قصیده و تصویر
قصيدة وصورة: الشعر والتصوير عبر العصور
ژانرها
الأعمى، يتبعه أعمى، يمسك بعصا يمسكها أعمى، يضع يديه على كتفي أعمى ... والكل تعثر وسيسقط حتما في الحفرة ... أهي رؤية ونبوءة؟ هل رسم الفنان هؤلاء العميان أم كان كأفلاطون في أسطورة الكهف (آخر الكتاب السادس وبداية الكتاب السابع من الجمهورية) يقدم رمزا أو أمثولة؟ هل نحن العميان المقصودون، والموت أو القدر الأعمى أو ما شئت من المحن الكبرى هو تلك الحفرة؟ ألا تنطبق الرؤية أو النبوءة علينا نحن في هذا العصر، عصر الاضطراب الشامل الذي نشقى به، والكوارث الكبرى والصغرى التي تتجسد أمامنا في كل مكان، عصر يشن فيه الجميع الحرب على الجميع، ويتوقعون الكوارث كل يوم، ويقتاتون عليها كل صباح، ويأخذونها إلى نومهم كل مساء؟ ألا يمكن أن نقول مع أحد الشعراء الذين «قرءوا» العميان إنها ليست مجرد صورة، بل وصية، في زمن جمع أصحاب الرؤية من أمثال بروجل (رابليه ومونتني وشكسبير)، وجسد الرعب من المجهول وما أفظع تخريبه للأفراد والشعوب؟ أم نقول أخيرا إن عميان بروجل يرون بأعينهم أكثر مما نرى، ويحسون بنا أكثر مما نحس بأنفسنا؟ هم أسرى القيد المجهول. من فينا إلا وهو اليوم أسير مثل العميان، سجين أو مشنوق؟
وتوسيع خطاك وأنت تنتقل عبر الزمن لتجد لوحة أخرى لراء آخر؛ إنه فنسنت فان جوخ (1853-1890م)، ولوحته هي حقل القمح مع الغربان التي كانت آخر ما رسم قبل إقدامه على الانتحار بأيام قليلة. انظر الصورة وحاول أن تقرأها قبل أن تضاهيها بنصوص الشعراء. سيفاجئك إلى حد الدهشة طوفان القمح الذهبي، وستمسك أنفاسك خوفا أو عجبا من أسراب الغربان السوداء الطافية على سطح الموج، ودائرة النار ووهج البريق، وتلبد السحب وزفير الأرض، أهي غضبة الوجود وحريقه أم رماد العدم المتبقي بعد الثورة؟ أم هو قلق الفنان المتمزق بهواجسه «الميتافيزيقية» التي لونها بالأحمر والأصفر الفاجعين (من الأسف أن الصورة بالأبيض والأسود لا بالألوان الأصلية!)
14
هل كان هذا الفنان يتضرع لله أن يخلصه من يأسه فكانت الصورة هي نشيجه وبكاءه، وكانت الألوان هي صلاته، لكن الفنان قد أطلق آخر سهم في جعبته، والسهم اتجه إليه وغار في لحمه، وانفتح الجرح كما تنفتح الهاوية السوداء. هل هو جرح وجود الإنسان على الأرض، في زمن الجوع، القسوة، والتعذيب، أم هو جرح الفنان البائس، جرح العين التي «رأت» من هول الحقيقة أكثر مما تطيق عين البشر؟ وها نحن أولاء نرى بعض ما أصابها بالدوار فيصيبنا الدوار ...
بقي علينا أن نعرج على أدبنا العربي ونطرح هذا السؤال: هل نجد أثرا لقصيدة الصورة في تراثنا الشعري والنقدي قديمه وحديثه ومعاصره؟ وإذا صح توقعنا للجواب فهل يمكننا - إزاء التراث العريق ومراعاة لمقتضى الحال في مثل هذا التقديم! - أن نتتبع الخيوط الأساسية للاهتمام بالصورة في جانبها الذي يؤكد المقارنة القديمة بين الشعر من ناحية والتصوير أو الرسم من ناحية أخرى؟
من الطبيعي أن نجد الصورة الفنية على اختلاف أنواعها ومستوياتها ووظائفها في الشعر العربي، شأنه في ذلك شأن كل شعر آخر؛ فقد كانت الصورة ولم تزل هي جوهر الشعر الثابت ووسيلته التي لا يستغنى عنها في الكشف عن الحقائق الشعرية والإنسانية التي تعجز اللغة العادية واللغة العلمية عن الكشف عنها وتوصيلها. ومن الطبيعي أيضا أن يحظى بحث الصورة بعناية النقاد والبلاغيين القدامى، وأن يستفيد من جهود اللغويين والمفسرين والمتكلمين في تحديد مفاهيم التشبيه والاستعارة والمجاز، كما يستفيد من شروح الفلاسفة المسلمين لنظرية المحاكاة لأرسطو على ضوء كتبه في الشعر والخطابة والنفس وما بعد الطبيعة.
وربما يكون «الجاحظ» هو أول من التفت إلى طبيعة الشعر من حيث هو «ضرب من النسيج وجنس من التصوير»، وأول من طرح في تاريخ النقد العربي بعض الأفكار الهامة التي سيطرت على أجيال طويلة من البلاغيين والنقاد من بعده، ولو قرأنا عبارته المشهورة في كتاب الحيوان (3 / 131-132) لتبينا الدلالات المختلفة التي يفهمها من كلمة التصوير، والمبادئ التي يقوم عليها هذا الفهم: «المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي والمدني، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير.»
والعبارة تقدم لنا مصطلح التصور الذي يهمنا في هذا السياق. والجاحظ يستخدمه في العبارة السابقة وفي كتبه ووسائله استخداما يمكننا أن نستشف منه ثلاثة مبادئ؛ أولها: أن للشعر أسلوبا خاصا في صياغة الأفكار أو المعاني، وهو أسلوب يقوم على إثارة الانفعال واستمالة المتلقي إلى موقف من المواقف. وثانيها: أن أسلوب الشعر في الصياغة يقوم على تقديم المعنى بطريقة حسية؛ أي إن التصوير يترادف مع ما نسميه الآن بالتجسيم. وثالث هذه المبادئ أن التقديم الحسي للشعر يجعله قرينا للرسم ومشابها له في طريقة التشكيل والصياغة، والتأثير والتلقي، وإن اختلف عنه في المادة التي يصوغ بها ويصور بواسطتها،
15
ومن الواضح أن المبدأ الأخير يشير إلى دلالة كلمة التصوير على رسم لوحة أو تشكيل تمثال، بحيث يصبح معنى الصورة مرادفا للوحة المرسومة، ويكون ربط الشعر بالرسم أمرا ناتجا عن إدراك أن التقديم الحسي للمعنى أو التجسيم عنصر مشترك بين الشعر والرسم؛ لأن كلا من الرسام والشاعر يقدم المعنى بطريقة بصرية.
صفحه نامشخص