ورآنى أخى كالكلب الذى لا يترك قومه ولا ينفك يجرى معهم ويطوف بهم ويدخل من بين سيقانهم ويربكهم وهو يريد أن يعرب بخفة حركته بينهم عن مشاركته لهم فيما هم فيه، فزجرنى وطردنى وأمرنى أن أصعد.
ولكنى لم أطع - نعم نأيت عن البدروم، ولكنى بقيت فى فناء البيت وكيف أصعد إلى فوق. وكل من فى البيت قد ترك هذا الفوق إلى تحت؟ وكيف أكون وحدى فى مأمن من المخاوف التى كظوا لى رأسي بصورها فيما كانوا يقصون على كلما أرادوا تنويمى.. كأنما كان خير ما ينيم الطفل هو هذه المفزعات.
وجاء أبى: فقد دعى من البيت الصغير ورآنى فى الساحة وحدى، فأقبل على يسألنى بصوته الهادئ المتزن النبرات «أنت هنا»؟ فبكيت.. كأنما فتح لى هذا السؤال منفسا فتفجر ما كان محتبسا فربت على كتفى، ومضى عنى إلى البدروم، فألقي أهل البيت جميعا جالسين على درجات السلم.
وكان لابد أن تأتى الشرطة، وأن يجرى التحقيق، وكانت النار قد أطفئت، فذهب بى أبى إلى المكتب ولحق أخى بنا، بعد أن غير ثيابه وهناك قصصت عليهما ما رأيت، وكان الشرطى أخوف ما نخاف نحن الصغار، بعد العفاريت والأمساخ، وغير هذه، وتلك من المرعبات. وكان الذى نعرفه هو أن العسكر عدو لدود لخلق الله، وأنه مجعول للقبض عليهم والزج بهم فى المحابس، وأن «الكركون» - كما كنا نسمى مركز الشرطة - ليس أكثر ولا أقل من سجن فظيع، وأن العاقل من يتقى أن يمر من أمامه، فشرع أبى يذهب عنى الروع ويطمئنى، ويروضنى على السكون إلى لقاء هؤلاء الشرطة وغيرهم، ويفهمنى أنه ليس على أكثر من أن أروى لهم ما رأيت، ويؤكد لى أنى سأكون موضع عطفهم، وأنى سألقى منهم كل خير، وأنه لن يصيبنى منهم سوء، فنسيت وذهلت عن النار التى اشتوت بها جليلة، وعن فجيعتى فيها، ولم أعد أفكر إلا فى هؤلاء الشرطة المخوفين الذين سأقف أمامهم وأسأل وأجيب.
مضت على هذه الحادثة أربعون عاما، ولكنى لا أرى أثرها يمحى أو يبهت، وليس أبغض إلى ولا أقدر على إفزاعى وإطارة عقلى من النار، ويمضى شتاء بعد شتاء، وتحتاج إلى أضرام النار فى الموقد للتدفئة فيسألنى أهل البيت فأصيح بهم «يا خبر أسود! لا لا لا.. حاذروا» وترتفع قبل عيني جليلة «فى سرادق من اللهب الخفاق ...».
ويلحون على ويقولون إن البرد قارس، فأروح أتفلسف وأقول لهم إنهم بله، وإنهم يضعفون أجسامهم بتعويلهم فى المقاومة على الثياب والنار، وأن قدرة أجسامهم على المقاومة تزيد إذا خففوا ولم يسرفوا فى التوقى، ولم يجعلوا معولهم فى التماس الدفء على شىء أجنبى منهم، وأقول لهم أيضا إنى أضعف منهم جميعا، وأنحف وأحوج إلى وسائل الوقاية، ولكنى أحتمل ما لا يحتملون. فلماذا؟ لا سر هناك كل ما فى الأمر أنى لا أكثر من الثياب، ولا أتخذ المعاطف إذا وسعنى أن أستغنى عنها، ولا أستعين بالنار. وأذكر لهم أنى كنت فى صدر أيامى ألف رأسى عند النوم فى فوطة كبيرة وألبس ثيابا من الصوف حتى فى وقدة الصيف المحرقة، فكنت لهذا طول عمرى مزكوما، وكان السعال لا يترك لى راحة فى ليل أو نهار، ثم ضاق صدرى، وحزنت على نفسى وقلت، إذا كان هذا حالى فى شبابى، فماذا عسى أن أكون فى الكهولة والشيخوخة؟ وكان هذا يسود الدنيا فى عينى ويغرينى بالتشاؤم.
