وأما معنى الفقه فهو التنبه لما في الآية من القرآن ، ولما في الحديث الصحيح عن رسول الله ص من الأحكام ، وهذه درجة يعطيها الله عز وجل لمن يشاء من عباده ، قال رسول الله ص : ( رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ) وقال عليه السلام : ( رب مبلغ أوعى من سامع ) أو كما قال عليه السلام .
قال أبو محمد رحمه الله : فصح بهذا أنه قد يكون في المتأخرين من هو أفقه من كثير من المتقدمين ، وهذا نفس كلامه ص .
قال أبو محمد رحمه الله : ومن قرأ كتب العلماء والفقهاء والسالفين والخالفين من المذكورين وغيرهم وقف يقينا على الأفقه منهم ، ولا سبيل إلى يعرف ذلك من افتصر على رأي رجل منهم دون غيره ؛ لأنه يحكم بما لا يدري فيما لا يدري ، وهذا جور لا يحل .
وأفقههم أشدهم ابتاعا لأحكام القرآن وأحكام الحديث الصحيح عن رسول الله ص ، وأبعدهم عن رأيه والقطع بظنه ، وعن التقليد لمعلمهم دون غيرهم ، فمالك وأبو حنيفة متقاربان في هذا المعنى ، وإن كان مالك أضبط للحديث وأحفظ منه ، وأصح حديثا وأتقن له ، وأبو حنيفة أطرد للقياس على ما عنده من ذلك ، وأكثر منه في التحكم بالآراء .
وأحقهم بصفة الفقه داود بن علي ؛ لأنه لا يفارق السنن والإجماع أصلا ، ولا يقول برأيه البتة ، ولا يقلد أحدا ، ثم أحمد بن حنبل وهو قليل الفتيا لشدة توقيه وتورعه على صفة علمه بالسنن وأقوال الصحابة والتابعين ، ثم الشافعي فإنه أول من انتقد الأقوال المختلظة ، وميز السنة من غيابة الرأي ، وعلم استخراج البرهان من غيضة الاستحسان ، ونهى عن التعصب للمعلمين ، وعن الحمية للبلدان ، ودعا إلى اتباع صحيح الحديث عن رسول الله ص حيث كان ، فالمؤمنون أخوة ، وأكرمهم عند الله أتقاهم ، وإنما فضل المرء بنفسه ، وأشار إلى كيف يأتي القرآن مع السنن ، والخاص مع العام من الآي والسنن ، فصار له بذلك فضل عظيم وسبق رفيع ، واستبان بهذه المناهج التي نهج دقة ذهنه وقوة خاطره وحدة فهمه وتقرب .
ثم سلك أحمد رحمه الله هذه الطريق ، وأربى على الشافعي بكثرة استعماله للسنن الثابتة ، وشدة ضبطه للروايات الصحاح ، ثم تلاهما داود رحمه الله ، فأكمل تلك الفضيلة ، وتمم تلك الحسنة ، وأوضح أن القرآن وكلام رسول الله ص وأفعاله وإقراره وإجماع العلماء كلهم قد استوعبت هذه الوجوه جميع الشرائع ونوازل الأحكام كلها ، أولها عن آخرها ، وأنه لا يشذ عنها شيء من أمور الدين أصلا ، وأن كل ما يسأل عنه السائلون فيه وجود حكمه فيها تبيان ونص لا يحتاج ولا يفتقر إلى قول أحد من الناس ، وأن كل ذلك منصوص عليه باسمه وحكمه ، محكم له غير ناقص ولا محذوف البيان ، وأن الله تعالى لن يحوج مع القرآن والسنة والإجماع إلى تكلف قياس ، ولا تعسف رأي ، ولا حكم بظن ، ولا إحداث لشرع ، ثم اتبع هذه الجملة تفصيلها ووفي في وعده في تفسيرها ، وبين ذلك بيانا كافيا ، فكانت له بذلك درجة موفورة ، وذخيرة الله عز وجل بها ، وذخرها له ، لحق بها المتقدمين ، وأثر على المتاخرين ، وأحيا ما دثر من أعمال الصحابة والتابعين لهم رضي الله عنهم أجمعين في اتباع السنن والقرآن فقط ، وأبان فساد الخبط في الدين من الأخذ بما في مسئلة من القرآن ، وترك ما فيها من صحيح الحديث ، وفي أختها بصحيح الحديث ، وترك ما فيها من القرآن وفي أختها بتقليد قائل ، وترك ما فيها من القرآن والسنة وفي أختهن بقياس ، وترك ما فيها من قرآن وحديث وقول قائل وفي أختهن بما استحسنه المفتي ، وترك ما فيها من نص أو قياس أو قول سلف ، فاقتنى الأجر في أهل الحق والإنصاف ، وأقام الحق على الشذوذ والخلاف ، وحوى بذلك خصل الجواد إذا استولى على الأمد ، وحصل على قصب السبق ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
وإن كان قد أخطأ في كثير من فتاويه فالعصمة من الخطأ ليست لأحد من الناس بعد رسول الله ص ، ولكن له بالتنبيه على ما ذكرنا منزلة رفيعة ، ومحلة عالية ، ويستحق بذلك التقدم في الفقه ، وليس ذلك بموجب تقليده ، لما ذكرنا من أنه لم يعصم من الخطأ بعد رسول الله ص أحد من الناس ، ولا يحل أن يقلد من يخطئ ، وإن أصاب في كثير ، ولقد كان للشافعي من التمكن في ترتيب القياس ما ليس لأحد من القائلين به التاركين له النصوص من القرآن والسنة ، ولكن ليس ذلك عندنا من فضائله بل هو من وهلاته .
وأما الحفظ فهو ضبط ألفاظ الأحاديث ، وتثقيف سوادها في الذكر ، والمعرفة بأسانيدها ، وهذه صفة حفاظ الحديث كالبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبي داود وابن عفرة والدار قطني والعقيلي والحاكم ونظرائهم ، فهؤلاء في هذه الطريقة فوق هؤلاء المذكورين إلا أحمد ، فإنه في الحفظ نظير هؤلاء ، وبالله تعالى التوفيق .
فهذا أسعدكم الله بطاعته حقيقة الجواب فيما سألتم عنه بالبرهان الواضح ، والدليل اللائح ، لا بالتعصب ولا باتباع الهوى ، ونعوذ بالله من ذلك ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وخاتم أنبيائه وسلم تسليما كثيرا .
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (). انتهت الرسالة
قال الناسخ : وصادف الفراغ يوم الأربعاء الثالث والعشرين من شهر صفر سنة ثلاث وستين وسبع مئة ، وكتبه أفقر عباده إلى رحمته ومغفرته ارقطاي بن رجب عفا الله عنه ، وعن سائر المسلمين أجمعين ، والحمد لله رب العالمين ، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، عدد خلقه ، ورضا نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
قام بنسخها ابن تميم الظاهري
المشرف العام لدار أهل الظاهر
صفحه ۱۰