قبل أن يحجل بساقه التي يبسها الروماتيزم، ويستقر في داخل الحنطور كالصيد العجوز الذي سقط في حفرة وطوقته الشبكة كنت قد استطعت أن أذكره بتلميذه القديم وأبين له مقدار حاجته إلى مساعدته. انهمرت كلماتي الملهوفة كزخات المطر المتساقط في حفرة غائرة منسية، وكان علي أن أسرج ألف شمعة في ظلام الزمن والذاكرة التي كادت أن تنطفئ، راحت كلماتي وتنهداتي ودموعي تتدافع بغير ترتيب وهي تتصادم كالعصافير المذعورة على أبواب أذنيه ورأسه العجوز الخرب، لم أنتظر منه ردا ولا استفسارا، ولم أبال إن كان قد سمع أو لم يسمع وفهم أو لم يفهم، فقد اتضح لي بما لا يقبل الشك أن سمعه ثقيل كما قال لي شقيق زوجي وكما أكد سائق الحنطور، ولكن لهفتي على سرد وقائع المحنة بكل تفاصيلها كانت أقوى من كل رغبة في الانتظار أو الإشفاق عليه: •••
تلميذك العزيز يا سيدي اشتاق للعودة إلى البلد، بعد أن صعد إلى النجوم ولمع اسمه في سماء الشهرة وكرمته الجهات العلمية في كندا والولايات المتحدة بالأوسمة والنياشين والجوائز صمم أن يلمس تراب البلد، حذرته من الوحل والذباب والناموس فلم يكترث، قلت له: ماذا تنتظر هناك ومن تنتظر؟ قال: هناك تراب أبي وأمي وزهرة - وكذلك أخي الأكبر الذي لم أره من سنين - لم أفطن لاسم زهرة ولم أعلق عليه، ظننته نوعا من الخلط الذي كان يهذي به أحيانا كالطفل أو المراهق الشقي الذي أعرفه وأحبه ولا أتوقف كثيرا عند كل كلمة يقولها، وذكر اسمك أيضا يا سيدي، ألست أنت المرصد، مرصد حلوان؟ ألم ترعه وتشجعه وتفتح أبواب السماء أمام عينه وعقله القلق؟ نعم، أنت الأستاذ علام مدرس العلوم والرياضة الذي احتضنه، وأخذ بيده ربما أكثر من أبيه العجوز المشغول بالعبادة والتجارة، قال لي مرة إنك كنت تسميه الولد «لا»، ولكنني لم أسأله عن سر هذه التسمية، وعندما كان يتذكرك وهو يتنهد معبرا عن حيرته وشوقه إلى لقائك، كنت أكتفي بأن أقول له: لا يا دكتور لا! عندك الآن ما هو أهم، لكنك بقيت دائما في باله، في حبة قلبه وعينه، هل هو الوفاء أم الحنين المرضي أم الارتباط بالجذور كما يقال؟ أهناك داع أن أحكي لك عن إنجازاته العلمية وكشوفه الفلكية؟ سمعت عن هذا؟! قرأت عنه أيضا في الصحف والمجلات؟! كان مشغولا بإحدى مهامه العلمية عندما صرح برغبته الأثيرة التي ظلت تتحرك في صدره كالشوكة في الجرح القديم. غضبت وقلت له: إننا تركنا كندا التي تعلمت فيها وتفوقت ورزقت باثنين من أولادك، ولم نكد نصل إليها وتنال التكريم من الجمعية الفلكية حتى عادت ريمة إلى عادتها القديمة، ماذا بك؟ هل تحولت إلى ندابة لا يحلو لها العديد إلا في العرس؟ أكلما استقر بنا المقام في بلد وقلنا سنمد فيه الجذور تحن إلى جذورك في وحل بلدك؟ المهم رجعنا إلى مصر برغم الإلحاح والعروض والإغراءات السخية التي انهالت عليه، وفي مصر انهالت عليه عروض أخرى من الكلية والجمعية الفلكية والمرصد الجديد، وغرق في العمل وسبح في بحار التكريم، وعندما رجعنا إلى شقتنا في المعادي بعد تسلم الجائزة من الوزير ومعها وسام العلوم الذهبي، تحركت الشوكة كما قلت في الجرح القديم، ورجعنا يا سيدي للوحل والتراب والذباب والناموس وللنكبة التي كانت تنتظرنا. •••
ماذا أقول لك يا عم علام؟ كيف أفهم ما حدث له وكيف أفسره؟ لست طبيبة نفسية حتى أحلله وأعرف مشاكله وعقده المكبوتة، كما يقولون. إنني زوجته وأم أولاده، مجرد ربة أسرة عاجزة أمام رياح الماضي والحاضر والمستقبل.
