ولا تزال حليمة إلى اليوم - وقد جاوزت الستين - أقوى وأقدر على العمل من عشر فتيات فليس أعجب من «عم محمد» إلا امرأته التى لاتكل ولا تفارقها ابتسامتها - كأنها مرسومة - ابتسامة العطف والرضى والتسامح، وما أكثر ما افتقرت إلى عطفها، ورضاها وتسامحها، وكان حسبى منها فى كل حال أن تنظر إلى بعينيها النجلاوين، وأن أرى ثغرها المفتر فتسكن نفسى ويشيع فى صدرى الاطمئنان، ويعمر اليقين قلبى، ولا يسعنى إلا أن أجيبها بابتسامة، فتهز رأسها على مهل وتربت لى على كتفى وتمضى.
صدق عم محمد فان حليمة آية ....
الفصل السادس
الحادثة الثالثة أن «جليلة» بنت حليمة وعم محمد - أكلتها النار وأنا أنظر إليها مسحورا. وبعد سنوات وسنوات طويلات المدد، قرأت أن نيرون أضرم النار فى رومية - عروس الدنيا يومئذ ووقف على تلها فى حاشيته المستهترة، وفى يده قيثارته يعزف عليها، وعيناه على الضرم المتأجح والدخان المتكاثف، فاستطعت أن أفهم، ولم يعينى أن أدرك سحر النار وفتنة هولها، وكان الذى تمثل لخاطرى وأنا أقرأ ذلك.. لا رومية وبناها العالية وقصورها الضخمة بل «جليلة» وقد ضربت النار عليها سرادقا.
ولم تطلق المسكينة إلا صيحة جزع واحدة، ثم وقفت كالتمثال، وذهبت النار تأكل ماعليها من خفيف الثياب وتحيل جسمها الأسمر الطرى جمرة مضطرمة.
وكنت واقفا على سلم البدروم - مسمرا هناك - وعينى عليها لا تتحول عنها، وفى مسمعى من اللهب الخفاق اللمعان مثل الدمامة والتدويم، وفى أنفى رائحة اللحم المشوى وعلى وجهى صهد الحر.
وكان الوقت شتاء، والبدروم يكون فى الصيف رطبا فكيف به في زمهرير الشتاء.. وكانت جليلة قد سبقت أمها إلى هذه الغرف التى تشبه القبور، فشرعت تضرم الفحم - أو السن كما يسمى تراب الفحم - فى الموقد لتدفأ به، ولم تكن عندها منفاخ تعجل به إيقاد النار وكانت ترتعد وتنتفض من البرد، وكان مصباح الغاز مضاء، فتناولته وانحنت به على الموقد ورفعت غطاءه النحاسى الذى يتدلى منه الشريط فى الغاز ولم تر أن تنزع الزجاجة وتطفئ الشريط قبل أن تصب الغاز على الفحم، فسال منه شىء على ثوبها وهى لا تدرى، أعادت الغطاء إلى مكانه من المصباح، ووضعته إلى جانبها على الحصيرة وأشعلت عودا وأدنته من البترول فى الموقد فارتفع منه اللهب فجأة، وكانت حانية عليه، فردت وجهها بسرعة، ونسيت أن تتناول المصباح وهى تنهض قائمة، فانقلب المصباح واشتعل طرف الثوب الذي كان مسفسفا بالبترول.
وليس هذا خيالا أتخيله فقد رأيته كله بعيني، وكنت قد غافلت أمى وحليمة، وانحدرت وراء جليلة، وفى مأمولي أن أجالسها وألاعبها وأسامرها قليلا، فقد كنت مشوفا بها، وكانت هى تأنس بى وتهش لى، ولا تضن على بما تعلم - مما سمعت أو رأت أو خطر لها. وكنت على عتبة الباب، وكنت أهم بأن أضع قدمى على درجة السلم نازلا إليها ، فرأيتها تمشى إلى «الصفة» وتعود بالمصباح فى يدها، وألهمت أن أقف حيث كنت - على العتبة - فلم يفتنى شىء من الفاجعة.
وألقيتها تهوى إلى الارض، والنار حولها، فأفقت وارتددت راجعا إلى ساحة البيت: ورحت أصيح، وأزعق وأدعو كل من يسمع أن يدرك جليلة فإنها تحترق. وسرى الخبر سريان النار فى الهشيم اليابس، وكان أخي الأكبر فى البيت، فنزل مع النازلين، ورأوا أن جليلة قد أكلتها النار، فصار هم الجميع أن يطفئوا الحريق، فقد امتد لسان النار إلى الحصير والسرير وسائر ما فى الغرفة.
وكنت بينهم، أروح وأجىء إلى حيث أراهم يروحون، ومن حيث يجيئون، ولا أعمل شيئا، وكانوا مضطربين وكان لغطهم كثيرا وعاليا، وكان النساء يبكين ويولولن وفى أيديهن الطشوط والأباريق، وأخى يتناولها منهن مترعة ويصب على النار، ولا يفتأ يسأل عن «محمد» - «ابن الكلب» أين غطس فى هذه الليلة السوداء، ويتوعده بعلقة، ويقول ليته كان هو الذى احترق، وبقيت جليلة، فتقول حليمة - عفى الله عنها «آه والنبى». وترسل الصوت مجلجلا فى سكون الليل بالنواح على بنتها، ولا تكف عن ذلك، وعلى الرغم من الحرقات، التى تعانيها لاتتوانى عن ملء الطشوت وحملها إلى أخى.
صفحه نامشخص