فأجابه بصمت ناطق واستخفته الفتنة، وشعر مخلوف زينهم أنه يجري بعيدا عنه، وأنه ينطلق نحو تجربته المهلكة بحماس دافق. تنهد الرجل، قام وهو يتبادل مع الشيخ نظرة حنق، ثم مضى وهو يقول للشاب: الله معك!
وهل الصيف بشخصيته الواضحة المتحدية، وتحت شمسه المحرقة سرى العنف في الحناجر واحتدم الخصام لأتفه الأسباب. واتهم عبدون فرج الله الفتى بسرقة قروش افتقدها، فانقض عليه يصارعه، لولا ظهور نعمة الله في اللحظة المناسبة وإنذارها عبدون بالطرد إذا عاود العدوان. وقررت المرأة كف الفتى عن دروسه الدينية اكتفاء بما حصل من قشور، فكثر الفراغ في حياته، كما كثرت الهموم، بات يخاف الله، ويخاف عبدون، ويخاف تحذيرات عم مخلوف زينهم، ويتساءل عن ماضيه الطيب والمهمة التي جاءت به إلى هذه الحارة العصبية، ويتساءل متى يبدأ العشق قصته، وماذا يمكن أن يقال عن المصير المحتوم، وألا يكون خسرانه أكبر إن تجنب التجربة المغرية ليتفادى من المصير المحزن؟! خاض فترة قلق، وتطلع إلى معلمته بنفاد صبر، وجزع لانهماكها في العمل وما يبدو من تجاهلها لحاله. غير أنها كانت قريبة منه أكثر مما يتصور، ومتغلغلة في تلافيف ذاته بقوة امرأة آسرة وأسيرة في آن. إنها رغم قوتها المعترف بها، وقدرتها الإدارية، وسطوتها الأسطورية، فريسة لخيالها المنطلق وعواطفها الجامحة. إنها تعشق حتى الموت، وعشقها داء لا دواء له، وعندما يرشح لها قلبها فتى من الفتيان فتهيم به وتجن، ولكن الخبرة ترسم لها وسيلة ظاهرها القوة واللامبالاة. توكد لديها أنها تعاني حال عشق جنوني لا نزوة طارئة فتأهبت للتجربة. لاذت بخلوتها الصغيرة بمسكنها الوثير المفروشة أركانه بالشلت الدسمة المكسوة بالأغطية الخضراء، يتوسطها وعاء نحاسي مجوف مليء نصفه بالبخور ونصفه الآخر بقصاصات منقوشة بالتعاويذ والأدعية والنداءات الخفية. ذرت قبضة من البخور في مجمرة ثم لهجت بابتهالات تستحضر بها ساحرها القديم الذي غادر الدنيا على عهد شبابها الأول. وشملت الظلمة المكان إلا لآلئ تتألق في الجمرات، وانتشرت رائحة البخور العميقة مفعمة بالابتهال والنداء. وحل بالظلمة وجود جديد، ثمرة للرغبة الحارة المستميتة، كحضور ذي وزن ملأ فراغ الخلوة بثقله غير المرئي، وسرعان ما انقشعت الوحدة وتلاشى الألم. تشجعت وهمست دون أن تجفف عرقها: أهلا بك يا «برجوان»!
فنفذ إلى أعماقها صوته المغلف بالموت: القبو يطيعك، الرجال يخافونك، شبابك حي.
فهمست بإشفاق: حل بي الجنون من جديد. - صاحبك أيضا مجنون. - قد يرجع إلى ذاته قبل أن أبرأ من عشقه! - إذا رجع نسي الماضي ولا حيلة في ذلك.
فقالت بتوسل: سحرك قادر على كل شيء.
فقال بضجر: أولى بك أن تحذري مخلوف زينهم.
فهمست بقلق: أعلم نواياه، ولكني أخاف أن أؤدبه بنفسي فأرعب الفتى.
فتنهد الظلام في استجابة، وتلاشى الحضور في الحال، فعادت إلى وحدتها، ولكن بقلب مترع بالثقة. وأقعد المرض الممرض مخلوف زينهم عن عمله في عيادة الطبيب محسن زيان. وعرف في الحارة أنه أصيب بروماتزم مفصلي شديد، غير أن الشيخ جابر عبد المعين قال لزوجته: إنه من عمل نعمة الله!
فقالت المرأة مذعورة: ليتك لم تش به.
فغضب الشيخ ولطمها على وجهها لطمة شديدة.
صفحه نامشخص