الفتوة أن رأيت علاقة كبيرة - ولو علاقة تناقض - بين الفتوة والصعلكة؛ فكلاهما يؤدي معنى إنسانيا، وإن كان «الفتيان» تدل على أولاد الذوات و«الصعاليك» تدل على أولاد الفقراء.
وقد لفت نظري يوما ما ديوان سيد الصعاليك عروة بن الورد، فقرأته وأعجبت منه بالصعاليك على العموم، حتى كتبت مقالا في مجلة الثقافة عن عروة بن الوارد هذا والصعاليك قبل سنة 1944م. ثم قرأت رسالة قيمة لطالب من طلبتي عن الصعاليك في العصر الجاهلي أعدها يوسف عبد القادر خليف أفندي في الصعاليك عند الجاهلية، فأعجبتني وأعجبني موضوعها فقرأتها واستفدت منها. وتتبعت موضوع الصعاليك في الإسلام وهداني التفكير إلى أن حلف الفضول كان نتيجة لهؤلاء الصعاليك، ولولاهم لم يكن ما أبنت في الكتاب.
وعللت كيف وقفت الصعلقة في صدر الإسلام وأسباب وقوفها، وكيف ظهرت في العصر العباسي على شكل آخر إلى اليوم أيضا، فكان من البحث في الفتوة والصعلكة هذه الرسالة، فأشكر كل من كتب في هذين الموضوعين ووصلت إلى أبحاثهم واستفدت من مجهودهم والله المعين.
الفتوة في الجاهلية
لكل كلمة تاريخ يشبه تاريخ البلاد، وتاريخ النظم السياسية، وتاريخ الأشخاص، وتاريخ الكلمات قد يكون معقدا ملتويا غامضا، كما يحدث في غيره من أنواع التاريخ. ويجتهد الباحث في استعراض النصوص الكثيرة في العصور المختلفة ليستخلص منها تقلبات الكلمة في أوضاعها المختلفة. وهذا ما أحاوله في كلمة الفتى والفتوة والصعلكة والصعاليك.
الفتوة في الأصل معناها الشباب، قالوا فتي يفتى، أي صار شابا. وقالوا هو فتي السن، بين الفتاء.
وقد ولد له في فتاء سنه أولاد أي في شبابه. وأصل كلمة فتى مصدر فتي فتى، كمرح مرحا. ثم جعلت وصفا فقالوا: «هو فتى، أي شاب» وجمعوا الفتى على فتيان وفتو وفتية. والاسم من ذلك كله «الفتوة»، ووصفوا بالفتوة الإنسان والحيوان. فقالوا إن الأفتاء من الدواب خلاف المسان. وقالوا للشاب فتى، وللشابة فتاة.
ثم نراهم نقلوا الكلمة نقلة أخرى، فاستعملوها للدلالة على القوة لأن الشباب عنوان القوة؛ قال ابن قتيبة: «ليس الفتى بمعنى الشباب والحدث، إنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال.» يدل على ذلك قول الشاعر:
صفحه نامشخص
إن الفتى حمال كل ملمة
ليس الفتى بمنعم الشبان
ويقول آخر:
يا عز هل لك في شيخ فتى أبدا
وقد يكون شباب غير فتيان
فالفتوة على هذا المعنى معناها القوة، لأن الشباب مصدرها عادة، ومن هذا المعنى على ما يظهر تسميتهم الليل والنهار باسم الفتيان.
ومن أقوى من الليل والنهار في إذلال كل عزيز وإضعاف كل قوي؟
ومنه قول الشاعر:
لم يلبث الفتيان أن عصفا بهم
ولكل قفل يسرا مفتاحا
صفحه نامشخص
ثم من أحق منهما بأن يسميا فتيين، وقد سميا قبل بالجديدين؟
وفتوة الناس مرحلة قصيرة المدى، وفتوة الليل والنهار متجددة أبدا.
ثم رأيناهم نقلوا معنى الفتى نقلة ثالثة، كالذي قال الجوهري: «الفتى السخي الكريم.» ولكن فاته أن يقيد ذلك بالشباب. ومثل ذلك ما قال الزمخشرى: «الفتوة هي الحرية والكرم.»
