سبیل حیات
سبيل الحياة
ژانرها
وإن صاحبنا لحي يرزق، ولكنه لا يعد في الأحياء بأي معنى صحيح إلا حين تقوم الدولة بإحصاء النفوس، وصحيح أنه يأكل ويشرب وينام ويدخل ويخرج، ويذهب إلى السينما أحيانا، ويطرب للسماع إذا أتيح له عفوا، ولكنه لا يحيا، فإنه لا يعمل لا بجسمه ولا بعقله وقد ركدت عواطفه وإحساساته، أو جرت في بحار خفية فما يتبدى منها شيء إلا حين يكون في خلوة تامة مع نفسه، وفي أمان من عيون الرقباء وآذانهم.
وتسأله ماذا يرجو؟ وإلى أي شيء يتطلع؟ فيحدق في وجهك كأنه غير فاهم، ويسألك «أرجو؟ تقول أرجو؟» ويهز رأسه وقد ينهض عن المجلس الذي أنت فيه - لا غاضبا فإنه لا يغضب - أو على الأصح لا يراه أحد يغضب - بل لأنه يعني بالجواب، ولعله يقضي الليل مسهدا يتساءل عما يرجو، ثم يمل التساؤل، فينهض ويضيء أنوار البيت كلها، ويغلق عليه غرفة، ويخلع ما عليه ويقف أمام المرآة يرقص ويدندن!
ماذا يرجو؟ أما أن هذا لسؤال!
الفصل التاسع
الابتسام
منذ بضع سنين - عشرين أو نحو ذلك - أصبت بالنورستانيا، فاحتجت إلى الأطباء وكان علاجهم جرعا أو حقنا والراحة التامة والكف عما يتوهمونه يضنيني من القراءة والكتابة، فأما الحقن أو الجرع فكان أمرها هينا، وأما الراحة فكان معناها انقطاع الرزق لأنه لا رزق بلا عمل، وأما الكف عن القراءة والكتابة فقد كان هذا خليقا أن يورثني الجنون لا أن يشفيني لأنه يجعلني أبدا في خلوة بنفسي ويفسح الوقت والمجال للتفكير فيما كنت أعاني من الأوهام، وهذا ما كنت أهرب منه وما كان ينبغي اتقاؤه، لأن المرض يستفحل به ولا يخف على ما جريت، وكانت النورستانيا في أول الأمر خفيفة محتملة، ولكنها تفاقمت على أثر سقوطي في ظلمة الليل في قبر خرب تعلقت بى فيه العظام النخرة فخرجت منه حين خرجت بوجه ميت وأعصاب مخبول.
وصرت بعدها أتوهم الموت في كل شيء حتى لكنت أدعو أهلي أن يحفوا بي ويمسكوني لأنه كان يكبر في وهمي في تلك اللحظات المشئومة أن شيئا مرعبا سيحدث لي ويجري علي، وأن قوة مخفية ستخطفني وكان شر ما أخشاه وأتقيه أن أصاب بالحمى لا لأنها طريق الموت فإن كل شيء طريقه بل لأنها تكون أحيانا مصحوبة بالهذيان، وقد يفشي المرء وهو يهذي بعض ما كان يحرص على كتمانه. وليس من الضروري أن يكون ما يكتمه سوءا وشرا فقد يحب المرء كتمان الخير أيضا.
وأخيرا وفقني الله إلى طبيب فيه شذوذ غير قليل، وكان يشكوني لإخواني لأني أتكلم بلا مناسبة تدعو إلى الكلام، ويشكوني إذا سألني عن شيء من التاريخ أو الأدب لأني لا أجيبه بما يحب، فحرت معه وآثرت الصمت، وقلت فليحسبني في عداد الصم البكم.
وكان يحقنني بما لا أعلم فدخلت عليه يوما وكشفت له عن ذراعي فأومأ إلي فجلست وجلس هو قبالتي وجعل يحدجني بنظره وطال هذا منه فلم أرتح إليه وخامرني الشك في أمره وحدثتني نفسي بالهرب فقد قام في ذهني أن الرجل تعتريه نوبات من الجنون، وإذا به يقول لي وهو معبس: «تبسم».
فقلت في نفسي «لقد صح ظني وليته ما صح. والمثل يقول جاءك الموت يا تارك الصلاة، فهل كان من الضروري أن أقع في قبضة هذا «المجنون» وقلت له بصوت يسمعه «ايه».
صفحه نامشخص