ظل غائبا عن الوعي حتى بعد أن تقيأ كل ما في بطنه، ومع أني لم أغفل عنه لحظة واحدة إلا أنه عاود الكرة بعد ذلك، لا أدري من أين حصل على الأقراص ولا أي شيء ابتلعه حتى رجعت إليه الغيبوبة مرة أخرى، وأخذ يهذي ويبكي بكاء لا ينقطع، سبعة أيام بلياليها أشد علينا من السنين العجاف، ذاهل ومصمم على الموت كما لم أره من قبل، لسانه يهذي بكلام لا أعرفه، ترددت فيه كلمة زهرة أكثر من مرة، أرجوك يا مرصد حلوان، أرجوك يا أستاذ علام أن تساعدني، ساعدني أرجوك وأنقذ زوجي وتلميذك المحبوب، لماذا ربطت يداه وساقاه بالسرير؟ لأنه يمكن أن يرمي نفسه في أي لحظة، يمكن أن يغافلنا في أي لحظة، أنت الدواء للجرح الذي لا أعرفه، أسرع يا أستاذ قبل أن يضيع! هل تعلم مدى حجم المسئوليات التي تنتظره؟ هل تعرف أن ثلاثة اجتماعات في الجامعة والأكاديمية ومع الوزير نفسه يمكن أن يتغيب عنها؟ وأولاده الذين ينتظرون في القاهرة؟ هل يمكن أن يصدقوا؟ وأنا؟ ماذا أفعل وكيف أتصرف؟ أرجوك يا أستاذ ادخل عليه بأقصى سرعة، أنقذه أتوسل إليك، أنقذ زوجي وأب أولادي، ماذا أقول وماذا أفعل يا ربي؟ أرجوك، أرجوك.
2
وقال مدرس العلوم والرياضة العجوز، وهو يمسح بشدة على جبهته ليتذكر: دفعتني دفعا في الحنطور فلم أعرف ماذا أقول ولم أفهم شيئا مما يجري. لم أكن قد أفقت تماما من نوم القيلولة، ولا فرغت من التهام طبق الفطائر والفواكه الذي اعتدت أن أتسلى به مع الشاي، وكوب الشاي ظل دافئا يتصاعد منه البخار، ولم تمسه يدي المرتشعة بحكم السن والتخمة، وانحشرت بجسدي السمين وكرشي المتورم في الحنطور بجوارها، وملت بأذني ورأسي وكياني كله نحو فمها الذي يتفجر منه شلال الكلمات التي لا أسمع ولا أعي معظمها. حالة اكتئاب فظيعة، ورجل طريح الفراش تستنجد بي زوجته، ولا يرد على خاطري إلا كالطيف الشاحب، الذي يعبر في الحلم في صمت وهدوء. ماذا تنتظرين يا سيدتي ولست طبيبا ولا ساحرا ولا صاحب سلطة من أي نوع، والذاكرة - لو تعلمين - مدينة مهجورة تتصادم الأشباح في خرائبها.
آه؟ ما أثقل عبء الشيخوخة بعد أن تعديت الستين وكدت أن أتم السبعين! وما أحوج الشيخ لراحة البال والجلوس على الكنبة الطرية، في انتظار الزائر المحتوم دون طرق مزعج على الأبواب!
التقطت أذني الثقيلة اسمه فلم تستطع الحروف أن تحوله إلى صورة في ذهني، تمهلي يا سيدتي! فالأسماء التي ناديتها في حياتي مع التعليم مئات ومئات، ونفذت في سمعي كلمات العلقة الساخنة على القدمين في حوش المدرسة، فعجزت كذلك عن تحديد شكل التلميذ أو صفته، وكيف أستطيع والأقدام التي كانت تشد إلى الفلقة أكثر من أن تحصى؟ وبدأت الغيوم تنزاح قليلا من سماء ذهني الراكد عندما التقطت كلمة المرصد والمنظار المكبر. تذكرت السطوح في بيتنا القديم، والطموح الذي تخليت عنه وتخلى عني من زمن أقدم، ومع تدفق سيل الكلمات والدموع والنشيج من الشلال المتفجر، لمعت صورة الولد الشقي الذي ضربته بالسوط ثم احتضنته ورعيته، واتضحت الصورة الضئيلة الباهتة وحركت مشاعري، التي بدأت تهتز وتبرز من طبقات الأعماق المظلمة كالمياه الجوفية التي يحركها زلزال مفاجئ، وأحسست بنغزة في قلبي فقلت لنفسي: هي شكة قلب الأب الذي تعاوده ذكرى الابن الضائع، الذي خرج من سنين طويلة من الباب ولم يرجع، فما بالي الآن أسمع أن النجم الصغير كما كنت أسميه قد رجع إلى بلده، بعد أن سطع كوكبه في سماء الشهرة والعلم العالمي؟
أجل! أجل! ها هو ينفض تراب النسيان وأيام العمر الميتة، ويخرج للنور كالخلد النشيط الذي أطل برأسه من الجحر، واستقبل شمس الوطن ودفئه وصدر معلمه وأبيه الروحي! أجل هو محمود نجم الذي بدأت صرخاته يوم العلقة المشهود تنداح في بحيرتي الآسنة. لكم تألمت يا ولدي من اللسعات التي حفرت خيوطها الغائرة الدامية على قدميك الصغيرتين وساقيك وفخذك أيضا، ولكم تعبت حتى عالجت التقرحات وطهرتها من آثار الدم والقيح والصديد كما عالجت عقلك الطائش بالنصائح والمواعظ المكررة.
