وانتبهت الخادمات إلى صراخ سيدتهن، فتسارعن إلى السلم يدعون عم دهب.
وجلست الأم إلى جانب ولدها، ولدي، إياك أن تتركني، إنك كل شيء لي، إنك أنت ... أنت وحدك الذي أحيا له وبه، ولدي، إياك أن تتركني، إنني الوحيدة بين الأمهات التي منحت وليدها ما منحت، لقد تلقى الأخريات أولادهن وحب آبائهم يكلأ الجميع، أما أنا فعانيت من أجلك يوم حملتك، وعانيت من أجلك سنوات طوالا عشتها إلى جانب أبيك من أجلك، لم أترك أباك في كل هذه السنين من أجلك أنت، حياتي الماضية أنت والمستقبل وما بعد الممات، فإلي أين تاركي؟ أحمد، لولاك لكنت تركت أباك من زمن بعيد، أحمد، أنت لا تدري ما أنت لي! الأمهات حياتهن موزعة بين أزواجهن وأولادهن، أما أنا ... أنا وحدي بين كل الأمهات التي تتمثل حياتها في ولديها برغم أبيهما، أنت جهادي لنفسي السنوات الطوال، أنت الشيء الذي قلبت من أجله أبهى سنوات حياتي إلى أنكدها، إن أحب الأمهات أبناءهن لأنهم أبناؤهن، فأنا أحبك أنت وأختك، لأنكما أبنائي، ولأنني قاسيت من أجلكما المرارة والبؤس والشقاء والألم، قاسيت أن أحيا مع زوج أكرهه وأبذل له نفسي، أحتقره ولا أتركه، أمقته وأظل إلى جانبه زوجه، أحمد ... لي فيك ولي عليك حق الأمومة، ولي فيك ولي عليك حق الشقاء الذي ألقاه، والشباب الذي يمر، والسنين التي مضت، سعادة الأمهات بأبنائهن مجرد سعادة، أما أنت فجزائي عن الشقاء بأبيك، فأنت كل شيء، فإن يكن لحياتي معنى فأنت، أنت وأختك، أحمد، لا تتركني، ارحمني يا رب، دع هذا الطفل لي يا رب، فما الحياة بغيره! ارحم يا رب ...
ويدخل سليمان هالعا: خير ... ماذا به يا سهير؟ - سليمان ... ماذا تنتظر؟ دكتور يا سليمان، أسرع!
وخرج سليمان من فوره حائرا لا يدري أين يذهب، لم يعد يذكر طبيبا واحدا ممن يعرفهم، فهو يذهب إلى التليفون، ثم يبحث عن المذكرة التي بها الأرقام التي يحتاجون إليها، ثم يترك هذا جميعه ويهرول إلى السلم، فما إن يبلغ منتصفه حتى يصعد مرة أخرى إلى التليفون، ثم يتركه ويهم بأن يقصد إلى حجرة ولده، متخيلا أنه قد صنع شيئا، واهما أن طفله قد أفاد شيئا من هذه الهرولة التي ذرع بها البهو والسلم، وقبل أن يصل إلى الحجرة يسمع صوتا من أسفل يقول: الدكتور، جاء الدكتور.
ويسرع سليمان إلى السلم، ويلقى الطبيب فيرجوه أن يسرع ولا يجد الطبيب فرصة يسأل فيها عما دعي له، وإنما هو يقاد إلى حجرة أحمد، ويفتح الطبيب حقيبته ويخرج حقنة صغيرة يملؤها دواء، ثم ما يلبث أن يغرس إبرتها في فخذ الطفل، ثم يوالي إسعافاته وهو لا يكف عن ترديد: خير يا ستي إن شاء الله، بسيطة إن شاء الله، لا شيء يا ستي، مجرد إغماء بسيط.
وما لبثت أنفاس الطفل أن هدأت شيئا فشيئا، حتى انتظمت، وغمغم: نينة.
وصاحت الأم: أحمد، نعم يا أحمد، أنا هنا، الحمد لله على سلامتك يا أحمد.
ونام الطفل هادئ الأنفاس، وطلب الطبيب أن يتركوه ليستريح، ولكن الأم أصرت على البقاء، وخرج سليمان مع الطبيب.
وما إن خلت الحجرة بالأم وطفلها، حتى ألقت رأسها على سرير الطفل، وانطلقت تبكي في نشيج يمنعه خوف الأم من إيقاظ ابنها أن يعلو، وإنما هو بكاء حار مكتم النشيج، دفاق العبرات، ولكنها تمالكت أمر نفسها فجأة، وقامت إلى البهو، فأحضرت التليفون، وعلى الضوء الخافت أدارت القرص، ولم تلبث أن وضعت السماعة، فقد حمل أزيز الرقم مشغولا عن طلبها، وبعد دقائق رفعت السماعة مرة أخرى، وأدارت القرص نفس الدورات ولم تلبث أن قالت: وصفي. - نعم. - أأستطيع أن أكلمك؟ - أنا وحدي. - لا يمكن يا وصفي، لا أستطيع. - نعم أعرف. - فلتكن صداقة. - صداقة عميقة ودائمة يا سهير. - إلى اللقاء يا وصفي. - إلى اللقاء يا سهير.
الفصل الرابع عشر
صفحه نامشخص