وأنت الذي عرفته في صباه وكنت أحن عليه من أبيه، ربما تكون أقدر على معرفة الداء ولمس جذوره، آه! لعنة الله على الجذور الدفينة التي لا تترك فروع الشجرة في حالها!
هل تعلم ماذا فعلنا في أول يوم وصلنا فيه إلى البلد؟ أخذنا حنطورا قبل الغروب وذهبنا إلى المدرسة المهجورة، أجل أجل، نفس المدرسة التي علمته فيها ورعيته وضربته أيضا علقة ساخنة على قدميه! هل تذكر الآن؟! لم يقل لي سبب ضربه، اكتفى بالضحكة التي أعرفها من الولد الشقي، وقال: من يومها وهم يسمونني الولد «لا»، ألست كذلك حتى اليوم يا لطيفة؟! وجلجلت ضحكته وهو يطوف بحوش المدرسة الخالية، ويريني المكان الذي شدت فيه قدمه في الفلقة أمام التلاميذ والناظر والمدرسين ، بينما أخذ يعلو صياحه كجرو صغير ينتزعون أسنانه أو هدهد ينتفون ريشه: لا! لا! لا!
أجل يا سيدي المرصد، شيء مضحك بلا أدنى شك، والمضحك أيضا أنك لم تنس ال «لا» أبدا، بدليل أنك سمعتها تماما وضحكت حتى دمعت عيناك الصغيرتان الضيقتان، وتركنا المدرسة بعد أن مررنا على الفصول البائسة التي كان يجلس فيها، والسبورات المتآكلة التي كان يكتب عليها، والسور الحجري المتهدم الذي كان يقفز أحيانا من عليه، وحيينا البواب الصعيدي العجوز الذي لم يتذكره أبدا، وركبنا الحنطور في طريقنا إلى بيت شقيقه الذي ينتظرنا على العشاء هو وأولاده. كانت سحب المساء قد تجمعت في صفحة الأفق، وراحت تلف البلدة في عباءتها السوداء، واخترقت العربة والحصان الهزيل صفوف المارة والفلاحين العائدين من حقولهم بصعوبة. لا أخفي عليك أنني لم أستطع أن أكتم ضيقي وتأففي من المشوار كله، لكن أي ألم لا تكتمه الزوجة المحبة لأجل خاطر زوجها وأب عيالها، خصوصا إذا كان موهوبا ومشهورا مثل زوجي ومشاكسا وشقيا لم ينضج مثله؟ عبرنا الجسر الخشبي الذي يتوسط البلد، وتتراكم على جانبيه أعداد غفيرة من باعة الفاكهة والخضروات، الذين كانوا يلمون قففهم ومقاطفهم ويستعدون للرجوع إلى بيوتهم، وسرحت قليلا فلم أتابع شيئا ولا أحدا ممن حولي، ولم أنتبه للشوارع والحواري التي اجتازتها العربة الحنطور، حتى أفقت على صوت محمود يقول لي: اذهبي أنت الآن. سأرجع بعد قليل، لا لن أتأخر، مغاوري وحصانه يعرفان الطريق خيرا مني ومنك. •••
وقفز من العربة وغاب عن بصري، رأيته وهو ينعطف يمينا ثم يسارا بالقرب من كنيسة عتيقة، بدت في الظلام كنافورة أثرية ضخمة، وتابعت قامته النحيلة المستقيمة العود، وهو يسير مسرعا بجانب السور الأبيض الذي زرعت فوقه قوائم وقضبان حديدية مدببة الأطراف حتى اختفى من دائرة الرؤية، ربما تساءلت ماذا يجعله يسرع هكذا، وكأنه على موعد سابق، ومن يا ترى الذي ينتظره؟ لكنني انصرفت عن التفكير في شيء لن أفوز منه بشيء، وبدأت أعاين الطريق المتجه إلى الطرف الجنوبي للبلدة، وأتسلى بالتفرج على البيوت الجميلة والفيلل المطلية الجدران والأسوار بألوان فاقعة، واستمعت وأنا صامتة إلى تعليقات مغاوري الذي تقمص دور المرشد السياحي، وأخذ يحدثني عن أصحابها الذين رجعوا من السعودية والخليج ومعهم زكائب الذهب وفتحوا التوكيلات والسوبر ماركات، وكانوا قبلها لا يجدون اللقمة والهدمة.
