تمهيد
1 - فتاة الأكروبوليس ...
2 - رب اللحظة المواتية
3 - أبولو بلفيدير
4 - تمثال النصر (نيكا) في ساموثراكا
5 - المصارع المحتضر
6 - فينوس ميلو
7 - حواء
8 - فبراير
9 - المعلم والمتعلم
10 - ضريح إيلاريا ديل كاريتو
11 - إغواء القديس أنطونيوس
12 - إيكاروس
13 - العميان
14 - كآبة
15 - الربيع
16 - مولد فينوس
17 - الموناليزا لليوناردو دافنشي
18 - موسيقى في الخلاء لجورجونه (من حوالي 1478م إلى 1510م)
19 - انتصار جالاتيا
20 - الليل
21 - العبد المحتضر
22 - فيل يحمل مسلة
23 - تحذير أبوي ...
24 - محاضرة في علم التشريح للدكتور تولب
25 - داود يعزف على القيثار أمام الملك شئول
26 - بروميثيوس في متحف مدريد
27 - بسيخة المهجورة أمام قصر أيروس
28 - آمور وبسيخة
29 - إعدام الثوار
30 - أوديسيوس يسخر من بوليفيموس
31 - ميناء جرايفسفالد
32 - دير في غابة بلوط
33 - قاطعو الأحجار
34 - حقل القمح والغربان
35 - الصرخة
36 - صلح
37 - الجائعات
38 - شكل امرأة مضطجعة
39 - القبلة
40 - الأقنعة العجيبة
41 - امرأة جالسة على كرسي وثير
42 - الثورة
43 - ثورة الجسر
44 - أشخاص وكلب أمام الشمس
45 - الزرافة المحترقة
قائمة المصادر والمراجع
تمهيد
1 - فتاة الأكروبوليس ...
2 - رب اللحظة المواتية
3 - أبولو بلفيدير
4 - تمثال النصر (نيكا) في ساموثراكا
5 - المصارع المحتضر
6 - فينوس ميلو
7 - حواء
8 - فبراير
9 - المعلم والمتعلم
10 - ضريح إيلاريا ديل كاريتو
11 - إغواء القديس أنطونيوس
12 - إيكاروس
13 - العميان
14 - كآبة
15 - الربيع
16 - مولد فينوس
17 - الموناليزا لليوناردو دافنشي
18 - موسيقى في الخلاء لجورجونه (من حوالي 1478م إلى 1510م)
19 - انتصار جالاتيا
20 - الليل
21 - العبد المحتضر
22 - فيل يحمل مسلة
23 - تحذير أبوي ...
24 - محاضرة في علم التشريح للدكتور تولب
25 - داود يعزف على القيثار أمام الملك شئول
26 - بروميثيوس في متحف مدريد
27 - بسيخة المهجورة أمام قصر أيروس
28 - آمور وبسيخة
29 - إعدام الثوار
30 - أوديسيوس يسخر من بوليفيموس
31 - ميناء جرايفسفالد
32 - دير في غابة بلوط
33 - قاطعو الأحجار
34 - حقل القمح والغربان
35 - الصرخة
36 - صلح
37 - الجائعات
38 - شكل امرأة مضطجعة
39 - القبلة
40 - الأقنعة العجيبة
41 - امرأة جالسة على كرسي وثير
42 - الثورة
43 - ثورة الجسر
44 - أشخاص وكلب أمام الشمس
45 - الزرافة المحترقة
قائمة المصادر والمراجع
قصيدة وصورة
قصيدة وصورة
الشعر والتصوير عبر العصور
تأليف
عبد الغفار مكاوي
تمهيد
هل جربت أن تقف أمام رسم أو تمثال أو صورة فتحس كأنها تحدثك بلسان شاعر أو تسكب في أذنيك الأنغام والألحان؟ ربما قلت لنفسك متعجبا: حقا! إنها لفكرة غريبة، لكنها فكرة عابرة خطرت لعابر سبيل. وتواصل جولتك في المتحف أو المعرض أو المرسم الذي تزوره متأملا الرسوم والصور وأعمال النحت. قد تستغرق فيها وتتركها تؤثر على وجدانك وعقلك دون أن يتدخل بينك وبينها شيء، وقد تزاحمك في لحظة التأمل أفكار وآراء ونظريات حصلت عليها من هنا ومن هناك، لكنك في أغلب الظن ستمضي لحالك دون أن تعيد النظر في تلك التجربة، أو تطيل الوقوف عند تلك الفكرة، ولو تصادف وفعلت لتبين لك أن مئات من الشعراء والفنانين التشكيليين على مدى المئات من السنين قد تبادلوا التأثير والتأثر، فاستلهم الشاعر اللوحة والصورة والنقش والتمثال، والمعبد والمسلة والزهرية والأيقونة، وسجل إلهامه في قصيدة، كما استوحى الرسام والمصور والمثال والخطاط ومصمم البناء والمعمار ... إلخ، قصيدة شاعر من الشعراء، فرسم وصور وخطط وجسم ما كان الشاعر قد تخيله وصوره بالكلمة والوزن والإيقاع ...
وقصة هذا التأثير المتبادل بين الفنون - خصوصا فن الشعر وفن الرسم - قصة طويلة يقدر عمرها بثلاثة آلاف سنة في تاريخ الأدب والفن، لا الغرب والشرق. وهي قصة مثيرة ومحيرة تطرح أكثر من سؤال وجواب عن تلقي الشعراء لأعمال الفن، واستقبال الفنانين لفيض الشعراء، عن العلاقة بين الفنون الجميلة بوجه عام، وفني الشعر والتصوير بوجه خاص، عن البنية أو التكوين الأساسي الذي تشترك فيه كل الفنون بحيث يجعل منها إخوة وأخوات، أو الاختلافات الجوهرية التي تميز كلا منها عن الآخر تمييزا صارما لا يسمح بالمقارنة بينها حتى لا تشيع فيها الفوضى والاضطراب ... ومن هوميروس وفيرجيل إلى كيتس ورامبو ورلكه وجئورجه وأودين ... إلخ، في الأدب الغربي، ومن امرئ القيس وذي الرمة وشعراء «الديارات» وأبي نواس والبحتري والمتنبي وابن الرومي وابن المعتز وابن زيدون، إلى شوقي ومطران وأحمد زكي أبو شادي وبعض شعراء حركة «أبولو»، وصلاح عبد الصبور وحجازي والبياتي وحميد سعيد وسعدي يوسف في شعرنا العربي الجديد، ومن شعراء في الشرقين الأقصى والأدنى يصعب حصرهم من العصور الوسطى حتى يومنا الحاضر، سنجد من استلهم أعمال الفن التشكيلي في الرسم والتصوير والنحت والعمارة بل والموسيقى وسجلها في قصائد، كما سنجد - بدرجة أقل - رسوما ولوحات وآثارا فنية أخرى يمكن أن نصفها تجاوزا بأنها قصائد شعرية مصورة أو مجسمة أو منغمة.
ولقد عرف تاريخ الأدب الغربي هذا الجنس الأدبي المتميز الذي يمكن أن نسميه قصيدة الصورة منذ العصرين الإغريقي والروماني، حتى يمكن القول بأنها قديمة قدم الأدب والفن نفسيهما، وأن الأعمال التشكيلية قد حركت الوجدان الشعري فحاول أن يخلدها أو يعبر عن انطباعه عنها في صيغ لغوية فنية كتب لبعضه حظ البقاء، وأن قصيدة الصورة أقدم من النقد الفني، وربما كانت في رأي بعض المنظرين أعلى منه قيمة، وأن القرن العشرين يستطيع أن يزهو على القرون السابقة بعدد هائل من هذه الكنوز اللغوية التي تحظى اليوم باهتمام النقاد وحب القراء والمتذوقين
1 ...
بيد أن الحديث عن قصيدة الصورة حديث محفوف بالمخاطر والإشكاليات والمقارنة بين القصيدة والأصل الفني الذي حاول الشاعر أن يصفه، أو يسجل خواطره عنه، أو يعبر عن اندماجه في جوه وروحه، أو يجعله مناسبة لنقد العصر وقيمه. هذه المقارنة نفسها ليست بالأمر الهين البسيط؛ فهي بقدر ما تتيح لنا الموازنة بين عملين فنيين ومعايشتهما في وقت واحد، تفتح أكثر من باب تهب منه رياح الأسئلة عن طبيعة الفن ونظريته ووظيفته، وعلاقته بالحياة والواقع والمجتمع، وعلاقة الفنون بعضها ببعض. يقول الشاعر الأمريكي عزرا باوند: «إن العمل الفني المثمر حقا هو ذلك الذي يحتاج تفسيره إلى مائة عمل من جنس أدبي آخر. والعمل الذي يضم مجموعة مختارة من الصور والرسوم هو نواة مائة قصيدة.» هذه العبارة التي قالها شاعر كبير معروف بثقافته الواسعة، واطلاعه المذهل على الآداب واللغات العالمية، تبين أن استيحاء الشعراء للأعمال الفنية أمر مشروع، وأن العمل الفني الحق، هو الذي يوحي بأكثر من عمل فني؛ لأن الإبداع في فن من الفنون لا بد من أن يدفع المنتجين في الفنون الأخرى إلى المزيد من الإبداع. كل هذه أمور تتمشى مع ما تؤكده فلسفة الفن والنقد الأدبي الحديث من أن قراءة القصيدة أو تأمل اللوحة نوع من إعادة خلقها، وأن القصيدة أو الصورة يمكن أن يوحي كلتاهما بعدد من الدلالات بقدر ما يتاح لهما من قراءات. ومن الطبيعي بعد هذا أن تكون قصيدة الصورة حقيقة ملموسة تعززها مئات الأعمال الشعرية في تاريخ الأدب الغربي بوجه خاص، وأن يكون التفاعل بين الفنون حافزا على المزيد من الإبداع في الفن وفي نظرية الفن على السواء ... ومع ذلك فقد عرف تاريخ الفن والنقد كثيرا ممن ألقوا ظلال الشك على هذا الجنس الأدبي، وحذروا من المبالغة في تضخيم أهمية الفن والأدب المقارنين، ومن إلقاء ألفاظ مبهمة من نوع الإلهام، والاستيحاء، والتأمل المقارن، وشعر الرسم، ورسم الشعر، وغيرها من الألفاظ التي يحفل بها تاريخ النقد الفني منذ أن أطلق أرسطو وهوراس عباراتها المشهورة التي سنحاول الآن أن نقف عندها وقفة أطول
2 ...
تكاد العلاقة بين الفنون تكون أمرا بديهيا لا يشك فيه أحد، ويكفي أن ننظر في بعض الكلمات والتعبيرات الشائعة في النقد الفني والأدبي لنعرف أنها توحي بهذه العلاقة الحقيقية والغامضة في آن واحد؛ إيقاع البناء، معمار الرواية، تصوير الكلمة وموسيقاها، تجسيم الموقف والفكرة، لون النغمة والشخصية ... إلخ. والفنون بأشكالها المختلفة - كما يؤكد أرسطو في بداية كتابه عن فن الشعر - تصور الحياة وتشترك في خاصية أساسية هي «المميزيس» أو المحاكاة. ولذلك ينبغي للشعر والتصوير - بوصفهما فنين قائمين على المحاكاة - أن يستخدما مبدأ واحدا بعينه للتكوين أو البناء، وهو الحكاية أو العقدة في المأساة (التراجيديا) والتصميم أو التخطيط في الرسم (فن الشعر، 6، 19، 21)؛ فالشعر عند أرسطو فن، وهو فن محاكاة: إن الشاعر محاك مثله مثل المصور أو أي محاك آخر (فن الشعر، 1460 ب-8). ومن الطبيعي أن تقوم بين الفنون علاقات متبادلة، وإن تكن كما قال شيشرون (من 106 إلى 43ق.م. «بعد ذلك علاقات دقيقة رهيفة»، انظر خطبته دفاعا عن أرخياس 1، 2). وليس من الصعب على أي إنسان أن يربط لأول وهلة بين الشعر والموسيقى، وأن يحس بنفسه أن العلاقة المباشرة بينهما تمد جذورا في مفهوم الشعر نفسه؛ إذ يكفي أن يتذكر أن الشعر لا ينفصل عن الوزن والإيقاع والتنغيم والإلقاء، وأن كلمة الشعر الغنائي نفسها في أصلها اليوناني قد جاءت من الآلة الموسيقية (ليرا) التي كانت تصاحب الغناء، كما أن الشعر بقي مرتبطا بالغناء والعزف طوال العصر الوسيط - في الموشح الأندلسي، وأغاني الطروبادور في البروفانس، والمينة زانج عند الجرمان - حتى أصبحت الموسيقى المحضة عند الرمزيين في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هي المثل الأعلى والمطلق للشعر والشعراء. ولو قلبت في تاريخ الفن والنقد والأدب لعثرت على نصوص كثيرة تقرب بين الفنون، وتلتمس الوحدة المشتركة بينها في البناء والغاية، على الرغم من اختلافها من حيث الترتيب على سلم القيمة ومدارج القدرة على التعبير. ولن تعدم مثلا من يصف بناء المعبد الإغريقي بأنه تكوين موسيقي، ومن يميل للمقارنة بينه وبين المأساة (التراجيديا) الإغريقية، أو من يؤكد تأثير الفلسفة المدرسية في العصور الوسطى على عمارة الكنيسة القوطية إلى حد التطابق الكامل بينهما في الدلالة على عظمة الله وروعة خلقه.
3
لا سبيل إذن لإنكار العلاقة بين الفنون، سواء تصورناها علاقة تواز أو تبادل وتفاعل وتأثير وتأثر عبر العصور والآداب. غير أن المسألة لا تبدو بديهية حين نتأملها بشيء قليل من التفكير، وحين نبحث نوع هذه العلاقة بين الفنون من حيث طبيعتها ووظيفتها ووسائلها وأشكالها الجمالية. ولو حاولنا تتبع الأمر في تاريخ الأدب والفن والنقد لوجدنا أحكاما متضاربة وآراء متفاوتة إلى حد الخلط والاضطراب أو التشكك والارتياب؛ فأديب الرومانطيقية الألمانية وناقدها أوجست فيلهلم شليجل - على سبيل المثال - يرى أن الأدب الكلاسيكي أقرب بطبيعته إلى النحت، على حين أن الأدب الحديث والرومانطيقي أقرب إلى الرسم والتصوير. والناقد الفني المشهور هربرت ريد (في مقالته عن التوازي بين الرسم الإنجليزي والشعر ضمن كتابه في الدفاع عن شيللي ومقالات أخرى 1936م) يذهب إلى أن أوزان الشعر عند الأنجلوسكسونيين يمكن أن تقارن بزخارفهم، وأن منظرا طبيعيا رسمه الفنان جينز بورو «1727-1788م» في شبابه يذكرنا بقصيدة كولينز «1721-1759م» أنشودة للمساء، بينما تذكرنا المناظر الطبيعية التي رسمها ذلك الفنان في أواخر حياته ببعض خصائص شعر وردزورث «1770-1850م». ومن النقاد من اكتشف تأثيرات من عمارة عصر الباروك على قصائد شعراء مثل طومسون ويونج وجراي وكولينز، بل لقد حيرنا بعض هؤلاء النقاد عندما راح يقارن شعر كيتس «1795-1821م» بالتصوير مرة والنحت أخرى والموسيقى مرة ثالثة!
فأنشودته المشهورة عن وعاء أفريقي تسمح بالمقارنة بينها وبين النحت البارز وبينها وبين الرسم. ولقد قال عنه الشاعر الأيرلندي الكبير «ييتس» إنه يرسم في شعره صورا لا تنسى، غنية بالإيقاع غنى الرسم الصيني. ويأتي ناقد آخر فيشبه اللون الأزرق عنده باللون الأزرق في لوحات المصور الإنجليزي رينولدز (1723-1792م)، كما يربط ناقد ثالث بين أنشودته إلى عندليب وبين الحركة البطيئة (الإندانتي) في السيمفونية الأولى لبرامز، ويشبه ناقد رابع تأثير أشعارهما على نفوس قرائها بتأثير صور تيرنر «1775-1851م» على من يشاهدها ويتذوق جمالها.
هذه الأمثلة وغيرها تبين أن العلاقة بين الشعر والرسم قد شغلت الشعراء والنقاد أكثر بكثير من العلاقة بين الشعر وسائر الفنون. ولسنا بحاجة للجوء إلى الإحصاءات لنعرف أن الشعراء قد كتبوا عن الرسم والرسامين أكثر مما كتبوا عن النحت والنحاتين والبناء والبنائين، وإن كان هذا لا يمنع أن تكون الفنون الأخيرة قد ألهمت عددا من الشعراء طائفة من أجمل قصائدهم، نذكر منهم هلدرين، ورامبو، ورلكه، وستيفان جئورجه. وتبقى الحقيقة مع ذلك ناصعة ساطعة الضوء؛ إن الشعر قد استوحى الرسم أكثر مما استوحى غيره من الفنون، ولن نجد - في الأدب الإنجليزي مثلا - قصيدة عن الرسم تفوق في روعتها وبساطتها قصيدة كيتس سابقة الذكر عن الوعاء الإغريقي، ويكفي أن نستشهد بأبيات من هذه القصيدة التي تبدأ هذه البداية:
أنت يا عروس السكون التي لم يمسسها أحد،
أنت يا من تبناها الصمت والزمان الوئيد،
يا راوية الغابات، يا من تستطيعين أن تحكي
قصة مزهرة أكثر عذوبة من أشعارنا ...
4
ويتساءل الشاعر عن الأسطورة التي صورت على جوانبها، هل هي لآلهة أم لبشر أم لعذارى متمنعات؟ وعن الطراد المجنون، والنضال للهرب، والمزامير والدفوف التي يسمع نغماتها العذبة في نشوة عارمة، يسمعها بأذن الروح لا بالأذن الحسية. ويبدأ في تصوير المشاهد التي يراها ويسمعها في آن واحد؛ فهناك الفتى الجميل الذي يجلس تحت الأشجار، لا يستطيع أن يترك أغنيته، كما لا تستطيع تلك الأشجار أن تتجرد من أوراقها. إنه هو المحب الجسور السعيد، وجسارته وسعادته ينبعان من قدرته على أن يعزف إلى الأبد أغاني جديدة أبدا. وإذا استحال عليه أن يقبل حبيبته فلا ينبغي عليه أن يستسلم للحزن، فسيظل يحب، وستظل هي جميلة إلى الأبد، وسيبقى حبه دافئا فتيا متساميا فوق كل العواطف الإنسانية، وسيبقى جمالها ربيعيا متجددا إلى الأبد. ثم يستطرد في وصف الموكب الذي يقوده كاهن غامض لتقديم التضحية على المذبح:
من هؤلاء القادمون إلى التضحية؟
إلى أي مذبح أخضر، أيها الكاهن الذي يلفه الغموض،
تقود هذه البقرة التي يرتفع خوارها إلى السماء،
وقد تزينت كل جوانبها الحريرية بأكاليل الزهر؟
أي مدينة صغيرة مبنية على ضفة نهر أو شط بحر،
أو على جبل، تحيطها قلعة آمنة،
أخلاها هؤلاء الناس، في هذا الصباح الورع؟
أيتها المدينة الصغيرة،
ستظل شوارعك أبدا ساكنة،
وما من امرئ سيستطيع أن يعود
ليحكي لم أنت مقفرة؟
وتنتهي القصيدة بمناجاة الشكل الجميل الذي يفيض بحركة الحب والحياة كما يجسم في صمته سكون الأبدية:
يا شكلا أفريقيا! يا هيئة جميلة!
بنسيج يزينها، برجال وعذارى من الرخام،
بأغصان وغابات وعشب وطئته الأقدام.
أنت، أيها الشكل الصامت، تخرجنا بالكدر عن أفكارنا
كما تفعل الأبدية، أيها النشيد الرعوي البارد!
وتختتم الأنشودة بعناق نادر يحتضن فيه الشعر الفكر، ويتلاحم الأدب والفلسفة:
عندما تضني الشيخوخة هذا الجيل،
ستبقى أنت وسط حزن آخر
غير أحزاننا، صديقا للإنسان،
تقول له: الجمال هو الحق، والحق هو الجمال،
هذا هو كل ما تعلم على الأرض،
وكل ما تحتاج أن تعلم.
لعل أقدم نص نعرفه في تاريخ الأدب والنقد الغربي عن هذه العلاقة الساحرة الغامضة بين الشعر والفنون التشكيلية هي العبارة المنسوبة إلى سيمونيدس الكيوسي (من جزيرة كيوس في بلاد اليونان، وقد عاش حوالي سنة 556 إلى حوالي سنة 468ق.م.) التي يقول فيها إن الشعر صورة ناطقة أو رسم ناطق، وإن الرسم أو التصوير شعر صامت.
5
ولا تلبث أن ترد على الخاطر تلك العبارة من كتاب «فن الشعر» للشاعر الروماني هوراس (65-8 ق.م.)، وهي التي يشبه فيها القصيدة بالصورة (كما يكون الرسم يكون الشعر، فن الشعر، 361)، كما يطالب ببذل الجهد لصقل البيت الشعري وتشكيله.
والمهم في هذه العبارة التي تعددت شروحها عبر العصور أنها أكدت التشابه بين الفنون - وخصوصا بين الشعر والرسم - إلى الحد الذي جعل النقاد في عصر النهضة يقرءونها على الوجه الآخر: كما يكون الشعر يكون الرسم. ولقد كانت هذه العبارة القصيرة وراء التأملات العديدة التي دارت حول نظرية الفن والعلاقة بين الفنون، خصوصا منذ القرن السادس عشر إلى معظم القرن الثامن عشر. وبينما ذهبت قلة من الشعراء إلى تفوق الرسم على الشعر لا محاكاة الطبيعة البشرية، جعلت الأغلبية من نفسها حماة للشعر، وراحت تؤكد أن الشعراء هم أعظم الرسامين. ومنذ أن وصف الكاتب الإغريقي الساخر لوكيان «من حوالي 120 إلى حوالي 180م»، شاعر الإغريق الأكبر هوميروس بأنه رسام مجيد (في كتابه الصور أو الأيقونات، 8-)، وأيده في هذا شاعر عصر النهضة بترارك «1304-1374م» انطبقت صفة الرسامين أو المصورين العظام على عدد كبير من الشعراء يمتد من ثيوكريتيس، وفرجيل، وتوركواتو تاسو، وأوريوستو إلى سبنسر، وشكسبير، وملتون وجماعة الشعراء الذين سموا أنفسهم في القرن التاسع عشر باسم «السابقين على رافائيل»،
6
والبارناسيين وعدد كبير من شعراء العصر الحديث. ولم يخل الأمر من ناحية أخرى من وجود نقاد يؤكدون أن الرسامين والمصورين شعراء، وأن فنانا رائع الخيال مثل أنجلو يشهد على شاعرية فن الرسم ويسمح بمقارنة الرسامين الشعراء بالشعراء الرسامين!
ومهما يكن الأمر فإن عبارة «هوراس» المشهورة قد نجحت في تأكيد العلاقة القائمة بين الشعر والرسم وغيرهما من الفنون، وأثرت على نظريات الشعر والفن عبر العصور، وهدت العديد من الشعراء والفنانين التشكيليين على دروب الإلهام ومسالكه الغامضة، وحفزتهم على مواصلة نشاطهم الإبداعي المثمر.
غير أن العبارة نفسها قد أثرت كذلك على الاتجاه المضاد الذي ينكر أصحابه تراسل الفنون وتجاوبها ويرفض مبدأ المقارنة بينها رفضا حاسما وكأنه «وباء علم الجمال الحديث» ... فقد حذر شافتسبري «فنون النحت 1712م» من عقد المقارنات بين الرسم والشعر، ووصفها بأنها محاولات عقيمة وباطلة. ثم جاءت الضربة الكبرى لهذا الاتجاه كله من كتاب هام ذائع الصيت هو كتاب «لائوكون» (1766م) لأديب عصر التنوير والكاتب والناقد المسرحي «ليسنج»؛ فقد نظر إلى الشعر والرسم من حيث علاقتهما بالزمان والمكان على الترتيب، وميز الأشكال الزمانية في الفن تمييزا حادا من الأشكال المكانية، وبين عواقب الخلط بينها في العمل الفني الواحد والتأثيرات الناجمة عن البنية الداخلية المختلفة في الشعر عنها في الرسم. ولقد كانت النظريات الفنية التي استندت إلى مبدأ «هوراس» هي في رأيه السبب الرئيس للاضطراب والخلط المؤسف بين الفنون في عصره. ثم جاء في عصرنا الحاضر من ألف «اللائوكون الجديد، مقال عن الخلط بين الفنون» (المؤلفة أيرفنج بابيت 1910م)، فأيد حجج ليسنج وشواهده - التي استمدها من الأدبين الإغريقي والروماني - بحجج جديدة تؤكد عبث المحاولة كلها وتبسيطها المخل لطبيعة الفن والواقع على السواء.
