كانت الصلاة جماعة في المسجد الكبير بقرية العواسجة، ولم يكن وراء الشيخ إلا قلة من الفلاحين، وقفوا وماء الوضوء يقطر من وجوههم، وكان يتقدم هؤلاء الفلاحين نفر من الطلبة ارتدوا الجلاليب الإفرنجية، وغطوا رءوسهم بالمناديل، وألقوا بعيونهم إلى الأرض في تخشع، كان ضوء المصباح المرتعش ينسكب على وجه جامد النأمات، مسبل العينين، تقوم من تحته بنية قوية التركيب، ثبتة القوام، وقد ارتدى صاحبه جلبابا أبيض موشعا بالخطوط الحمراء، وأحكم على رأسه منديلا كان ناسجه يريد له اللون الأبيض لونا، ولكن عدا على إرادته أيد كثيرة العبث، قليلة العناية، نزرة النظافة، ذلك هو السيد أفندي عبد البديع، النجل الأكبر لعبد البديع أفندي الدكر وزوجه محبوبة. حصل في عامه هذا على شهادة التوجيهية، وعاد إلى القرية ليهنأ بين أمه وأبيه وآله بلذة النجاح.
انتهت الصلاة، وخرج بعض المصلين من الجامع، وبقي فيه السيد والتلاميذ الآخرون، وقلة ضئيلة من الفلاحين لم يتركوا الجامع، بل إن منهم من استقر على الجلسة التي كان يقرأ بها التحيات ، ومنهن من أخرج قدمه من تحت جسمه وأدارها، فأصبحت مثنية أمامه، ثم ألقى ذقنه إلى يده، ومد بصره في تشوف إلى السيد، واتخذ السيد جلسة مستقرة بعد أن أدار ظهره إلى القبلة، وراح يبسمل ويحوقل، متهيئا لإلقاء درسه الديني، وقد خلا له الجو، وانفرد في الجامع بالفلاحين ومن يصغرونه من الطلبة، منتهزا فرصة جهلهم جميعا، وفرصة علمه الضئيل المليء بالخزعبلات والأحاجي، وراح الفلاحون - قبل أن يبدأ - يمصون شفاههم، كأنهم يختبرون الصوت الذي يصدر عنها، أشبه ما يكونون بأفراد تخت موسيقي يجربون آلاتهم قبل البدء في عزف الدور الذي سيعزفون.
وبين أصوات الشفاه يمصها الفلاحون، وأسئلة صغار الطلبة يطلقونها لإثبات وجودهم، بدأ الدرس وانتهى.
وخرج سيد منتفخ الأوداج، مزهوا أن ألقى الدرس على هؤلاء القوم المساكين، وزاده كبرا وزهوا اثنان من مريديه لحقا به، وراحا يسألانه في إكبار وإجلال: منذ متى يا سيد وأنت منضم إلى الشعبة الرئيسية في المديرية؟ - من زمان. - ولم تخبرنا يا أخي ونحن معك كل يوم؟ - لا بد أن أثق بكما أولا لأخبركما. - وهل لك فئة خاصة تتفرع من هذه الشعبة؟ - نعم. - وما اسمها؟ أهي الأسرة التي يقولون عنها؟ - هذا سر. - ومن رئيسها؟ - لا أستطيع أن أقول، هذا أيضا سر لا أستطيع البوح به. - لا بد أنك أنت الرئيس.
وعلى خيوط القمر الزرقاء رأى الصاحبان شبح ابتسامة تلوح مخايلها على شفاه السيد، فصاح أحدهما قائلا: نعم إنه هو يا حسين.
وقال السيد نافيا في لهجة تزيد ظن الصاحبين إثباتا: لا يا شيخ، لا يا محمد، هذه أسرار يا رجل، أستغفر الله العظيم.
وسأل حسين: ولكنك يا سيد لا لحية لك.
وقال السيد مغيظا: أنا بلا لحية؟ ألا ترى لحيتي؟
وقال حسين في بلاهة: لا.
وقال السيد في حدة: هات يدك، هات.
صفحه نامشخص