ويملأ رستم كأسها بالنبيذ، يقول لها حمد لله ع السلامة، ويسألها، صحتك جيدة؟ تقول، أيوه، يسألها، سعيدة؟ تقول، أيوه، يسألها، لا ينقصك شيء؟ تقول، ينقصني شيء واحد، يبتهج رستم قليلا يخفق الشيء تحت ضلوعه بحركة خفية، يتمنى أن تقول: لا ينقصني إلا حبك يا رستم، وحشتني، عدت من أجلك. لكنها لا تقول شيئا من هذا، تفكر في طفلتها نورية على الشاطئ الآخر وراء البحر، لا شيء يعوضها عنها، إن أغمضت عينيها تراها تبكي على فراقها، إن فتحت عينيها ترى أصابعها الخمسة ملفوفة حول إصبعها، مثل خيوط من الحرير، ملفوفة حولها تتشبث بها، طفلة عمرها بضعة شهور، لها قبضة أصابع أصلب من الحديد، لم تستطع الخلاص من قبضتها، ورغم المسافة وعرض البحر العريض، لا تزال أصابع الطفلة الخمسة ممسكة بإصبعها، السبابة، الإصبع الأساسي المقابل للإبهام، كادت تقطعه بالسكين لتمحو عنه أثر الأصابع الطفولية الخمسة، من دون جدوى.
يبدو وجه رستم أمامها طويلا شاحبا كأنما في نهاية العمر، أنفه أصبح أكبر حجما بالنسبة لبقية الملامح، أكثر طولا مدببا منقاريا، عيناه مندهشتان رماديتان، حاجباه الكثيفان يتساقط شعرهما مع شعر رأسه من الأمام، أصبحت جبهته أعرض مما كانت، تمتد حتى منتصف الجمجمة مثل رئيس دولة أو كاتب كبير، أو عضو في مجلس الشورى أو النواب، لحم رقبته تهدل، عروقها نفرت تحت ذقن مزدوجة، يكاد يشبه جورج بوش الأب، أو الابن، تعود إليها صورة يولاندا وهي ترسم الصليب فوق صدرها، وفرانسيسك وهو واقف كالتمثال في الرامبلا، وأناجيل وجوردي وهما يهتفان مع الجماهير، جيرانو لا حرب، جورج بوش أساسين، توني بلير أساسين، أزنار أساسين، سفاحين، خلعوا أزنار في الانتخابات الأخيرة، جاء زباتيرو، وأعلن جيرانو، لا حرب، وسحب الجنود الإسبان من العراق. - زباتيرو اسم أمه يا رستم. - غير معقول. - معقول جدا.
يضحك كما كان يضحك على سذاجتها، يقول لنفسه فتاة عذراء بريئة، غير مثقلة بعد بالآثام، وتقول لنفسها رجل مراوغ لا يعرف قيمة المرأة إلا بعد أن يفقدها، وتقول أيضا سأجعله يفقدني ليعرف قيمتي. - أرجوك ابقي معي هنا. - لا بد أن أذهب إليها. - مين؟ - بنتي. - عندك بنت؟
ينسى رستم كل شيء عنها، كانت في حياته قصة من قصص الحب، لحظة عابرة متأججة تشتعل وتنطفئ وتسقط في العدم، لا يتصور رستم أن شيئا يبقى من اللحظات العابرة في حياة الرجال، لا شيء يبقى وإن كانت الذكرى، العالقة بالخيال في النوم. - أيوه عندي بنت. - فين؟ - في كاتالونيا. - كاتالونيا دي فين؟ - في إسبانيا. - آه.
قال آه بصوت كالأنين، وقالت لنفسها لا بد أنه يعاني الوحدة في غياب كارمن، تتأمله بعينيها في صمت، تراه رجلا عاديا يجلس على كنبة جلدية عادية، يتردد رستم طويلا ثم يقترب منها، يحوطها بذراعيه كأنما كانت بين ذراعيه بالأمس، تدفعه بيدها برقة وتسأله، هل قرأت الرواية؟ - أي رواية؟ - رواية كارمن. - آه ... طبعا. - رواية بديعة. - فعلا. - تنتهي بموتها في المستشفى.
يزحف رستم بجسده فوق الكنبة الجلدية بعيدا عنها، يتذكر أن كارمن ماتت في المستشفى، قبل أن تموت بلحظة واحدة قتلت رجلا لتنقذ ابنتها من الموت. - كانت ابنتها؟ - في الراوية على الأقل، أو من بنات أفكارها.
ينحني رستم ويملأ لها الكأس مرة أخرى، ترتعش يده قليلا، تسقط بضع قطرات من النبيذ فوق السجادة العجمية، يسرع إلى المطبخ، يعود بفوطة يمسح البقع فوق السجادة، حمراء قانية تكاد تشبه بقع الدم، يمسحها بعناية شديدة، كأنما كارمن سترى البقع بعد أن تصحو من النوم أو من الموت، يبتسم رستم مشفقا على نفسه، ويقول انظري إلى ... رجل عجوز يمسح البقع من فوق السجادة.
تتعجب الفتاة قليلا، تتساءل بينها وبين نفسها، إن كان رستم يعرف نفسه، إن كانت معرفة النفس مراوغة مثل عدم المعرفة، رستم يقرأ أفكارها مثل كتاب مفتوح، بالضبط كما وصفتها كارمن في الرواية، عيناها ثاقبتان تجرده من سلاحه، يعرف رأيها فيه، يعاني مرضا مزمنا منذ الطفولة يتعلق بالروح، ويقول لها أنا مريض وأنت قادرة على شفائي.
لم يصل جسده إلى درجة المرض، لكن عقله كان مثقلا بالإثم، ربما هو في حاجة إلى الأقراص المهدئة أو المثبطة للعقل، التي يولع بها أطباء النفس. - حالتك خطيرة. - ولكني رستم.
كان يدرك عن يقين أنه لا يزال هو رستم، بذاته الخاصة، الخاصة جدا، المختلفة عن كل الرجال، ومنهم سميح. - سميح؟
صفحه نامشخص