قال عبد الرحمن بن حسان:
إن الفتى لفتى المكارم والعلا
ليس الفتى بمعملج الصبيان
وكأنهم لما لاحظوا في الفتوة الشباب والقوة لاحظوا أن القوة أكثر ما تستمد في وسطهم من الكرم والحرية.
ويظهر أن الكلمة أصبحت في هذا الطور خاضعة للبيئات المختلفة، فتلبسها كل بيئة ما تراه المثل الأعلى للفتى، فطرفة مثلا يرسم لنا صورة للفتى كما يتصورها هو وبيئته فيقول:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني
عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
صفحه نامشخص
أحلت عليها بالقطيع فأجذمت
وقد خب آل الأمعز المتوقد
فذالت كما ذالت وليدة مجلس
ترى ربها أذيال سحل مهدد
ولست بحلال التلاع مخافة
ولكن متى يسترفد القوم أرفد
فإن تبغني في حلقة القوم تلقني
وإن تلتمسني في الحوانيت تصطد
وإن يلتق الحي الجميع تلاقني
إلى ذروة البيت الشريف المصمد
صفحه نامشخص
فطرفة يعد نفسه مثلا أعلى للفتى لاتصافه بأوصاف لا بد منها لمن نصب نفسه ليكون فتى، وهي أنه أولا: إذا ما سأل القوم عن الفتى ينجدهم في الملمات، لم يجدوا الفتوة متوافرة في أحد توافرها فيه، لأنه سرعان ما يهوي إلى ناقته يضربها بالسياط لتسرع في السير للاتجاه، فتتبختر في مشيتها، كما تتبختر جارية ترقص بين يدي سيدها. وثانيا: هو لا يلجأ إلى التلاع مخافة حلول الأضياف، وهو واسع الرحب في قرى الضيوف كما هو سريع النجدة في قتال الأعداء. وهو إلى ذلك في حياته جاد هازل، يدلي برأيه بين عظماء القوم عندما يجد الجد، لأنه شريف النسب، علي الحسب.
فإذا فرغ من الجد ودعا داعي اللهو، فهو في الحانات يشرب، وندماؤه أحرار كرام، تتلألأ ألوانهم، وتشرق وجوههم، وتغنيهم مغنية، لابسه بردا، أو ثوبا صبغ بالزعفران.
فالفتوة في نظره ونظر أمثاله شجاعة وكرم، وإتلاف للمال في الجد والهزل، وعدم الاعتداد بالحياة في السلم والحرب.
وقد شرح هذه الخصال بعد في قوله :
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى
وحقك لم أحفل متى قام عودي
ومثل هذا قول الخنساء ترثي أخاها صخرا:
أمطعمكم وحاميكم تركتم
لدى غبراء منهدم رجاها
ليبك عليك قومك للمعالي
صفحه نامشخص
وللهيجاء إنك ما فتاها
تقصد إنك فتاها، وما زائدة.
ومثل قول طرفة يدل على اعتقاده أن الحياة هي هذه الحياة ولا شيء وراءها، فليلتذ ما أمكن، وليس هذا من الإسلام في شيء. فكما صبغ الصوفية فيما بعد الفتوة - كما سيأتي - بصبغة دينية صبغت كل طائفة في الجاهلية الفتوة ببيئتهم ومزاجهم. وكأن الفتوة هي المثل الأعلى لكل فتى يرسمه حسب خيالاته.
وزهير لما كان عاقلا فصيحا رزينا جعل أهم صفات الفتى الفصاحة في اللسان والحكمة في الجنان فقال:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
ومن ذلك نرى أن مسكينا الدارمي رسم الفتى رسما آخر، فجعل من أهم ميزات الفتى حفظ السر إذ يقول:
وفتيان صدق لست مطلع بعضهم
على سر بعض غير أني جماعها
لكل امرئ شعب من القلب فارغ
صفحه نامشخص
وموضع نجوى لا يرام اطلاعها
يظنون شتى في البلاد وسرهم
إلى الصخرة أعيا الرجال انصداعها
فهو قد أضاف الفتيان إلى الصدق كما يقال فتيان خير وفتيان سوء، وكما يقال رجل سوء ورجل خير. يقول: «رب فتيان صدق استناموا إلي واستودعوني أسرارهم، فكنت أنا حافظ سرهم؛ قد أفردت كلا منهم بالوفاء وكتمان ما أودعني من سر، فكنت أنا كالعقد الذي يجمع الحبات، ولكل رجل منهم جانب من قلبي منفرد له لا يطلع عليه الشعب الآخر، يودعونني سرهم كأنهم أودعوا سرهم صخرة أعيا الرجال صدعها.» ومن غير شك هو أحد هؤلاء الفتيان، ومزيته الكبرى عليهم أنه يحتفظ بأسرارهم، فهذه صفة جديدة في الفتوة، وهي حفظ السر، لم يتعرض لها غيره، وربما كانت هناك صفات أخرى لم نطلع عليها تضاف إلى الفتوة، ويمكننا أن نستخلص من ذلك أن الفتوة شباب وسلوك حميد.
