وقد يؤثر عنه أنه كان يشير إلى أن المسلمين لا تصلح حالهم إلا إذا تمسكوا بدينهم الصحيح، وقد ذكر في تقرير سنة 1905، وفي تقرير سنة 1906، ما يفيد امتداح الذين يقومون بخدمة الدين وتخليصه من الدخائل التي متى خلص منها كان موافقا لحاجات الناس في التمدن الحديث، وخص منهم بالذكر فقيد الإسلام المرحوم الشيخ محمد عبده، والسيد أحمد منشئ كلية عليكرة، ولهذه المناسبة نورد للقارئ نص الخطاب الذي ألقاه اللورد كرزون في كلية عليكرة في شهر مايو سنة 1901 مشيرا فيه إلى فوائد الدين الإسلامي، والاعتراف بما للمسلمين من الفضل والمدنية:
نعم يمكن للمسلمين أن يسابقوا غيرهم إذا هم تعلموا كيف يسابقون، وهو ما عرفوه مرة قبل هذا الوقت في أيام كان فيها للمسلمين السطوة والسلطان، وكان قضاتهم يحكمون بالعدل بين الناس، وفلاسفتهم وأئمتهم يؤلفون الكتب النفيسة.
وإن عدول اللورد كرومر عن خطته من عدم التعرض للطعن على الدين الإسلامي بأي صورة، ومخالفة لبعض ساسة الإنجليز مثل اللورد كرزون في الآراء المتعلقة بأن الشريعة الإسلامية أسمح من أن تعيق عن حاجات التمدن الحاضر، كل ذلك جعل الناس يكادون يجمعون على أن اللورد أراد أن يصور المصريين - للإنجليز خصوما، ولأوربا عموما - بصورة أمة غير قابلة للرقي؛ لتسهل بذلك الموافقة على محو الجنسية المصرية الصميمة التي يحاول محوها منذ عامين؛ لذلك قصد تجسيم الجامعة الإسلامية، وعزا لها ما عزا.
التعصب الديني
بعد أن رأى القارئ أن الجامعة الإسلامية لا أثر لها في مصر ولا نظن لها وجودا في غير مصر، وأنها على هذه الصفة من العدم ليس من شأنها أن تزيد الجفاء بين الشرق والغرب، ولا أن تصلح ذريعة لرجال السياسة الأوربية يتخذونها سترا يستر أعمالهم في الشرق، قد يكون من المفيد جدا في هذا المقام أن نتعرض إلى مناقشة تلك التهمة الثانية التي يربطها بالجامعة الإسلامية رابطة النسب أو رابطة العلة والمعلول، وهي تهمة التعصب الديني.
والدين الإسلامي يأمر بالتعاون والتعاضد والائتلاف بين أفراد الأمة، كما يأمر بالعدل والإحسان، ويوصي خيرا بالمتحالفين له من أهل الأديان الأخرى على الصور المستفيضة في الفقه، وليس من مبادئه مطلقا التعصب الشائن الذي يعبر عنه الإفرنج «بالفاناتيزم».
أهل الدين الواحد يوجد بينهم بحكم وحدة الاعتقاد حب ومعاونة، تختلف وجوه استعمالها باختلاف الصور العديدة التي تصورها لهم أفهامهم في الدين، وإن هذه الجاذبية الدينية تماثل الجاذبية التي تولدها وحدة العنصر أو وحدة اللغة، ونظن أن الأوربيين لم يقصدوا يوما «بالفاناتيزم» هذه الجاذبية بوجه ما، ولكنهم يقصدون بالتعصب الديني معنى عدائيا هو التحرش بغير المسلمين وحضارتهم، والتربص بهم فلا يبقون عليهم، وهذا المعنى لا أصل له في الدين، كما لا أصل له في نفوس المسلمين الذين كل جنايتهم أمام أوربا أنهم أخذوا يفكرون في أن ترقى عقولهم بالتعليم ونفوسهم بالحرية، وأن يدفعوا بجميع الطرق السلمية كل مبدأ أو قوة تعمل على الحيلولة بينهم وبين ما يشتهون من الرقي العقلي؛ ليسابقوا غيرهم في الحياة المدنية، وأنهم يتعلمون الآن من الأوربيين، فكيف يمكن أن يضمروا لهم ما يتجنى له هؤلاء عليهم؛ ليبعدوهم عن كل مدنية، وليسهلوا لأنفسهم دوام الاستفادة منهم دون أن يفيدوهم، أظن أن وجه المسألة على هذه الصورة مقلوب الوضع، وأن المسلمين هم أولى بأن يتهموا الأوربيين بالتعصب، ولكنهم لا يريدون، ولا يستطيعون.
التعصب الديني شعور لا يمكن للمنصف أن يحكم بوجوده إلا بآثاره، ومن المشاهد أن الأقباط في مصر يعيشون مع المسلمين مختلطين في المصالح والمساكن متكاتفين في المزارع والأعمال، متجاورين على مقاعد المدارس، متشاركين في الوظائف والمرافق، ولم يسمع من زمان بعيد أن المسلمين الذين قد أمرهم الدين بحسن المعاملة هاج هائجهم على إخوانهم، أو أظهروا يوما بما يقتضيه وجود التعصب الديني في النفوس من الحقد الذي يقدح زنده الاشتراك في المصالح، ومن المشاهد أيضا أن الرومي يجيء به طلب الرزق إلى مصر منفردا، يدخل إحدى قراها البعيدة عن مراكز الحكومة فيتزلف إلى كبار أهلها فيفسحون له في مساكنها ملجأ يأوي إليه، فلا يزال بتجارته الرابحة من بيع الزيتون والجبن بأضعاف القيمة بثمن آجل حتى يصبح ذا مال يقرضه إلى الفلاحين بالربا الفاحش، ولا يلبث على هذه الحال قليلا من الزمان إلا هو دائن لأغلب أهل البلد ينزع ملكية أرضهم ويستخدمهم فيها عمالا بسطاء، وكل هذا لم يحرك في نفوسهم ذلك التعصب الديني الموهوم، أليس ذلك إلا لأن هذا التعصب عديم الأثر في نفوس مسلمي مصر؟
أقام اللورد كرومر على هذه التهمة الشنعاء التي اتهم بها المصريين دليلين؛ أحدهما مسطور في تقريره عن سنة 1905 بمناسبة حادثة الهماميل في الإسكندرية، وكان فيها أن مصريا ويونانيا تشاجرا على مشتري قطعة من الجبن، فطعن اليوناني المصري طعنة بسكين فقضى عليه، وأعقب ذلك أن يونانيا أراد قتل يوناني آخر بغدارة فأخطأه وأصاب وطنيا، فمات، فاجتمع رعاع الفريقين، وقال بعض فريق المسلمين «اقتلوا النصارى».
والثاني حادثة العقبة التي جعلت بعض الجرائد أو بعض الناس يظهرون ميلهم إلى تركيا بمناسبة الخلاف بينها وبين الحكومة المصرية على تحديد التخوم المصرية في تلك الناحية.
صفحه نامشخص