ذكرت أن رواية شيخك "قذف". وهذا من الألفاظ التي ذكر أن المعري غيرها في آخر عمره لما فيها من نبيح التأويل، والقال والقيل؛ لأن الكثب: القرب، وهو الشيء القريب أيضا، والقذف: ضده؛ فإذا قال: والنوى كثب؛ فإن فيه تقريب الأمد، وإن هامة اليوم أو الغد، وإذا قال قذف، ففيه استبعاد ليوم القيامة.
ورأيناك لما وصلت إلى قوله:
(لا يرهب الموت من كان امرا فطنا ... فإن في العيش أرزاء وأحداثا؟)
وجدتنا قد فسرناه بما يطابق غرضه وفحواه فقلنا: يقول: لا يحب العيش ويكره الموت إلا رجل لا يفهم حقائق الأمور. وأما من فهم الحقائق فإنه يرة أن الموت خير له من الحياة، وهو نحو من قول الله ﷿: ﴿قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين﴾ [الجمعة ٦٢: ٦] فأخبر أن أولياء الله يحبون الموت ويتمنونه، فكتبت في الطرة: هذا وهم قبيح، هذه معجزة لرسول الله ﷺ ذكرها اليهود فما منهم أحد تجرأ أن يتمنى الموت، ولو تمنوه أو تمناه أحدهم لمات، وهذا اعتراض طريف، متى أنكرنا أنه معجزة للنبي ﷺ وما الذي أدخل ذكر المعجزة فيما نحن بسبيله؟
وإنما قلنا: إن في ضمن هذا الكلام إخبارا بأن أولياء الله يحبون لقاءه، وهذا ما لا ينكره مسلم، ولو لم تكن هذه صفة من صفات أولياء الله لما قامت بهذا حجة عليهم، ولكنهم لما ادعوا أنهم أولياء الله قيل لهم: فتمنوا الموت كما يتمونه لتصح دعواكم. ولكن من يعتقد أن النفس عرض تنحل بانحلال الأجسام لا يتمنى لقاء الحمام، وإنما يتمنى لقاءه من هو واثق ببقاء نفسه بعد هلاك جسمه، وهو خفيف الظهر من الآثام والأوزار، فإنه حينئذ يقول ما قاله بعض الفضلاء الأبرار:
1 / 71