لا يكاد ينطق الاسم بصوت مسموع، يحاول أن ينساه، وهي أيضا تحاول النسيان. - كنت تحبين سميح؟ - ... ...
لم يكن في حاجة إلى الرد، كان يعرف أنها تحب سميح، وكان يتمنى أن يراه ميتا، كما كان يتمنى أن يرى كارمن ميتة! - قلبك أسود يا رستم. - الحب يجعل القلب أسود. - غير صحيح. - أنت فتاة ساذجة. - وأنت مجنون.
يضحك رستم حين يسمع كلمة مجنون، تبدو له كلمة مديح وأكثر من المديح، يقولون عن أعظم الأدباء مجانين، يتمنى أن يصل جنونه إلى جنون إرنست هيمنجواي، ويفرغ في رأسه الرصاصة بعد أن يكتب الرواية، أو على الأقل يبلغ درجة جنون زوجته، ويكتب رواية مثل روايتها، لم يكتب أبدا رواية مثل روايتها، رغم كل ما كتب من روايات. - هي دي المشكلة؟ - أيوه، هي دي المشكلة.
كان جالسا إلى جوارها على الكنبة الجلدية، من الغريب أنه لا يزال جالسا، من الغريب أن الكنبة الجلدية لا تزال موجودة، والنافذة موجودة، وشعاع القمر يدخل من النافذة، ومن بعده الظلام، ثم الشمس في الصباح، تدخل الشمس من هذه النافذة وتغادرها كل يوم، لا يظهر في الظلمة إلا ضوء الإعلان المثبت بالمسامير فوق العمود في الشارع، يومض الحرف وراء الحرف ثم ينطفئ ليعود الضوء من جديد، من دون توقف، إلى الأبد.
ويقول رستم أحب الجلوس على هذه الكنبة الجلدية، ومن حولي رفوف الكتب، أحب رائحة الكتب كما كانت تحبها كارمن، أيوه، رائحة الكتب كانت عندها أجمل من رائحة أي رجل، أرادت أن تموت وهي جالسة في المكتبة وليس راقدة في السرير. - احك لي عن كارمن.
تنتابه الغيرة، لم تقل له أبدا احك لي عن نفسك، كان يريد أن يضمها بين ذراعيه ويحكي لها عن نفسه منذ الولادة حتى الموت، حتى طلوع النهار يريد أن يحكي لها عن نفسه، ويضمها بين ذراعيه حتى يتلاشى جسدها. - احك لي عن برشلونة. - مدينة مثل القاهرة قبيحة وجميلة بمطاعم كثيرة وناس يأكلون طول الوقت. - لا تعودي إلى برشلونة. - سأعود. - هنا وطنك. - الوطن حيث أكون سعيدة. - سأجعلك سعيدة.
يحوطها بذراعيه، يبدو أنه سيحملها إلى السرير بدلا من الكنبة الجلدية، سيحملها إلى الدور العلوي حيث غرفة النوم، حيث يكون العري كاملا من دون خوف من كارمن، ليس عري الحب بل الحرب تحت الماء فوق قشرة الوعي، كل منهما جريح ينزف وإن لم يشعر بالألم، كانت النوافذ مغلقة والستائر مسدله، تمنع عنهما الضجيج في الخارج، أزيز الطائرات وهتاف المظاهرات، قاذفات القنابل المسيلة للدم والدموع، زئير الأسود في حدائق الحيوان، قعقعة الرياح والخماسين وابتهالات الشاحتين، زعيق الميكروفونات والأبواق وصفارات البوليس، دقات الطبول في ليالي الزفاف وعويل الشهيدات وأرامل الشهداء، كانت النوافذ مغلقة بالزجاج المزدوج لا ينفذ منه صوت، كأنما العالم الخارجي مات، ولم يبق على قيد الحياة إلا رستم وهي بين ذراعيه يهمس في أذنها، باحبك والله العظيم باحبك. - وليه تحلف بربنا إذا كنت بتقول الحق؟
يميل رستم بجسده بعيدا عنها قليلا، يقول لنفسه تتكلم في الفراش مثل كارمن، ربما تكون هي كارمن، أو أختها الصغرى، أو ابنتها، نسخة طبق الأصل منها، وصوتها يكاد يكون هو الصوت ... - لا تدفن رأسك في الرمال يا رستم وتترك مؤخرتك عارية، كم عرفت من النساء وكم عدد أبنائك غير الشرعيين؟
ويقول رستم لنفسه، لها حق أن تقول عني ما يقوله المنافسون لي في الانتخابات والحاقدون والحاقدات، ولكني في نهاية الأمر رجل مثل الرجال، ولا يعيب الرجل إلا جيبه. - كفى يا رستم، أنت كهل فاسق مثل ثمرة فاسدة سقطت من الشجرة وأكلها الذباب.
لا يسمع ما تقول، مجرد عبارة عابرة في الرواية، كتبتها كارمن في لحظة غضب، أراد أن يصفع عينيها الثاقبتين لا يطرف لها رمش، أراد أن يبكي أمامها لولا الخجل والعار، رجل مثله يبكي أمام فتاة مثلها؟ لمعت الدموع في عينيه رغم إرادته، كشفها ضوء خافت يتسلل من شقوق الشيش، هناك شيء يفوق إرادته دائما، مثل دمعة ساخنة حبيسة من وراء عينيه، تفاجئه إلى أذنيه أغنية في عيد الأم، يتذكر أمه الغائبة وأختها التوأم، أو حين يتمشى على شاطئ النيل ويرى كلبا عجوزا مربوطا بسلسلة، تفر الدمعة الحبيسة من وراء عينيه كأنما هو هذا الكلب العجوز المربوط.
صفحه نامشخص