وكانت المرارة تقطر من قلبى على الورق، فى شعرى ونثرى، ويئست فتمردت وقلت إنه لن يصيبنى شر مما أعانى، فخففت، وصرت إذا نمت أخلع ثيابى جميعا ولا أبقى منها إلا الكفاية للستر، أى الجلابية ليس إلا، وكان الأوان يسمح بذلك، فقد كان الوقت صيفا، فلما جاءت مقدمة الشتاء، وسعنى أن استغنى عن الملابس الثقيلة التى اعتدت أن أتخذها، ودخلنا فى الشتاء فلم أشعر بحاجة إلى المعطف، ولكن بقية من الحذر القديم جعلتنى أحرص على حمله، ولكن على ذراعى، عسى أن أحتاج إليه فى الليل. وكنت إذا شعرت بهذه الحاجة، أظل أدافعها وأقاومها، وأرجئ الالتجاء إلى المعطف والدخول فيه، وأقول لنفسى «نصف ساعة آخر. لن يقتلنى نصف ساعة من البرد» ثم أرجئ الأمر مرة أخرى وهكذا، حتى أصبحت أحس أن المعطف حمل لا معنى له مادمت لا ألبسه، فصرت أتركه فى البيت، وأن لى الآن لمعطفا، ولكنه قديم.. قديم حتى لقد نسيت من طول عمره متى فصلته، وهو للزينة أكثر مما هو للمنفعة، بل ليس حتى للزينة، فقد أكلت منه الفيران نحو شبر فى شبر وخجلت أن أبعث به إلى الرفاء، ولم أر أن أكلف نفسى ثمن معطف جديد لا ضرورة إليه فتركته، وأمرى إلى الله، وأمره إلى الفيران.
أما الشرطة فقد زايلنى الخوف الصبيانى منهم. فما يسع من يشب عن الطوق إلا أن يدرك أن الشرطة لا يملكون ضرا ولا نفعا، وأن الأمر فيهم إلى القانون وأنهم ليسوا أداة إرهاب - أو لا ينبغى أن يكونوها - بل أداة حماية للناس. ولكنى مع ذلك أكره أن أدخل مركزا من مراكز الشرطة وأنفر من الحاجة إليهم وأحب أن أستغنى عن الالتجاء إليهم ولقد سرقت خادمة كانت عندى أشياء - أو هذا هو المرجح والذى تشير إليه القرائن جميعا - فقلت غفر الله لها ولا أحوجنا إلى الشرطة، وهنيئا لها ما أخذت ولا عذبها الله به، فما هى بعد كل ما يقال فيها إلا مسكينة، وهل ينفعها ما حملت إلا قليلا؟ وسينتهى بها الأمر إذا اعتادت ذلك، إلى الشقاء المحقق. فهى أحق بالعطف. وأولى بالرحمة ولو أنها لم تهرب بما حملت، لحاولت أن أعالجها وأن أفىء بها على الخير، ولكن الأمر خرج من يدى بفرارها، فالله هو القادر علي إنقاذها من ذلك المآل المخيف الذى أتوقعه لها.
ولى بين رجال الشرطة معارف وإخوان أحبهم وأكبرهم، ولكنى لا أحب أن أحتاج إليهم، ولست أكره مجالسهم، ولكنى أحس غضاضة حين أكون مع واحد من رجال «السلطة» وأحب أن يكون غيرى مثلى - لا سلطان لهم على خلق الله - ولعل هذا بقية من أثر النشأة الأولى. على أنى لست على يقين من هذا فقد تكون لهذا الشعور علل أخرى خفية راجعة إلى آرائى ومزاجى.
الفصل السابع
صفحه نامشخص