وعرفتك عن قرب وحاولت أن أكون المرفأ الذي يرسو قاربك على شاطئه لينجو من عنف الأمواج التي تعصف بهيكله، والحق أنها كانت عواصف عاتية، وأن قاربك قد تحداها في طيش لا يتوقع من يافع مثلك، لم يكن فيما أذكر قد تجاوز الثالثة عشرة من عمره على كوكبنا الأرضي الصغير، لماذا فعلت ما فعلته يا ولدي؟ وإذا كنا لا نستطيع أن نفهم حمقك وطيشك، فكيف نبرره للناظر الثائر ومأمور المركز المصمم على العقاب الرادع، ورئيس المجلس البلدي الذي طالب بإدخالك الإصلاحية في عاصمة الإقليم، وعشرات التجار وأصحاب الورش والحرف والدكاكين الصغيرة، بل وشيخ الكتاب الكفيف الذي قرأ له الأولاد الحروف التي نقشتها على كتابه العتيق، فملأ البلد بصياحه عن الكافر الفاجر العربيد؟ حتى أبوك الطيب التقي الذي يسلم المارة عليه ويتبركون بلثم يده وطلب الدعاء منه ضرب كفا بكف، وقال ابني وأنا بريء منه إلى يوم الدين؟ نعم تذكرت الواقعة، ذكرني بها الحرفان الملعونان اللذان لطخت بهما الجدران في كل مكان، ولم ترحم جدارا واحدا في البلدة الآمنة المغمضة العيون على بؤسها وحزنها الثقيل، حتى القبور الهاجعة في المدافن كاد الناس يشكون في أنك بصمت عليها الحرفين الشريرين بفرشاتك الشريرة ومدادها الأسود الشرير.
أجل يا بني الطائش المسكين، كانت الشكوى منك قد صعدت إلى السماء نفسها، وأوشك الصوت أن يتنزل علينا مطالبا بالقصاص الرادع، وكنت أنت - كما اعترفت لي بعد ذلك تحت قبة السماء المرصعة بآلاف النجوم، وأمام المنظار الذي دعوتك لمراقبتها منه - كنت أنت المسئول عن الإزعاج الذي سببته للمدرسة والبلد وربما للأموات أيضا، وإن لم أتأكد من هذا بنفسي لخوفي المزمن من زيارة القبور، كنت أنت الذي غافل الجميع أياما وأسابيع طويلة، وراح يطبع اللا على كل الحوائط والجدران، مبتدئا بالمدرسة التي تصطف فيها كل يوم في طابور الصباح، وتدخل الفصول وتخرج منها كالحمل البريء، كل المدرسين اشتكوا من هذه اللا التي يجدونها في الصباح مرسومة بالطباشير على السبورة، كأنها سيقان عقرب متربص باللدغة القاتلة لليد التي تمحوها، وتحيرنا في مجلس المدرسة وفسرنا الأمر بمختلف التفسيرات، وعللنا الجريمة بآلاف الحجج والتعلات، ونسبناها لشقاوة الأولاد وقسوة بعض الآباء والمدرسين، والتراخي في الحفاظ على النظام والانضباط داخل أسوار المدرسة وخارجها وغير ذلك مما هو مألوف ومعتاد، لكن الأمر تجاوز المألوف والمعتاد عندما جاءت الإشارة من المركز، وفيها اسمك الواضح واسم عائلتك وسنك ورقم فصلك. كان فلاح راجع من السهرة في الغرزة مع صديقه النجار قد لمحاك وأنت تجري من حائط إلى حائط، وفي يدك دلو صغير وفرشاة يتساقط منها الحبر الأسود، واشترك معهما حلاق الصحة الحاج مبروك، رحمة الله عليه، الذي لم أنس اسمه حتى الآن لكثرة ما غرز في جلدي من الإبر، وكثرة ما فتح ونظف من الجروح، وطاهر من أولادي وأولاد الأقارب والجيران. ونادوني على عجل فأسرعت إلى المركز مع العسكري الذي دق على بابي في عز الليل، كنت أنت الذي ذكر اسمي، وطلب أن لا يحضر أحد غيري ولا تبلغ الحادثة لأبيك. وذهبت ورأيتك وتشفعت لك عند البيك المأمور.
علمت بما ارتكبت يداك ووعدت بأن تجد جزاءك من المدرسة، وتوسلت أن لا تكبر المسألة، وكانت العلقة أمام المدرسة كلها ثم كان ما كان بعد ذلك، قربتك مني وحاولت أن أكون لك الأب والراعي والمعلم، ودعوتك للتطلع من المنظار على سطح بيتي، وكنت أيامها العزب الطموح الذي لا يزال يحلم الأحلام السخيفة ويلهث لارتقاء سلم المجد.
آه! لم يكن الواقع قد حاصرني بعد! لم تكن مسئوليات تربية الأخوة الصغار وتزويج الأخوات، قد ألقيت على كتفي بعد الوفاة المفاجئة للأب الفقير المطحون، ولم تكن جذوة الأمل في متابعة الدراسات في العاصمة، والحصول على الماجستير والدكتوراه في الفلك قد انطفأت في صدري، حتى الأمل في القناعة بالعمل في مرصد حلوان اختفى من حياتي تحت وقع الضربات التي انهالت علي، والتبعات التي لم يكن منها مفر، وقنعت من أحلام الطموح القديم بالمنظار الصغير، الذي أطل منه على النجوم كلما صفت السماء في ليالي الصيف، وشراء بعض كتب الفلك التي أتوصل إليها من زميل أو صديق قادم من العاصمة، قبل أن ألقي بالمنظار وسط كراكيب السندرة مع كراتين الكتب والأوراق والأنابيب والدوارق والأدوات والأجهزة، التي ترقد الآن منذ أكثر من ربع قرن في سباتها الطويل.
صفحه نامشخص