7
لكن علاقة القرابة بين الشعر والرسم لم تلبث أن ظهرت مرة أخرى منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى أيامنا الحاضرة ... وكانت فنون الشرق التي تعرف عليها الغربيون على نطاق واسع منذ ذلك الحين هي المسئولة عن هذا التحول؛ فقد أحس الناس بشاعرية الرسوم الشرقية، وبنزعة الشعر الصيني والياباني إلى الرسم والتصوير. وتزايدت الدراسات النقدية التي توضح العلاقة الوثيقة بين الشعر والرسم، كان الشعراء الصينيون في معظم الأحيان رسامين، كما كان النقاد - في القرنين الحادي عشر والثاني عشر بوجه خاص - قد أكدوا التوازي بين الشعر والرسم في عبارات قريبة من العبارات المأثورة عن سيمونيد وهوراس. وها هو ذا واحد منهم - وهو كورسون - يقرر أن الرسم والكتابة فن واحد، وأن الشاعر يستطيع أن يرسم الشعر كما يستطيع الرسام أن يكتب قصائد بلا صوت ... وقد أدى هذا بعدد من الشعراء الأوروبيين والأمريكيين إلى اتباع القواعد التي حددها اليابانيون للقصائد والقوانين التي وضعها الصينيون للرسم. وبلغ الأمر ببعض هؤلاء الشعراء أن كتبوا ورسموا قصائد «شرقية»؛ أي صورا تتجه إلى العين مباشرة، وانطباعات حرة في عدد محدود من المقاطع والسطور، وإيحاءات مركزة عن طريق تمثل الطبيعة لا عن طريق نسخها، وأبيات مقتصدة شديدة التركيز والأحكام من نوع «الأبيجرام»
8
المعروف في الغرب منذ عهد الإغريق. ومهما يكن الأمر فيبدو أن عددا كبيرا من الشعراء والفنانين الذين ستطلع على أعمالهم المشتركة قد تأثروا قليلا أو كثيرا بهذا التراث العريق عن العلاقة بين الشعر والرسم - بوجه خاص - ومع أن الشعر الحديث والمعاصر قد تطور وتعقد مثله مثل الرسم الحديث والمعاصر بحيث لم يعد كلاهما يسمح بتحديد مفهوم الشعر أو الرسم تحديدا تتفق عليه الآراء، فإن القصائد التي كتبها هذا العدد الكبير من شعراء العصر عن الصور واللوحات وأعمال النحت القديمة والوسيطة والحديثة تشهد شهادة كافية على «علاقة الرحم» التي تجمع الفنون ببعضها والشعر والرسم بوجه خاص
9 ...
نعم! ما أكثر ما ينظر الشعر بعينه إلى الفنون الأخرى ويستعير منها، كما تنظر هي أيضا إليه وتستعير منه! والأمثلة على هذه الصلة المتبادلة في الآداب المختلفة أمثلة كثيرة لا حصر لها، ويكفي أن نذكر هذا العدد القليل منها على صورة رءوس موضوعات لا يسمح المجال بالدخول في تفصيلاتها؛ وصف هوميروس لدرع أخيل في الإلياذة (النشيد 18، السطور من 478 إلى 608)، ووصف فرجيل في النشيد الثامن من الإلياذة لدرع إنياس (السطور من 478 إلى 608)، ووصف فرجيل في النشيد الثامن من (السطور من 625 إلى 721)، وصف دانتي «وحديثه المرئي» عن تمثال البشارة لمريم العذراء، وتمثالي داود وتراجان في النشيد العاشر من المطهر (أو الأعراف) من كوميدياه الإلهية، الموت المنتصر والموت المهزوم في فن الكلمة وفن التصوير في عصر الباروك، تصوير الأعمال الأدبية منذ العصور الوسطى والرومانطيقية إلى التكعيبية في عصرنا الحاضر في أعمال ديران وبيكاسو ودوفي، الصور التي رسمها شكسبير في مسرحياته، الصور الرمزية والشعارات «الإمبليمات» التي ارتبطت بنصوص شعرية وازدهرت في القرنين السادس عشر والسابع عشر بوجه خاص، قصيدة كيتس التي قدمناها قبل قليل عن الوعاء أو الزهرية الأفريقية بجانب قصائده التي كتبها متأثرا بلوحات تسيان وبوسان، الأبنية الرمزية والشكلية في شعر والت ويتمان ومشابهتها للأبنية الموسيقية، تأثير الفنون التشكيلية الحديثة، وبخاصة أعمال رودان وسيزان وباوكليه وبيكاسو على شبر «رلكه» المتأخر إلى حد التناظر في التعبير عن الشعور عنده وعند أولئك الفنانين، بجانب قصائده عن الكاتدرائيات، السمات التصويرية في التعبير الشعري لدى بعض الشعراء التعبيريين الألمان مثل جورج هايم، وجورج تراكل، وأرنست شتادلر، القالب السيمفوني في رواية هيرمان بروخ «موت فرجيل»، السمات القصصية في صور الفنانين السيرياليين كيريكو وماكس أرنست، قصائد «الفردوس غير المفقود» التي كتبها الشاعر الألماني أرنست شونفيزة لرسوم المصور والمثال إرنست بارلاخ على الحجر، مدرسة التصويريين في الشعر الإنجليزي والأمريكي الحديث التي تزعمها عزرا باوند، وبرز من أبنائها ت. س. إليوت، وكلاهما قد نهل من معين الحداثة (المودرنية)، أو بالأحرى الثورة المعرفية التي جاءت مع الفنون البصرية والتشكيلية الحديثة في النظرية والتطبيق وخصوصا مع التكعيبية والدوامية والسريالية، ناهيك بعد هذا كله عن اجتماع فنين في شخصية مبدعة واحدة مثل مايكل أنجلو، وفاجنروت. أ. هوفمان، ووليم بليك، وجبران خليل جبران، وجبرا إبراهيم جبرا، ورمسيس يونان، وحسن سليمان، وصلاح جاهين، وأحمد مرسي، وغيرهم ممن لا تحضرني الآن أسماؤهم. ومن الصعب أن نحصر عدد القصائد التي «وصف» فيها الشعراء لوحات الفنانين وصفا شعريا، وخصوصا لوحات الطبيعة كما صورها الفنانون الرومانطيقيون مثل كلود لوران «1600-1682م»، وسلفاتور روزا «1615-1673م». وأصعب من ذلك أن نحصر عدد القصائد التي استلهمت صورا ورسوما وتماثيل ونقوشا وأعمالا نحتية منذ العصور الإغريقية والرومانية حتى القرن العشرين الذي ازدهر فيه هذا الفن الشعري إلى حد مذهل، وساهم فيه شعراء كبار مشهورون وآخرون مبتدءون لم يكد يسمع عنهم أحد! والعكس كذلك صحيح؛ فعدد الفنانين الذين رسموا وصوروا قصائد لشعراء مشهورين - من هوميروس وفيرجيل ودانتي وشكسبير وملتون ولافونتين وجوته وبيرون وبودلير إلى الشعراء المعاصرين - عدد يفوق الحصر. وما أكثر القصائد التي ألهمت أكثر من فنان فلحنها مؤلف موسيقي، ورسمها رسام، وعبر عنها مثال! ويكفي أن نذكر قصيدة للشاعر الرمزي مالارميه (1848-1892م)، وهي قصيدة «عصر إله الغاب» التي صورها الرسام التأثيري مانيه، ولحنها الموسيقي التأثيري ديبوس، وحولها فنان الباليه نيجنسكي سنة 1912م إلى باليه ...
لو تركنا الفنون والفنانين وانتقلنا إلى النقد والنقاد لما وجدنا هؤلاء أقل حماسا أو اهتماما ببيان التقارب والتجاوب بين الفنون المختلفة والنقاش والجدل حول طبيعة العلاقة بينهما؛ فالشاعر والناقد الإنجليزي درايدن «1631-1700م» يكتب عن التوازي بين الشعر والرسم «1695م» مؤكدا أن الاستعارات الجريئة في الشعر تساوي الألوان القوية المتوهجة في الرسم، وأن التأثير الناتج عن بعض التشبيهات والكنايات وأشكال التعبير الشعري تشبه التأثير المنبعث من الألوان والظلال والأضواء على لوحة الرسام. وأديب الرومانطيقية وناقدها أوجست فيلهلم شليجل (1767-1845م) يطالب بترجمة الصور ترجمة شعرية، ويكتب عن بعض الصور الفنية مجموعة من السوناتات التي كان لها تأثير كبير على تطور قصيدة الصورة وإن لم تكن ذات قيمة أدبية كبيرة. والناقد الفني المعاصر «ماريو براز»
10
قد لمح صورة الشاعرين رامبو ولوتريامو - بجانب عالم التحليل النفسي فرويد! - في رسوم بيكاسو وسلفادور دالي، كما قارن بين الرسم السريالي وبين الأبيات التسعة التي تأتي بعد هذا البيت في قصيدة «إليوت» المشهورة «الأرض الخراب»، من الجزء الثالث الذي وضعه الشاعر تحت عنوان «موعظة النار»:
لقد زحف فأر في خفة بين المزروعات
وهو يجر بطنه الدبقة على الضفة،
بينما كنت أصطاد السمك في القناة المعتمة
ذات أمسية من أمسيات الشتاء خلف مستودع الغاز
وأنا أفكر في حطام أخي الملك
وفي موت أبي الملك من قبله.
أجساد بيضاء عارية على الأرض الوطيئة الرطبة،
وعظام ملقاة في غرفة صغيرة ضيقة جافة على السطح
لا يكاد يطؤها غير أقدام الفأر من عام إلى عام.
لكني ما أنفك أسمع من وراء ظهري بين الحين والحين
صوت الأبواق والمحركات التي ستعيد
سويني إلى مستر بورتر في الربيع.
11
وأخيرا فقد كشف هذا الناقد نفسه (وهو ماريو براز) عن العلاقة الوثيقة بين الفن التجريدي وقصائد الشاعر جيوم آبوللينير «كاليجرام»، كما ذكرته قصائد الشاعر كمنجز (1894-1962م) برسوم وصور موندريان وكاندنسكي وباول كليه، بل لقد وصف بعض قصائد هذا الشاعر بأنها شعر ورسم في آن واحد، وأنها تطبيق جديد للمبدأ القديم الذي عبر عنه هوراس عندما قال «كما يكون الرسم يكون الشعر» ...
ومهما يكن من تحذير بعض نقاد وفلاسفة الفن من الغلو في هذه المقارنات بين الفنون إلى درجة الاضطراب والغموض وتذويب الحدود بينها (مثل رينيه ويليك، وإتيين سوريو وجيمز مربمان)، فلا يمكن أن نتجاهل التأثيرات المتبادلة بينها، ولا أن نجرد رؤية الفنان للقصيدة من كل قيمة، ولا أن نغفل الثمار التي جناها الأدب والفن التشكيلي من التجاوب الروحي والعملي بينهما. ولا شك في أننا مهما ميزنا الفنون بعضها عن بعض وأبرزنا الفروق البنيوية التي تجعلها تعبر عن عوالم مختلفة بوسائل مختلفة، فإن الوظيفة الرمزية واحدة في كل أنواع التعبير الفني (كما تقول الفيلسوفة سوزان لانجر)، كما أن كل التقسيمات والتصنيفات والتصورات الجمالية المختلفة تنتهي في أعماقها العميقة إلى وحدة واحدة (كما يقول كروتشه في كتابه عن الشعر). وسواء فهمنا من هذه الوحدة الأخيرة أن جميع الفنون تطمح إلى أن تصبح انسجاما وموسيقى، أو أن تتحول في النهاية إلى عبادة وصلاة، فإن هذه الوحدة المأمولة تدل في كل الأحوال على الصلة الحميمة بين جميع الفنون ...
ولا بد من القول بأن تأكيد هذه الصلة الحميمة لا يعني ببساطة أن القصيدة الشعرية يمكن أن «تمثل» الصورة أو العمل التشكيلي بحيث تكون مطابقة لها، أو أن هذين الأخيرين يمكنهما أن يترجما المشاعر والأخيلة، والمواقف النفسية والعقلية التي تنطوي عليها القصيدة؛ فمن الفنانين أنفسهم من يحدثنا عن صعوبة استيحاء المضمون الشعري وتحويله إلى صورة. وقد اعترف الفنان الألماني «باول كليه» بأن من العسير إيجاد تشكيل فني يطابق الموضوع (أو الموتيف) الشعري مطابقة تامة. والعكس كذلك صحيح؛ فمن الصعب أن نعثر على الأعمال الفنية اللغوية (أي القصائد) التي تناظر الصور والتماثيل، أو تعكس على الكلمة ما أظهره الفنان في اللون والظل والخط والتشكيل. وسوف يتبين لنا بعد قراءة عدد من «قصائد الصور» أن من الشعراء من اكتفى بوصف الصورة، ومنهم من راح يمجدها ويمجد صاحبها، أو ينقدها ويتهكم عليها ، ومنهم كذلك من أخذ يخاطبها ويناجيها أو تركها تخاطبه وتناجيه، ومن ذكر مضمونها وروى قصة نشأتها وحياتها، ومن استخدمها مناسبة للاسترسال في تأملاته وتجاربه الشخصية. وربما فوجئنا بالشاعر الذي يكتب عن صورة فيخيل إلينا أنه هبط إلى ذلك الأساس أو الأصل الخفي الذي تكمن فيه قوانين الوجود، وتتلاقى الرياضيات والأحلام، وتنبثق كل الصور والكلمات كأنها تتدفق من نبع جياش. ولا بد أن نحس عندئذ كأن الشاعر الفريد قد جرب ذلك الانسجام الأصلي ومعه ذلك الانشقاق الأصيل اللذين تصدر عنهما الحياة الواعية واللاواعية التي تعمل عملها في كل الفنون ...
إن تجميع الصور والقصائد على النحو الذي تراه في هذا الكتاب سيتيح لك المقارنة بين الصورة والنص الذي كتب عنها، كما سيتيح لكل من الشعر والرسم أن يلقي أحدهما الضوء على الآخر ويتواصل معه؛ فالنص الشعري لا يفسر بنص نثري، وإنما يفسر بشيء مستقل عنه ينتمي لميدان فني آخر، شيء يمكن أن يرى وأن يقارن بالنص. ولما كانت قصيدة الصورة تقوم على أساس الاختلاف القائم بين الفن اللغوي وفن التصوير، ولا تمس الحواجز الفاصلة بينهما، فإنها تستطيع بوسائلها اللغوية والإيقاعية أن تفسر ما تمثله الصورة بوسائلها العيانية في وسط آخر. ولا تخفى الفائدة التي يمكن أن يجنيها الفن والأدب من أمثال هذه المقارنات، بل إن الأمر ليتخطى حدود الفن والأدب لينعكس على علوم الاجتماع والنفس واللغة والأدب المقارن والجمال؛ ففي إمكان المهتم بأحد هذه العلوم أن يقوم بهذا اللون الفريد من البحث المقارن ليلتمس فيه الإجابة على مشكلة تشغله. في إمكان عالم الاجتماع - على سبيل المثال - أن يعرف كيف تلقى الناس عملا من الأعمال الفنية في عصر معين بكل ما ينطوي عليه تلقي الفن من مضامين اجتماعية ودلالات على روح العصر وثقافة المجتمع وميول الطبقات المختلفة. وفي استطاعة عالم النفس أن يتوسل بالنص الشعري للتغلغل في نفسية الفنان والاطلاع على أسرار صنعته وإبداعه. ولن يتردد عالم اللغة عن دراسة القصيدة ليكشف عن دلالة الكلمات والصور والتكوينات اللغوية والإيقاعية، وهل اقتصرت كلمة الشاعر على الإشارة والوصف، أم حملت قوة الرمز وقدرته على الإشعاع والإيحاء والتلوين. أما مؤرخ الفن وناقد الأدب وفيلسوف الجمال فسيجدون في هذه المقارنات موضوعات للبحث لا تنفد، وربما وجدوا فيها حلولا لمشكلات لم يكن من السهل الإجابة عليها قبل ولوج هذه الأرض الحرام التي كانت تفصل بين الفن التشكيلي والأدب، فإذا بها تزدحم أمامه بعشرات من الفنانين والشعراء الذين تجمعوا من بلاد وعصور مختلفة، واخترقوا حدود الجنسيات واللغات لكي يلتقوا على هدف إبداعي وإنساني واحد ...
غير أن القارئ الذي أدعوه للاستمتاع بقراءة هذه القصائد واللوحات ستواجهه مشكلة عويصة أو بالأحرى مشكلتان؛ كيف يقرأ القصيدة، وكيف يقرأ الصورة؟! لا شك في أن القراءات تتعدد بتعدد القراء، وربما اختلفت عند القارئ الواحد من لحظة إلى أخرى، ومن مرحلة من العمر إلى مرحلة، وفي كل مرة يكتشف طبقة من طبقات النص كانت خافية عليه ... ستسعفه قراءاته السابقة بطبيعة الحال، وربما أعانته تجاربه الأدبية والفنية التي اكتسبها من خبرته بالتراثين الأدبي والفني على الغوص في تلك الأعماق. وعلى قدر العمق الذي بلغته هذه الخبرة الحية يكون عمق القراءة. ومن الأمور المتفق عليها اليوم أن قراءة الشعر نوع من الخلق والإبداع؛ فنحن عندما نقرأ شعرا نتمثل ما فيه من مشاعر وتجارب وأخيلة، وتنفتح لعيون بصيرتنا مجموعة من الصور والمناظر والمواقف التي «رسمها» الشاعر ودفعنا على رسمها من جديد لنعايشها بحالة شاعرية وشعورية تكاد تكون قريبة من ذات الحالة التي صادفته عندما كتب قصيدته. وربما يكون الحال كذلك مع الصور واللوحات وأعمال النحت التي نتأملها ونحاول أن ندخل إلى عالمها؛ فهي تجسم أو تظهر - بالخط واللون والضوء والظل، أو بالحجر والخشب والنحاس ... إلخ - مجموعة من المشاعر والأفكار والتجارب التي اختلجت في عقل الفنان ووجدانه، وفي الحالين نجد أنفسنا مدعوين للمشاركة في تكوين أو تشكيل أو بناء خاص انصهرت فيه الألفاظ والصور والأوزان والإيقاعات من ناحية، والخطوط والألوان والمساحات والظلال من ناحية أخرى. وتزداد صعوبة المشكلة مع قصائد نقلت - على جسر الترجمة الواهن! - من لغة إلى لغة أخرى مختلفة عنها في نظامها الصوتي والنحوي والتركيبي والدلالي. والواقع أن كلمات الشعر - بل أحرف هذه الكلمات! - بترتيب سياقها في القصيدة، وبجرسها ورنينها الخاص، هي مفتاح الباب الضيق - أو الباب المغلق! - الذي ننفذ منه إلى عالم الشعر السحري، أصل النشوة والعجب و«التعجيب» الذي يأخذ بألبابنا عند قراءته. ولم يبالغ القاضي الجرجاني عندما وصف كلام الشاعر بأنه «أصوات محلها من الأسماع محل النواظر من الأبصار ...»
12
ولكن ما العمل إذا كانت القصائد لا تقدم في لغاتها الأصلية؟ وإذا كانت الترجمة تضحى مضطرة بصوت اللفظ الذي هو جزء لا يتجزأ من معناه، بل تنقل اللفظ الأصلي بجرسه الخاص إلى نظام لغوي آخر ينقله إلى لفظ آخر إلى صوت وجرس مختلفين؟ أليس معنى هذا أن تصبح قراءة النص الشعري أمرا مستحيلا لمجرد أنه نص مترجم؟
كل هذه مشكلات وأسئلة تطرح نفسها على الترجمة الأدبية بوجه عام وترجمة الشعر بوجه خاص. وليس هذا هو مجال مناقشة هذه المعضلة التي تتفرق حولها الآراء من قائل إن الشعر لا يترجم - كالجاحظ في عبارته المشهرة - أو إن جوهر الشعر نفسه هو الذي يذهب مع الترجمة، أو إن ما يبقى منه بعدها أكثر مما يضيع منه ... إلخ. ولا خلاف على أن ترجمة الشعر - حتى لو قيض لها أشعر الشعراء في لغاتهم الأصلية! - تمثل العقبة الكبرى أمام قراءته قراءة حقيقية يصحبها الفهم العميق والذوق الدقيق لدلالات الألفاظ وإيحاءاتها الصوتية والصورية والرمزية. ولقد تمنيت لو جاءت الترجمة العربية في مواجهة النص الأصلي في لغته التي قرأته بها، لكن ظروف النشر في عالمنا العربي لا تسمح بهذا العمل الواجب، وربما يزيد من أعباء النشر والطبع التي لا ضرورة لزيادة ثقلها. أضف إلى هذا أن القراءة المثالية إذا كانت قد أصبحت مستحيلة أو بعيدة المنال، فإن فرصة القراءة الممتعة التي تتيحها المقارنة بين النص والرسم بجانب مقارنة النصوص الشعرية بعضها ببعض لم تنعدم ولا يمكن أن تنعدم.
ولنجرب الآن - بوسائلنا النثرية الفقيرة - أن نقرأ بعض الصور التي ستجدها في هذه المجموعة المختارة ، ولنحاول أن ننظر إليها بعيون الشعراء الذين عرفوا كيف ينظرون، فربما نتعلم منهم شيئا من فن الرؤية الذي برعوا فيه، بينما نسير نحن في دروب هذا العالم كالذين يفتحون أعينهم ولا يرون ...
لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن العمل الفني الحقيقي أشبه بمنجم غني بكنوز الأسرار وأسرار الكنوز، وكل من يتأمل ذخائره لا بد من أن يفعل هذا من وجهة نظر معينة تتحكم فيها عوامل لا حصر لها، ويستخرج منه هذا الجوهر الثمين أو ذلك حسب قدرته وموهبته وثقافته وخبرته ونظرته للحياة والكون والفن. ولن نستطيع بطبيعة الحال أن نقف أمام جميع الصور والأشعار التي يقدمها هذا «المتحف» الصغير؛ لأن ذلك يفسد الغاية من إتاحة الفرصة لكل قارئ لكي يتذوق ويجرب بحريته الكاملة؛ ولذلك سأكتفي بمحاولة النظر إلى ثلاث لوحات اخترتها من أكثر من أربعين لوحة، مع علمي أن المحاولة لا تخرج عن إلقاء بعض الأسئلة التي تحفز القارئ على الدخول في عالم هذه القراءة الفريدة، وتشجع على القيام بالمغامرة، وتغري الشاعر والمصور بمد أيديهما إلى بعضهما ...
