الإرث الخفي: روكامبول (الجزء الأول)
الإرث الخفي: روكامبول (الجزء الأول)
ژانرها
فأجابها الدكتور: لا بأس يا سيدتي، فإن داءك غير عضال، وستنقهين منه بزمن يسير إذا لزمت السكون. - ألم تذهب إلى منزلي، ألم تر أمي وخدمي فيه؟ - ذهبت يا سيدتي، ورأيت فيه باكارا.
ففطنت حينئذ لحيلة أندريا، واسترسلت إلى اليأس فهاجت هياج المجانين، ثم هدأت ثورتها، وعاد إليها سكونها، فوضعت رأسها بين يديها، وجعلت تبكي بكاء مرا، وفيما هي على ذلك إذ سمعت الدكتور يقول لفاني: لقد التمست من رئيس المستشفى أن يسمح لك بالبقاء ليلا بقرب سيدتك، فأبى علي ذلك، ولكنه سمح أن تزوريها في النهار، وأن تبقي بقربها إلى الساعة العاشرة مساء فقط. فلم تنبس ببنت شفة، وجعلت تفكر بما سمعته من الدكتور عند خروج فاني من المستشفى في كل يوم.
ثم ذهب الدكتور، فبقيت باكارا في غرفتها مع فاني، فنظرت إليها باكارا وقالت: إنك تمثلين رواية مضحكة، ولكنها ستكون مفجعة، وتنالين جزاء ما جنته يداك. - ستتأكد سيدتي بعد حين أنني من أشد الناس تعلقا بها، ستظهر لها الأيام حقيقة ما أقول.
ولما دنت الساعة العاشرة عزمت فاني على الذهاب، فقالت لسيدتها: إنني ذاهبة، وسأعود في صباح الغد، فهل تريدين أن أحضر لك شيئا معي؟ - نعم، أحضري لي علبة الشغل التي في غرفتي. - أستودعك الله يا سيدتي إلى الغد. - إلى الغد. ثم قالت بصوت منخفض، وقد التهبت عيناها بشرر الانتقام: إلى الغد أيتها الخائنة، وسترين كيف يكون جزاء الخائنين.
ولبثت طوال الليل تهيئ في فكرها سبيل الفرار، ولما طلع الصباح عادت إليها فاني بعلبة الشغل، وكان فيها لفافة كبيرة من الخيوط القطنية الثخينة، وكانت قد طلبت العلبة لأجل هذه الخيوط فأخذتها منها، وتظاهرت كل النهار بالبشاشة بما سر الحكيم، ودعاه أن يضاعف لها أوقات الاستحمام، وعند الساعة الثامنة قالت لفاني: إنني أحب أن أنام، فأغلقي نوافذ الغرفة، ورتبي لي السرير. وبينما كانت تغلق النوافذ نظرت إليها باكارا، ثم نظرت إلى نفسها بالمرآة كأنها تريد أن توازن بين القوتين، وأخذت خنجرا كانت قد خبأته في صدرها، ثم هجمت على فاني هجوم الأسد على فريسته، ووضعت يديها في طوقها حذرا من أن تستغيث، ثم ألقتها على الأرض، فركعت على صدرها، وأشهرت عليها الخنجر وهي تقول: إذا استغثت أو فهت بكلمة فإنك ميتة لا محالة. - عفوا سيدتي ومرحمة!
فاستعرت مقلتا باكارا من الغضب حتى خيل لفاني أن ساعتها الأخيرة قد دنت، وقالت: إنك تقولين إني مجنونة، والجميع هنا يعتقدون بجنوني، فإذا قتلتك لا أعاقب بقتلك؛ إذ ليس على المجانين حرج. ثم أدنت الخنجر من صدرها وقالت: احذري من أن تفوهي بكلمة وإلا قتلتك بغير إشفاق، واعلمي أنني أريد الخروج من هذا المكان، ولا أحد سواك يستطيع مساعدتي على ذاك. - كيف أستطيع إخراجك فإن الأبواب مقفلة؟ - إنهم يفتحونها لأجلك؛ لأنك تخرجين كل يوم الساعة العاشرة. - ولكنهم لا يدعونك تخرجين معي. - أعرف هذا، ولكنك ستبقين وأخرج مكانك، فاعلمي الآن أنني أشد منك ساعدا، وأنني مسلحة بهذا الخنجر، وأنني إذا قتلتك فلا حرج علي؛ لأنهم يحسبونني مجنونة، فاختاري إذن بين الامتثال وبين الموت. - مري بما تشائين. - انهضي واخلعي ثيابك في الحال.