ومن خير ما قيل في وصف الفتيان قول كعب بن زهير:
لعمرك ما خشيت على أبي
مصارع بين قو فالسلي
ولكنى خشيت على أبي
جريرة رمحه في كل حي
من الفتيان محلول ممر
صفحه نامشخص
وأمار بإرشاد وغي
ألا لهف الأرامل واليتامى
ولهف الباكيات على أبي
يقول: ما خشيت على هذا الرجل أن يصرع بين هذين الموضعين، أي إن يموت حتف أنفه، وإنما أخشى عليه جرائره وطعنه في الأحياء، ومحل الشاهد في أنه وصفه بأنه فتى، سهل الخلق وطي الجانب، يتناهى في الحلاوة، وإن استدعت الظروف، ويتناهى في المرارة إن استدعت الظروف، وأنه نافذ الإرادة، يأمر أحيانا بالرشاد، وأحيانا بالغي، وهذا الوصف بالصعلوك الخير أشبه.
غاية الأمر أن هذا السلوك يختلف باختلاف نظر الأشخاص، فبعضهم يرى هذا السلوك في العقل والحكمة، وبعضهم يراه في التلذذ بالحياة ما أسعفته، وبعضهم يراه في حفظ السر، وكل إنسان في الحياة يرى في نفسه المثل الأعلى في تصرفه. وهكذا كان يرى أبو نواس في تلذذه بالخمر والغلمان. وهكذا كان يرى أبو العتاهية في الزهد وترك اللذات، وهكذا غيرهما.
ولذلك لا نستطيع أن ندعي أنه في بداء الأمر كان في الجاهلية جماعة يسمون الفتيان واحدهم فتى، إنما كل ما في الأمر أن الكلمة تطلق على أفراد في كل قبيلة جمعوا مع الشباب صفة بينة من الصفات، قد تكون الكرم والنجدة، وقد تكون العقل والفصاحة. وقد تكون كتمان السر وقد تكون غير ذلك. وربما يجمعها أنها مجموعة صفات تحمدها قبيلة الفتى، فيتغنى بها ولا يخجل من ذكرها. وقد يكون هذا الشيء الذي يتغنى به الفتى فضيلة مثل حفظ السر والكرم، وقد يكون غير فضيلة في نظرنا كشرب الخمر والانغماس في اللذات، ولكن أقل ما تدلنا عليه أنها صفات محمودة من الشبان في نظر قبيلتهم.
ويظهر أن المعنى الأول - وهو الذي قصده طرفة - كان أكثر شيوعا، وأن الذي قصده زهير أو مسكين الدرامي كان أقل ذيوعا، لغلبة اللهو في الحياة الجاهلية العربية على حياة الجد.
كما يظهر أنه لم يكن هناك في الجاهلية نظام يتبعه الشبان، وإنما كان نواة نظام.
وقد التفت أبو الريحان البيروني في كتابه «الجماهر في معرفة الجواهر» لفتة لطيفة ودقيقة فقال: إن هناك فرقا بين الفتوة والمروءة.
فالمروءة تقتصر على الرجل في نفسه وذويه وماله، والفتوة تتعداه إلى غيره، والمرء لا يملك إلا نفسه، فإذا احتمل مغارم الناس وتحمل المشاق في إراحتهم، ولم يضن بما أحل الله له، فهو الفتى الذي اشتهر بالقدرة عليها. ولذلك عرف الفتوة بأنها بشر مقبول، ونائل مبذول، وعفاف معروف، وأذى مكفوف. فالبيروني كالذي قبله لا يهتم بغنى أو فقر في تعريف الفتى، وإنما يجعل عنصره شيئا واحدا وهو الإثار، وعلى هذا المعنى يكون الفتى والصعلوك من النوع الجيد مترادفين.