وربما يسأل القارئ: كيف يمكنني أن أفسر قصيدة الصورة؟ وكيف أقارن بين نص لغوي وآخر مرئي؟ والإجابة على هذين السؤالين وأمثالهما متروكة لكل قارئ على حدة، وهي تعتمد - كما سبق القول - على ذوقه وتجربته، وثقافته ووجهة نظره في النقد والحياة. وإذا صح ما يقوله بعض نقاد الشعر من أن القراءات تتعدد بتعدد القراء، وأن كل قارئ يعيد إبداع القصيدة على طريقته ولا يقتصر على استحضار تجربة الشاعر الأصلية، فلا غنى لهذا القارئ نفسه عن - 24 - بعض الموجهات النظرية التي تهديه داخل المتاهة السحرية. ولذلك سنطرح بعض الأسئلة التي يمكن أن تساعد الإجابة عليها على القراءة المنظمة، ولا نقول العلمية أو الموضوعية حتى نترك للتذوق الحر مجالا يتحرك فيه؛
13
كيف ومتى التقى الشاعر بالصورة، وفي أي موقف من مواقف حياته وعصره ومجتمعه تم هذا اللقاء؟ هل نشأت قصيدته في مناسبة معينة، كأن تكون هذه المناسبة زيارة لمتحف أو مرسم أو معرض صور، أو احتفالا بذكرى فنان، أو حتى الحصول على بطاقة بريدية طبعت عليها الصورة؟ وكيف كان تأثير هذه الصورة عليه؟ هل جذبته إليها أم نفرته منها؟ هل شعر بغرابتها وغموضها ، أم أحس أنها تحرك عاطفته وتلهمه وتقدم له الراحة والعزاء؟ وهل نجح في أن ينقل مضمونها وشكلها إلى لغة القصيدة بحيث تعكس بنية القصيدة بعض العناصر المكونة لها؟ وإذا كان قد نجح في هذا فما هي الوسائل والأدوات الفنية التي لجأ إليها؟ كيف استطاع أن يجعل الصور الساكنة تنطق وتتحدث إلينا من طوايا الماضي البعيد أو الحاضر المباشر؟ وإذا كان قد وفق في التعبير عن بعض معالم الصورة وتفصيلاتها الدقيقة، فهل أغفل تفصيلات أخرى، ولماذا فعل ذلك؟ هل تمكنت القصيدة من تقديم تفسير للصورة، وما هي الوسائل التي استعانت بها لتحقيق ذلك؟ ثم ماذا كان هدف الشاعر من كتابة قصيدته عن صورة محددة؟ هل كان الهدف هو نقد عصره ومجتمعه، مثل معظم الشعراء الشباب الذين ستجدهم يكتبون عن «كآبة» دورر أو «جوكندا» دافنشي، فيدينون عصر القلق والأورام والرعب النووي وقواعد الصواريخ؟ أم كانت غاية الشاعر هي إطلاق العنان لخواطره ومشاعره، وإلقاء الضوء على الوجود الإنساني بوجه عام، ومحاولة الاقتراب من سره ومعناه؟ أم كان الهدف في النهاية غير مرتبط بأي هدف، اللهم إلا متعة التأمل والتذوق المنزهة عن كل هدف أو غرض، وهي المتعة التي جعلها «كانت» محور التذوق الفني والاستمتاع والمسرة الجمالية؟
وربما ينتقل القارئ إلى أسئلة أخرى أكثر ارتباطا «بحرفية» القصيدة وصنعتها فيسأل: كيف عالج الشاعر قصيدته و«وظف» كلماتها وعباراتها وصورها ورموزها؟ هل سلك طريق الوصف المباشر، أم سار على درب القصة والحكاية، أم لجأ إلى الحوار بينه وبينها؟ هل اتبع الأسلوب الغنائي أم التقريري أم أسلوب التعليم وضرب المثل؟ وهل أوجز وكثف أم أسهب وأطنب؟ في أي قالب وضع قصيدته ورتب أبياتها ومقاطعها؟ وهل التزم أوزانا من بحر معين ونوع القوافي، أم فضل الشعر الحر وبالغ في بعض الأحيان وكتب على طريقة الشعر المجسم (الذي كان آخر صيحة في عالم الشعر وتنظيم سطوره حتى عهد قريب)؟! هل يغلب على النص طابع التعبير العاطفي، أم طابع الإيماء والإيحاء، أم الدعوة إلى انفعال أو فعل معين؟ وهل يتكلم الشاعر عن الصورة نفسها أم عن الفنان الذي رسمها أم عنهما معا؟ وهل وفق آخر الأمر في «توصيل» تجربته أو «رسالته» أو «كلمته» والملاءمة بين أسلوب القصيدة وبنائها وبين الحقائق التي تمخضت عنها الإجابة على الأسئلة السابقة؟ إن هذه الأسئلة تصب كما ترى في تذوق القصيدة وتعين الإجابة عليها على تحقيق غاية المتعة الجمالية التي لا يختلف حولها أحد ...
فلنحاول أن نقرأ معا بعض الصور القليلة التي تجدها في هذا الكتاب على ضوء القصائد التي قيلت عنها. ولنتذكر أن قراءتنا ليست سوى قراءة واحدة من بين قراءات أخرى ممكنة؛ أي إنها تقدم تفسيرا واحدا ولا تزعم أنه هو التفسير الوحيد. ولنبدأ ب «الجوكوندا» أو «الموناليزا» التي تعد من أشهر كنوز الفن، كما تعد ابتسامتها المميزة لغزا أبديا ربما يفوق في غموضه وحنانه وسخريته ابتسامة أبي الهول ...
ماذا تقول هذه الابتسامة التي لا تنطق؟ وبماذا تتحدث هذه النظرة الهادئة المفعمة بالتعاطف والأسى والدعابة والتعالي؟ إن الرزانة والصبر تحيطان هذه السيدة الإيطالية البيضاء المنعمة، ويداها المشبوكتان على صدرها كحمامتين تتناجيان فتزيدان من الإحساس بالرضى والاستسلام والحنان. كل شيء فيها ومن خلفها يكرس هذا الإحساس ويقلقه في آن واحد؛ المنظر الطبيعي الساكن الذي يوشك أن يحيلها هي نفسها إلى طبيعة ساكنة، البحر البعيد والصخور البلورية والسماء المتلاشية الزرقة، والماء الفضي المنحدر من الجبل، والشجر وجذوع الشجر ناصعة البياض، والظل الراسخ الداكن الذي يتحدد على «الخلفية»، ولا يفلح لمعان الماء الفضي ولا نصوع الجبين الوضاء والصدر المرمري وأنوار الفجر المتوهج من بعيد، لا تفلح كلها في زحزحة هذا الظل الجاثم ومعه الأفول والنضوج والحكمة المترفعة.
لكن روعة المنظر الطبيعي الملتف في ثوب الغروب أو في ثوب الحداد لا تستطيع أن تشغلك عن النظر إلى العينين اللتين لا تتحولان عنك، ولا يمكنك أن تحول عينيك عنهما! وهي تعجز بالتأكيد عن تشتيت انتباهك إلى الابتسامة التي لا تدري هل تفتر عن الحب أم عن القسوة؟ وهل هي ابتسامة الأنثى الخالدة التي تجذبك إليها، أم ابتسامة النمرة المتربصة التي تغوي ضحيتها وتهلل لقرب انتصارها عليها؟ ...
وتهز رأسك حيرة وعذابا، ثم ترفعه وتثبت عينيك على عينيها وشفتيها. لا شك في أنها تريد أن تقول شيئا أو أشياء، لكن هل تقوله للفنان الذي كان عاكفا على رسم صورتها، أم تقوله لكل من سيقف أمامها في مستقبل الأيام والأجيال، أم تخاطب به نفسها في عزف منفرد يصمت في نطقه وينطق في صمته؟ إن النظرة الممتلئة بالحياة - على الرغم من سكونها الظاهر - والبسمة التي تختلج على الشفتين محاولة الإفلات من اللون والظل والمكان الذي قيدت فيه منذ أكثر من خمسة قرون، لترقص وتهتز وتتحرك في الزمان، إنها جميعا لتحيرك فلا تدري هل تتوقف أمامها وتملأ عينيك من جمالها وحنانها وحبها ودفئها، أم تلوذ بالفرار قبل أن تعرى من ثياب عاداتك، وتنفذ في صندوق أسرارك، وتفضح تفاهة عالمك المزهو بغروره وسخافاته وظلماته، وتجرجر لنفسك «نسخة» منها قبل أن تخرج من الباب. وتظل الحيرة من لغز الموناليزا أو ألغازها تطاردك؛ هل كنت أمام المرأة أم العروس أم «الهولي» أم القديسة البتول؟ هل تكلمت إلي بصوت العرافة القديمة، أم رتلت صلوات المؤمنة الراضية؟ هل ضحكت أم بكت؟ وهل رحبت بزيارتي أم طردتني من بيتها؟ أتراها حملتني بهداياها - النور مع الموسيقى زادا لبقية عمري - أم أثقلت روحي برموزها وأسرارها، وأرهقت ضميري بالبحث عن سري ورمزي ولغزي؟ وليت شعري هل اقتربت منها أم ابتعدت؟ وإذا وضعت صورتها في بيتي - كما يفعل ملايين الناس - فهل ستكون نعمة أم نقمة؟ وهل أتمكن يوما من فض اللغز الأبدي؟ إن الفنان العظيم قد رسم «فلسفته» عندما رسم هذه المرأة - الهولي أو هذه الحواء - الملاك، ولكنه - شأنه شأن كل فيلسوف حق - قد دعانا للمشاركة والحوار، وصان رؤيته من التمذهب والتحجر والتعصب ... وليت صغار المتسلطين والمستبدين في الأدب والفن والعلم والحياة يعرفون أخيرا أن هذه المفاهيم نفسها تناقض التسلط والاستبداد ولا تليق إلا بالبهيم والجماد ...
وننتقل في الزمان سنوات قليلة بعد ليوناردو دافنتشي (1452-1519م) والجوكوندا التي صورها حوالي سنة 1503م، لنقف أمام لوحة هي آخر ما رسم فنان آخر من أصحاب الرؤية، وهو بيتر بروجل الأكبر (من حوالي 1525م إلى 1569م). إن العميان الستة (وقد رسمها حوالي سنة 1568م) يجتاحهم الرعب، ويتحسسون الطريق واحدا بعد الآخر متشبثين بعصا أو قضيب طويل يمسك أولهم وآخرهم بطرفيه. كل منهم يضع يده على كتف المتقدم عليه في الصف، والذي يستند عليه قد ارتج جسده واختل توازنه. ما السر وراء الزلزلة أو العاصفة أو الموت الداهم؟ إن الثاني في الصف يعرف وإن كان مثلهم لا يرى؛ فلقد وقع الرائد والقائد في حفرة، وانهار فوقع التالي وانهار عليه، أما الأربعة الباقون فقد استشعروا الخطر وفتحوا المحاجر الجوفاء على اتساعها كأنهم يريدون أن يروا الظلمة المطبقة ويتأكدوا من أنها ازدادت كثافة وإطباقا ... من هم هؤلاء الرجال الستة؟ أيسيرون على طريقهم المعتاد كل يوم؟ هل وقعوا في هذه الحفرة من قبل أم فاجأتهم على غير توقع؟ من بعيد تظهر بعض بيوت القرية والكنيسة الريفية الصغيرة والأشجار الراسخة والبحيرة. ولم يسعون أو يوشكون على السقوط في الحفرة دون أن يشعر بهم أحد؟ كيف اندفعوا في الليل الأعمى؟ من حركهم؟ هل هو مثلهم قدر أعمى؟ ولماذا يتخلى عنهم؟ ولماذا لم ينتظروا أن يشرق فجر أو تطلع شمس نهار؟ هل دار بخاطرهم أن الرؤية بالليل تكون أتم؟
الأعمى، يتبعه أعمى، يمسك بعصا يمسكها أعمى، يضع يديه على كتفي أعمى ... والكل تعثر وسيسقط حتما في الحفرة ... أهي رؤية ونبوءة؟ هل رسم الفنان هؤلاء العميان أم كان كأفلاطون في أسطورة الكهف (آخر الكتاب السادس وبداية الكتاب السابع من الجمهورية) يقدم رمزا أو أمثولة؟ هل نحن العميان المقصودون، والموت أو القدر الأعمى أو ما شئت من المحن الكبرى هو تلك الحفرة؟ ألا تنطبق الرؤية أو النبوءة علينا نحن في هذا العصر، عصر الاضطراب الشامل الذي نشقى به، والكوارث الكبرى والصغرى التي تتجسد أمامنا في كل مكان، عصر يشن فيه الجميع الحرب على الجميع، ويتوقعون الكوارث كل يوم، ويقتاتون عليها كل صباح، ويأخذونها إلى نومهم كل مساء؟ ألا يمكن أن نقول مع أحد الشعراء الذين «قرءوا» العميان إنها ليست مجرد صورة، بل وصية، في زمن جمع أصحاب الرؤية من أمثال بروجل (رابليه ومونتني وشكسبير)، وجسد الرعب من المجهول وما أفظع تخريبه للأفراد والشعوب؟ أم نقول أخيرا إن عميان بروجل يرون بأعينهم أكثر مما نرى، ويحسون بنا أكثر مما نحس بأنفسنا؟ هم أسرى القيد المجهول. من فينا إلا وهو اليوم أسير مثل العميان، سجين أو مشنوق؟
وتوسيع خطاك وأنت تنتقل عبر الزمن لتجد لوحة أخرى لراء آخر؛ إنه فنسنت فان جوخ (1853-1890م)، ولوحته هي حقل القمح مع الغربان التي كانت آخر ما رسم قبل إقدامه على الانتحار بأيام قليلة. انظر الصورة وحاول أن تقرأها قبل أن تضاهيها بنصوص الشعراء. سيفاجئك إلى حد الدهشة طوفان القمح الذهبي، وستمسك أنفاسك خوفا أو عجبا من أسراب الغربان السوداء الطافية على سطح الموج، ودائرة النار ووهج البريق، وتلبد السحب وزفير الأرض، أهي غضبة الوجود وحريقه أم رماد العدم المتبقي بعد الثورة؟ أم هو قلق الفنان المتمزق بهواجسه «الميتافيزيقية» التي لونها بالأحمر والأصفر الفاجعين (من الأسف أن الصورة بالأبيض والأسود لا بالألوان الأصلية!)
14
هل كان هذا الفنان يتضرع لله أن يخلصه من يأسه فكانت الصورة هي نشيجه وبكاءه، وكانت الألوان هي صلاته، لكن الفنان قد أطلق آخر سهم في جعبته، والسهم اتجه إليه وغار في لحمه، وانفتح الجرح كما تنفتح الهاوية السوداء. هل هو جرح وجود الإنسان على الأرض، في زمن الجوع، القسوة، والتعذيب، أم هو جرح الفنان البائس، جرح العين التي «رأت» من هول الحقيقة أكثر مما تطيق عين البشر؟ وها نحن أولاء نرى بعض ما أصابها بالدوار فيصيبنا الدوار ...
بقي علينا أن نعرج على أدبنا العربي ونطرح هذا السؤال: هل نجد أثرا لقصيدة الصورة في تراثنا الشعري والنقدي قديمه وحديثه ومعاصره؟ وإذا صح توقعنا للجواب فهل يمكننا - إزاء التراث العريق ومراعاة لمقتضى الحال في مثل هذا التقديم! - أن نتتبع الخيوط الأساسية للاهتمام بالصورة في جانبها الذي يؤكد المقارنة القديمة بين الشعر من ناحية والتصوير أو الرسم من ناحية أخرى؟
من الطبيعي أن نجد الصورة الفنية على اختلاف أنواعها ومستوياتها ووظائفها في الشعر العربي، شأنه في ذلك شأن كل شعر آخر؛ فقد كانت الصورة ولم تزل هي جوهر الشعر الثابت ووسيلته التي لا يستغنى عنها في الكشف عن الحقائق الشعرية والإنسانية التي تعجز اللغة العادية واللغة العلمية عن الكشف عنها وتوصيلها. ومن الطبيعي أيضا أن يحظى بحث الصورة بعناية النقاد والبلاغيين القدامى، وأن يستفيد من جهود اللغويين والمفسرين والمتكلمين في تحديد مفاهيم التشبيه والاستعارة والمجاز، كما يستفيد من شروح الفلاسفة المسلمين لنظرية المحاكاة لأرسطو على ضوء كتبه في الشعر والخطابة والنفس وما بعد الطبيعة.
وربما يكون «الجاحظ» هو أول من التفت إلى طبيعة الشعر من حيث هو «ضرب من النسيج وجنس من التصوير»، وأول من طرح في تاريخ النقد العربي بعض الأفكار الهامة التي سيطرت على أجيال طويلة من البلاغيين والنقاد من بعده، ولو قرأنا عبارته المشهورة في كتاب الحيوان (3 / 131-132) لتبينا الدلالات المختلفة التي يفهمها من كلمة التصوير، والمبادئ التي يقوم عليها هذا الفهم: «المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي والمدني، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير.»
والعبارة تقدم لنا مصطلح التصور الذي يهمنا في هذا السياق. والجاحظ يستخدمه في العبارة السابقة وفي كتبه ووسائله استخداما يمكننا أن نستشف منه ثلاثة مبادئ؛ أولها: أن للشعر أسلوبا خاصا في صياغة الأفكار أو المعاني، وهو أسلوب يقوم على إثارة الانفعال واستمالة المتلقي إلى موقف من المواقف. وثانيها: أن أسلوب الشعر في الصياغة يقوم على تقديم المعنى بطريقة حسية؛ أي إن التصوير يترادف مع ما نسميه الآن بالتجسيم. وثالث هذه المبادئ أن التقديم الحسي للشعر يجعله قرينا للرسم ومشابها له في طريقة التشكيل والصياغة، والتأثير والتلقي، وإن اختلف عنه في المادة التي يصوغ بها ويصور بواسطتها،
15
ومن الواضح أن المبدأ الأخير يشير إلى دلالة كلمة التصوير على رسم لوحة أو تشكيل تمثال، بحيث يصبح معنى الصورة مرادفا للوحة المرسومة، ويكون ربط الشعر بالرسم أمرا ناتجا عن إدراك أن التقديم الحسي للمعنى أو التجسيم عنصر مشترك بين الشعر والرسم؛ لأن كلا من الرسام والشاعر يقدم المعنى بطريقة بصرية.
ومع أننا نفتقد الأساس النظري لفكرة المقارنة بين الشعر والرسم في كتابات الجاحظ المعروفة، كما نفتقد التطبيق العملي لها على نصوص الشعر، فإن بعض أحكامه النقدية تؤكد ميله إلى هذه المقارنة، وإلى ذلك النوع من الشعر الذي يقدم مشهدا أو منظورا واضحا لمخيلة المتلقي كأنه لوحة يرسمها رسام. وربما كانت رواية ابن الأثير (في المثل السائر، 2، 246-347) - وهي الرواية التي تتكرر في أخبار أبي نواس لابن منظور (ص 39، 40) - لأبيات أبي نواس المشهورة في وصف الكأس وصورة كسرى في أسفله والمها والفوارس التي ترميها بالقسي، ثم قوله على لسان الجاحظ إنها أفضل ما عرفه من شعر أبي نواس، بل من الشعر قديمه وحديثه، ربما كانت هذه الرواية تؤكد أن مصطلح التصوير عند الجاحظ بقدر ما يشير إلى قدرة الشاعر كصانع على التأثير في الآخرين، فهو يشير في الوقت نفسه إلى أن الشاعر يستعين في صناعته بوسائل تصويرية تقدم المعنى تقديما حسيا، مما يجعله نظيرا للرسام ومثيلا له في طريقة التقديم.
16
والمهم أن الجاحظ عندما طرح فكرة التصوير على هذا النحو كان يطرح لأول مرة في النقد العربي فكرة الجانب الحسي للشعر وقدرته على إثارة صور بصرية في ذهن المتلقن، وهي فكرة تعد المقدمة الأولى للعلاقة بين التصوير والتقديم الحسي للمعنى. وقد التقط منه البلاغيون والنقاد واللغويون والمفسرون والشراح - كالرماني وابن جني والعسكري والزمخشري والمرزوقي وابن سنان وابن رشيق - خيط هذه الفكرة، وبدءوا يلتفتون إلى التصوير الأدبي ويهتمون بتأمل خصائصه الحسية وطريقته الخاصة في تمثيل المعنى للحواس، كما جعلهم يتوقفون إزاء النص القرآني لاكتشاف أسرار إعجازه، وبلاغة تشبيهاته واستعاراته التي تكمن في قدرتها على تصوير المعنى المجرد وتقديمه تقديما محسوسا عن طريق ربطها المعنوي المجرد بالحس العيني، أو ربطها الصور الحسية بأخرى أشد منها تمكنا في الصفات الحسية.
17
ويصل الكلام عن الصورة والتصوير الشعري إلى ذروته عند عبد القاهر الجرجاني صاحب نظرية النظم المشهورة. إنه يحتج في معرض دفاعه عن الصورة (في دلائل الإعجاز، 330) بعبارة الجاحظ السابقة والاستعارة والتمثيل وجمالها وتأثيرها إلى قدرتها على تجسيم المعنوي وتقديمه تقديما حسيا وتشخيصه وبث الحياة والحركة فيه حتى ليكاد تراه العيون ... ويبدو أن تركيز عبد القاهر على الجانب البصري الخالص من التقديم الحسي للمعنى وتجسيمه وتشخيصه أمام العين قد جعله يرد روعة الشعر إلى براعة التصوير ويقارن بين عمل الشاعر وعمل الرسام، على أساس أن الاحتفال والصنعة في التصويرات والتخييلات الشعرية تفعل فعلا شبيها بما يقع في نفس الناظر إلى «التصاوير» التي يشكلها الحذاق من الرسامين أو المصورين: «فكما أن تلك تعجب وتخلب وتروق وتدخل النفس من مشاهدتها حالة غريبة لم تكن قبل رؤيتها، ويغشاها ضرب من الفتنة لا ينكر مكانه ولا يخفى شأنه، كذلك حكم الشعر فيما يصنعه من الصور ويشكله من البدع ويوقعه في النفوس من المعاني التي يتوهم بها الجياد الصامت في صورة الحي الناطق، والموات الأخرس في قضية الفصيح المعرب والمبين المميز، والمعدوم المفقود في حكم الموجود المشاهد.»
18
ولا شك في أن استخدام عبد القاهر لمصطلح الصورة والتصوير في «الدلائل» ومصطلح التخييل في «الأسرار»، فضلا عن مقارناته بين تخييلات الشاعر و«تصاوير» الرسام، يكشف عن مدى مساهمة شراح أرسطو من فلاسفة الإسلام (من الفارابي إلى ابن سينا الذي أصبحت صلته به في حكم المؤكدة) في بلورة مفهومه عن التصوير والتمثيل، بأن في استخدام كلمات مترجمي أرسطو وشراحه مثل التصوير والتخطيط والنقش والأصنام التي وردت في تلخيص ابن سينا لكتاب أرسطو في الشعر.
19
ولا شك أيضا في أن العلاقة بين الشعر والرسم، على النحو الذي فهمت به في التراث النقدي، كانت وراء فكرة التقديم الحسي، أو التجسيم البصري لمعاني الشعر، والإلحاح على الجوانب الحسية للتصوير الشعري، ثم إن ربط الشعر بالرسم كان يفترض أن الشاعر مثل الرسام يقدم المعنى بطريقة حسية، هذا عن طريق المشاهد التي يرسمها على اللوحة فيتلقاها المشاهد تلقيا بصريا مباشرا، وذلك عن طريق لغته التي تثير في ذهن المتلقي صورا يراها بعين العقل.
20
وقد ازدهر مبحث المقارنة بين الشاعر والرسم عند شراح أرسطو الذين تقبلوا فكرته عن أن الشعر والرسم نوعان من أنواع المحاكاة قد يتمايزان في المادة التي يحاكيانها - فأحدهما يتوصل باللون والظل، والآخر يتوصل بالكلمة - لكنهما يتفقان في طبيعة المحاكاة وطريقتها في التشكيل وتأثيرها على النفس - ولولا ضيق المجال في هذا التقديم المحدود لاسترسلنا في الحديث عن نظرية المحاكاة لأرسطو، وعن أوجه التشابه بين الشعر والرسم في محاكاتهما للواقع والممكن، وبين طريقة الشاعر والرسام في إحداث أقصى قدر ممكن من التآلف والتناصب بين عناصر مادتهما وإحداث تأثير خاص في نفوس المتلقين على نحو يدفعهم إلى انفعال، أو يحثهم على فعل معين؛ وذلك كما بينها شراح أرسطو من فلاسفة الإسلام، وكما تأثر بها بعض البلاغيين والنقاد بدرجات مختلفة تفاوتت في قوتها ووضوحها ودقتها بين قدامة بن جعفر والباقلاني، وابن طباطبا، وابن سنان، وعبد القاهر الجرجاني، إلى أن بلغت أدق فهم لها وأعمقه عند أنبغ تلاميذ أرسطو من النقاد العرب، وهو حازم القرطاجني الذي كان الناقد العربي الوحيد الذي استطاع أن يدرك الطبيعة الحسية للشعر، وقدرة صوره على التقديم الحسي، ضمن تصور متماسك لطبيعة الشعر وأهميته في نفس الوقت.
21
هل يمكننا الآن أن نلتقط من تراثنا القديم بعض النماذج الشعرية التي توضح الآراء النظرية السابقة، وتقترن برسم أو تصوير أو عمل فني محدد؟
إن أول ما يخطر على البال هو سينية أبي نواس (من 130ه/747م إلى 190ه/806م تقريبا)، التي سبق أن أشرنا إلى أن الجاحظ قد أعجب بها وفضلها على غيرها من شعر أبي نواس نفسه، ولا يستبعد أن تكون وراء عبارته الشهيرة التي أكد فيها الصلة بين الشعر والتصوير، وقدم الشعر الذي يرسم المشاهد ويجسم المناظر على غيره.
