108

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

ژانرها

ومن آفات العلماء الخوض في المشكلات والترخيص في الشبهات وترك العمل بموجبات العلم، ومن آفات العلماء أيضا كثرة الرغبة في الدنيا وشدة الحرص في طلبها، وقد قيل في المثل : إن حب الدنيا رأس كل خطيئة، والحرص في طلبها مرض للنفوس وسقام لها، وعلماء أحكام الناموس هم أطباء النفوس ومداووها، فمثل العالم الراغب في الدنيا الحريص على طلب شهواتها كمثل الطبيب المداوي غيره وهو مريض لا يرجى صلاحه، فكيف يشفي المريض بعلاجه؟ وقد قيل: إن عالما زاهدا في الدنيا، يكون عالما بدين الله وبصيرا بطريق الآخرة خير من ألف عالم راغب فيها، وقال المسيح - عليه السلام: أيها العلماء والفقهاء قعدتم على طريق الآخرة، فلا أنتم تسيرون إليها فتدخلون الجنة، ولا تتركون أحدا يجوزكم فيصل إليها، وإن الجاهل أعذر من العالم، وليس لواحد منهما عذر.

واعلم يا أخي بأن كل علم وأدب لا يؤدي صاحبه إلى طلب الآخرة ولا يعينه على الوصول إليها، فهو وبال على صاحبه وحجة عليه يوم القيامة؛ وذلك أن الملوك والجبابرة والفراعنة والقرون الماضية كانت لهم عقول رضية، وآداب بارعة، وسياسة وحكمة وصنائع عجيبة، وهكذا من كان يعاشرهم وينادمهم ويقرب إليهم من وزرائهم وكتابهم وعمالهم وقوادهم وعلمائهم وأدبائهم، ولكن هلكوا من أجل أنهم صرفوا تلك القوى والعقول والأفهام وأكثر أفكارهم وتمييزهم ورويتهم في طلب شهوات الدنيا والتمتع بلذاتها ونعيمها بالرغبة الشديدة والحرص والتمني للخلود فيها، وجعلوا أكثر كدهم وسعيهم في صلاح أمور الدنيا حتى عمروها وأهملوا الآخرة وذكر المعاد، ولم يستعدوا له وذكروا الدنيا وغفلوا عن الآخرة ولم يتزودوا من الدنيا، وتركوها لغيرهم، ورحلوا عنها كارهين، فصارت تلك النعم وبالا عليهم؛ إذ لم ينالوا بها الآخرة، فخسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.

وإنما أكثر الله سبحانه في القرآن ذم هؤلاء وسوء الثناء عليهم؛ لكي ما يعتبر بهم المعتبرون ممن يجيء بعدهم ويتعظوا بحالهم، ولا يغتروا بالدنيا كاغترارهم، كما قال الله - جل ذكره: @QUR08 فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، وقال: @QUR06 أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة إلى آخر الآية، وقال - تعالى ذكره: @QUR09 زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة الآية، وقال: @QUR037 واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا، وآيات كثيرة في القرآن في ذم الراغبين في الدنيا، والتحذير منها ومن غرورها وأمانيها.

كل ذلك نصح من الله سبحانه لعباده المؤمنين ولطف بهم ونظر ورحمة؛ لئلا تفوتهم الآخرة كما فاتت أولئك؛ ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من يحيى عن بينة، قال الله تعالى: @QUR014 تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين.

فصل

واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن من الأخلاق المكتسبة ما هي محمودة منسوبة إلى الملائكة، كما سنبينها بعد، ومنها ما هي مذمومة منسوبة إلى الشيطان، وهي كثيرة نحتاج أن نبينها ونشرحها؛ ليظهر الفرق بينهما ويعرفها إخواننا الكرام، فيجتنبوا أخلاق الشياطين ويتركوها ويتخلقوا بأخلاق الملائكة الكرام ويؤثروها، ويجتهدوا في اكتسابها؛ إذ كانت أخلاق النفوس هي أحد الأربعة الأشياء التي لا تفارق النفس بعد مفارقتها الأجساد وعليها أيضا تجازى النفوس إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.

وهذه الأربعة الأشياء التي ذكرنا أن النفس تجازى عليها بعد الفراق، أولها الأخلاق المكتسبة المعتادة، والثاني العلوم التعليمية، والثالث الآراء المعتقدة، والرابع الأعمال المكتسبة بالاختيار والإرادة، فمن أخلاق الشياطين أولها كبر إبليس وحرص آدم وحسد قابيل.

واعلم يا أخي بأن هذه الخصال الثلاث هي أمهات المعاصي وأصول الشرور، ولها أخوات مشاكلات لها، وفروع وأغصان متفننات منها نحتاج أن نذكر طرفا منها ليعلم صحة ما قلنا ويعرف حقيقة ما وصفنا.

فمن أخوات الكبر وأشكاله عجب المرء برأي نفسه، والأنفة عن قبول الحق، وترك الإقرار به، والانقياد لأمر الآمر والناهي الواجب الطاعة، والتعدي والخروج عن الحد الواجب والحق اللازم، والظلم والجور عند القدرة في الحكومات، وترك الإنصاف في المعاملة، والتهاون في الواجبات، والإعراض عن اللوازم من الحقوق، والقحة والصلابة في الوجه في دفع الحق والعيان والضرورات والفحش والسفاهة في الخطاب والجدال واللجاج في الخصومات والخرق والنزق في العشرة، والحدة والطيش في التصرف، والغش والمكر في المعاملة، والاستصغار والاحتقار لأبناء الجنس، والاستطالة عليهم والافتخار في الأمور بما خص من المواهب، والإنكار لفضل من فضل عليه، والبغي والعدوان وما شاكلها من الخصال المذمومة والأخلاق الرديئة والأفعال السيئة والأعمال القبيحة.

ومن أخوات الحرص وأشكاله الطمع الكاذب، وشدة الرغبة، والطلب الحثيث، والعجلة في السعي، وتعب البدن، وعناء النفس، وكد الروح في الجمع والادخار، والاستكثار والاحتكار من خوف الفقر، والبخل والمنع والشح واللؤم والنكد، وما يتبعها من الشؤم والخذلان وقلة الانتفاع بالموجود، والحرمان من المدخور، والمضايقة في المعاملة، والمناقشة في المحاسبة، وسوء الظن بالأمين، والتهمة للثقات والمؤتمنين، والخيانة في الأمانة، وطلب الحرام وهتك الحرم، وارتكاب الفحشاء، وإضمار القلب على الإضرار، وإظهار الكذب لكتمان السر، والحيل في أسباب الطلب من البيع والشراء، والغش في الأمتعة، وقلة النصيحة في الصنائع، والحلف واليمين الكاذبة عند الاعتذار في الحكومات، وأقاويل الزور في أسباب الخصومات، والعداوة والتعدي في الحدود، وما شاكلها من الخصال المذمومة والأخلاق الرديئة والأقاويل الباطلة والأفعال القبيحة والأعمال السيئة.

صفحه نامشخص