صفحه نامشخص
ويخيل إلي أنه كان في الجاهلية طبقتان مختلفتان: الفتيان وهم أولاد الأغنياء من الشبان كامرئ القيس وطرفة، يقابلهم أولاد الفقراء ويسمون الصعاليك.
فالصعلكة كما وردت في كتب اللغة تساوي الفقر، والصعاليك: شبان فقراء أمثال عروة بن الورد، وتأبط شرا، والسليك بن السلكة، والشنفرى، ويسمون أيضا ذؤبان العرب، جمع ذئب، لأنهم يختطفون المال كما تختطفه الذئاب، ويسمون أيضا العدائين لأنهم كانوا مشهورين بسرعة العدو في السلب والنهب، ولكن كانوا مع فقرهم نبلاء.
ومن نبلهم أنهم كانوا لا يهجمون إلا على الأشحاء البخلاء من الأغنياء. فإذا وجدوا غنيا كريما تركوه، وإن وجدوا غنيا شحيحا هاجموه، فهم لصوص شرفاء ونبلاء.
فكانوا بذلك خيرا من الأغنياء الأشحاء. ولذلك روي أن معاوية بن أبي سفيان تمنى أن يصاهر عروة، وعبد الملك بن مروان تمنى أن يلده عروة وهما ما هما. وقد كان عروة هذا صعلوكا. ولذلك يسمى عروة الصعاليك. فالظاهر أن كلمة الصعلوك لم تكن تدل على معنى سيئ، كالذي كان فيما بعد. وكم للكلمات من تنقل من عز إلى ذل ككلمة حرامي، فقد كانت في الأصل تدل على النسبة إلى حرام، وهي قبيلة تناهض قبيلة سعد، وكان الناس ينقسمون إلى قسمين: سعدي وحرامي، فلما ذل أصحاب حرام ذلت الكلمة، فأصبحت تطلق على اللص. وكلفظ عتقي، فإنها كانت في الأصل تدل على نسبة إلى قبيلة تسمى العتقاء، فذلت الكلمة، وأصبحت تدل على مصلح النعال القديمة.
وشيء آخر نبيل كان يفعله هؤلاء الصعاليك، وهو تكوينهم جمعية من فقراء قومهم يصرفون منها ما كسبوه من الأغنياء الأشحاء عليهم بالتساوي، حتى ليحكون أن رئيسهم عروة بن الورد أغار يوما، ونال خيرا كثيرا وسبى رجاله امرأة، فأراد عروة أن يختص بها، ويخصموا منه ثمنها، فأبوا عليه ذلك تطبيقا للاشتراكية المطلقة، وقالوا نقومها بإبل فتكون سهما فمن شاء أخذه ومن شاء تركه. ومن تعبيراته الجميلة قوله:
أقسم جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء والماء بارد
ومعنى تفريق جسمه على أجسام كثيرة، أنه يفرق غذاءه الذي يكون جسمه على أجسام كثيرة ليكونهم. ويصف نفسه بقوله:
ذريني أطوف في البلاد لعلني
أخليك أو أغنيك عن سوء محضر
صفحه نامشخص
فإن فاز سهم للمنية لم أكن
جزوعا وهل عن ذاك من متأخر
وإن فاز سهمي كفكم عن مقاعد
لكم خلف أدبار البيوت ومنظر
ولعروة هذا ديوان مطبوع يدل على نبله وفضله وأوصافه؛ فهو فقير يتحسس أخبار الأغنياء، فمن وجده كريما سخيا خلاه، ومن وجده شحيحا بخيلا غزاه، وفرق ما جمعه على زملائه بالعدالة لا يرضى بشيء لنفسه إلا برضاهم، فمثله مثل برناردشو في إحدى رواياته إذ هاجم قوم سيارة فخمة يركبها أغنياء مرابون. فقال لهم الهاجمون: نحن سراق الأغنياء، وأنتم سراق الفقراء. وكما فعل تولستوي إذ كان غنيا واسع الغنى، فوزع ثروته على فلاحيه وعاش فقيرا. غاية الأمر أن عروة هذا سبقهما في النبل بنحو ألفي سنة.