وكان أبو نواس قد أخذ بعض صحبه ومر على المدائن مقر الأكاسرة، فرأى بعض حاناتهم ودور لهوهم وأنسهم التي لم يبق منها غير أطلال، فكتب قصيدته الشهيرة:
ودار ندامى عطلوها، وأدلجوا
بها أثر منهم جديد ودارس
ما حب من جر الزقاق على الثرى
وأضغاث ريحان جني ويابس
أقمنا بها يوما ويوما، وثالثا
ويوما له يوم الترحل خامس
تدور علينا الراح في عسجدية
حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى، وفي جنباتها
مها تدريها بالقسي الفوارس
فللخمر ما زرت عليه جيوبها
وللماء ما دارت عليه القلانس
22
والأبيات الثلاثة الأخيرة تصف الكأس الذهبية الحافلة بألوان من التصاوير الفارسية؛ ففي أسفلها صورة كسرى، وعلى جوانبها صور بقر وحشي وفوارس تختلها، وتحتال عليها لترميها بالنشاب. وقد ملئت الكئوس بحيث بلغت الخمر إلى مواضع الجيوب، أو الحلوق من تلك الصور، وصب الماء عليها حيث الرءوس التي تدور عليها القلانس، أو أغطية الرأس الشائعة في ذلك الحين. ومع أن الكأس التي وصفها أبو نواس قد زالت بما نقش عليها من تصاوير، زالت الدار والندامى الذين كانت تدار عليهم، ومع أن فرصة المقارنة الجمالية بين صور القصيدة والتصاوير الفارسية قد ضاعت إلى الأبد، فإن المشاهد التي رسمتها أبياتها الثلاثة الأخيرة لم تزل متدفقة بالحياة. وإن وضعناها في سياق القصيدة وفي علاقتها بالأبيات الثلاثة المتقدمة عليها، لاستشعرنا «جدلية» الحياة والموت بكل قسوتها وصدقها. لقد خلت الدار وصارت أطلالا دارسة، لم يبق فيها من الندامى الذين هجروها سوى آثار من جر الزقاق على الثرى، وبقايا ريحان جني ويابس. وفي إطار الزوال والفناء، الذي زاده الرحيل حزنا على حزن، وضع الشاعر أحداث الماضي في صورة تثبته، وتجعله حاضرا في خيال كل ناظر إليه أو قارئ لسطوره أو مستمع لشعره. ترى كيف كان يبدو كسرى في قرار الكأس؟ هل كان يجلس على العرش؟ وكيف بدت ملامح وجهه ونظرات عينيه. والفوارس والمها، وفعل الصيد بمختلف عناصره ومكوناته وزخارفه وحركاته وظلاله؟ ... لا جدوى من الأسئلة التي كان يمكن أن تثري الإجابة عليها إحساسنا بالقصيدة وتذوقنا لها؛ فنحن أمام قصيدة تصور، لا قصيدة صورة أو تصوير لم يبق لهما للأسف أثر!
يمكننا أيضا أن نقف عند رائعة البحتري (من 204 إلى 284ه تقريبا)، الشهيرة في وصف إيوان كسرى بالمدائن ومطلعها:
صنت نفسي عما يدنس نفسي
وترفعت عن جدا كل جبس
وسنكتفي منها بالأبيات (من 22 إلى 28) التي وقف فيها البحتري أمام صورة مسجلة على جدران القصر الذي كان فيه الإيوان. وهي صورة معركة حربية دارت عند مدينة أنطاكية بين الفرس والروم سنة 540م. ويبدو أن المصور قد أجاد التصوير حتى شعر البحتري بالرهبة أمامها، وخيل إليه أن الموت ماثل فيها، بينما كان أنوشروان واقفا تحت علمه الكبير يحرض جنده على القتال. وكان المصور أو النحات (إذ لا ندري هل كان الشاعر يصف مشاعره ورؤاه أمام صورة، أو يصف نحتا بارزا على جدار!) لون ثوب كسرى باللون الأخضر، كما صبغ جواده بالأصفر، وصور القتال الدائر في صورة بلغت من الحيوية أن وصفتهم عين الشاعر بأنهم «جد أحياء». ولولا أنهم كانوا مقيدين على الجدار بألوان الصورة وخطوطها وظلالها أو مأسورين في بروز النحت ونقوشه الحجرية، لما أحس خفوت صوتهم وسكون جرسهم، ولا خيل إليه أنهم خرس يتبادلون الإشارة. ولقد بلغ التصوير من الحيوية حدا جعل الشاعر يندفع إلى الصورة بيده ليرى أصورة هي أم حقيقة!
وإذا ما رأيت صورة أنطا
كية ارتعت بين روم وفرس
والمنايا مواثل، وأنوشر
وان يزجي الصفوف تحت الدرفس
23
في اخضرار من اللباس على أص
فر يختال في صبيغة ورس
24
وعراك الرجال بين يديه
في خفوت منهم وإغماض جرس
من مشيح يهوي بعامل رمح
ومليح من السنان بترس
25
تصف العين أنهم جد أحيا
ء لهم بينهم إشارة خرس
يغتلي فيهم ارتيابي حتى
تتقراهم يداي بلمس
26
ولا بد أن نذكر قصيدة المتنبي (303-354ه/915-966م) التي قالها في مدح سيف الدولة أثناء مقامه في أنطاكية (جمادى الأولى 337ه/تشرين الثاني 948م)، وهي التي وصف فيها فازة - أي خيمة أو مظلة - من الديباج نقشت عليها صورة ملك الروم، وصور أنواع مختلفة من الوحش والحيوان، حيث جلس سيف الدولة لاستقبال وفود أنطاكية.
والقصيدة من أصعب شعر المتنبي المعروف بصعوبة تركيبه وتعقيده، وهي متقنة الصنع إلى حد التصنع كما يشهد على ذلك مطلعها الشهير:
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه
بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
وتبدأ بمقدمة غزلية (الأبيات 1-13) متبوعة باستطراد غنائي (14-17) يؤدي إلى المديح، حتى يبلغ الأبيات التي تهمنا (18-25):
27
وأحسن من ماء الشبيبة كله
حيا بارق في فازة أنا شائمه
عليها رياض لم تحكها سحابه
وأغصان دوح لم تغن حمائمه
وفوق حواشي كل ثوب موجه
من الدر سمط لم يثقبه ناظمه
ترى حيوان البر مصطلحا بها
يحارب ضد ضده ويسالمه
إذا ضربته الريح ماج كأنه
تجول مذاكيه وتدأى ضراغمه
وفي صورة الرومي ذي التاج ذلة
لأبلج لا تيجان إلا عمائمه
تقبل أفواه الملوك بساطه
ويكبر عنها كمه وبراجمه
قياما لمن يشفي من الداء كيه
ومن بين أذني كل قرم مواسمه
إن المتنبي يتطير إلى سيف الدولة الجالس في خيمته ويترقب جوده وكرمه كما يترقب الناظر إلى السحاب ذي البرق اللامع ما يجود به من المطر. وهو يبدأ في وصف الصور المرسومة على قبة الخيمة أو ما نسميه اليوم الطبيعة الصامتة، فيتعجب لرياض لم ينبتها غيث من السحاب، وأغصان شجر عظيم عليها حمائم لا تغني، وبذلك يومئ منذ البداية إلى أنها صور ممثلة، ونسيج حاكته يد الإنسان لأيدي الطبيعة. ثم يجول بعينيه في حواشي الأثواب التي اتخذت منها الخيمة، فيرى عليها دوائر ونقوشا بيضاء كأنها قلائد من الدر الذي يثقبه ناظمه لأنه ليس بدرا حقيقيا، كما يشاهد صور وحوش وحيوانات متحاربة بطبيعتها، يستدرك على الفور فيتذكر ويذكرنا بأنها تبدو في الوقت نفسه حيوانات مسالمة؛ لأنها مجرد صور لا روح فيها. ومع ذلك فإن اللوحة الدرامية التي صورها في قوله «يحارب ضده ويسالمه»، لا تلبث أن تغريه بحيويتها وحركتها فيقول إن الريح إذا ضربت تلك الثياب ماجت وكأن الحيل المسنة (المذاكي) التي عليها تصول وتجول، وكأن الأسود تختل الظباء لتصيدها. وقد كان من الممكن أن نعيش التجربة وأن يستغرقنا المنظر المائج بالحركة والصراع، لولا أن الشاعر قد استخدم «إذا» و«كأن» ليذكرنا مرة أخرى بأنها صور محاكية. وهو يسارع إلى تأكيد هذا في البيت التالي الذي يبدأ بصورة ملك الروم وهو ساجد لسيف الدولة. ومع أن الملك متوج فإن التاج الحقيقي هو العمامة التي تزين رأس سيف الدولة؛ لأن تيجان العرب هي عمائمها. ثم يزيد الشاعر في تصوير ذل الملوك الذين يغلبهم سيف الدولة كما غلب هذا الملك، فيقول إنهم يقبلون بساطه لأنهم لا يقدرون على تقبيل كمه أو يده. ولا ندري إن كانت الصورة التي سجلها لنا المتنبي قد حوت إلى جانب ذلك الملك الرومي ملوكا آخرين أذلهم سيف الدولة وشفاهم من غيهم وطغيانهم، وترك عليهم آثار قهره لهم، أم إن سجود ملك الروم المرسوم على الخيمة قد ألهب خياله فابتداع صورا أخرى في تمجيد ممدوحه وتعظيم شجاعته وقوته. ومهما يكن الأمر فيبدو أن التفاصيل السابقة هي كل عناصر الصورة التي رآها المتنبي، وأن كل ما تلاها صور فنية من إبداع خياله لا من وحي الصورة المرسومة على قبة المفازة التي جلس تحتها سيف الدولة ليستعرض وفود الأسرى والشعراء ...
لا شك في أن النماذج القليلة السابقة تقربنا خطوة من قصيدة الصورة دون أن تفي بمقوماتها، أو تتيح المقارنة الجمالية به النص اللغوي والأصل الفني الذي أتت عليه يد الفناء. وقد يستطيع الباحث أن يعثر على نماذج أخرى في ديوان الشعر العربي من عصوره القديمة حتى عصر البعث أو الإحياء (ويكفي أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض قصائد شوقي المشهورة مثل قصيدته عن معبد أنس الوجود أو قصيدته عن أبي الهول)، ولكن الحقيقة التاريخية تقول إن قصيدة الصورة بمعناها المفهوم في الشعر العالمي لم تظهر بصورة محددة إلا على يد الشاعر العالم الدكتور أحمد زكي أبو شادي (1892-1955م) رائد جماعة أبولو، ومؤسس مجلتها التي حفلت أعدادها (بين سبتمبر 1932م وأكتوبر 1934م) بنماذج منها وضعها في باب مستقل سماه «شعر التصوير». والغريب أن «أبا شادي» هو الذي انفرد بكتابة هذا النوع من الشعر، ولم يشاركه فيه غير شاعرين اثنين هما إسماعيل سري الدهشان - الذي كتب قصيدة بعنوان الصائدة المتجردة أمام صورة فوتوغرافية لحسناء تقف إلى ركبتيها في مياه البحر
28 - وأحمد مخيمر الذي استوحى مع أبي شادي صورة أخرى لرسام فرنسي اسمه «ماناسيه»، فكتب أبياتا قليلة تحت العنوان الذي وضع لتلك الصورة وهو ملاك أم شيطان.
29
قدم أبو شادي من هذا الشعر التصويري كما سماه سبع عشرة قصيدة أرفق بها الصور نفسها، وهي صور توضيحية مطبوعة بالألوان في أغلب الأحوال، خالية من أي قيم فنية حقيقية. والقليل من هذه الصور أو اللوحات المصورة منسوب إلى أسماء أصحابها الذين سقطوا من ذاكرة تاريخ الفن، أو لعلهم لم يعلقوا بها أبدا لأنهم كانوا في الغالب من رسامي المجلات المصورة (مثل إيفلين بول، وج. دي جلن، وماناسيه)، وليس من بينها سوى لوحة واحدة يحتمل أن تكون لمصور كبير (وهي اللوحة التي وضعت أيام قصيدته عن إيليا وصموئيل). وبمراجعة هذه القصائد من الشعر التصويري نجد أنها تقف عند حدود التصوير بمعناه الوصفي التوضيحي المباشر لتفاصيل الصورة المنشورة معها، كما نجد أنها تتسق مع التيار الوجداني الذي سارت فيه حركة أبولو مهتدية بشعر الرومانطيقية الإنجليزية والفرنسية من ناحية، وبشعر مطران ومدرسة الديوان وشعراء المهجر من ناحية أخرى. وعناوين القصائد وموضوعاتها لها دلالتها الكافية على معالم التجديد كما تصوره هذه الجماعة التي أسسها أبو شادي، واختار أن يسميها باسم رب الفنون في الأساطير اليونانية، بالإضافة إلى دلالتها على ثقافته المتنوعة واطلاعه الواسع على الشعر الإنجليزي بوجه خاص؛ فبجانب ثلاث قصائد معبرة عن الروح الرومانطيقية بوجه عام (وهي المساء في الصحراء، في الواحة، ملاك أم شيطان)، نجد سائر القصائد مستمدة من تاريخ مصر القديمة وأساطيرها (مثل نفرتيتي والمثال، في المعبد، أوزوريس والتابوت، إيزيس والطفل الأمير، إيزيس تغادر بيبلوس، موسى في اليم) أو من الأساطير اليونانية القديمة (مثل زيوس ويوروبا، أفروديت وأدونيس، بلوتو وبرسفون، أبولو ودفني)، أو من أسفار العهد القديم (إيليا وصموئيل). فهل ينطبق على قصائد الصورة هذه وصف أبي شادي نفسه بأنها أمثلة معتدلة من النظم الحر الجامع بين الشعر القصصي وشعر التصوير؟ وهل يصدق عليها ما قاله في العدد الأخير من مجلة أبولو
30
ضمن هواجسه النقدية التي راح فيها يدافع عن التصوير في شعره ويرد اتهام المحافظين والتقليديين وعيبهم عليه بالإسراف في تطبيق ملكة التصوير على المحسوس والمتخيل، «كأن الشعر وقف على التصوير العاطفي وحده وليس له أن يصور المظاهر الفنية في الكائنات والأشياء، ولا أن يجسم الأخيلة الفنية التي هي بمثابة حقائق للشاعر وإن كانت عدما أو وهما لغيره!» هل نجح أبو شادي في تصويره الشعري الذي زعم أنه يعبر عن الدقة المنوعة في إبراز شتى الحالات من المخيلة والوجدان في تصاوير مختلفة نابضة بالحياة سواء أكانت تصاوير ذاتية أم تصاوير قصصية؟ وهل استطاعت قصائد الصور التي كان أول من حاول كتابتها أن تحقق مزاعمه النظرية والنقدية الطموح أم قصرت أجنحة شعره عن التحليق في أجوائها البعيدة؟
الواقع أن «أبا شادي» ظاهرة أدبية وعلمية وفكرية نادرة في تاريخ أدبنا الحديث. لقد أوجد مناخ التجديد وبشر به بحماس وهمة لا نظير لهما، ولكن موهبته في الابتكار وريادة الآفاق المجهولة - سواء في تجديد الشعر والأدب، أو في الدجانة والنحل اللذين خصهما بمجلتين أخريين! - قد فاقت موهبته الشعرية الفقيرة إلى حد مأساوي مؤلم، فامتزج في شعره الغزير المتسرع قدر هائل من الفكر والعلم والتصوف والفلسفة جعله في الغالب الأعم نظما خاليا من كل أثر لسحر الشعر وصدقه وتصويره وتعبيره عن الذات - أي من كل القيم التي دعا إليها وحارب من أجلها بشجاعة وتضحية وصدق - حتى ليندر أن تجد في دواوينه الكثيرة بيتا واحدا يمكن أن يتسلل إلى القلب، ويؤثر عليه بنغمة شجية أو صورة موحية. لقد كان شاعرا مرحليا لم يتعد عمره الفني عمره الزمني، من أولئك المنظرين الذين يتقنون كتابة البيانات ووضع المشروعات الكبيرة ويخفقون في تحقيقها في إنتاجهم الذي يكذب في معظمه مبادئهم وغاياتهم ؛ ولذلك لم تبق لابتكاراته في المسرح الشعري والأوبرا والشعر التصويري نفسه إلا قيمة تاريخية لا يحس بها إلا من يكلف نفسه مشقة تقليب صفحات التاريخ، أو متابعة قضية التأثير والتأثر بالشعر الغربي ليكتشف أن قصائده التصويرية قد وقفت عند التقليد المباشر والمحاكاة السطحية، ولم تبلغ مرحلة التوليد والإبداع الناضج التي بلغتها في نماذج عديدة من شعر المجددين الكبار في حركة الشعر الحر منذ أوائل الخمسينيات.
ويكفي أن نطلع على قصيدة واحدة من القصائد التي ذكرناها لكي لا نتهم بظلم أبي شادي - الذي نقدر دوره ودور جماعة أبولو كل التقدير - ولنقف وقفة قصيرة عند القصيدة الأولى من تلك المجموعة التي ذكرناها لنتأكد من قصورها عن تأصيل هذا النوع الأدبي وإخفاقها في جذب الأنظار إليه. وقصيدة «المساء في الصحراء»
31
هي أول قصيدة في تلك السلسلة الطويلة من نماذج الشعر التصويري التي راح فيها يحاكي نماذج غربية أو بالأحرى إنجليزية لا نعرفها على وجه التحديد. ستطالعنا لوحة ساذجة تحاول القصيدة أن تعبر عنها، وتمثل منظرا صحراويا تظهر في خلفيته كثبان الرمل الرمادية الميالة إلى الخضرة الغامقة، يحدها من الجانب الأسفل للصورة مستطيل تقترب مساحته من البناء القاتم، وفيها نشاهد جملا يقف أمامه عربي في بردة بيضاء، وأمامهما ثلاثة أعراب يجلسون القرفصاء حول مجمرة يتصاعد منها نار ودخان. وليس في الصورة الراكدة شيء يمكن أن يثير وجدان الشاعر وخياله، إلا أن تكون مناسبة للحديث عن الصحراء والمساء بوجه عام:
دنا الليل والصحراء في روعة له
وإن لمحت في راحة وسكون
ولم يبق من شمس الغروب ونورها
سوى لوعة في صفرة وحنين
تقبل كثبان الرمال وكل ما
تقبل في وجد ويأس حزين
غزتها جنود الزنج والوقت مسعف
وكم داولتها في ألوف قرون
هو الوقت لا يرعى جمالا برحمة
وكل سعيد عنده كغبين
دنا الليل والشمس السخية أخلفت
حرارتها موتا وبخل ضنين
وأقبل قر الليل قبل مجيئه
فيا لخئون سابق لخئون!
تهارب منه أهلها وتجمعوا
على النار مثل العابدين لدين
ومدوا الأيادي السائلات نوالها
فنادت عليهم في لسان مبين
ووزعت السحر الذي يرتجونه
حياة وإيناسا وأمن أمين
تكاد العيون الناظرات لهيبها
تناول منها ذخرها لسنين
وتبخل حتى بالدخان يفوتها
وتؤخذ من ألوانها بفنون
وقد وقف الجمال كالجمل الذي
أطل عليها في خشوع مدين
كأن بها للشمس روحا تنوعت
وقد سجنت لكن كغير سجين!
وهل دانت الصحراء إلا لشمسها
جمادا وحيا قبل جود عيون؟
كأن تلال الرمل كنز أشعة
من الشمس فاعتزت بكل ثمين
دنا الليل فاخطف قبل موت منوعا
من الظل والأصباغ غير مهين
فهذي صنوف من حياة تبددت
وهذي معان من منى ومنون
ولا جدوى من اقتباس نماذج أخرى من هذا الشعر التصويري؛ لأنه لا يختلف كثيرا عن هذه المنظومة. وإذا كان من الواجب علينا أن ننوه بفضل أبي شادي رحمه الله في التنبيه إلى هذا النوع الأدبي وريادة طريق التفاعل المتبادل بين فني التصوير والشعر، فإن قصيدة الصورة لم تبدأ بدايتها الشعرية الحقيقية ولم تصبح الصورة موضوعا متكاملا للقصيدة إلا مع حركة الشعر الحر ...
مضى الشعر الحر على الطريق الذي بدأه أبو شادي فيما بعد الستينيات (وربما يرجع السبب في هذا إلى انشغال الحركة الجديدة في الخمسينيات بتحسس طريقها والدفاع عن حقها في الوجود إزاء الهجوم الضاري عليها، والصراع بين بعض أعلامها حول أسبقيتهم إلى ريادتها!) وظهرت قصيدة الصورة التي تصف اللوحة الفنية أو التمثال فتستوحي مضمونهما أو شكلهما، أو تجعلهما مناسبة لتقديم رؤية الشاعر للعالم، أو نقده للعصر والمجتمع، أو تأملاته عن وجود الإنسان ومعناه. وتعددت أشكال هذه القصيدة وأنماطها المختلفة؛ فمن قصيدة يحاول فيها الشاعر أن يستلهم طريقة الفنان التشكيلي بوجه عام والرسام بوجه خاص في تشكيل القصيدة وبنائها، إلى قصيدة موجهة إلى أحد كبار الفنانين والمصورين العرب أو الغربيين، إلى قصيدة مستوحاة من صور ولوحات فنية محددة.
أما النمط الأول فيطالعنا في قصيدة للمرحوم الشاعر صلاح عبد الصبور (من ديوانه شجى الليل) يدل عنوانها على أسلوبها ومنحاها «تقرير تشكيلي عن الليلة الماضية». الشاعر هنا - بقدر ما نعلم - يصف ولا يستوحي عملا فنيا محددا، وإنما يشكل بكلماته وإيقاعاته وبنية عباراته صورة مؤلفة من ثلاثة مقاطع، يقدم أولها عناصر الصورة من اللون والحركة، وإطار الاكتئاب المحيط بها:
عناصر الصورة:
لون رمادي، سماء جامدة
كأنها رسم على بطاقة.
مساحة أخرى من التراب والضباب،
تنبض فيها بضعة من الغصون المتعبة ،
كأنها مخدر في غفوة الإفاقة
وصفرة بينهما، كالموت، كالمحال،
منثورة في غاية الإهمال (نوافذ المدينة المعذبة).
الحركة:
محبوسة: ثقيلة: هامدة.
الإطار:
قلبي المليء بالهموم المعشبة،
وروحي الخائفة المضطربة،
ووحشة المدينة المكتئبة.
وليست هذه هي القصيدة الوحيدة التي يتحول فيها الشاعر إلى رسام بالكلمات، ويغدو القلم ريشة تلون وتظلل، وتصبح البنية اللغوية والإيقاعية تشكيلا فنيا نكاد نلمحه بأعيننا ونتحسسه بأيدينا. لقد جرب الشاعر هذا في قصائد أخرى عديدة (مثل رؤيا وتوافقات، واللوحات الأولى من مسرحيته الشعرية الأميرة تنتظر)، ولكن الجسارة والأصالة تتجليان في هذه القصيدة الفريدة التي يعترف فيها بأنه يقدم تقريرا تشكيليا عن ليلة ماضية. ولسنا ندري - كما سبق القول - إن كان الشاعر قد تأثر بصورة لم يذكرها، فراح يحاكي ألوانها وخطوطها ومساحاتها محاكاة توشك بما تحويه من كلمات اسمية أن تكون صورة مطابقة للأصل الذي لا نعرفه ولا نؤكد وجوده - لاحظ تكرار كلمة كأن في المقطع الأول! - ولولا ورود فعل واحد (تنبض) في المقطع الأول، والإشارة إلى الحركة في المقطع الثاني - وإن تكن هي حركة السكون الهامد الثقيل - لرجحنا أن تكون القصيدة نسخة شعرية من صورة أصلية لا نراها. والواقع أن الشاعر قد وضعنا في موقف يستعصي تحديده، فهل نقول إن قصيدته نمط جديد غير مألوف من قصيدة الصورة، أم نخرجها من هذه الفئة بأكملها لمجرد أنها لا تقترن - مثل قصائد الصور في هذا الكتاب - باللوحة أو العمل الفني الذي تصفه أو تستوحيه؟ أم نقول إن هم الشاعر كان مقصورا على رسم صورة فنية للاكتئاب الذي ملأ قلبه وروحه ومدينته، وأنها لا تخرج في النهاية عن أن تكون إحدى الصور الفنية التي يزخر بها شعره؟
وبمثل هذه الأسئلة الحائرة تواجهنا قصيدة الشاعر عبد الوهاب البياتي «ثلاثة رسوم مائية» من ديوانه «الكتابة على الطين»
32
فالشاعر ينظر بعين الرسام ويصور بريشته، ولكنه لا يقدم تقريرا تشكيليا، ولا يعنى بالجانب الشكلي على الإطلاق. إنه سندباد حائر ثائر يرسم ثلاثة رسوم مائية في منفاه الوحيد، يتحسر في أولها على مغامراته الماضية في المرافئ والقلوب والمدن البعيدة، ويناجي في ثانيها المحبوبة (الحورية أو الحرية!) التي ارتحلت مثله «كما ارتحل المجوس بلا طقوس»، وراحت تموت مثله في المنفى «هربا من الظلمات والأموات والليل الطويل»، بعد أن غدرت بهما الألوان والدنيا كما غدرت بعاشقها لعوب، ثم يخاطب هذه المرتحلة المجهولة التي تتنكر مرة في زي ساحرة، وأخرى خلف قناع أميرة، تضاجع البرق في قاع البحار، وتركض غزالة في الجبال، تتراقص فراشة على وجوه العاشقين، وتهاجر مع الطيور؛ وعلى زجاج نوافذ المقهى وفي ليل الشوارع تشعلين، نار الحنين، وعلى سطوح منازل المدن البعيدة تمطرين، بينما يموت الشاعر السندباد «كقطرة المطر الحزين»، وهو لا يستطيع أن يتحول كل هذه التحولات التي نعرفها في شعره؛ لأن التحول الوحيد الذي يقدر عليه في منفاه هو أن يتنكر بقناع أعياد الطفولة أو بعناد الرافضين، ويظل يموت كقطرة المطر الحزين على وجوه العابرين ...
