قال أبو محمد رحمه الله : وكذلك الفضل ، وإنما هو لمن أمرنا الله عز وجل أن نعظمه أكثر من تعظيمنا لغيره ، أو من كان أعلى درجة في الجنة من نظيره ، ولا معنى للفضل أصلا غير هذا ، فمن ادعى أنه يدري أي هؤلاء القوم أعلى درجة في الجنة فهو فاسق كاذب على الله عز وجل .
وقد كان في القرن الثاني والثالث فساق ومتأخرون في الفضل عمن بعدهم بلا شك ، وإنما الفضل فيمها على الأغلب ، لا إلى إنسان بعينه منهم البتة ، ولا جاء أيضا نص عن الله تعالى ، ولا عن رسوله ص بالأمر لنا بتعظيم بعضهم أكثر من تعظيم الآخرين ، بل هم علماء من جملة العلماء غيرهم ، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم ، فسقط سؤالهم بمن أفضل ومن أجل .
وأما الورع : فهو اجتناب الشبهات ، ولقد كان أبو حنيفة وأحمد وداود من هذه المنزلة في الغاية القصوى ، وأما مالك والشافعي فكانا يأخذان من الأمراء ، وورث عنهما واستعملاه وأثريا منه ، وهما في ذلك أصوب ممن ترك الأخذ منهم ، وما يقدح هذا عندنا في ورعهما أصلا ، ولقد كانوا رحمهم الله في غاية الورع .
وأما القطع بانهم أورع عند الله عز وجل فغيب لا يستجيز القطع به إلا فاسق ، وأورعهم في ظاهر أمرهم في الفتيا من كان أشدهم لمخالفة ما جاء في القرآن وما صح عن النبي ص ، وأبعدهم عن القطع برأيه ، وهذا أمر يعلمه كل ذي حس سليم ضرورة من جاهل أو عالم ، إلا من غالط عقله وكابر حسه .
وأما أيهم أعلم : فإن معنى العلم أن يكون عند المرء من رواية ذلك العلم وذكره لما عنده منه ، وثباته في أصول ذلك العلم الذي يختص به أكثر مما عند غيره من أهل ذلك العلم ، والذي كان عند أبي حنيفة من السنن فهو معروف محدود وهو قليل جدا ، وإنما أكثر معوله على قياسه ورأيه واستحسانه ، كما روي عنه أنه قال : علمنا هذا رأي ، فمن أتى بخير منه أخذناه .
وأما الذي عند مالك فهو كله في موطئه ، قد جمعه وشيء يسير قد جمعه الرواة عنه مما ليس في الموطأ ، وذلك جزء صغير ، قد حصل كل ذلك وضبط ، ولا يسع أحدا أن يظن به أنه كان عنده علم فكتمه ، وأحاديث صحاح فجحدها ، نعوذ بالله من ذلك ، فقد قال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ، فبنذوه وراء ظهورهم } آل عمران 187 ، وقال تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ، إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم } البقرة آية 1590160.
قال أبو محمد رحمه الله : ولقد أساء الثناء عليه جدا من أدعى أنه كان عنده من العلم والسنن غير ما رواه الناس وغير ما بلغه إليهم من رواياته ، وكل ذلك لا يبلغ ألف حديث ومئتي حديث من مرسل ومسند .
وأما الشافعي رحمه الله فكان عنده موطأ مالك رحمه الله ، وحديث كثير عن سفيان بن عيينة ، وهذا كان أعلى ما عنده وأوثق ما لديه ، وخلط إلى ذلك ما لو تركه كان أولى به عن الرواة عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى ونحو ذلك .
وأما أحمد بن حنبل فكان مقداره في جمع السنن وضبطها والوقوف على ذكرها المقدار المشهور الذي لا يجهله إلا جاهل لا يعتد به في أهل العلم ، فهو أعلم من كل من ذكرنا ، وأضبط ، وأشد إشرافا على السنن التي هي العلم وبيان القرآن .
وأما داود فكان واسع الرواية جدا ، جامعا للسنن غاية الجمع ، ضابطا لها نهاية الضبط .
وقد ذكرنا أن كل من جمع من السنن الصحاح أكثر مما جمع غيره ، ومن أقوال العلماء أكثر مما عنده سواه ، وضبط ذلك بذكره وفهمه ، فهو أعلم بلا شك ببرهان ضرورة لا يقدر أحد على معارضته لما ذكرنا أن هذا هو معنى العلم لا ما سواه .
وأما الفتيا بالرأي فليس علما ولا فضيلة ، ولا يعجز عنه أحد ، بل هو مذموم من الصحابة رضي الله عنهم ، ومن التابعون بعدهم ، وهم يقرون على أنفسهم بذلك :
فهذا ربيعة يقول للزهري : أنا أخبر الناس برأيي ، فإن شاؤوا أخذوه ، وإن شاؤوا ضربوا به الحائط .
قال أبو محمد رحمه الله : ولعمري إن شيئا يكون سامعه بالخيار في أن يضرب به الحائط ، فحق أن يتعجل ضرب الحائط به ، وأن لا يفتي به في الدين ، ولا يخبر به عن الله عز وجل .
فهذا مالك يقول عند موته : وددت أني ضربت لكل مسألة تكلمت فيها برأيي سوطا على أنه لا صبر لي على السياط ().
قال أبو محمد رحمه الله (): ولعمري إن ما ندم عليه صاحبه هذه الندامة عند الموت ، فإن القاطع به في دماء المسلمين وفروجهم وأموالهم وأبشارهم ودينهم لمخذول .