والخلاصة أننا نرى في حياة الجاهلية البدوية نوعين متميزين من الشبان: أبناء الذوات، قد يجتمعون ويتخذون لهم محلا مختارا، ويعيشون عيشة إباحية، فيها خمر، وفيها غناء، وفيها نساء. وهم مع ذلك كرام، يضيفون من نزل بهم، ويغدقون عليهم من خيرهم. وتقابلهم طائفة أخرى من أبناء الفقراء يسمون الصعاليك، يشاركونهم في الكرم والاشتراكية، ويخالفونهم في أن حياتهم ليست حياة دعة واستمتاع، ولكن حياة غزو وسلب ونهب، وتوزيع عادل على أمثالهم، يضاف إلى ذلك فرق آخر، وهو أن الفتيان يعطون ما يعطون وهم مترفعون ، والصعاليك يعطون ما يعطون وهم يعتقدون أنهم مع زملائهم الفقراء متساوون. وإن شئت فقل إن الفتيان يعطون ما يعطون عطفا وتفضلا، والصعاليك يعطون ما يعطون أداء لما يرونه واجبا.
وسنرى فيما بعد أن كل نواة من هاتين تطورت في الحياة الإسلامية، فأساس الصعلكة كان الكرم مع النجدة، كما أن أساس الفتوة الكرم أيضا مع النجدة، ولكن قد تنعدم النجدة مع الصعلكة، فيكون صاحبها صعلوكا رديئا، كما قال عروة بن الورد في التفرقة بين النوعين، فقال في النوع الثاني:
لحى الله صعلوكا إذا جن ليله
مصافي المشاش آلفا كل مجزر
1
صفحه نامشخص
يعد الغنى من دهره كل ليلة
أصاب قراها من صديق ميسر
2
ينام عشاء، ثم يصبح طاويا
يحت الحصا عن جنبه المتعفر
3
قليل التماس الزاد إلا لنفسه
إذا هو أمسى كالعريش المجور
4
يعين نساء الحى ما يستعنه
صفحه نامشخص
فيضحى طليحا كالبعير المحسر
5
ووصف النوع الأول في قوله:
ولله صعلوك صحيفة وجهه
كضوء شهاب القابس المتنور
6
مطلا على أعدائه يزجرونه
بساحتهم زجر المنيح المشهر
7
فإن بعدوا لا يأمنون اقترابه
صفحه نامشخص
تشوف أهل الغائب المنتظر
8
فذلك إن يلق المنية يلقها
حميدا وان يستغن يوما فأجدر
9
فهو بذلك قد ميز بين النوعين من الصعاليك. صعلوك فقير خامل كسول بليد ينتظر الصدقة من الناس، وصعلوك آخر فقير لكنه يسعى على رزقه ورزق غيره بالانتقام من أعدائه وسلبهم أموالهم، ينفقها في إطعام الصعاليك مثله.
وفي هذا المعنى وتقسيم الصعلوك إلى قسمين قال حاتم الطائي:
لحى الله صعلوكا مناه وهمه
من العيش أن يلقى لبوسا ومطعما
ينام الضحى حتى إذا الليل جنه
صفحه نامشخص
تنبه مثلوج الفؤاد مورما
10
مقيما مع المثرين ليس ببارح
إذا نال جدوى من الطعام ومجثما
11
وقال في الصنف الآخر:
ولكن صعلوكا يساور همه
ويمضى على الهيجاء ليثا مصمما
12
إذا ما رأى يوما مكارم أعرضت
صفحه نامشخص
تيمم كبراهن ثمت صمما
13
فذلك إن يلق الكريهة يلقها
حميدا، وإن يستغن يوما فربما
14
وكان من الصنف الثاني عروة بن الورد، ولذلك تمنى معاوية أن يصاهره وعبد الملك بن مروان أن يكون عروة أباه كما ذكرنا. وللصعاليك من النوع الثاني أقاصيص كثيرة بديعة؛ من ذلك ما روي أن عروة بن الورد بلغه عن رجل من بني كنانة بن خزيمة أنه أبخل الناس، وأكثرهم مالا، فبعث عليه عيونا فأتوه بخبره، فشد على إبله فاستاقها، ثم قسمها على أصحابه.
