ويأتي هذا الرجل، ويستعين نيوتن بالموشور وحده، فيثبت للأعين وحدها أن النور كدسا من الأشعة الملونة التي يسفر مجموعها عن اللون الأبيض، ويقسم الشعاع الواحد إلى سبعة أشعة، ويوضع بعضها فوق بعض وفق ترتيبها، وذلك على نسيج أبيض أو ورقة بيضاء وعلى مسافات متفاوتة، ويكون الأول بلون النار، والثاني بلون الليمون، والثالث أصفر، والرابع أخضر، والخامس أزرق، والسادس بلون النيلج، والسابع بلون البنفسج، ثم يغربل كل واحد من هذه الأشعة بمائة موشور آخر، فلا يغير لونه مطلقا، كما أن الذهب لا يتغير في البوتقات بعد أن يصفى، وإذا ما أردت زيادة في الدليل على كون كل واحد من هذه الأشعة الأولية يحمل في ذاته ما نراه لونه، فخذ قطعة من الخشب الأصفر مثلا واعرضها على الشعاع الذي هو بلون النار؛ لتبصر أن هذه الخشبة تصطبغ بلون النار من فورها، واعرضها على الشعاع الأخضر لتبصر أنها تصطبغ بلون الأخضر، وهلم جرا.
وما علة الألوان في الطبيعة إذن؟ لا شيء غير استعداد الأجسام لانعكاس أشعة صنف ما وابتلاع جميع الأخرى، وما هذا الاستعداد الخفي؟ لقد أثبت أنه يقوم حصرا على كثافة الأجزاء الصغيرة التي يتألف الجسم منها، وكيف يحدث هذا الانعكاس؟ كان يرى أن هذا يقع؛ لأن الأشعة تثب، كالكرة على سطح جسم صلب، ولا يرى نيوتن هذا، ويعلم نيوتن الفلاسفة، وقد بهتوا أن الأجسام ليست غير شفافة إلا لأن مسامها واسعة، وأن الضياء ينعكس على أعيننا من باطن هذه المسام نفسها، وأن مسام الجسم كلما كانت صغيرة كان الجسم شفافا، وهكذا فإن الورقة التي تعكس النور عندما تكون جافة تفضي به إذا ما زيتت؛ وذلك لأن الزيت إذ يملأ مسامها يجعل هذه المسام أصغر مما كانت عليه بدرجات.
وهو إذ يفحص هناك مسامية الأجسام المتناهية، وبما أن لكل جزء مسامه، وبما أن لكل جزء من أجزائه مسامه، فإنه يبين أن مما لا يضمن مطلقا وجود قيراط مكعب واحد من مادة صلبة في العالم، فما أبعد ذهننا من إدراك أمر المادة!
وهو إذ يحلل النور على هذا الوجه، وهو إذ يبلغ من حمل لب اكتشافاته إلى حد إثبات الوسيلة التي يعرف بها اللون المؤلف من الألوان الابتدائية، يدل على أن هذه الأشعة الابتدائية المفصول بعضها عن بعض بواسطة الموشور، لم ترتب ضمن نظامها إلا لانكسارها وفق هذا النظام، فأطلق اسم قابلية انحراف الأشعة على هذه الخاصية، المجهولة قبله في الانكسار وفق هذه النسبة، وعلى هذا الانكسار الشعاعي المتفاوت، وعلى هذه القوة في انكسار اللون الأحمر أقل من انكسار اللون البرتقالي، إلخ.
والأشعة الأكثر انكسارا هي الأكثر قابلية للانحراف، ومن ثم دل على أن ذات القوة تسبب انكسار النور وانحرافه.
ولم تكن هذه العجائب الكثيرة غير فاتحة اكتشافاته، وذلك أنه وجد سر رؤية اهتزاز النور وارتجاجه، اللذين يذهبان ويأتيان بما لا حد له، واللذين ينقلان الضياء أو يعكسانه على حسب ما يلاقيان من كثافة الأجزاء، وقد جرؤ على حساب كثافة أجزاء الهواء اللازم بين زجاجين موضوع أحدهما على الآخر، ويكون أحدهما مستويا والآخر محدبا من ناحية، كيما يتم هذا الانتقال أو ذلك الانعكاس، وكيما يحدث هذا اللون أو ذاك.
ويجد من خلال جميع هذه الترتيبات نسبة تأثير النور في الأجسام، ونسبة تأثير الأجسام في النور.
وقد بلغ من حسن رؤيته النور ما عين معه مقدار ما يجب أن يقتصر عليه فن زيادة بصرنا ومساعدته بالمرقب.
وكان ديكارت يأمل عن اعتماد كريم يصفح عنه ناشئ عن حماسة أوجبتها فيه بداءات فن اكتشفه تقريبا، أن يرى بالنظارات أشياء في النجوم بالغة من الصغر كالتي ترى على الأرض.
وقد بين نيوتن أنه عاد لا يمكن إكمال النظارات، وذلك بسبب هذا الانكسار وهذا الانحراف اللذين - مع تقريبهما الأشياء - يبعدان الأشعة الابتدائية كثيرا، فحسب في هذا الزجاج نسبة تباعد الأشعة الحمر والأشعة الزرق، ويتناول نيوتن ببرهانه أشياء لا يخطر ببال الإنسان حتى أمر وجودها، ويفحص التفاوتات التي يحدثها وجه الزجاج، والتفاوت الذي تحدثه قابلية انحراف الأشعة، وهو إذ يجد أن زجاج النظارة الظاهر محدبا من ناحية ومستويا من الأخرى، وذلك مع تحويل الناحية المستوية نحو الشيء، فإن العيب الذي يأتي من صنع الزجاج ووضعه، يكون أقل خمسة آلاف مرة من العيب الذي يأتي من قابلية انحراف الأشعة، وهكذا فإن تعذر إكمال النظارات لا ينشأ عن وجه الزجاج، وإنما يجب أن يوجه اللوم في هذا إلى مادة الضياء نفسها.
صفحه نامشخص