107

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

ژانرها

واعلم يا أخي بأن من بلغه الله درجة ورتبة، فوقف عندها ولم يرجع القهقرى بعد بلوغها، ثم قام بحقها ووفى بشرائطها؛ جعل جزاءه وثوابه أن ينقله من تلك الرتبة والدرجة إلى ما فوقها، ويرفعه من تلك إلى ما هو أشرف وأجل منها، ومن جهل قدر النعمة في تلك الرتبة فلم يشكرها، ولا اجتهد في طلب ما فوقها، ولا رغب في الزيادة عليها؛ كان جزاؤه أن يترك مكانه ويوقف حيث انتهى به عمله، ويحرم المزيد، فيفوته ما وراء ذلك وفوقه من الدرجات والمراتب، وكان ذلك الفوت والحرمان هو عقوبته، والمثال في ذلك ما تقدم ذكره في أمر المؤمنين المقرين المخلصين الصادقين والمنافقين المخادعين المرتابين.

وقد ذكر الله تعالى علامات المؤمنين المخلصين الموقنين الصادقين وأعمالهم وأخلاقهم في آيات كثيرة من سور القرآن، وذكر أيضا علامات المنافقين المرتابين المرائين في آيات كثيرة، وخاصة ما في سورة الأنفال وسورة التوبة وسورة الأحزاب، بما فيه كفاية عن إعادته ها هنا، ويروى في الخبر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يأمر الناس أيام إمارته بقراءة هذه السور، ويأمرهم بحفظها ودرسها، وأن يأخذوا أنفسهم بواجب ما ذكر فيها وبراءة ساحتهم مما وصف فيها من صفات المنافقين المرتابين الشاكين المرائين المخادعين.

فينبغي لك يا أخي أن تجعل هذا الذي ذكرنا دليلا وقياسا لك في كل ما تعامل به ربك طول عمرك وأيام حياتك، إن أردت أن يرقيك برحمته في المراتب، ويرفعك في الدرجات حتى يبلغك أقصاها وأشرفها في الدنيا والآخرة جميعا، كما وعد الله تعالى ذلك بقوله: @QUR09 يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات.

(12) فصل في فضل طلب العلم

واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الله - جل ثناؤه - قد فرض على المؤمنين أشياء كثيرة يفعلونها، ونهاهم عن أشياء كثيرة يتركونها - كما قلنا آنفا - ولكن ليس من فريضة من جميع مفروضات الشريعة وأحكام الناموس أوجب ولا أفضل ولا أجل ولا أشرف ولا أنفع لعبد، ولا أقرب له إلى ربه بعد الإقرار به والتصديق لأنبيائه ورسله فيما جاءوا به وخبروا عنه من العلم وطلبه وتعليمه.

وبيان ذكر شرف العلم على ما ذكرناه من فضيلته وجلالته وفضل طلبه وتعلمه، ما روي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: تعلموا العلم؛ فإن في تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمونه صدقة، وبذله لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبيل الجنة والمؤنس في الوحدة والوحشة، والصاحب في الغربة، والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء والمقرب عند الغرباء، والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة يهتدى بهم، وأئمة في الخير تقتفى آثارهم، ويوثق بأعمالهم، وينتهى إلى آرائهم، وترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلاتها تستغفر لهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس حتى الحيتان في البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، والسماء ونجومها.

لأن العلم حياة القلب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ به العبد منازل الأحرار ومجالس الملوك، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة ، والفكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام؛ به يطاع الله، وبه يعبد، وبه يعلم الخير، وبه يتورع، وبه يؤجر، وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام، واعلم أن العلم إمام العمل، والعمل تابعه، ويلهمه الله السعداء، ويحرمه الأشقياء.

فصل

واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن طالب العلم يحتاج إلى سبع خصال، أولها السؤال والصمت، ثم الاستماع، ثم التفكر، ثم العمل به، ثم طلب الصدق من نفسه، ثم كثرة الذكر أنه من نعم الله، ثم ترك الإعجاب بما يحسنه، والعلم يكسب صاحبه عشر خصال محمودة، أولها الشرف وإن كان دنيا، والعز وإن كان مهينا، والغناء وإن كان فقيرا، والقوة وإن كان ضعيفا، والنبل وإن كان حقيرا، والقرب وإن كان بعيدا، والقدر وإن كان ناقصا، والجود وإن كان بخيلا، والحياء وإن كان صلفا، والمهابة وإن كان وضيعا، والسلامة وإن كان سقيما، وقال الله - جل ذكره: @QUR011 هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب، وقال سبحانه: @QUR06 إنما يخشى الله من عباده العلماء، وقال: @QUR07 ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، وآيات كثيرة في القرآن في مدح العلماء وفضائلهم وحسن الثناء عليهم في مثل ذلك.

واعلم يا أخي بأن للعلماء - مع كثرة فضائل العلم - آفات وعيوبا وأخلاقا ردية، تحتاج أن تتجنبها وتتحذرها، فمنها الكبر والعجب والافتخار، وقد روي عن رسول الله أنه قال: من ازداد علما ولم يزدد لله تواضعا، وللجهال رحمة، وللعلماء مودة؛ لم يزدد من الله إلا بعدا. ومنها كثرة الخلاف والمنازعة فيه وطلب الرياسة به والتعصب والعداوة والبغضاء فيما بينهم، وقال لقمان الحكيم لابنه: يا بني جالس العلماء، وزاحمهم بركبتك، فإن الله يحيي القلوب الميتة بنور العلم، كما تحيى الأرض الميتة بوابل المطر، وإياك ومنازعة العلماء؛ فإن الحكمة نزلت من السماء صافية، فلما تعلمها الرجال صرفوها إلى أهواء أنفسهم.

صفحه نامشخص