وكان عروة هذا إذا أصابت الناس سنة جدبة ترك هو وأصحابه المريض والكبير الضعيف في دورهم، ثم يأخذ الأقوياء من قومه معه ويخرج فيغير بهم، ويجعل لأصحابه ولهؤلاء المرضى والكبار والضعاف نصيبهم. حتى إذا أخصب الناس وذهبت السنة ألحق كل إنسان بأهله، وقسم له نصيبه من غنيمة إن كانوا غنموها. وربما أتى الإنسان منهم أهله وقد استغنى. ومثل هذه الأخبار والأشعار نراها في أخبار تأبط شرا والسليك بن السلكة والشنفرى وأمثالهم من المشاهير الصعاليك. •••
نعود بعد ذلك للفتيان، فلعلهم كانوا كذلك قسمين، كلهم أغنياء وكلهم شبان ولكن يختلفون في مقدار النجدة والكرم.
يقول الشاعر:
وليس فتى الفتيان من راح واغتدى
صفحه نامشخص
لشرب صبوح أو لشرب غبوق
ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى
لضر عدو أو لنفع صديق
فهو يرى أن الغنى وحده واللهو والشراب لا تكفي لجعل الفتى فتى الفتيان، وإنما الذي يجعله فتى الفتيان جده في الحياة، وأن يكون ضارا لعدوه نافعا لصديقه.
ويقول الآخر:
قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه
خلق وجيب قميصه مرفوع
فهذا لا يجعل الغنى والترف عنصرين من عناصر الفتوة، عكس ما هو مفهوم، بل إن الفتى قد يكون فتى وهو فقير، رداؤه خلق، وقميصه مرفوع، وبذلك يلتقي الفتى مع الصعلوك بهذا المعنى.
وقد اشتهر كثير من العرب بالصعلكة، وربما كان من أشهرهم عروة بن الورد، ويسمى عروة الصعاليك، والشنفرى وتأبط شرا، وسليك بن السلكة، وهؤلاء على ما يظهر هم الزعماء منهم أو من جمعوا بين الصعلكة والشاعرية التي أظهرتهم.
أما الصعاليك الآخرون فأكثرهم مغمورون أو جنود مجهولون.
صفحه نامشخص
وقد أنتجت الحالة الاجتماعية في جزيرة العرب هذه الصعلكة؛ لأن أكثرهم كان من الفقراء ولا يجدون ما يأكلون، وإذا حصلوا على شيء من غارة أو نحوها فشيخ القبيلة هو الذي يأخذ من الغنيمة حصة الأسد، وهم لا يأكلون إلا الفتات، ثم نتاج الأرض قليل محدود لا يكفي كلهم ليعيشوا عيشة سعيدة، وتكاد تكون حالتهم في الغنى والفقر كحالتنا اليوم، شعب فقير ورؤساء أغنياء، فماذا يصنعون؟
لا سبيل للتحرر من هذا إلا الإغارة على الأغنياء، ولكن بشرطين ينفعان في العلاج؛ الأول: أن يتركوا الأغنياء المحسنين لأن إحسانهم في الواقع حقق غرضهم وأسدى إلى فقرائهم خيرا كثيرا. وإن المروءة تقتضي بأن الأغنياء متى أدوا الواجب عليهم فلا يستحقون ظلما ولا عدوانا. فكانوا يتجسسون على الأغنياء؛ فمن علموا أنه كريم تركوه وشأنه، بل وحافظوا على أمواله. ومن عرفوا أنه شحيح بخيل وجدوا أنه قصر في واجبه، فنفذوا هم بالتلصص واجبهم.