وهذا ابن القاسم يقول : لا تباع كتب الرأي ؛ لأننا لا ندري أحق هي أم باطل .
قال أبو محمد رحمه الله : ولعمري إن ما لم يقطع على جواز بيع كتبه ولم يدر أحق هي أم باطل لبعيد عن أن تجوز الفتيا به في الإسلام ، أو أن يخبر به عن الله تعالى .
وهذا سحنون يقول : ما ندري ما هذا الرأي ، سفكت به الدماء واستحلت به الفروج .
قال أبو محمد رحمه الله : فإن كان لا يدري ما هو فالذي أخذه عنه أبعد من أن يدريه لو نصحوا أنفسهم .
هذه أحكام ظاهرة الصدق لا ينكرها إلا ذو حمية يأنف أن يهتضم دنياه وتبطل اشرعته ، : { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } الشعراء آية 227 .
وأما الشافعي فإنه لا يجيز الرأي أصلا ، وهذا أحمد وإسحق بن راهويه وسائر المتقدمين والمتأخرين من أصحاب الحديث ، وأما داود فأمره في إبطاله أشهر من أن يتكلف ذكره .
ولا فرق بين رأي مالك وأبي حنيفة ورأي الاوزاعي ورأي سفيان ورأي ابن أبي ليلى ، ورأي ابن شبرمة ، ورأي الحسن بن حي ، ورأي عثمان البتي ، ورأي الليث ، وكل ذلك رأي ، لا فضل لبعضه على بعض ، وكل هؤلاء مجتهد مأجور ، وكل من قلد واحدا منهم مخطئ ملوم غير معذور .
فإذ هذه صفة الرأي بإجماع الأمة كلها ، وإنما هو حكم بالظن ، وتخرص في الدين ، فليس يستحق المكثر منه ومن القول به صفة العلم ؛ لأنه ليس علما ، ولا حفظه من العلم بسبيل ، وإنما هو اشتغال بالباطل عن الحق ، وباب من كسب المال ، ووجة من التسوق والترؤس على الجيران ، وعند الحكام فقط ، وصناعة من صناعات المتأجر ، وقد خاب وخسر من جعل هذا عرضة من دينه ، نعوذ بالله من الخذلان .
وإنما العلم ما ذكرنا من المعرفة بأحكام القرآن ، وما صح عن رسول الله ص ، ومعرفة ثقات الناقلين للسنن ، وما أجمع عليه المسلمون ، وما اختلفوا فيه ، فهذا هو العلم ، وحامله هو العالم لا ما سوى ذلك .
وأعلى الناس منزلة في العلم فالصحابة رضي الله عنهم ، فإن الصاحب ولو لم يكن عنده إلا حديث واحد أخذه عن رسول الله ص فهو عند ذلك الصاحب حق يقين من عند الله تعالى ؛ لأنه أخذه ممن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وممن لا يخطئ في شيء من الديانة أصلا ، فهو عند ذلك الصاحب كالقرآن في صحة وروده من عند الله عز وجل في وجوب الطاعة له ، ثم التابعون ، فإنهم أخذوا السنن التي هي العلم عمن شهد الله له بالعدالة كلهم ، إذ يقول الله تعالى : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا } إلى قوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } الفتح آية 29 ، وقال تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ، وكلا وعد الله الحسنى } الحديد آية 10 ، وقال تعالى : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } الأنبياء آية 101 ن إلى قوله تعالى : { هذا يومكن الذي كنتم توعدون } الأنبياء آية 103 ، وقال تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ، فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا } الفتح آية 18 .
قال أبو محمد رحمه الله : فمن أخذ العلم عمن شهد الله تعالى لهم بالجنة قطعا وبالعدالة ، وبأنه تعالى رضي عنهم ، وعلم الله ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ، فقد صحت لهم العصمة من تعمد الفسوق ، إذ لا يجتمع الفسوق والسكينة في قلب واحد ، فهو أعلى درجة في العلم وأثبت قدما فيه ، وأولى باسمه ، فمن أخذه من بعدهم ممن لا يقطعون له بالعدالة ، ولا بصحة غيبه ، ولا بعدالته عند الله عز وجل ، ولا يتن عن معتقده ممن ليس فيه إلا حسن الظن به فقط ، والله أعلم بباطنه ، وهذه صفة التابعين وكل من دونهم ، فلا يجوز أن يكون أعلم من صاحب بوجه من الوجوه .
وجائز أن يكون أعلم من تابع ؛ لأن التابع لا يقطع بصدقه ، ولا بصحة نقله ، ولا بعدالته عند الله عز وجل ، كما نقطع نحن وهم بعدالة الصاحب عند لله عز وجل وبصدقه ؛ لأن العدل عند الله لا يكون إلا صادقا بلا شك ، لا سيما مع قوله تعالى : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم } إلى قوله عز وجل : { إنك رؤوف رحيم } الحشر آية 8-10 ، فشهد الله لهم بالصدق والفلاح .
قال أبو محمد رحمه الله : فهذه درجة العلم ، وإذ معنى العلم هو ما ذكرنا ضرورة أن يكون أعلم الناس من كان أجمعهم للسنن عن رسول الله ص ، وأضبطهم لها ، وأذكرهم لمعانيها ، وأدراهم بصحتها ، وبما أجمع عليه مما اختلفوا فيه .
وما نعلم هذه الصفة بعد الصحابة رضي الله عنهم أتم منها في محمد بن نصر المروزي ، فلو قال قائل : إنه ليس لرسول الله ص حديث ولا لأصحابه إلا وهو عند محمد بن نصر ما بعد عن الصدق .
صفحه ۹