ومن الصعب أن نفترض وجود لوحات أصلية صورها الشاعر، أو استلهمها في رسومه الثلاثة بالألوان المائية. ويزيد من هذه الصعوبة أن الشاعر يعزف ألحانه المألوفة على أوتاره المعروفة - كالمنفى والرحيل والتحول - ويطلق منها ذكريات وأحداثا زمنية يستحيل على المصور والرسام أن يمسكا بها في ألوانهما وظلالهما وخطوطهما. ولا شك في أنه وفق غاية التوفيق عندما سمى هذه الصور الشعرية رسوما مائية؛ فالماء والميناء والسفن والمنفى والرحلة والتحول دالات حية على هذا السندباد الثائر الذي حاول تشكيل المقاطع الثلاثة في أغنيته على نحو ما يشكل الرسام رسومه المائية، بحيث امتزجت الكلمة باللون إلى الحد الذي أوشكت معه مقاطع القصيدة أن تصبح رسوما بالكلمة، وكادت الألوان تصبح ألحانا ملونة ...
ولا يقف الأمر عند الرسم بالألوان المائية، بل نجد الشاعر يعلق رسومه بنفسه على جدار! فها هو المرحوم الشاعر «أمل دنقل» يصف مقاطع إحدى قصائده بأنها رسوم معلقة في بهو عربي (من ديوانه العهد الآتي).
33
والنظرة الأولى إلى عنوان القصيدة تشف عن عالمها الماضي والواقع والممكن، ومقاطعها رسوم معلقة في بهو الزمن العربي المثقل بالمحن والكوارث والأزمات، والقصيدة مكونة من أربعة رسوم ، ألحق الشاعر بكل واحد منها نقشا وختمها بكتابة في دفتر الاستقبال لزائرة متخيلة لمعرضه؛ فاللوحة الأولى من هذه الرسوم منتزعة من ماضيه الذي ولى وخلف الحسرة في نفوس الأبناء والأحفاد. إن ليلى الدمشقية ترنو من شرفة الحمراء لمغيب شمس الأندلس، فترى الخيوط البرتقالية «وكرمة أندلسية وفسقية، وطبقات الصمت والغبار». أما النقش فتقول حروفه: مولاي لا غالب إلا الله، واللوحة الأخرى تعرض علينا المسجد الأقصى (قبل أن يحترق الرواق)، وقبة الصخرة والبراق، وآية تآكلت حروفها الصغار. أما النقش فيصرخ محذرا: مولاي لا غالب إلا النار. ونقف أمام اللوحة الثالثة فإذا هي دامية الخطوط واهية الخيوط، لعاشق محترق الأجفان كان اسمه «سرحان»، يمسك بندقية على شفا السقوط، والنقش الملحق برسم هذا العاشق الثائر يقول: «من يقبض فوق الثورة، يقبض فوق الجمرة.» ثم تأتي اللوحة الأخيرة التي ترسم خريطة سيناء التي بدت لعيني الشاعر قبل تحريرها لطخة سوداء تملأ كل الصورة. أما النقش المكتوب عليها فهو حديث شريف تصرف فيه الشاعر تصرفا يلائم البعد السياسي لمعرضه الشعري ويتسق مع أسلوبه الخطابي المباشر الذي يلطف الوزن والقافية الداخلية من حدته: الناس سواسية - في الذل - كأسنان المشط، ينكسرون كأسنان المشط. ثم تنتهي مقاطع الصور والرسوم باتهام قاس يسجله الشاعر في دفتر الاستقبال، ويضمنه البيت المعروف لدعبل الخزاعي:
لا تسألي النيل أن يعطي وأن يلدا
لا تسألي ... أبدا
إني لأفتح عيني (حين أفتحها)
على كثير ولكن لا أرى أحدا!
من الواضح أن هذه الرسوم الشعرية لا تقصد إلى إثارة خيال المتلقي، أو التأثير على حسه الجمالي، وإنما تستفزه إلى التمرد على زمن السقوط والانهيار، وتتوسل بالمبالغة والسخرية والخطاب المباشر لتثبيت صور الضياع في عقله ووجدانه؛ ولهذا لم يجد الشاعر نفسه بحاجة إلى إعمال خياله الخلاق أو اللجوء للوسائل الفنية والحيل البلاغية لرسم صوره؛ فالصور محددة وواضحة لكل عربي، ولم يكن على الشاعر إلا أن يزيدها وضوحا وتحديدا، ويثبتها على جدار الضمير المذنب بمسامير الحقيقة القاسية!
إذا كانت بعض قصائد الشعر الحديث قد حاولت أن تشكل نفسها على غرار الصورة دون التقيد بصورة محددة، فإن بعضها الآخر قد اتجه إلى استكشاف الألوان والخطوط والإيقاعات في عالم فنان بعينه دون التقيد كذلك بصورة محددة من مجموع إنتاجه ... (على نحو ما فعل عدد من الشعراء الذين تجدهم في هذا الكتاب مع عالم بروجيل وشاجال وبيكاسو وميرو). وتبرز في هذا الجانب قصيدة الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي «آيات من سورة اللون» التي تتألف في الواقع من قصيدتين متصلتين كتبت أولاهما سنة 1974م للرسام «سيف وانلي»، وكتبت الثانية سنة 1977م للفنان عدلي رزق الله.
34
ولا شك في أن مهمة الشاعر مع الرسام الأول لم تكن يسيرة؛ إذ وجد نفسه يعيش لحظات انتظار إيحاءات وإلهامات شعرية من إيحاءات وإلهامات لونية! ولا بد من أنه شعر في لحظات الوجد والفناء تلك أن عالم الشاعر والرسام عالم واحد في جوهره، وإن اختلفت الوسائط والوسائل في كليهما: «يرقد العالم في بلورة يغسلها ماء المطر. ها هي ذي اللحظة تأتي. أهو اللون، أم الإيقاع ما تصطاده، أو ربما تسلمه نفسك، حتى يغمر الموج التجاعيد، ويلهو بخصيلات الشعر؟!» ويتابع الشاعر رحلة اللون وهو يهبط من الياقوت للفضة للعشب، ثم يعلو سلم الصوت «فقاقيع من الأضواء لا تلبث حتى تنفجر». ويندمج الشاعر المتفلسف مع الرسام المتصوف في لحظات الجذب اللونية، حيث يتعانق اللون مع الإيقاع، ويستسلم الفنان لرؤاه الواردة عليه وهي تبدو في هيئة وعل نادر «ينعم بالألفة والدفء، ويجتر العكر»، أو ديك ينقر بخيمات السحر، أو بحارة أغراب يرقصون في الملهى. وكلها رؤى تركض أمامه «ركض الغيم في وجه القمر»، ويتداخل فيها اللون مع الصوت، وعليه أن يستمع إلى نصيحة الشاعر فينتظر رجوع الصيف، ويحاول مرة أخرى مع الضوء الذي لا ينتظر ...
ويدخل الشاعر نفسه تجربة أخرى مع الرسام عدلي رزق الله. ولوحات هذا الفنان بحار لونية تهدر فيها أمواج الأحمر والبرتقالي والأخضر والأصفر، يصور فيها إحساسه بالطبيعة وتكويناتهما الأصيلة، ويعبر عن تفجر ينابيعها العميقة، ودفء جذورها العريقة، مع رهافة أضوائها وأوراقها وزهورها الشفافة، وتدفق صيرورتها المرتعشة بنبضات الحياة وتوتراتها الخلاقة. وهي تكوينات متكررة يتفاعل فيها وهج الألوان الساطعة الفاقعة مع الألوان والخطوط والإيقاعات المتماوجة الحالمة، وكأنك أمام سيمفونية لونية تسمعها بالعينين - إن جاز هذا التعبير - وتراها بالأذنين، وتفاجأ في كل مرة بأنغامها اللاهبة أو الشاحبة، وإيقاعاتها القاتمة أو الفاتحة: «قطرتان من الصحو، في قطرتين من الظل، في قطرة من ندى». ولما كان اللون الأحمر بتدرجاته المختلفة هو الغالب على صور هذا الرسام، فقد استنبط منه الشاعر دلالات معنوية على الحياة الحرة والثورة المنتظرة، وعبر عنها في إيقاعات قرآنية:
قل هو اللون!
في البدء كان،
وسوف يكون غدا،
فاجرح السطح.
إن غدا مفعم،
ولسوف يسيل الدم!
وعندما يسيل هذا اللون بالحياة والخصب، وتنطلق الأغاني الخضر، سيفاجأ «السادة الأغراب» بقنابل موقوتة «كان أسلافنا خبئوها مع الخبز والخمر في خشب الموميات؛ لكي تتفجر في غرف الدفن حين تحين مواعيد عودتهم للحياة». وهكذا يفتقد الشاعر اللون الذي يتنفس بالحياة والحرية في عالمه الذي طغى عليه الأخضر الطحلبي أو الأصفر المعدني ... ولا عجب بعد ذلك أن يهيب بقرائه أن «تعالوا نلون كما نشتهي هذه الأرض، أو نشعل النار فيها»، فلعلها تحملنا وتطير، ثم «تسقطنا مطرا قزحيا، وتزرعنا شجرا موقدا».
ولم يكن غريبا على الشاعر العربي أن يتجه إلى الرسام الأجنبي كما اتجه إلى الرسام العربي، وأن يكون اتجاهه إلى أولئك الذين تجمعه بهم وشائج التاريخ وقرابة الروح. في هذا الأفق العالمي والحميم في وقت واحد تبرز قصيدة عبد الوهاب البياتي إلى بابلو بيكاسو (من ديوانه النار والكلمات)
35
وقصيدة حميد سعيد
36
المرور في شوارع سلفادور دالي ... الخلفية (من ديوانه الأغاني الغجرية)، ولما كانت القصيدتان لا تستوحيان صورة محددة من صور الفنانين، وإنما تستلهمان عالمهما الثري بالغرائب والتضادات والمفارقات ثراء عالمهما الشعري، فسوف نتجاوز هاتين القصيدتين إلى قصيدتين أخريين نلمس فيهما محاولة شاعرين عربيين إعادة رسم لوحة بيكاسو المشهورة «جيرنيكا» التي ما زالت تتحدى المفسرين لقيمها التشكيلية والإنسانية المذهلة. والواقع أن هذه اللوحة الجدارية ليست مجرد لوحة غير عادية، وإنما هي انعطافة كاملة في مسار الفن العالمي بوجه عام، وفن بيكاسو بوجه خاص. وهي تشبه كونا شاسعا من التكوينات الرياضية الدقيقة والمساحات والزوايا والخطوط الهندسية الحادة التي تتفاعل مع أعلى درجات الحس التلقائي والبدائي، والتوتر الانفعالي الجياش بالغضب والتمزق والتقزز كارثة الحرب، بحيث تصيب المتلقي بالدوار (ولا ننسى أن جيرنيكا هي القرية الإسبانية التي قاست من وحشية الفاشيين في الحرب الأهلية الإسبانية). لكن اللوحة تتميز - بجانب أساليب فنية عديدة تركت عليها آثارها - بإيقاع عربي يتمثل في روح «الأرابيسك» التي تتجلى في أشكالها وخطوطها اللانهائية المتشابكة. ولعل هذه الروح، بالإضافة إلى تعبيرها عن مأساة الحرب ورعبها وتشويهاتها، هي التي جذبت الشاعرين العربيين للدوران في فلكها أو في دوامتها ...
والقراءة الأولى لقصيدتي الشاعرين حميد سعيد (محاولة إعادة رسم الجيرنيكا، ص439 من ديوانه)، وأحمد عبد المعطي حجازي (جيرنيكا أو الساعة الخامسة من ديوانه كائنات مملكة الليل، ص71)، تكشف عن عدم تقيدهما بعناصر اللوحة، أو موضوعها الأصلي، على نحو ما فعل الشاعر الفرنسي إلوار في قصيدته المشهورة عنها. لقد استلهما عالمها المخيف الذي لا يزال يطلق طاقات وإشعاعات تنذر بالويل القائم مع كل الكوارث المشابهة. وقصيدة الشاعر حميد سعيد لا توحي بأي علاقة تربطها بلوحة بيكاسو؛ فما من شيء أو وصف أو رمز مباشر يذكر بها، وعبثا نبحث عن الأشلاء المتضخمة المنشورة فيها، أو عن رأس الحصان الذي يصرخ من التمزق، أو رأس الثور المرعب، أو الأم التي تحمل طفلها الميت. سنجد في المقطع الأول عصافير قلقة تتنقل من مكان إلى مكان، وتبدأ مشوارها بالحوار الصباحي وقراءة أشعار غارثيا لوركا (أعذب قيثارة في الشعر الإسباني المعاصر اغتالها الفاشيون). وننتقل إلى المقطع الثاني الذي يقربنا من مجال اللوحة في جذبه وطرده؛ فقد بدأ السجناء القدامى «يحلون في الذاكرة، وراحت العصافير تبحث عن فرح واحد لم ير الحزن، عن مدن لم تر الشفرة القاطعة». وتظل العصافير على قلقها وبحثها عن «مقعد فارغ» وعن «ألكسندرة» التي كانت تسقيها الشاي؛ فتترجح من بعيد أن الاسم الأخير ربما ينوب عن المرأة التي مات طفلها. ونصل إلى المقطع الرابع فنجد الأرض تبحث منذ ثلاثين عاما عن الفعل الذي «يخرج من دمها الضاحك»، كما تنتظر السيد «الذي يرث الجسد المترمل»؛ فقد كان أحد السجناء الذين ذكرهم المقطع الثاني يطرق أول باب يصادفه فتفتح الباب ألكسندرة. والقصيدة كما نرى أشبه بمحارة مغلقة على أسرارها، ولا بد من أنها تحمل من تجربة الشاعر في إسبانيا مضامين ورموزا لم يساعدنا على الاقتراب منها. ومع ذلك فنحن نحس أنها تدور في عالم خرب ضاع منه الفرح، وهجره الأهل وسيطر عليه الحزن، وخيب أمل العصافير في الحب والمأوى، ولعل ضياعها في «خيخون» التي يرد ذكرها في المقطع الثالث ينطوي على الدلالة الأساسية التي أوحت بها اللوحة للشاعر: لم تعد ثمة مدن لم تر الشفرة القاطعة، ولا ثمة مدن يمكن أن تطمئن إليها العصافير ...
أما الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي فيستوحي لوحة بيكاسو في خمس لوحات شعرية ترتبط كالقصيدة السابقة ارتباطا غير مباشر بدلالاتها الباقية عن زمن الحرب والرعب والاغتيال والقمع المستمر؛ فاللوحة الأولى تصور مصرع الخطيب والسياسي الإغريقي لوسياس أثناء إلقاء خطبته الأولى التي «توج فيها بامتشاق السيف أغنياته للحق». واللوحة الثانية قفزة أبعد منها في زمان الحزن والخوف؛ فهي تصور بحارة ماجلان الذين يتمنون أن توقف الأرض دورانها ساعة يدفنون فيها ماجلان، هذه الأرض التي غصت - على امتدادها بين نيويورك وموسكو - بالقبور. وتضعنا اللوحة الثالثة في قلب مأساة عصرية فجعت أحباب الشعر بموت الشاعر الشيلي بابلو نيرودا على أثر سقوط الحكم الاشتراكي الوطني ومصرع صديقه الليندي الذي كان على رأسه. والعلاقة هنا بلوحة بيكاسو علاقة مباشرة؛ فالشاعر الذي مات في عام الستين قد أصبح عاجزا عن ملاقاة الثور الخرافي الذي «يقوم الآن من لوحات بيكاسو ومن أشعار لوركا» كما كان يفعل وهو في الثلاثين. والثور المشهور في لوحة بيكاسو يأتي الآن «في هيئته العصرية النكراء، في حلته الصفراء»، بينما الشاعر المحتضر ملقى في فراش المرض الملعون ... ويأتي المشهد الأخير من فيلم شهير (فيلم «زيد
Z » الذي عالج موضوع القمع والإرهاب البوليسي في إحدى الدول الحديثة)، فيصور الرئيس الاشتراكي المقتول مع حراسه القتلى، «وجنود الانقلاب جامدو الأوجه يلقون على جثته القبض، ويصطفون كالأعمدة الجوفاء في البهو» ...
وأخيرا نصل إلى نموذج ناضج لقصيدة الصورة عند الشاعر سعدي يوسف في قصيدته التي جعلها عنوانا لأحد دواوينه «تحت جدارية فائق حسن».
37
فالقصيدة - كما يشهد عنوانها - قد كتبت تحت صورة أو بالأحرى رسم جداري لفنان عراقي، وكأنما هي نقش أو تعليق شعري عليها. ومع أن هذا وحده يجعلها شديدة القرب من مفهومنا عن قصيدة الصورة في هذا الكتاب، فلا نستطيع أن نجزم بشيء عن مدى ارتباطها بموضوع الرسم وتفاصيل تكويناته اللونية والشكلية والإيقاعية؛ ذلك أن الشاعر - شأنه في هذا شأن زملائه من شعرائنا المجددين - لم يشأ لسبب أو لآخر أن ينشر صورة الرسم مع القصيدة، وبذلك حرمنا مثلهم من فرصة المقارنة بينهما وبين مدى تقيده بالصورة أو تحرره منها، وأضاع على قرائه متعة جمالية كان من الممكن أن تساعدهم على المشاركة الخلاقة في قراءة القصيدة والصورة معا ...
ومهما يكن الأمر فلا يبقى أمامنا إلا أن نتأمل تكوين القصيدة نفسها ونتابع جدل الصراع المحتدم بين عناصرها التي يحتمل أن تكون شبيهة بعناصر الصورة. والمحور الأساسي الذي يدور حوله الصراع ويتخذ وجهته ويحدد هدفه هو الفقراء الجالسون في ساحة الطيران، يمدون أذرعهم للمقاول المستغل الذي سيشتري كدهم وعرقهم. وتبدأ القصيدة بالحمامات التي تطير في ساحة الطيران، معبرة عن أحلام المناضلين ببناء مدينتهم الفاضلة: «تطير الحمامات في ساحة الطيران، البنادق تتبعها، وتطير الحمامات، تسقط دافئة فوق أذرع من جلسوا في الرصيف يبيعون أذرعهم.»
لقد طار المناضلون في المدينة كما تطير الحمامات التي أرادوا أن يقيموا لها جدارا ليس تبلغ منه البنادق، أو شجرا للهديل القديم، وارتفعوا معا في سماء الحمائم، وصاغوا من الحجر المتألق وجه الجدار، وقالوا لسعف النخيل وللسنبل الرطب: هذا أوان الدموع التي تضحك الشمس فيها، وهذا أوان الرحيل إلى المدن المقبلة. ولكن الحمامات رفضت أن تلوذ بالجدار؛ فقد رأت في سمائها ما لم يروه، وعرفت أن بلادهم هي بلاد البنادق، وأن المقاول الذي يشتريهم يجيء ومعه الجنود وأصحاب الحقائب الثقيلة: «المقاول يأتي، ويأتي إلى الجنود، وتهوي على الوطن المقصلة.» وتطير الحمامات مذبوحة، ويسقط دمها الأسود فوق الجدار الذي بنوه، وأرادوا أن يكون بيتا وملاذا للحمام. ويقضي المتعبون زمانا يلمون فيه دماء الحمائم، ويرسمون في السر أجنحة يطلقونها في القرى، ويرممون الجدار قطعة قطعة وحجرا حجرا، ويبنون «على هاجس الروح» مملكة فاضلة لا يكادون ينتهون من بنائها حتى يهدمها المقاول والجنود الذين يساندونه فيبدءون من جديد ... يغادر منهم من يغادر، ويقتل من يقتل، ويسقط من يسقط تحت الجدار، ولكنهم يبقون على حبهم للوطن، وولائهم لزمان الجذور، وإصرارهم على بناء المدينة كلما خربها المخربون.
تلك نماذج من القصيدة التصويرية في شعرنا القديم والحديث، ومن قصيدة الصورة في شعرنا الجديد. ربما غابت عني نماذج أخرى لم تصل إلى علمي، ولكنني لم أقصد إلى الإحصاء والاستقصاء بقدر ما قصدت إلى تتبع الفكرة نفسها جهد الطاقة. ولعلنا نخلص من هذا الغرض السريع إلى نتيجة مشجعة على السير في الطريق، بحيث يكون لنا نوع أو نمط أدبي مستقل يقبل عليه المبدعون والمتلقون على السواء، ويحقق المتعة الجمالية التي يوفرها التفاعل بين الفنون، ويعمل على نضوج قصيدة الصورة التي لم تحظ حتى الآن بما تستحقه من عناية في أدبنا وفننا الحديث ...
وأخيرا فإن الصور والرسوم والتماثيل التي تطالعك في هذا الكتاب تتيح لكل عين وعقل أن يقرأها كما يشاء. ولقد تأمل شعراء غربيون من مختلف العصور والجنسيات واللغات والآداب هذه الصور وغيرها. والشعراء أقدر على الرؤية مني ومنك (إلا إن كنت واحدا منهم)؛ ولهذا تعددت محاولاتهم للغوص في أغوار العمل الفني وفك طلاسم «شفرته». وتفاوتت بطبيعة الحال قدراتهم على ذلك بدءا من الوصف المباشر، أو السخرية الفجة، إلى التأمل الهادئ ورؤية «الحقيقة» التي تجلت لهم من خلال الصورة أو التمثال. لا شك في أن قراءة كل منهم لا تخرج في النهاية - كما سبق أن قلت - عن أن تكون تفسيرا واحدا لا يحجر على تفسيرات أخرى ممكنة، ولا يقيد حريتك في التأمل والتذوق والمقارنة. فتعال معي نقف أمام هذه اللوحات ونجرب حظنا في المتعة الحرة الصافية قبل كل شيء، ثم في التفكير والتأمل والحكم. ولنتذكر معا أننا أحوج ما نكون إلى عالم الجمال بعد أن تراكم علينا القبح من الداخل والخارج. تشوهت نفوسنا في السنوات الأخيرة والتشوه قبح، فاض السيل من الألسن البذيئة والقلوب المريضة والصدور الجشعة المسعورة حتى أصبحنا نتصادم - لا في حندس كما قال أبو العلاء - بل في غابة القبح الكريه. ومن الغفلة بطبيعة الحال أن نتصور خلاصنا الفردي أو الاجتماعي عن طريق تأمل صور في متحف أو معرض أو كتاب. إن ذلك لن يكون إلا وهما يتعزى به الطيبون والمتوحدون ويلوذون به من حصار القبح. ولا بد من أن يشارك كل من لا يزال يتذكر الجمال في إعلان الحرب على القبح بكل أشكاله (بدءا من قبح النفس؛ لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، ولا مفر من أن يصبح الجمال وتربية الإحساس بالجمال في مقدمة همومنا القومية التي تكافح في سبيلها إرادة عربية. آن الأوان لكي تتحد وتنتبه وتصر على الجمال وتحققه في السلوك والحياة وفي البيت والشارع ومكان العمل إصرارها على الحرية والعلم والتقدم والتحضر؛ بذلك نؤكد وحدة القيم التي قلبنا سلمها قبل أن نغتالها وندوس على جثثها، ثم ننساها ونألف الحياة مع أضدادها ونقائضها من الشر والكذب والتزوير والادعاء والتظاهر وغيرها من أشكال القبح التي أصبح أربابها المزيفون يمارسونها وينفثون سمومها ويتباكون عليها تباكي القاتل على قتلاه ...
لكن فتح العين يمكن أن ينبهنا إلى البشاعة التي استقرت عناكبها في الباطن وأطبقت على الظاهر - فتح العين هو الدرس الخالد الذي نتعلمه من أصحاب الرؤية في الفن والفكر والحياة - إذ يمكننا أن نتذكر أو ننسى، أن نذهب أو نبقى، أن نتكلم أو نصمت. أما الرؤية فهي الكلمة التي لا بديل لها ولا عنها؛ لأنها كالتنفس، لأنها كالحرية. بشرط أن نتعلم كيف نفتح أعيننا ونرى، وبشرط ألا نقتصر على أن نفتح عين الجسد، بل عين البصيرة والضمير التي طال نومها الثقيل.