والأمر الثاني: أنهم تجنبوا أن يقعوا في الخطأ الذي وقع فيه الأغنياء والأشحاء، وفرضوا على أنفسهم أنهم يفرقون بالسوية بينهم ما جمعوا حتى لا يكون رئيس ومرؤوس ولا غنى ولا فقير. يدل على ذلك القصة التي حكيناها عن عروة الصعاليك وأتباعه إذ أبوا عليه أن يختص بأي شيء. وبذلك يكونون مجتمعا خاصا داخل المجتمع الكبير عماده كما نقول اليوم: الاشتراكية، بل هي أسمى من الاشتراكية لأنهم كانوا يحصلون المال ممن لا يستحقه ثم ينفذون بالقوة هذه الاشتراكية.
وهم هم الرقباء على تنفيذها. وقد كثر عددهم بسبب أن أفرادا خرجوا على قبيلتهم بارتكاب جريمة لا ترضاها القبيلة فخلعوهم. فلما خلعوا لم يجدوا أمامهم إلا الصعلكة يداوون بها خلعهم وسموا الخلعاء. فيحدثنا مثلا صاحب الأغاني أن قيس بن الحدادية كان خليعا صعلوكا خلعته قبيلته خزاعة؛ لأنه اشترك مع جماعة من أسرته في قتل أحد أفراد قبيلة وعجز هو ورفقاؤه عن دفع الدية وفروا هاربين، ونزلوا على فراس بن غنم فآواهم وتصعلك مع صعاليكها، ومثله أبو الطمحان القيني وغيرهما. ويظهر أنهم لما خلعوا من قبيلتهم - ولا حماية لأحد في هذه البيئة إلا بقبيلته - اضطروا إلى الالتجاء إلى قبيلة أخرى يحتمون بها، ولم يجدوا خيرا من التصعلك؛ إذ هو يتفق مع جنايتهم لأنه جناية أخرى. وجناية كريمة خير من جناية وضيعة.
ونعود إلى ذكر شيء من أخبار رؤساء هؤلاء الصعاليك لأنه يوضح لنا صورتهم، فعروة بن الورد مثلا كان من المشاهير الصعاليك ومن شعرائهم.
يتغنى بالصعلكة وينهى امرأته عن التعرض لسيرته، فهو إذا خرج للقتال لا يصح أن تعترضه، وإذا حصل مالا وأراد أن يفرق على الصعاليك أمثاله لا يصح أن تعترض عليه أيضا.
وأكبر ميزة لعروة أنه كان رجلا يشعر بالناس أكثر مما يشعر بنفسه، واخترع لذلك المعنى التعبير الفني الجميل الذي ذكرناه وهو: (أقسم جسمي في جسوم كثيرة)
ويقول:
إني امرؤ عافي إنائي شركة
وأنت امرؤ عافي إنائك واحد
صفحه نامشخص
15
أتهزأ مني إن سمنت وقد ترى
بجسمي مس الحق والحق جاهد
16
أقسم جسمي في جسوم كثيرة
وأحسوا قراح الماء والماء بارد
17
وقد جهد قومه جهدا شديدا ولاقوا عناء، وأحاطوا أنفسهم بسياج لما أعوزتهم المكاسب، وقالوا: «نموت فيها جوعا خير من أن تأكلنا الذئاب.»
وكان عروة غائبا فأتاهم فنزع عنهم سياجهم وقال لهم: «هذه قلوصي فقددوا لحمها واحملوا أسلحتكم عليها حتى أصيب لكم ما تعيشون به أو أموت.»
فخرج مع أتباعه فوجدوا في الطريق آثارا، فقال لهم: «هذه آثار من يرد الماء فاكمنوا.» فجاءت الإبل بعد خمس، فوردت منها مائة معها فصلانها، ومعها فارس بسلاحه فخرج عليه عروة وضربه بسهم أرداه. واستاق الإبل حتى أتى قومه فأحياهم، وفي ذلك يقول:
صفحه نامشخص
أليس ورائي أن أدب على العصا
فيأمن أعدائي ويسأمني أهلي
أقيموا بني لبني صدور ركابكم
فإن منايا القوم شر من الهزل
لعل انطلاقي في البلاد ورحلتي
وشدي حيازيم المطية بالرحل
سيدفعني يوما إلى رب هجمة
18
يدافع عنها بالعكوف وبالبخل
وكان يصحبه صعلوك آخر يسمى أشيم بن شرحبيل، وكان يسمى مأوى الصعاليك لأنه كان يعولهم وينفق عليهم حتى يستغنوا.
صفحه نامشخص