ها نحن نمر بنفس الشارع ونرى نفس الفيلل والعمارات والمحلات المضاءة بأنوار النيون، ولا بد أن أحكي لك باختصار ما حدث. كنا جالسين أمام مسلسل في التلفزيون عندما دخل من الباب، لم يدرك أحد غيري مدى ذهوله وغيابه، عينان تائهتان، شعر مهوش، ملامح منطفئة كملامح عجوز يطارده شبح النهاية، واليأس والكمد الفظيع يطل من نظراته وإشاراته وصمته الذي لم يخرج منه، كنت متعودة على نوبات الاكتئاب التي تفاجئه وتفاجئني من حين إلى حين، ولا تتعجب إذا قلت إنها تفاجئنا في مناسبات الفرح والابتهاج أكثر من أي وقت آخر، ولكن ما وجدته أمامي كان شيئا مختلفا، كان الموت نفسه قد ألقى ظلاله السوداء عليه وأخذه في قبضته، سألته ضاحكة عن نزهته الليلية بين الأطلال، نظر إلي في غضب هائل حتى خيل إلي أنه يضمر لي كراهية قاتلة، لم يفصح عنها وجهه الطيب قبل ذلك أبدا، وعندما اقتربت منه وعاتبته، اعتذر بأنه متعب وليس له نفس للعشاء. أردت أن أغلق الباب لأنفرد به فردني بإشارة عصبية من يده، وقال إنه يحس بمغص شديد ويريد أن ينام، تركته يفعل ما يريد وأكملت المسلسل وسط العائلة الصغيرة، التي لم تبخل علينا بكرم ضيافتها، وعندما استبد بي القلق ونظرت إلى شقيقه حامد ولمحت على وجهه نفس القلق قمت أبحث عنه، لم يكن في غرفة النوم، طرقت باب الحمام فلم يرد إلا الصدى، أقبل حامد وزوجته وأخذا يضربان الباب بقوة حتى خفت أن ينكسر. وسمعنا من الداخل أصواتا مرتبكة ورنين علب صفيحية وصوت انكسار زجاج على الأرض، وفتح الباب أخيرا وأطل علينا الوجه الممتقع وعليه ابتسامة مغتصبة شاحبة. لا شيء، لا شيء. ألم تسمعوا عن أحد مصاب بالمغص؟ فتشت نظرتي المكان الضيق بسرعة، كل شيء في مكانه ، أدوات الحلاقة وزجاجات الشامبو وعلب الدهان والمراهم مضطربة قليلا، لكن لا شيء يثير الريبة، والبشكير الأبيض الكبير ملوي وملقى في البانيو، هل يمكن أن يخطر على باله؟ لا لا، ما هذا يا دكتور، هل يمكن أن يؤثر مغص بسيط على بطل مثلك؟ نحن متنا من الجوع، تعال إكراما لخاطر الناس إن لم يكن لخاطري.
أخذت أثرثر فصرخ في وجهي: أرجوك، أرجوك يا لطيفة!
ولم يكمل صيحته التي رنت في سمعي أغرب من أي صيحة سمعتها منه طوال عشرتنا، شد يده على بطنه ودخل حجرة النوم، واستلقى على السرير دون أن يخلع ملابسه، لن أطيل عليك، كان من الممكن أن يضيع من أيدينا، لولا أن أسرع شقيقه مع ابنه الأكبر بإحضار الطبيب، ماذا أقول عن ارتباكي وذهولي؟ وكيف أصور يأسي وفزعي وخيبة أملي؟ والحيرة التي انقضت علي قبضتها الحديدية كيف أعبر لك عنها؟ لا تنزعجوا، حالة اكتئاب شديد ستزول بإذن الله، مصحوبة بحالة إحساس فظيع بالذنب، هل هذه أول مرة؟ لا لا، إن شاء الله يصبح على خير. المهم لا تتركوه وحده، ثم همس لي: أبعدي عنه علب الأسبرين في الحال، فتشي جيوبه وتخلصي منها، لاحظي عدم وجود حبال أو فوط حمام كبيرة في متناول يده، أرجوك، كل شيء ممكن، لا تبعدوا عيونكم عنه، النوبة يمكن أن تعاوده. أنا تحت تصرفكم في أي وقت، افتحوا عيونكم جيدا، كلها ساعات ويرجع لوعيه. البكاء الشديد وربما الهيجان محتمل، تصبحون على خير، ولم نصبح على خير عشرة أيام.
صفحه نامشخص