وفي النهاية تقتضيني الأمانة وأداء واجب العرفان والامتنان أن أذكر أهم المصادر التي استقيت منها نصوص القصائد، وهما كتابا الأستاذ جسبرت كرانس - أحد المختصين القلائل في قصيدة الصورة في الأدب الغربي عامة، والألماني بوجه خاص - والكتاب الأول «قصائد على صور»، مختارات ومعرض صور، ميونيخ، دار الجيب الألمانية، 1975م (انظر الهوامش في المقدمة وثبت المصادر). قد كان نعم العون وبداية الطريق، وقد ساعدني مساعدة لا تقدر في التعرف على هذا النوع الأدبي. والكتاب الثاني «صور ألمانية في القصيدة الألمانية»، قد أكمل بعض جوانب النقص في الكتاب الأول. أما كتابه الثالث الذي قدم فيه محاولاته الطيبة في تفسير قصيدة الصورة وقراءتها وهو «سبع وعشرون قصيدة مفسرة»؛ فقد تعلمت منه ما لم يكن الشعراء والمصورون أنفسهم ليستطيعوا تعليمه، وعشت مع تجاربه وتحليلاته الدقيقة الرقيقة التي جمعت علم الناقد إلى بصر الفنان وبصيرة الشاعر. وقد حرصت على التعريف بالمصورين والنحاتين والشعراء ما وسعني الجهد، مع العناية بطبيعة الحال بتقديم نبذة طيبة عن الأعلام المؤثرين على تطور الفن والشعر، وإن كنت قد عجزت في بعض الأحوال عن التعريف الكافي بعدد من شعراء الشباب الذين لم تستوعبهم بعد معاجم الأدباء! ويمكن أن يرجع القارئ إلى الجزء الثاني من كتابي المتواضع «ثورة الشعر الحديث» (القاهرة، هيئة الكتاب 1972م)، ليجد فيه المزيد من المعلومات والنصوص لعدد من كبار الشعر المذكورين في هذا الكتاب، وإلى الجزء الأول ليتعرف على بناء الشعر العربي الحديث والمعاصر الذي انعكس على العديد من قصائد الكتاب. أما عن القصائد التي جاءت موزونة على طريقة الشعر الجديد، أو شعر التفعيلة، فأعترف بأنها فرضت نفسها علي، وتوخيت الأمانة والدقة في نقلها إلى العربية، مع وضع كل زيادة من عندي اقتضتها الصياغة أو القافية بين قوسين، وهي محاولات وتجارب لا تجعل مني شاعرا بطبيعة الحال بعد أن تخليت إلى الأبد عن هذا الطموح.
وأخيرا أتقدم بعاطر شكري إلى زميلة الدراسة السيدة إيفا بومر-بيلز التي أمدتني بكتب الأستاذ كرانس وبغيرها من المصادر الهامة، كما يطيب لي أن أشكر أخي الكريم الأستاذ الدكتور جابر عصفور الذي غمرني بعلمه وفضله. أما راعي هذه السلسلة المرموقة الأستاذ الدكتور فؤاد زكريا، فله مني خالص الامتنان والتقدير على كريم تشجيعه وإتاحته الفرصة لهذا الكتاب لكي يرى النور.
ولله الحمد أولا وأخيرا، ومنه الهداية والتوفيق.
عبد الغفار مكاوي
الفصل الأول
فتاة الأكروبوليس ...
اللوحة لتمثال فتاة من أتيكا (وهي المعروفة بفتاة بيبلوس) في ثوب طويل بلا أكمام، موجود في متحف الأكروبوليس (وهو مجموعة المعابد والأطلال المقدسة على مرتفع مطل على مدينة أثينا)، ولعله يكون أحد التماثيل التي تصور حاملات السقف، ولا يزال بعضها قائما حتى اليوم (يرجع لسنة 530 قبل الميلاد). وقد استلهمها عدد من الشعراء نذكر منهم: (1) مانفريد هاوسمان
شاعر ألماني معاصر، ولد سنة 1898م في مدينة كاسيل، جرح في الحرب العالمية الأولى، ثم عاش بعد إتمام دراسته الجامعية حياة كان حر. بدأ حياته الأدبية بنشر قصص وقصائد مفعمة بالاكتئاب والحنين الرومانطيقي، معبرة عن إحساس المشردين وتجاربهم الباطنة بالطبيعة الغامضة الخلابة في الشمال الألماني. ثم اتجه بعد الحرب العالمية الثانية إلى نوع الوجودية المسيحية، بعد أن تأثر بقراءاته لكيركجور وكارل بارت، وكتب بعض المسرحيات أو بالأحرى الألعاب التمثيلية المستوحاة من التاريخ المسيحي. يميل في شعره الغنائي الرقيق إلى الحكمة والأحكام، وقد اشتهرت صياغاته المبدعة لعدد كبير من قصائد الشعر الإغريقي والصيني والياباني. كتب الشاعر هذه القصيدة سنة 1940م بعد أن رأى التمثال سنة 1933م في متحف الأكروبوليس، ونشرت في ديوانه سنوات العمر 1974م.
أشياء كثيرة يمكن أن يعرفها الإنسان،
أما هذا الشيء فلن يعرف أبدا.
هذا الرأس الشامخ في سكون وصفاء،
تغيم اللانهائية في عينيه الزمردتين،
وهو لا يشعر بماض ولا يحس بآت؛
إذ إن الحاضر يغمره بالنشوة ويذهله فيغوص فيه كالرضيع،
ويستغرق في حلمه الباطن ويبتسم للأثير،
الذي تثور فوقه رعشات الربيع.
والبسمة تنفث فوق الخد
ظلا يصعب أن يصدقه أحد،
وفي الظل ترف البراءة العليلة
كل براءة هذا العالم. آه أيها الرأس الحلو! (2) يوهانيس إدفيلت
ولد سنة 1904م في بلدة كيركفالا بالسويد، ونشرت له مجموعات شعرية عديدة. عرف بترجماته لروائع الشعر الألماني، خصوصا لهلدرلين ورلكه وتراكل وفيرفل. وظهرت قصيدته هذه عن فتاة الأكروبوليس ضمن مجموعة من الشعر السويدي المعاصر بعنوان «وهذه الشمس بلا وطن»، ترجمتها ونشرتها الشاعرة نيللي زاكس سنة 1957م. وقد كتب الشاعر قصيدته متأثرا بتماثيل مختلفة من الفن القديم شاهدها في متاحف عديدة كمتحف اللوفر، ودونها سنة 1943م قبل أن تتاح له بعد ذلك زيارة متحف الأكروبوليس في أثينا. «لوحة قديمة»
ما الذي يحملها على الابتسام؟ أهو ضياء الأسطورة
أشعل بسمات على هاتين الشفتين؟
عين صمت قديم تبتسم، أتراها تعرف
ذلك البريق الذي تعد الشمس
مجرد ظل بالقياس إليه؟
أكان نهارها كالندى والماس؟
لا بد أن مساءها كالكهرمان كان.
جهاد لانتشال الضوء من بحر الظلال الكثيف.
هكذا النهار عند أغلب الناس.
صديقتي، ونحن الذين عشيت عيوننا في ليل الجليد،
نقرأ من شفتيك علامة النار:
تسكب نبعا، يهمس بالسلام.
يهدي بسمة، لن تخبو أبدا. (3) أورس أوبرلين
ولد في مدينة بيرن «سويسرا» سنة 1919م. وهو طبيب أسنان يزاول مهنته في زيوريخ، كما يهتم بجمع التحف الفنية ودراسة الآثار وتاريخ الفن. نشر أربع مجموعات شعرية، وروايتين، وتمثيليتين للإذاعة المرئية (التلفاز). كتب هذه القصيدة الموجزة سنة 1961م على أثر زيارته لمتحف الأكروبوليس ورؤيته للعذراء. «عذراء»
بسمتك بعيدة
بعد السنوات الضوئية، (غامضة كغموض الفجر)
من ذا يحملك لبيته؟
أيجيء عريسك يوما؟
أيجيء اليوم
ويزفك في موكبه - موكبه المظلم - (ويهلل لكما الطير؟ ...) (4) جورج هيرمانوفسكي
ولد سنة 1918م في بلدة ألنشتين، ودرس الأدب وتاريخ الفن بجامعة بون، ويعيش في ضواحيها متفرغا للكتابة الحرة. نشرت له مجموعات شعرية وقصصية ومسرحية، وعرف بترجماته الغزيرة عن الأدب الهولندي. وقد ظهرت قصيدته عن فتاة الأكروبوليس في ديوانه «القارب» الصادر سنة 1970م. «عذراء»
سرب النحل
بين مسام المرمر
ضاع وتاه،
يبحث عبثا
عن «نكتار» (والنكتار رحيق حياة)؛
إذ لا شيء سوى شفتيك
يا عذراء الحسن البكر
يمكن أن يرتشف رحيقا
من أنداء الفجر،
من شفتي زمن ديدالي،
1
زمن الإبداع الحر.
الفصل الثاني
رب اللحظة المواتية
كايروس
نحت بارز على الرخام. نسخة من أصل للمثال الإغريقي «ليسيبوس» المولود في سيكيون حوالي سنة 300ق.م.، موجودة في متحف تروجير من أعمال يوغوسلافيا. عبر عنه الشاعر «بوسيديبوس»
الذي ولد في «بيلا» من أعمال مدونية حوالي سنة 275ق.م. ينتمي للمدرسة السكندرية بهذه القصيدة التي لم تتأكد نسبتها إليه. (1) «كايروس» - النحت البازر من أي مكان؟ - يرقد في المتحف ب «تروجير» من أعمال البلقان. - ومن الفنان؟ - ليسيبوس. - والمسكن والعنوان؟ - في سيكيون.
أتقدم منه. أتأمله. أسأل:
من أنت؟ - رب اللحظة .. - قل لي: لم تخطو حذرا فوق أصابع قدميك؟ - لأني لا أتوقف أبدا عن سيري. - ولماذا ينبت في قدميك جناحان؟ - لأني أسرع في العدو من الريح. - ولماذا تحمل سكينا في يمناك؟ - كي أعلن للإنسان أن لا شيء سواي
أحد من السكين .. - لماذا تتدلى خصلة شعر
من فوق جبينك؟ - لأني، وبحق زيوس،
أدعو من يلقاني
أن يمسك بي،
وأحذره أن يتردد لثوان. - وبقية رأسك صلعاء من الخلف لماذا؟ - حتى يعرف أن «الآن»
إن عبر فلن يرجع أبدا ... لن يرجع،
لا، لن يجد الإنسان،
بعد ضياع الفرصة،
غير الحسرة والخذلان؛
لأني إن أسرعت وطارت بي قدماي.
لا تنس ففي قدمي جناحان ...
وعبرت بمن قد كان
يتلهف يوما للقائي
لن يدركني أبدا،
لن أسعده بلقاء ثان. - قل لي:
ولماذا قد أبدعك الفنان؟ - أحرى بك أن تسأل: ولمن؟
فأجيبك:
ولمن غيرك يا ابن الأرض؟
ولمن غيرك يا إنسان؟
الفصل الثالث
أبولو بلفيدير
من أعمال الفنان ليوخاريس، حوالي سنة 340 قبل الميلاد. نسخة من المرمر محفوظة في متحف الفاتيكان. استوحاها الشعراء: (1) فرانز تيريمين
ولد سنة 1780م في جرامزوف، أوكرمارك، ومات سنة 1846م في برلين. كان واعظا وعالما في اللاهوت وأستاذا بجامعة برلين، وربطت الصداقة بينه وبين الأديبين آدم مولر وهينريش فون كلايست.
ألف عدة كتب في الخطابة والدعوة والإرشاد الديني، كما كتب بعض القصص والمرثيات عن أعمال من النحت القديم التي نهبها نابليون، وأمر بإرسالها من روما إلى باريس (حوالي سنة 1808م، وهي السنة نفسها التي كتبت فيها القصيدة). «أبولو الفاتيكان»
يا قائد الجوقة السماوية،
أحييك يا أبولو!
بينما يضفي عليك الجلال الأوليمبي نبل الشباب،
وتحدق عيناك في الفساد، ويعقد الغضب شفتيك،
ويحيط الشعر الملتف جبينك بالتاج الرائع،
ويرق حوله الصفاء الأثيري بالسلام الخالد،
تتقدم نحونا، سواء بعد أن قتلت نسل التنين،
أو بعد أن أشعلت فيك توسلات لاتونا
1
نار الغضب الإلهي،
فثأرت لأمومتها من أبناء «نيوبه». (2) جمباتستا مارينو (
Giambattista Marino )
ولد سنة 1569م في نابولي ومات بها سنة 1625م بعد أن قضى في سجونها سنوات من عمره. عاش في فرنسا من عام 1615م إلى عام 1623م، وهو أهم ممثلي الحركة الأدبية التي أطلق عليها اسم «المارينية»، وكان لها تأثير كبير على الأدب الأوروبي في عصر الباروك، وكذلك على الرسم والرسامين مثل نيقولا يوسان (1594-1665م) كتب الشعر الملحمي والغنائي، كما ألف عددا كبيرا من القصائد عن صور ولوحات شاهدها في المجموعات الفنية أو اقتناها وضمها لمجموعته الخاصة، وظهر بعض هذه القصائد سنة 1602م، ثم صدرت كاملة سنة 1619م في ديوانه «المعرض الفني» الذي طبع بعد ذلك في البندقية سنة 1626م تحت عنوان «المعرض الفني للفارس مارينو»، واحتوى المجلد الثاني منه على هذه القصيدة. ويشير السطر الثاني من القصيدة إلى جزيرة «ديلوس»، وهي إحدى الجزر في البحر الإيجي، ويقال إنها كانت موطن أبولو. أما «نيوبه» التي يرد ذكرها في السطر العاشر فتروي الأسطورة أن الآلهة قررت أن تعاقبها على غرورها واستعلائها، فسلطت عليها الإله أبولو - رامي السهام التي لا تطيش! - فأصاب جميع أبنائها في مقتل، وحزنت الأم وظلت تبكي حتى تحولت إلى حجر ... (انظر التحولات لأوفيد، 6، من السطر 148 إلى 312). «أبولو بلفيدير»
ما أجمله وأحبه إلى القلب!
رامي القوس من المرمر، هذا الإله من ديلوس،
كم هو وحشي الغضب وثائر!
يبدو عليه أنه يهدد،
وأنه يطلق من الغضب والانتقام بعينيه الجميلتين،
أكثر مما يطلق من السهام بيديه.
ولو لم ينزع ورع الكهنة منه سلاحه،
ويجرده من قوسه وسهامه،
لخافت منه نيوبه، وهو من الحجر،
مع إنها قد تحولت إلى حجر جامد. (3) جيمس طومسون (
James Thomson )
ولد الشاعر الإنجليزي سنة 1700م في «أدنام» بمقاطعة «روكسبور جشاير»، ومات سنة 1748م في «ريتشموند» بمقاطعة ساري. كان أبوه قسيسا اسكتلنديا. كتب الشعر النقدي الساخر والملحمة المسرحية وشعر الطبيعة (ومن أشهره «الفصول» التي لحنها هايدن). سافر في رحلة إلى إيطاليا سنة 1730م، وشاهد التماثيل وأعمال النحت القديم ووصفها في كثير من أشعاره. كتب قصيدته عن أبولو بلفيدير سنة 1736م، ونشرت مع أشعاره الكاملة التي أشرف على تحقيقها وإصدارها ج. ل. روبرتسون، لندن، 1965م، ص362.
و«بيثون» الذي يذكر في السطر الأول من الأصل والثاني من التعريب هو التنين الذي قتله أبولو، وتجد تفاصيل الأسطورة في تحولات أوفيد، 1، السطر 348 وما بعده. «أبولو بلفيدير»
مبتهجا بالنصر على «بيثون»،
فلقد أردى هذا التنين،
ويجيء ومعه جعبته،
والجعبة ملأى بسهامه.
جميل في وقفته ويمد ذراعه،
بالقوس تدلت من يده،
وخفيفا ينسدل رداؤه.
يكشف عن جسد رائع،
وفتي ناعم،
وكأن شباب الآلهة
تتموج في الخد الناصع.
لكن حماس البطل
يفور ويدفئ وجهه،
والوجه حليق لامع،
يسمح بعذوبة بسمة،
والبسمة سمحة،
مزجت بالفرحة،
من أجل النصر،
فإذا ما مرت فوق الجبهة
نذر الشر؛
فهي الحكمة وجلال القدر! (4) جورج جوردون لورد بيرون (
George Gordon Lord Byron )
هو الشاعر الرومانتيكي الإنجليزي الأشهر، ولد سنة 1788م في لندن، ومات في ميسولونجي ببلاد اليونان سنة 1824م. سافر سنة 1809م إلى إسبانيا وبلاد اليونان، ثم اضطر - بعد فضائح عديدة - إلى مغادرة بلاده والإقامة في إيطاليا، وخصوصا في روما. اتجه في سنة 1823م إلى اليونان ليساند الثورة على الحكم التركي، وأصيب بحمى الملاريا ومات كما تقدم سنة 1824م. كتب الملاحم الشعرية والمسرحيات والشعر الغنائي العذب المؤثر والأشعار النقدية الساحرة.
وقصيدته هذه «أبولو في الفاتيكان» التي كتبها سنة 1817م، مأخوذة من أناشيده المعروفة باسم «أسفار تشايلد هارولد»، النشيد الرابع، المقطع التاسع والأربعون. راجع كذلك مؤلفات بيرون الشعرية الكاملة، لندن 1961م، ص248. «أبولو في الفاتيكان»
انظر هنالك للإله لا يخطئ قوسه،
الذي تعن له الحياة والشعر والنور. (انظر) للشمس السارية الدفء بجسد بشري،
والوجه المشع بفرحة الانتصار.
السهم انطلق لتوه
كي يثأر ثأر إله خالد،
في العين وفتحتي الأنف غرور فاتن،
وبريق القوة والجمال يسطع من كل شيء فيه،
ويجلو الألوهية في توهج تلك النظرة الواحدة. (5) فريدريش هيبل (
Friedrich Hebbel )
ولد الشاعر النمسوي سنة 1813م في فيسلبورن في منطقة ديتمارشن، ومات سنة 1863م في فيينا. كان أبوه من عمال البناء. قام برحلات طويلة إلى الدنمارك وفرنسا وإيطاليا قبل أن يستقر في فيينا سنة 1846م، ويعرف كواحد من أكبر شعرائها المسرحيين.
نشرت قصيدته عن أبولو بلفيدير التي كتبها في روما سنة 1845م في المجلد الرابع من طبعة أعماله الكاملة التي نشرها ي. م. فيرنر نشرا تاريخيا محققا، وظهرت في برلين سنة 1913م.
من كان جميلا مثلك فليحطمك ذات يوم!
هكذا قال المعلم بعد أن أكمل صنعك،
ووقف أمامك يعشي عينيه بريقك،
ولم يكن يخسر شيئا بكلامه.
فأيا كان الذي أرسلته الطبيعة الحسود،
منذ نشأت وسوى خلقك،
فلقد كان انتصاره ينتهي دائما هنا،
وما من شاب وقف أمامك إلا وهو متردد.
أجل! لو أمكن في المستقبل أن يأتي أحد
يشبهك، ومع ذلك يقدر أن يكرهك،
فلن يمكنه أبدا أن يكفر عن نزوته؛
إذ لن يتناول الفأس بيده
حتى يتركها تسقط منه؛
كي لا يقضي بالقبح البشع على نفسه. (6) فيلهلم فايبلنجر (
Wilhelm Waiblinger )
ولد الشاعر الألماني سنة 1804م في مدينة هايلبرون، ومات سنة 1830م في روما. درس اللاهوت (أصول الدين) في معهد توبنجن الديني المشهور الذي سبق أن تعلم فيه الشاعر هلدرلين والفيلسوفان هيجل وشيلنج. تتلمذ على الشاعر وجامع الكتب والحكايات الشعبية جوستاف شقاب، وجمعت الصداقة بينه وبين الشاعر الأديب إدوارد موريكه . كتب القصص والأشعار، كما كتب عددا كبيرا من القصائد عن صور ولوحات فنية شاهد معظمها في روما، وطبعت سنة 1829م. وقد نشرت هذه القصيدة مع قصائده التي كتبها في إيطاليا وأشرف على إصدارها أ. جريز باخ، ليبزخ، سنة 1893م، الجزء الثاني، ص50. «أبولو بلفيدير»
أيها المنتصر الإلهي، أساخط أنت،
ووجهك يشتعل بنيران الغضب؟
الآن العالم الأفضل؛
لأن الأوليمب ضاع منك؟
آه! ربات الفنون يتجنبن طريقك؛
لأن غضبك عات جبار.
آه! والجنس الفاسد لا يرعى أبولو،
ولا يحميه.
الفصل الرابع
تمثال النصر (نيكا) في ساموثراكا
تمثال من المرمر، يرجع تاريخه إلى سنة 190 قبل الميلاد، نحته مثالون من جزيرة رودوس. متحف اللوفر بباريس. (1) هايو يابيه (
Hajo Jappe )
شاعر ألماني ولد سنة 1903م في مدينة البنج، ودرس الأدب الحديث وتاريخ الفن. نشر - بجانب مقالاته ودراساته العلمية في الأدب والفن - حوالي اثنتي عشرة مجموعة شعرية ضمنها عددا كبيرا من قصائد الصور. وقد ظهرت هذه القصيدة التي كتبها سنة 1950م في ديوانه «رحلة إلى روما» الذي صدر في السنة نفسها لدى الناشر «ميران». «إلهة النصر نيكا»
هل قيدت على هذه القاعدة؟
الشمس تلعب فوق الصدر اللاهث الأنفاس.
ثنية الركبة تنفذ خلال الثوب
الذي يتراجع للوراء وقد نفخته الريح،
وكأن على القدمين، وقد لفظتهما الأرض،
أن يطيرا حتى يبلغا الشواطئ
التي يدور حولها القتال،
حتى لو فقد جناحاها
فستنتصر؛
لأنها ولدت لتطير
ولو دون جناح ... (2) إيلين جلينيس (
Ellen Glines )
شاعرة هولندية لم أستطع للأسف أن أجد أي معلومات عنها فيما بين يدي من مراجع ومعاجم عن أدباء العالم. وقد ظهرت هذه القصيدة في مجموعة شعرية خصصها ناشرها ج. تيديستروم لقصائد الصور، وصدرت سنة 1965م في مدينة لوند. «آلهة النصر في ساموثراكا تخاطب مشوهي الحرب العالمية»
عرفت لعنة الجسد
ولعنة الإرادة ...
ورأسي الذي قطع
طارت به الرياح ..
جربت ما جربت من مرارة الحتوف،
لكنما قد عجزت
عن قتلي السيوف!
ولم يزل لدي ما يضمن لي النجاة.
هذا الجناح ...
والجناح ... (3) رابيه إنكيل (
Rabbe Enekell )
شاعر ورسام فنلندي. ولد سنة 1903م في مدينة تاميلا، ونشر مجموعات ومسرحيات شعرية، كما ظهرت له كتابات نثرية باللغة السويدية. نشرت قصيدته عن إلهة النصر في ساموثراكا في ديوانه الذي صدر سنة 1935م في هلسنجفورس، ص53. «إلهة النصر في ساموثراكا»
لا الشقاء الذي يلبس حذاء التراب،
ولا نشوة الانتصار،
بل لهب النيران الخجول من ضوء النهار،
وازدهار الأشياء،
هي خطوة «نيكا» الخفيفة،
تفوح بعطر الأرض،
تتقد بنار زرقاء،
والروح تخفي لهيبها في النور،
و«نيكا» تطير إلى هناك
في ثوب الريح. (4) زبجنييف هيربرت (
Zbignieiv Herbert )
ولد الشاعر البولندي سنة 1924م في «ليمبيرج»، ودرس الحقوق والفلسفة في عدة جامعات بولندية، ثم اشتغل فترة من الزمن بالتحرير الصحفي، إلى أن عين سنة 1970م أستاذا للأدب الأوروبي في جامعة لوس أنجلوس. نشر أربع مجموعات شعرية، ومسرحيات، وتمثيليات إذاعية، وكتابا عن أسفاره ورحلاته في فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وبلاد اليونان.
ويلاحظ النقاد أن قصائده تحاول أن تجرد الأساطير القديمة والحديثة من سحرها الأسطوري باسم العقل والعقلانية. ظهرت قصيدته التالية «إلهة النصر نيكا عندما تتردد» في ديوانه: «نقش قصائد على مدى عشر سنوات»، الذي صدر في ترجمة ألمانية عن دار النشر زوركامب في مدينة فرانكفورت على نهر الماين سنة 1967م، ص32-33. «إلهة النصر «نيكا» عندما تتردد»
تكون في أبهى جمالها
عندما تتردد،
مستندة بيمناها على الهواء،
رائعة كأمر صارم،
بينما يرتجف الجناحان،
تنظر فترى الفتى الوحيد
يتبع أثر العربة الحربية،
ويقطع الطريق المقفر
في الأرض المقفرة
المليئة بالصخور،
وشجر العرعر العاري.
الفتى على وشك أن يموت،
كفة قدره،
قد ثقلت فعلا.
تشتعل الرغبة فيها؛
أن تقترب منه،
وتقبل جبينه،
لكنها تخشى - وهو الذي لم يجرب أبدا
عذوبة العناق -
تخشى لو عرفها
أن يهرب من المعركة
كما هرب سواه.
وهكذا تتردد «نيكا»،
وتقرر أن تبقى على وضعها
الذي علمه لها المثالون،
خجلة من لحظة التداني.