فامتثلت فاني وخلعت ما عليها من الثياب. - أعطني الآن علبة شغلي. فأحضرتها لها وهي تكاد تجن من الخوف، فأخذت باكارا لفافة الخيوط وأمرتها أن تضم بعضها إلى بعض وتجدل حبلا رفيعا، فامتثلت، ولما انتهت أخذت باكارا الحبل، وقالت لها: أديري يديك إلى الوراء. ففعلت، وربطتهما باكارا بذلك الحبل رباطا وثيقا، ثم ربطت رجليها، وبعد ذلك خلعت ثيابها، فلبست ثياب فاني وقالت لها: قولي لي كيف تخرجين من هذا المكان، وإياك أن تكذبي بحرف واحد، فإنني أعود إليك فأميتك شر ميتة، واذكري أنني مجنونة. - يوجد في آخر الرواق بابان؛ أحدهما إلى جهة اليسار، وهو الباب الذي يخرج منه المجانين إلى الحديقة، والآخر إلى جهة اليمين فتخرجين من ذاك الباب إلى رواق آخر طويل حيث تجدين في آخر ذاك الرواق بابا كبيرا، وهو باب المستشفى العام. - أما كان يسألك البواب شيئا؟ - لم أخرج غير مرة واحدة، وقد سألني من أنا، فقلت له أنا خادمة السيدة التي دخلت إلى المستشفى بالأمس، ثم فتح لي الباب فذهبت. - ألم يتبين وجهك؟ - كلا، فإنه فتح لي الباب وهو يقرأ في جريدة، وفوق ذاك فإن النور ضعيف.
وخرجت باكارا بعد أن أقفلت الباب، واستوثقت من صدق فاني، وذهبت في الطريق التي أشارت إليها حتى وصلت إلى آخر الرواق، فوجدت البواب منهمكا في القراءة، فسألته أن يفتح الباب وهي تقلد صوت فاني، ففتح دون أن ينظر إليها، فخرجت وهى تظن أنها تحلم ولم تصدق أنها تمكنت من الفرار، فجعلت تركض في الشارع المقفر وهي تلتفت إلى الوراء من حين إلى حين شأن الهارب الخائف، ثم وقفت في عطفة الشارع تفتكر أين تذهب، فإنها خشيت من الرجوع إلى منزلها حذرا من أندريا، ولعلمها أنه رشا جميع خدم المنزل بحيث أصبحوا جميعا في قبضة يده، وخطر لها أن تذهب إلى عشيقها البارون؛ لأنه هو وحده القادر على إنقاذها وإنقاذ حبيبها فرناند، لما له من النفوذ والوجاهة، فمشت حتى مرت بها مركبة فركبتها، ودلت السائق على منزل البارون فسار بها إليه.
وكانت كثيرا ما تأتي إلى ذاك المنزل فتبيت فيه، وقد عرف جميع الخدم أنها عشيقة البارون سيدهم فكانوا يتملكونها ويكرمونها، ولما دخلت أنكر عليها الخدم لباس الخادمات، وحسبوا أنها تريد مزاحا، فأمرت أحدهم أن يدفع إلى السائق أجرته وهي غير مكترثة بعجبهم، وسألتهم عن البارون، فقالوا: إنه خرج منذ حين. قالت: أتعلمون أين ذهب؟ قالوا: كلا. قالت: حسنا سأنتظره. ثم ذهبت إلى غرفته الخصوصية وانطرحت على مقعد فيها.
ولما كانت الساعة السابعة دخل عليها البارون فأيقظها، وكان قد وردت إليه رسالة مزورة عن لسانها تخبره فيها أنها سافرت مع أمها وتغيب بضعة أيام، ولما أفاقت من نومها قال مندهشا: ألم تسافري بعد؟
صفحه نامشخص