أما الحادثة الأولى فلا تثبت من التعصب شيئا؛ لأن من الأمور الطبيعية أن الناس ينتصرون للمظلوم خصوصا إذا كان من بني جنسهم، وقد روت روتر في ذلك الحين أن روسيا في باريس أطلق الرصاص على جنديين فرنسيين، فهم الأهالي بقتله لولا أن رجال البوليس أنقذوه من أيديهم، ولم يقل أحد بأن انتصار الأهالي في باريس للجنديين كان سببه التعصب الديني، فانتصار الوطنيين للقتيل، وانتصار الأروام وغيرهم للقاتل هو من الأمور الطبيعية التي لا تثبت وجود التعصب الديني عند المصريين.
لم يبق بعدئذ إلا قول بعضهم: «اقتلوا النصارى» فلو صحت نية هؤلاء الصائحين بهذه الصيحة وقابلوا مسيحيين من المصريين أو من السوريين لما مسوهم بسوء، ولكن لفظة النصارى في لغة الرعاع مرادف للإفرنج أو نحو ذلك، فإن كان في نفوسهم عصبية لكانت عصبية جنسية لا عصبية دينية.
أما حادثة العقبة، فيحسن بنا أن نلفت نظر القارئ إلى سبب الحركة الفكرية التي جرت في مصر إبان حادث العقبة، كان من جرائها أن أساء الإنجليز الظن بالمصريين وافتكروا أن هؤلاء يتبرمون بهم ويودون لو استبدلوا الاحتلال التركي بالاحتلال الإنجليزي، وأن مثار هذا التبرم هو التعصب الديني من المصريين للترك، وقد جر هذا الفهم إلى نتائج مشئومة، ولكنا نظن أن الإنجليز متى عرفوا السبب الحقيقي لهذه الحركة وأنصفوا، يقلعون عن تهمة المصريين بالتعصب، تلك التهمة التي تسوءنا أكثر مما ساءتهم.
نلتمس علل الأشياء بقياسها على أشباهها ونظائرها، فإذا أردنا أن نلتمس علة هذه الحركة الفكرية الحقيقية التي وجدت بمناسبة حادث العقبة حسن بنا أن نرجع بها إلى نظائرها من الحوادث، ولا نجد حادثة أشبه بها من جميع الوجوه أكثر من حادثة فاشودة؛ فإن الإنجليز كانوا يدفعون الترك عن العقبة باسم الحكومة المصرية لمصلحتها، ومصلحة الحكومة الإنجليزية، كما كانوا يدفعون الضابط مارشان عن فاشودة باسم الحكومتين المصرية والإنجليزية ولمصلحتهما أيضا، وكان النزاع بين الإنجليز وبين الترك على الحدود الشرقية كما كان بينهم وبين الفرنسيين على الحدود الجنوبية المصرية، فماذا كان ميل المصريين وقتئذ بالنسبة لحادثة فاشودة؟
كان في مصر حركة أفكار تتجه في مجموعها إلى اجتذاب الناس إلى فرنسا أو إلى مارشان وجماعته؛ فكيف جاء هذا الشعور؟ وما مصدره؟
هل كان مصدره في النفوس أيضا تعصبا دينيا لفرنسا، أوجب استبدال الاحتلال الفرنسي بالاحتلال الإنجليزي؟!
لا هذا ولا ذاك، ولكن من الطبائع العمرانية أن الأمة متى أبعدت عن إدارة حكومتها وجهلت مقاصد حكامها، أو ظهر لها منهم عين لاستئثار بالمنفعة دونها، وحملها على ما تهوى وما لا تهوى من غير أن تستشار، كل ذلك يدعو بها إلى أن تتبرم بحكومتها إذا كانت حكومة وطنية، فإذا كانت أجنبية يكون التبرم والمقاطعة من باب أولى.
ومثال ذلك الحركة الفكرية للأمة في أوائل الثورة العسكرية سنة 1882، فإن الأمة كانت قلقة تحب الخروج من ذلك الاحتلال الفعلي الشركسي وإن كان قلقها هذا لم يتعد حد القلق؛ لأنه لم تكن لها في الثورة العسكرية فكرة ثابتة ولا مشاركة حقيقية، فهل كان هذا القلق والضجر من حال الحكومة، ومن قانون العسكرية، مترتبا على تعصب ديني من المسلمين ضد المسلمين؟ لا شيء من ذلك أيضا؛ فلو استقرأنا كل العلل الممكنة التي ولدت حركة الأفكار في سنة 1881 وسنة 1898 بمناسبة حادثة فاشودة، وسنة 1906 بمناسبة حادثة العقبة استقراء صحيحا خاليا عن الغرض، لوجدنا أن العلة في كل ذلك واحدة، وهي قلق من عدم إشراك الحكومة إياها في شيء من الحكم.
ولكن ذوي الأغراض - عن جهل أو سوء قصد - جاءوا يصورون تلك الحركة الفكرية لعميد الاحتلال في صورة التعصب الديني، وهو قد صورها في الصيف الماضي لأوربا بصورة مزعجة؛ كل ذلك، والأمة هادئة بعيدة عن التعصب وآثاره.
الفصل السادس
صفحه نامشخص