إنها تعلم
أنهم سيجدون الفتى في غبش الفجر،
مفتوح الصدر،
مغمض العيون،
وتحت لسانه المتصلب
طعم الوطن الحريف. (5) فيرينا رينتش (
Verena Rentsch )
شاعرة سويسرية، ولدت في مدينة «بازل» (أوبال) سنة 1913م. كان أبوها معلما. درست العلوم التجارية والإدارية، وتقلبت في وظائف السكرتارية والمراجعة والتعليم والرعاية النفسية للعمال. تزوجت من طبيب سنة 1946م، وولدت ثلاثة أطفال. ظهرت لها مجموعتان شعريتان ومجموعة قصصية، ونشرت قصيدتها هذه في مجموعتها «زهور صحراوية»، التي صدرت في مدينة زيوريخ لدى الناشر فلامبيرج، 1971م، ص44.
وقد كتبت القصيدة في شهر أبريل سنة 1969م عندما تأملت تمثال النصر - بعد إعجاب استمر سنين طويلة - في تلك السنة، وكانت قد مرت بتجربة شخصية دفعتها إلى تسجيل رؤاها ومشاعرها في هذه الأبيات: «إلهة النصر»
أي انتصار حزين تلعنينه،
أيتها الإلهة الحجرية
ذات الجناح المكسور؟
يا من تقفين بلا عينين
ولا خدين
بين جدران متحف،
أسيرة فوق مركب زائف.
أي انتصار حزين
تكتمينه عني
يا «نيكا»؟ (6) أوليه ف. فيفيل (
Ole F. Vivel )
ولد الشاعر الدنماركي سنة 1921م في مدينة كوبنهاجن حيث درس الأدب وفاز في مسابقة أدبية عن رائد الرمزية في الشعر الألماني الحديث «ستيفان جئورجه». كتب الشعر والمقال، وأنشأ قصيدته الآتية عن إلهة النصر «نيكا» سنة 1958م.
يلاحظ أن السطرين الرابع والثاني عشر يشيران إلى الصاروخ الحديث، وفي السطر الخامس والثلاثين وما بعده إشارة إلى جون فوستر دالاس وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية (1888-1959م)، وهارولد ماكميلان وزير خارجية بريطانيا، ثم رئيس وزرائها سنة 1957م، وقائد حلف الأطلنطي لوريس نورستاد (من سنة 1956م إلى سنة 1962م)، أما السطر 41 فيشير إلى ألبرت شفيتزر (1875-1965م) الفيلسوف ورجل الدين وعالم الموسيقى وعازف الأورغن والطبيب الناسك الذي وهب حياته لعلاج مرضى الجذام وغيرها من أمراض المناطق الحارة في المستشفى التي أسسها في الأحراش والغابات الأفريقية في «لامبارنيه». «إلهة النصر «نيكا»»
العواصف عانقتك.
خطوت على البحر، في مقدم السفينة،
برداء رفاف حول نهديك.
لكن شقيقتك، ملكة مملكة الهواء،
تخترق السحب،
وهي تئز برعد جبار.
أنت يا حلم «رودس»،
يا ساطعة في شمس الصبح،
حتى هذا المرمر يتحتم أن يسقط،
أن يسحق ويصير غبارا
بضربة واحدة،
من يد «نيكا» الجديدة.
مفرداتنا كانت مجهولة لديك.
توازن الرعب، الحرب الشاملة،
الانتقام الرهيب،
وفتيات رودس، بناتك الورديات،
اللائي رقصن حولك بأقدام عارية،
يحدقن بنظرات لا تفهم شيئا،
نظرات محتقرة،
في خشوعنا وتمتماتنا،
وسجودنا أمام مذبح «نيكا» الجديدة.
قاعدة الصواريخ،
من يعرف تلك الساعة
التي يتعطل فيها ضوء أزرق صغير؟
زرار التحكم أو أعصاب الرائد،
الذي نام نوما سيئا، وعانى من نكد النساء،
بل لم يخطر على باله احتمال الصدام،
و«نيكا» ترتفع في الظلام،
فائرة فوران الشلال،
شلال العدم الراعد.
الاستغاثة لا جدوى منها.
الخبراء الجادون، أصدقاؤنا في حلف الأطلنطي،
فوستر دالاس، ماكميلان، الجنرال نورستاد،
ينصحون نصيحة واحدة؛
لم تحسب حساب التطور،
بإقامة القواعد المختلفة
وقاذفات القنابل المختلفة
من النموذج أ، ب.
ألبرت شفيتزر يرحم أطفاله من أبناء الزنوج.
مكان في الغابة (جحيم رطوبة،
يجعل من رجل هرم شيئا عجبا).
حيارى
لم يعد النور الساطع من «هيلاس»
يصل إلى أعيننا،
وما أهمية صراخ صيد أسير
وحرب الليل المفعم بالقلق
على جلجثة (الجثمانية)
1
منذ زمن بعيد؟
الفصل الخامس
المصارع المحتضر
تمثال من المرمر، محفوظ في متاحف الكابيتول بروما. (1) فوكيه (البارون فريد ريش دي لاموته) (
Friedrich De la Motte Fouqué )
ولد الشاعر والكاتب القصصي والمسرحي الرومانتيكي فوكيه سنة 1777م في باندنبورج على نهر الهافل، ومات سنة 1843م في برلين. انحدر من أصول النبلاء الإقطاعيين، وشارك سنة 1813م في حروب التحرير من قبضة نابليون وفي كثير من المعارك التي خاضها الجيش البروسي الذي كان أحد فرسانه. ظل طوال حياته يعمل على إحياء التراث الثقافي الجرماني وبعث روح البطولة والفروسية في العصر الوسيط، وتمجيد فضائل النبلاء والنبالة بأسلوب عاطفي يشيع فيه الحنين الرومانتيكي، وتغلب عليه النعرة «الشمالية» إلى حد الثرثرة.
ولعل حكايته الفنية «أندينة» - التي لحنها هوفمان ولورتسنج للأوبرا، وترجمها الدكتور عبد الرحمن بدوي للعربية - تكون من خير أعماله الشعرية المعبرة عن فلسفة الطبيعة في الحركة الرومانتيكية.
وقد وردت قصيدته عن المصارع المحتضر في الكتاب الذي ألفه عن ذكريات رحلاته، وظهر في مدينة درسدن سنة 1823م، الجزء الأول، ص203-206، ويبدو أن الشاعر كتب القصيدة قبل ذلك بعام واحد بعد مشاهدة مجموعة التماثيل الجنسية التي نسخها الفنان رافائيل منجس (1728-1779م ) عن أصولها القديمة. «المصارع المحتضر»
قديما، لما غلبته الحشود المنقضة،
عاش الأمير عيشة عبد في روما سيدة العالم.
وبعدما كان في الغابة الجرمانية
يتقدم الجميع في الحرب والصيد،
صار يسير في أثر السادة المتجهمين،
وبقوة عملاق يدحرج حجرا بعد حجر في أساس البناء،
حتى ارتفعت الدارة
1
مزدانة بالروعة والبهاء.
كان صبورا يتذرع بالصمت، محتقرا أقوال العامة،
محتملا قدره الكئيب في روحه الجبار.
وفجأة، هل سمع إله ضراعته؟
حملوا إليه درعا وسيفا، وأخذوه معهم،
حيث ارتفع المبنى الرائع
إلى قبة السماء،
ورأى الحشد الهائل يصطف أمامه
لم يكن حشد النظارة، بل كان الشعب بأكمله!
النساء الفاتنات بجمالهن الساحر الأخاذ،
يتألقن في الصفوف الأولى، وبجوارهن الكهنة والشيوخ.
حيا الجميع تحية الفارس، فجاوبه الشكر بصوت عال،
ثم ظهر في الحلبة رجل واجهه بكامل سلاحه.
ليكن الهدف من هذا الصراع ما يكون،
وسواء كان هو الثأر لإنقاذ البراءة
أو رفع السيف الناصع كسؤال للآلهة؛
فالأمير على أهبة الاستعداد.
وماذا يبتغي الكهنة والنساء
سوى أن يشاهدوا كل ما هو عظيم ومرض للآلهة؟
تردد نداء الأبواق الداعية للنزال،
فشعر بالفرح والسرور،
وراح يصارع ويبارز وينتصر،
وهتاف الحشود يتجدد مع كل انتصار.
ولا يكاد يظهر عدو جديد حتى يغلبه ويصرعه،
وترن الصيحات ويتتابع الصراع والتهليل والصراع
حتى تنطفئ القوة في صدر الأمير.
لكن الحياء يغلق فمه فلا يبوح بشكواه.
وهكذا يواصل الصراع والنزال،
حتى تستقر الحربة في الصدر المنهوك،
ويهوي في دمه النازف فوق الدرع الصامد،
ولم تزل صيحات التهليل تتردد في أذنيه،
ولم تزل الفرحة تخامره وهو يسمعها.
وتجول الفكرة في قلبه الشجاع: «أصواتهم كجوقة تزف بالتهليل شرف التكريم.»
ويثبت نظرته الجادة على دمه المنسكب.
إن كنتم تصيحون به كأنكم تصيحون بحيوان،
فلقد سقط على الأرض سقوط الأبطال ... (2) جيمس طومسون (
James Thomson )
ولد الشاعر الاسكتلندي سنة 1700م في «إدنام» بناحية روكسبورجشاير، ومات سنة 1748م في «ريتشموند» بمقاطعة ساري. كان أبوه قسيسا. كتب قصائد عديدة في وصف الطبيعة من أن أهمها «الفصول» التي لحنها هايدين، كما كتب الأهاجي والملاحم الشعرية والمسرحيات.
أما قصائده التي وصف فيها تماثيل النحت القديم فترجع إلى الفترة التي قام فيها برحلة عبر إيطاليا واستمرت من سنة 1730م إلى سنة 1731م. وقد ظهرت قصيدته عن «المصارع المحتضر» ضمن أعماله الشعرية التي نشرها ج. ل. روبرتسون، وصدرت في لندن سنة 1965م، ص361. «المصارع المحتضر»
يستند على ذراعه الملوية،
ويميل بوجهه وهو يعاني
آلام الاحتضار.
ثقل القدر يحني رأسه،
لكن الرغبة في الثأر والتحدي
والغضب والخجل والانتقام الكسير،
تطل كئيبة من قسماته المعذبة،
وتظل العين تتوقع أن يسقط. (3) جورج جوردون لورد بايرون (
George Gordon Lord Bryon ) (1788-1824م)
راجع ترجمته مع القصائد المنشورة مع تمثال «أبولو بلفيدير»، وقد ظهرت هذه القصيدة عن «المصارع المحتضر» ضمن أغانيه وأناشيده المعروفة بأسفار تشايلد هارولد، ص245 وما بعدها. «المصارع المحتضر»
أرى المصارع راقدا أمامي؛
مستندا إلى ذراعه،
ورجولته الصامدة راضية بالموت،
لكنها تقهر عذاب الاحتضار.
رأسه يميل شيئا فشيئا،
ومن جنبه تتساقط القطرات الأخيرة من دمه
في تيار أحمر بطيء،
تتساقط ثقيلة، واحدة واحدة،
كأنها أول قطرات النوء الراعد،
وتغيم الحلبة في عينيه،
ويموت وما زالت تتردد صيحات التهليل
الوحشية للفائز.
سمعها ولكن لم يحرك ساكنا!
كانت عيناه مع قلبه،
وكان القلب هناك بعيدا،
لم يكترث بالحياة التي فقدها،
ولم يعبأ بالثناء،
فحيث يقوم بيته الخشن على ضفاف الدانوب
هنالك يلعب برابرته الصغار،
وهناك على أرض الوطن أمهم الداسية
2
أما هو سيدهم والأب والزوج،
فلقد ذبح لكي يحتفل الرومان بعيد ممتع!
راحت كل هذه الذكريات تتدفق مع دمه،
أيموت ولا يثأر أحد له؟
انهضوا أيها القوط!
واشفوا غليلكم! (4) إجناس هينريش فرايهير فون فيسنبرج (
Ignaz Heinrich Freiherr Von Wessenberg )
ولد سنة 1774م في مدينة درسدن في أسرة عريقة النبالة، ومات سنة 1860م في مدينة كونستانس بالجنوب الألماني. شارك في الإصلاح الكنسي متأثرا بأفكار عصر التنوير، وانتخب عضوا حرا في أول برلمان لولاية بادن، بيد أنه لم يلبث أن انسحب من مسرح الحياة الكنسية والسياسية، وتفرغ لأعماله الأدبية ورحلاته واقتناء التحف والصور التي وسع بها مجموعته الفنية.
وقد شاهد الشاعر تمثال «المصارع المحتضر » أثناء رحلته الإيطالية، ويبدو أنه كتب قصيدته عنه تحت تأثير عبارة لشيشرون يقول فيها: إن المصارع الشريف يحرص حتى في موته على أن يسقط بشرف. وقد ظهرت القصيدة ضمن مؤلفاته الأدبية الكاملة، الجزء الثالث، شتوتجارت وتوبنجن، ص105. «المبارز المحتضر، تمثال في الكابيتول»
من أنت أيها المبارز،
يا من تموت هذا الموت المنمق البديع،
وبوضع أعضائك وإشاراتك
تخطب ود الرومان الخليعين وثناءهم الحقير؛
إذ تنسكب حياتك مع دمك على الأرض؟
كيف تطرف كل العيون وقد بهرتها النشوة،
بينما تسقط رأسك كسقوط الكرة على درجات السلم!
آه يا عار الرق ويا لهوان البشرية!
انهضوا أيها البرابرة، أسرعوا بأجنحة العاصفة!
فلا يصح أن يموت ابن غاباتكم
لتسلية شعب التلال السبع!
انظروا! الآن يكسوه الشحوب.
اسمعوا من كل الصفوف
صيحات التهليل الوحشية تدعو للثأر! (5) كونراد فرديناند ماير (
Conrad Ferdinand Mayer )
شاعر وروائي كبير. ولد سنة 1825م في مدينة زيوريخ بسويسرا، ومات سنة 1898م في قرية كيلشبرج بالقرب من زيوريخ. وقد شاهد «ماير» تمثال المصارع المحتضر سنة 1858م في روما، وظهرت قصيدته عنه أول مرة في كتاب قصيدة الصورة الألمانية لمؤلفه ه. روزنفلد، ليبيزخ 1930م، ص264. «المبارز المحتضر»
سقط على الأرض وقد أصابته الطعنة،
والألم ينطق من قسماته،
وتطل العين، تحدق مفتوحة
في الدم النازف من جرحه.
يرى القطرات الحمراء وهي تلمع
وتتحدر في بطء إلى أسفل،
ويرى الأرض العطشى تشربها،
ولا يضع اليد على قلبه،
وصياح التهليل بالفائز المنتصر
يخفت في أذنيه ويموت،
والموت، الروح الطيب،
يكسو نظرته الأخيرة بقناعه.
تتلفت روحه إلى أرض الوطن،
إلى الكوخ الذي فتح فيه عينه على النور،
فتتحطم أغلال العبودية،
ويصير البعيد قريبا منه.
يتحسر على أنفاس الجبال، وأحواض الأنهار،
والموجة التي طالما حملته فوق ظهرها،
على تحية الينابيع التي تتحدر وتفور
جسورة، وعلى تحليق النسور
شيء كالسحر يجعلها تتكلم،
فينصت وهو سعيد للنغم العذب،
وبهذا الصوت الرنان المنعش
يحيي الوطن ابنه البعيد،
الجبال تميل عليه وتسقط،
يعلو خفقان الأمواج،
تنحل أعضاؤه وتتراخى،
ويسود وجه النهار.
والرومانية تنظر وترى العين المنكسرة ،
واللعبة تسعدها أي سعادة،
وتصفق هذي الوقحة
للعيد وهو يسقط سقطته البديعة. (6) باول هايزه (
) (1830-1914م)
ولد الشاعر الألماني في برلين ومات في ميونيخ. درس اللغات والآداب القديمة بجانب اللغات الرومانية (الإيطالية والإسبانية والفرنسية والرومانية)، قام برحلات عديدة إلى إيطاليا، وكتب القصة القصيرة والمسرحية والقصيدة، كما ترجم عن اللغات القديمة والحديثة. حصل على جائزة نوبل في الآداب سنة 1910م، وقد نشرت قصيدته عن المبارز المحتضر في المجلد الخامس من مؤلفاته، شتوتجارت وبرلين، ص373. «المبارز المحتضر»
لم راح يبارز ويصارع،
ولأي قضية؟
الأمر سواء.
حتى لو أخذ يصارع من أجل القوت
فيظل الإنسان عظيما وهو يموت .. (7) إريك لينديجرين (
Erik Lindegrén ) (1910-1968م)
ولد الشاعر السويدي في بلدة لوليا الواقعة شمال السويد، ومات في استوكهولم. نشر أربع مجموعات شعرية، وكتب عددا من نصوص الأوبرات، وترجم عن الشعر والنثر الفرنسي والإنجليزي. انتخب سنة 1962م عضوا في الأكاديمية السويدية خلفا لداج همرشولر. ظهرت قصيدته التالية عن المصارع المحتضر مع قصائده التي صدرت سنة 1962م في استوكهولم، ص53، وكان قد كتب القصيدة سنة 1947م. «المصارع المحتضر»
من دفع الرمح إلى جسدك؟
من ألقى الشبكة،
فوق الرأس وشد الخيط،
وهلل بالنصر الحاسم،
فتلويت وفي الرمل سقطت؟
ليس هو الجاثم فوقك،
تحسب ساقيه عمودين رخاميين
يميلان عليك،
ليست هي تلك اليد الحاملة الخنجر،
ألقت بظلال سود
فوق الحلبة ذات مساء،
وكذلك ليس هو الخادم
في قصر القيصر.
لكن من يبصرك هناك
وهل تسمعني؟
النظارة عمى.
هم في الظلمة يتجهون إليك،
كالموجة يكسوها الزبد الأبيض،
تندفع لتنطح كتل الصخر،
المعتم في هاديس.
أو هم في النشوة
ينطلقون لآخر حد لضباب-الدم،
ويخافون على أنفسهم وعليك.
من أسقطك،
ومن ينظر إليك؟
تشعر بدنو الأجل،
لكن الوقت قصير
قصر العمر،
تأتي اللحظة وتصارع أبد الدهر،
تسقط فتصير حياتك،
وكذلك موتك،
ملك يديك.
الفصل السادس
فينوس ميلو
من القرن الأول قبل الميلاد - رخام مرمري - اللوفر، تمثال أفروديت من جزيرة ميلوس المعروف بفينوس ميلو. وهو أحد روائع الفن الإغريقي في عصره الأخير، وهو العصر الهيلنستي (حوالي القرن الثاني ق.م.). أطلق هذا الاسم عليه نسبة إلى فينوس إلهة الجمال عند الرومان، وإلى جزيرة ميلوس (ميلو بالإيطالية) التي عثر فيها على التمثال سنة 1820م. لا يعرف اسم المثال الذي نحته، وربما كانت الذراعان المفقودتان تحملان في الأصل درعا مرفوعة إلى أعلى ناحية اليسار تتأمل الإلهة صورتها المنعكسة عليه. (1) فيلهيلم فايبلنجر (
Wilhelm Waiblinger )
ولد الشاعر الألماني سنة 1804م في مدينة هايلبرون، ومات سنة 1830م في روما. درس اللاهوت في المعهد الديني في مدينة توبنجين، وهو المعهد الذي درس به الفيلسوفان هيجل وشيلنج والشاعر هلدرلين. استقر في إيطاليا منذ سنة 1826م ونشر القصص والأشعار. وقد كتب قصائده عن الصور واللوحات التي رآها وتأثر بها في سنة 1827م، ونشرت في ديوانه «أناشيد ومرثيات من روما». ظهرت هذه القصيدة عن فينوس في مجموعته الشعرية «قصائد من روما» الذي نشره الأستاذ أ. جريزباخ، وظهر في مدينة ليبزج سنة 1893م. الجزء الثاني، ص48. «فينوس من ميلو»
البشر يرتفعون إلى السماء،
وهنالك في النور الباهر
تتفتح البذرة الأرضية
عن زهرة أوليمبية حسناء.
ينصهر الروح مع الروح.
وفي حياة أكثر حرية،
يتجلى الشكل الفاني أكثر بهاء وقدسية.
هكذا تهدين الحس الأرضي إلى الحس السماوي
وتحيلينه - بمعجزتك القاهرة -
إلى صورة كاملة. (2) أفاناسي أفاناسييفيتش فيت (
Afansij Afansijewifsch Fet )
ولد الشاعر الروسي سنة 1820م في ضيعة تملكها عائلته في نواحي نوفوسلكي بولاية أوريل، ومات سنة 1892م في موسكو. وقد ولد لأب روسي وأم ألمانية. ودرس في جامعة موسكو، ثم التحق بالجيش وخاض حرب «القرم» التي رجع بعد انتهائها إلى ضيعته ليقضي فيها بقية حياته. وهو شاعر ومترجم لأشعار هوراس، وجوفينال، وحافظ الشيرازي، بجانب ترجماته لشكسبير، وجوته، وشوبنهور. كتب قصيدته عن فينوس سنة 1856م، ونشرت في إحدى مجموعاته الشعرية التي صدرت سنة 1959م في ليننجراد، ص238، كما ظهرت ترجمتها الألمانية بقلم هانزبورجن تسوم فينكيل في كتاب «فينوس من ميلو والشعراء الروس المعجبون بها»، وهو الكتاب المهدى للأستاذ م. فيجنر، مونستر 196، ص131. «فينوس من ميلو»
عذري لم تلمسه يد،
منزوع منه الخوف
وعار حتى جنبيه ،
يسطع، يزدهر
الجسد الرباني
في نور جمال
لا ينطفئ ولا يخمد.
تحت الظل المتقلب - كتقلب نزوة -
للشعر المرفوع بخفة.
صب الفرح أبيا
وانسكب بقوة،
في هذا الوجه العلوي!
باقوس
1
غمرتك طويلا
بحنان غامر،
فغدوت كزبد البحر - وفان هو زبد البحر وعابر -
وتدفق منك السحر القاهر
والمجد الباهر؛
ولهذا رحت تطلين
على الأبد الممتد أمامك (بحثا عن سر حائر). (3) شارل ليكونت دو ليل (
Charles Leconte De Lisle ) (1818-1894م)
ولد في جزيرة «ريونيون» في المحيط الهندي، ثم انتقل مع أسرته إلى فرنسا وعمره ثماني عشرة سنة، وأصبح من أهم شعراء «البرناس» وأعضاء جماعة البرناسيين الذين تغنوا بمثل الجمال والمجد والقداسة الإغريقية، وقد قام الشاعر أيضا بترجمة أشعار هوميروس وغيره من شعراء اليونان.
كتب هذه القصيدة ونشرت في شهر مارس سنة 1846م في مجلة لافالانج. ويجدها القارئ مع قصائده عن العالم القديم، باريس، 1952م، ص134-136). «فينوس من ميلو»
أيها التمثال المرمري المقدس،
يا من تتزيا بثوب القوة والروح،
أيتها الإلهة التي لا تقاوم، يا من يملؤك النصر بأمجاده،
يا نقية كالانسجام، صافية كالبرق،
آه يا بيضاء وأم الآلهة، وآه يا فينوس،
يا نور الحسن الساطع !
لست «أفروديت»، التي تضع قدمها البيضاء بياض الثلج على محارتها الزرقاء التي تهدهدها الأمواج،
بينما ترف حولك (والرؤية وردية وشقراء)
خلية نحل من الدعابات والضحك الرنان كالذهب.
لست «كيثيرا»
2
التي لا تزال تعبق
بعطر قبلات أدونيس
3
السعيد،
الذي التصقت به وقد برح بها الغرام،
وما من شاهد عليها فوق الغصن المياد
إلا الحمام العاشق في لون المرمر.
ولست ربة الفن ذات الشفتين الفصيحتين،
لا «فينوس» الحيية ولا «عشتروت» الشهوانية،
التي ترقد - متوجة الجبين بالورد وأوراق الأقنثوس
فوق سرير من زهر اللوتس، وهي تموت من الشهوة.
لا! فالضحك واللعب واللطف والحنان،
مهما تشابكت وتوهجت بالحب،
ليست هي التي تصاحبك.
الموكب الذي يحرسك مؤلف من النجوم،
والأفلاك التي تزفك بالغناء تسير في خطاك.
يا رمزا معبودا للسعادة الباقية،
يا صافية كالبحر الصافي،
أبدا لم يكسر قلبك الصامد نشيج باك،
ولا عكرت دموع البشر سناك .
سلاما لك! إن القلب ليشتد خفقانه لمرآك.
جدول مرمري يرطب قدمك البيضاء.
تمشين فخورة عارية فيهتز العالم،
والعالم - يا صاحبة الفخذين العظيمتين! - ملك يمينك.
وأنت أيتها الجزر يا موطن الآلهة!
أنت أيتها الأم القدسية هيلاس!
آه! ليتني ولدت على ضفاف الأرخبيل الرائع
حيث كانت الأرض المنتشية بالإلهام
ترى السماء تهبط إليها عند أول نداء!
إن كان مهدي لم يسبح أبدا فوق ثيتيس،
4
القديم.
أبدا لم يقبله موجه البلوري الفاتر.
إن كنت لم أصل تحت سقف معبدك الأتيكي،
ولا عند مذبحك أيتها الفتنة المنتصرة،
فاقدحي في صدري الشرارة العلوية،
ولا تحبسي مجدي في قبر الهموم،
ودعي أفكاري تنساب في إيقاعات ذهبية،
كالمعدن الإلهي المصبوب
في القالب المنسجم البديع ... (4) ويلفريد سكاوين بلنت (
Wilfrid Scawen Blunt ) (1840-1922م)
اسم معروف للمصريين أو ينبغي أن يكون معروفا ويبقى منقوشا في ذاكرتهم بحروف من ذهب لا ينطفئ بريقه؛ فقد دافع عن حرية مصر، وندد طوال حياته بالاحتلال والاستعمار البريطاني. ولد سنة 1840م في «سسكس» ومات سنة 1922م في شيلي. عمل من سنة 1858م إلى سنة 1869م في السلك الدبلوماسي، ورحل إلى مصر وبلاد العرب والفرس. وفي سنة 1841م اشترى بيتا أقام فيه في ضواحي القاهرة حيث عاش عيشة شيخ عربي! قضى شهرين في أحد السجون الأيرلندية بسبب دفاعه المخلص عن الحرية. وقد كتب الشعر ودون مذكرات رحلاته وأسفاره كما كتب في السياسة والتاريخ. ظهرت قصيدته عن فينوس في كتاب أشعار الرحالة الذي نشره الأستاذ ف. أ. إيمونز، وصدر في نيويورك عام 1970م، ص89. «فينوس من ميلو»
من أنت؟
امرأة أنت فحسب؟ الربة أفروديت؟
أبدا لم يأت شبيهك من عالي السحب،
ولا من زبد البحر.
من رحم الأم-الأرض ولدت،
لما ضاجعها الفرح البشري
في ليلة عرس لن ينساها الدهر (كان الإنسان صغيرا في مقتبل العمر!)
خالدة أنت،
و«خرونوس» قد عجز عن التأثير عليك.
أسألك سؤالا فأجيبيني:
أين تولى وإلى أين،
من كنت ترين
ووجهك - هذا الأبيض - يحمر؟!
ها أنت أمامي ذاهلة
عن هذا العالم.
وجهك منكسر
يرتسم عليه عذاب أزلي،
حزن مر،
أعلن حبي فتصمين السمع - أفي أذنك وقر؟ -
لكن ما من شيء تملكه المرأة
من فيض حنان أو بر،
أو من خبث أو غدر،
إلا وتجمع فيك؛
فأنت المرأة،
صورة حواء،
وما في الأنثى الخالدة
من الخير أو الشر. (5) ب. د. بوترلين (
Buturlin )
ولد الشاعر الرمزي الروسي سنة 1859م في فلورنسا ومات سنة 1859م. قضى طفولته في إيطاليا، وتربى في إحدى الكليات في برمنجهام بإنجلترا، ولم ير بلاده إلا في سنة 1874م حيث استقر في الضيعة التي تملكها أسرته بالقرب من كييف. التحق في مدينة بطرسبورج «ليننجراد الحالية» بالسلك الدبلوماسي، وعمل سنة 1883م في السفارة الروسية في روما ثم في باريس.
ترجم قصيدته هذه إلى الألمانية هانز-يورجين فون فينكيل، ونشرت مع قصائد أخرى لمجموعة من الشعراء الروس عن فينوس في الكتاب التذكاري المهدى للأستاذ فيجنر مونستر، 1962م، ص140). «إلى فينوس ميلو»
يطير الخيال من هذه القاعات الحية
إلى المرسم القديم، عبر ظلمات الأزمان.
هنالك يحيا الفنان مع نشوته المشتعلة بالكبرياء.
لقد انزلق منه الإزميل، أيتها الآلهة،
من فرط جمالك.
لم يعد في حاجة إليه؛ فلقد قيدت اليد
رؤيته العارية من اللحم
في أسر الأشكال المستوية،
وفي الفؤاد - حيث عصفت عاطفة الخلق
كدوامة ريح - امتدت سكينة البهجة والنشوة.
لكن مع ذلك، حين رآك أمامه - هذا العبقري الفذ الذي حجب اسمه
عن المجد قدر شرير -
هبط شعر شعورا حقا بسعادته؟
هل أنبأه الإحساس النبوي الشفاف
بأن الفن انتصر بفضلك،
وبعون منك سينتصر دوما.
يا مثل الحسن الأعلى،
يا رمز جمال خال
من أثر الذنب أو الإثم؟ (6) ديمتري ميريشكوفسكي (
Dimitrij Mereschkowskij )
ولد الشاعر الروسي سنة 1893م في بلدة بغدادي بالقوقاز، ومات منتحرا سنة 1930م في موسكو. كان أبوه فقيرا يعمل في الغابات، وانضم إلى الحزب الشيوعي ولم يتجاوز الأربعة عشر ربيعا. تعلم في إحدى مدارس الفن التشكيلي، ثم أسس سنة 1913م مع عدد من الرسامين والشعراء في موسكو جماعة المستقبلية (الفوتوريزم) التي جددت الحركة الفنية والأدبية. انصرف بعد ذلك إلى تمجيد الدولة البلشفية، وإن لم يمنعه هذا من تسديد سهام سخريته إلى عيوب النظام وثغراته. يعد من الشعراء الكلاسيكيين في الشعر السوفييتي، وقد كتب للمسرح كل كتب الشعر. كتب هذه القصيدة عن فينوس سنة 1927م بعد رحلة زار فيها متحف اللوفر في باريس، وهاجم فيها بطريقة ضمنية - كما فعل الشاعر السوفييتي ماياكوفسكي - الناقد الفني المتزمت بولونسكي. نشرت القصيدة في نفس الكتاب التذكاري الذي أشرنا إليه وترجمها المترجم نفسه، ص141. «فينوس من ميلو»
آه يا متحف اللوفر الوقور، كم أحب السير
تحت ظلالك الساكنة، بعيدا عن ضوضاء الشارع!
أليس كل شيء عندي سواء - المادونا أو فينوس؟
مع ذلك فالإيمان بالمثل الأعلى،
هذا الإيمان الوحيد الذي بقي لنا من الفساد
والخراب العام
هو الإله الأخير، وهو المعبد الأخير!
ذات يوم، يا ربة ميلوس،
نفذ إليك صياح الشعب: «عاشت الحرية!»
وسكرت باريس بسحر المارسيلييز.
من أجل الحرية للمضطهدين جميعا،
لسعادة كل الناس،
في الدخان وتحت وابل الرصاص،
اندفعت حشود الشعب - والأمل في عيونهم -
نحو المتاريس لتستقبل الموت.
لكن ربة الجمال ذات الوجه المرمري
راحت تنظر في صمت وبعينيها البارزتين بعيدا
أيتها الصامدة المرة! كما تأمرين وتنهين فينا،
سوف تفرضين إلى الأبد سلطانك
على البشر أجمعين.
آه، وجهي بصرك إلى المفسدين،
واشعري بما نحن فيه وبما نقاسيه!
لا .. هي لا تنظر ولا تسمع،
لكن تتنفس بسمتها في جمال أبدي ...
فينوس، أنا عند قدميك أتصالح مع الفساد،
وعندما أحبك، عندما أتبتل لك،
وفي الوجه المرمري أرى الأبدية،
أجدني أبارك الحياة كما أبارك الموت!
فجأة قطع علي التفكير ضجيج،
ودخل القاعة حشد من السواح يثرثرون.
السيدة النحيلة ذات الشعر الأحمر ومعطف السفر المنقوش
تحمل دليل «بيديكر» السياحي تحت إبطها،
الله وحده يعلم لماذا جاءوا إلى هنا.
فالملل يدفع السواح من بلاد الإنجليز
عبر الجبال والبحار إلى كل أركان العالم.
وبمائتي شلن يسوقهم مندوبو
شركة كوك إلى كل العواصم؛
ليفرجوهم على كل تمثال، وكل أثر وكل معبد.
ولا مهرب من هؤلاء الإنجليز خليي البال،
أصحاب دكاكين السلع المستعملة في لندن،
والقبيحات من النساء!
فهنا أيضا، عند قدميك يا كيبريده
5
الخالدة،
قضي علي أن أتطلع إلى وجوههم
وقلبي مفعم بالهم والغم.
إنكم تحسبون الجمال والعبقرية الفذة
بجنيهات الإسترليني في عصرنا الديمقراطي.
ولماذا نعمل أو نشقى؟ ما الداعي
أن نتطلع للأبدي الخالد؟
إن صاحب البنك ورجل الأعمال الذي يملك الملايين
سيأتي إلى هنا على الرغم من كل شيء،
ويستوعب كل شيء،
دون أن يفكر في تضحياتنا
أو يتذكر تنهداتنا.
هكذا رحت أتأمل ما حولي والألم يعتصرني.
لكنك ما زلت وسوف تبقين إلى الأبد ربة الجمال،
أخذت تنظرين بعيدا، في صمت دون أن ترينا،
كالسماء بعيون صافية.
لعلك رأيت قرنا جديدا، عصرا أفضل،
أياما أخرى يرجع فيها الإنسان إليك،
وتعودين سيدة العالم،
لا يشبهك في جمالك غير الطبيعة الخالدة!
الفصل السابع
حواء
للفنان جيسليبرتوس الأوطوني (
Gislebertus of Autun ) حوالي سنة 1115م.
تأملها الشاعر فالتر هلموت فريتس (
Weiter Helmut Fritz )، فكتب عنها القصيدة التالية. وقد ولد هذا الشاعر سنة 1929م في مدينة كارلزروه، ودرس التاريخ والفلسفة واللغات الحديثة بجامعة هيدلبرج، ونشر عدة مجموعات شعرية وقصصية وتمثيليات إذاعية ومقالات وترجمات عن الشعر الفرنسي. «حواء»
بينا تتناول يدها التفاحة،
تنصت،
تفهم،
أن الجسدين
كأنهما الموجة
تتبعها الموجة،
تعرف
أن العالم لن توجد فيه
شفاه تكفي
كي تتحدث عما يغمرها
ويحولها
من أسرار.
تشعر
أن الناس ستخلط دوما
بين العيش
وبين الموت.
تلتمس جوابا
عن أسئلة
لم يطرحها أحد بعد،
بينا تتناول يدها التفاحة
تنصت
في الصمت.
الفصل الثامن
فبراير
منمنمة عن مخطوطة محفوظة في مكتبة جامعة براغ، تنسب للمعلم الكبير «ليو» وهي مرسومة على البرجامنت (الرق)، ويقدر مؤرخو الفن تاريخها حوالي سنة 1365، ويبلغ ارتفاع المنمنمة في الأصل أربعة سنتيمترات ونصف السنتيمتر. (1) ميلوسلاف بوهاتيك (
Milosiav Bohatec ) (1913-1967م)
ولد الشاعر التشيكي في بلدة نوفيتشي بمقاطعة ميرين، ومات في براغ. درس اللغات السامية القديمة وتفقه في اللغة العبرية والتوراة واللاهوت في جامعات براغ وزيوريخ وإدنبرج. التحق بخدمة الكنيسة الإنجيلية «البروتستانتية» من سنة 1937م حتى سنة 1950م، ثم صار أمينا لمكتبة المتحف اليهودي في العاصمة التشيكية، فمديرا مسئولا عن قسم المطبوعات القديمة في مكتبة المتحف الأهلي من سنة 1953م إلى وفاته. نشر بحوثا لاهوتية عديدة، وديوانا شعريا بعنوان «علامات السماء، أبيات مرحة عن صور الشهور في العصور الوسطى»، يشتمل على قصائد عديدة من بينها هذه القصيدة عن فبراير. «فبراير»
فبراير العجوز يدفئ على النار
أعضاءه اليابسة.
كانت مهرجانات فبراير
هي عيد الكفارة عن المواطنين في روما،
فتقدم الأضحيات للموتى،
ويسير كهنة هذا الإله
1
في شوارع المدينة
وهم يضربون النساء بالسياط؛
لتخضر الأرحام العقيمة بالإخصاب.
الشمس تدخل في برج السمكة،
والطفل الذي حملت به أمه
في برج المشتري
يغدو معتدل المزاج،
ذا قلب كالثلج البارد.
ويمتلئ الرجل بالشهوات الوحشية
والشوق الذي لا يشبع أبدا،
ويتسلط عليه الوهم
بأن رحم أي امرأة مجهولة
يطوي السعادة القصوى على الأرض.
أما المرأة التي من هذا البرج
فهي ذكية ومثقفة،
فاتنة ومثيرة وقوية،
وبوشم ناري على مؤخرتها
تنهار ويغمى عليها
في وحشة العناق،
وبسبب النزوة الحمقاء
في البيت المهجور.
الفصل التاسع
المعلم والمتعلم
نحت بارز على برج كنيسة مدينة روتفايل الواقعة على نهر النيكر في ألمانيا، ويرجع إلى حوالي سنة 1380م. (1) جان تزيرسكي-برابت (
Jan Czerski Brabt )
ولد الشاعر البولندي سنة 1947م في فيدافا وقد كتب هذه القصيدة «التواصل بين أطراف عديدة» في نفس اليوم الذي شاهد فيه النحت البارز أثناء زيارته لكنيسة «روتفايل». والاسم الذي يشير إليه السطر الأخير في القصيدة اسم عالم إيطالي في فقه اللغة وهو دومينيكو كومباريتي (1835-1927م). وأهم كتبه التي درسها الشاعر - المختص في علم اللغة - هو كتابه «فيرجيل في العصور الوسطى». «المثلث الضروري للتعليم والتعلم»
المعلم ينظر أحيانا للمتعلم،
المتعلم ينظر أحيانا للمعلم،
لكنهما في الغالب يحظران معا للموضوع،
والموضوع يشرح عن طريق شيء رابع
يتجه من فم المعلم إلى أذن المتعلم:
اللغة.
أهي لغة الكتاب؟
إن لغة أخرى قد تعوق الفهم.
لأن الموضوع الذي ينبغي أن يفهم هنا
هو كتاب مطروح بين
اللغة
والمؤلف والقارئ.
والموضوع.
المعلم كان في يوم من الأيام متعلما.
المتكلم كان في يوم من الأيام مستمعا.
المؤلف كان في يوم من الأيام قارئا.
والمتعلم سوف يصبح معلما
لمتعلمين يأتون فيما بعد.
المستمع سوف يصبح متكلما
لمستمعين يأتون فيما بعد.
القارئ ربما أصبح مؤلفا
لقراء يأتون فيما بعد.
وهذا يضاعف
من أسباب سوء الفهم الممكنة.
توماس (الإكويني) لم يكن توماويا،
ماركس لم يكن ماركسيا
تولستوي لم يكن من أتباع تولستوي.
من فهم الإنيادة فهما أفضل؛
معاصرو فيرجيل؟
أم قارئ من القرن الرابع عشر؟
أم خريج جامعة هارفارد سنة 1973م؟
هنالك ألوان من سوء الفهم،
لم يعرف كومباريتي شيئا عنها،
فليتها - بقدر المستطاع - تكون مثمرة.
الفصل العاشر
ضريح إيلاريا ديل كاريتو
ضريح إيلاريا ديل كاريتو في كنيسة «لوكا»، وعليه نحت بارز لها من إبداع الفنان ياكوبو ديلا كوبرشيا (1374-1438م)، وقد أتمه سنة 1406م. وهو من أكبر المثالين في مدرسة «سيينا» بإيطاليا، وقد عاصر اثنين من أعاظم المثالين الفلورنسيين هما جيبرتي (1378-1455م)، وتلميذه دونا تيللو (1386-1466م) اللذين نافسهما في مسابقة أعلنتها معمدانية فلورنسا لإقامة النحت البارز على أبوابها البرونزية، وفاز فيها جيبرتي. يعد هذا النحت البارز ضريح إيلاريا ديل كاريتو في كاتدرائية لوكا أول عمل مؤرخ له، وفيه يظهر تأثره بمدارس النحت الواقعية في هولندا والشمال الأوروبي (خصوصا مدرسة سلوتر 1380-1406م)، وبالفن الكلاسيكي القديم. كلفته مدينة سيينا في سنة 1409م بنحت نافورة عامة نفذها بين سنتي 1414 و1419م، وتعرف اليوم بالفونته جايا (النوافير المرحة). وعمل بين سنتي 1417 و1431م في النحت البارز على أبواب المعمدانية في مسقط رأسه سيينا، وشاركه دوناتيلو وجيبرتي اللذان سبقت الإشارة إليهما. ويبدو أن العمل قد تأخر تنفيذه، فطولب الفنانون الثلاثة بإعادة الأموال التي تقاضوها من مجلس المدينة! ولكنه تلقى تكليفا آخر سنة 1425م بإقامة النحت الحجري البارز لكنيسة القديس بترونيو في مدينة بولونيا، وظل يواصل العمل فيه حتى وفاته. ويقال إن مايكل أنجلو قد أعجب بهذا النحت إعجابا شديدا. (1) أوتو فون تاوبه (1879-1973م)
ولد الشاعر اللتواني الأصل في «ريفال» ومات في جاوتنج. كان أبوه من أصحاب الضياع في شمال البلطيق، وانتقل مع أسرته سنة 1892م إلى ألمانيا حيث درس الحقوق وتاريخ الفن، وهو شاعر وقاص ومؤرخ ومترجم ومؤرخ سير القديسين. قام برحلات كثيرة كان من أهمها رحلة إلى إيطاليا أتاحت له مشاهدة ضريح «إيلاريا» في مدينة «لوكا»، وعلى أثرها كتب قصيدته هذه سنة 1911م. «إيلاريا ديل كاريتو»
1
يا من نجوتم بأنفسكم إلى النوم المرمري،
ونعمتم بالصفو والصفاء
كأنكم تعيشون اليوم بيننا،
وأخلدتم للنوم قليلا
مع أنكم رحلتم من عهد بعيد.
أنتم تحيون حياة الأبدية،
ويشع الوجه الناصع ببريق أبدي؛
إذ يقترب الوديعون منه بخطى وديعة.
صور الأطفال التي تجلل مرقدكم،
أهي ملائكة أم آلهة
جاءت تتمايل خاشعة حاملة إكليل الورد؟
والكلب الصغير، وهو رمز الوفاء،
ينام ملتصقا بقدميكم، يشارك في بهائكم،
هل يقدر يوما أن يصحو ويحييكم ويداعبكم بنباحه؟
لكن ماذا يريد اليوم أن يقول لنا؟
هل يمتدح وفاؤكم الذي كنتم به جديرين
وبادلكم به الناس وفاء بوفاء؟
وكذلك يتحد الواهب والمتلقي من جديد.
كم يحزنني أن أفترق عن هذا الأثر البديع!
يا نور الفن وإن لم يكن الآن
سوى ظل يعكس نورك.
كم كانت إيلاريا تملأ بيت الزوج ضياء،
وهي الآن تضيء الحجر الصامت!
2
يا سيدتي إيلاريا، لا شأن لأحد
بمكانك عندي أو بمكاني عندك.
أنت أيتها المباركة تعرفين. وهذا حسبي،
هذا هو مكسبي الأوحد في آخر عمري.
أنت يا أصفى جمال إذا ذكر جمال النساء.
أي سحر ينبعث يا سيدتي من هذا الجلال؟
إني لأركع أمام تمثالك المرمري:
صلي من أجلي إن عجزت عن الصلاة.
لم يضعوك مع القديسين ولا رسموك قديسة،
لكنك نبل والنبل يحوطك من أطرافك،
هذا أيضا من عند الله فطوبى لك.
حتى شعبك يعرف هذا ويحسه،
ومن سواه يقدم لك الزهور والورود
التي تنعس عند قدميك بألوانها القرمزية.
هبيني واحدة منها، وسأرحل عنك رضيا مرضيا ... (2) سلفاتر كوازيمودو (1901-1968م)
ولد الشاعر والروائي الإيطالي الكبير في سيراقوزة «سرقسطة» بجزيرة صقلية، ومات في مدينة نابولي. بدأ حياته مهندسا للطرق، ثم اتجه لدراسة الأدب الإيطالي وتعليمه في المعاهد العالية بجانب اشتغاله بالنقد المسرحي في مدينة الفنون المسرحية والاوبرالية ميلانو. عرف كوازيمودو الشاعر الذي يعد - بجانب أونجاريتي - أهم شعراء إيطاليا في الثلث الثاني من القرن العشرين، خصوصا بعد حصوله على جائزة نوبل للآداب سنة 1959م، ولكنه لم يحقق الشهرة نفسها كروائي كبير (فهو صاحب رواية الفهد)، ومترجم عن الشعر اليوناني واللاتيني القديم. ظهرت قصيدته التالية مترجمة للألمانية في مجموعة شعرية بعنوان «قوس مفتوح» صدرت في ميونيخ، دار النشر بيبر، 1963م، ص50 وما بعدها. «أمام صورة إيلاريا ديل كاريتو»
في ضوء القمر الساحر
تبدو الآن تلالك،
وعلى شاطئ «سركيو»
تمشي الفتيات خفافا
في الأثواب الحمراء،
أو الزرقاء الناصعة الزرقة.
كان الأمر كذلك في عهدك،
عهد النعمة يا محبوبة،
يشحب وجه الشعرى اليمنية،
تنطمس جميع الساعات،
يضج النورس وهو يصيح
على الشطآن المهجورة.
يخطو العشاق على إيقاع
نسيم صاف في سبتمبر،
وظلال الكلمات تصاحب إيماءات
من أيديهم وإشارات (تلك الكلمات الحلوة
ما زالت تهمس في سمعك!)
ما أقساهم!
أنت الآن بجوف الأرض،
فلم الشكوى؟
تركوك وحيدة.
ولعلي مثلك تعروني نفس الرجفة،
تتجاوب رعشات القلب
في الغضب كما في الرعب.
الأموات بعيدون،
وأبعد منهم من نحسبهم أحياء؛
رفاقي هم ورفاق الجبن،
الصمت
العجز عن الحب ...
الفصل الحادي عشر
إغواء القديس أنطونيوس
للمصور هيرونو موس بوش، متحف برادو في مدريد.
هيرونيموس بوش (
Hieronymus Bosch ) (من حوالي 1450-1516م)
ربما كان صاحب أعجب وأوسع خيال عرفه تاريخ الفن! يحتمل أن يكون قد ولد في «هيرتوجنبوش » بهولندا التي سجل في وثقائقها سنة 1480 / 81م، واستمد منها اسمه وقضى فيها حياته. ويمكنك أن تعرف صوره الغريبة من أول نظرة تلقيها عليها؛ إذ تضعك في عالم قد وضع في قبضة أفكار شبحية وأخروية متسلطة، وخيم عليه شفق الروح القوطية الغاربة، وبرزت على سطحه - كأنها جيوش حشرات غريبة تبرز من جحيم مأهول بالألغاز! - هواجس العصر الوسيط ونبوءاته ومخاوفه وأشواقه. وتحيرك معظم هذه الصور وتستغلق عليك فلا تدري هل تفسرها كما فعل السيرياليون بأنها «فرويدية» قبل فرويد بزمن طويل، أم توافق بعض النقاد على أنها تعبر عن معاني دينية ورموز وحكايات وأمثولات أخلاقية محددة من العصر الوسيط، وليست مجرد فيض مختلط تدفق من هاوية اللاشعور. لم تزل الآراء مختلفة حول تفسير صوره (مثل سفينة الحمقى والفردوس الأرضي والخطايا السبع المميتة)، ومعرفة تواريخها وأصولها والدوافع الكامنة وراءها. فهل رسمت بعض هذه الصور لتكون قطعا تزين بها مذابح بعض الفرق المجدفة التي كانت تمارس طقوسا شبقية أو «باخية» عنيفة؟ أم كانت تعبيرا عن بعض الرموز والخرافات والقصص الدينية الشائعة في العصر الوسيط (مثل سفينة الحمقى التي تقوم على ملحمة ساخرة ظهرت سنة 1494م لسيباستيان برانت في مدينة بازل تحت نفس العنوان، وجسدت الرذائل وتهكمت عليها)، وكيف نفسر إهداءها إلى شخصيات عرفت بتقواها وإيمانها، وبرعايتها وحمايتها له في وقت واحد، مثل فيليب الثاني ملك إسبانيا؟ ثم كيف نفهم دفاع بعض الكتاب عنه ونفي تهمة التجديد التي ألصقت به أثناء حياته؟ أم ترى تأثر هذا الفنان العجيب ببعض الرسوم الشعبية والصور الدينية المتداولة بين الفقراء والمساكين في ذلك الحين؟! (1) بيرنت فون هيزلر (
Bernt Von Heiseler )
ولد الشاعر الألماني سنة 1907م في «برانينبورج على نهر الإن»، ومات بها سنة 1969م. كان أبوه هو الشاعر هنري فون هيزلر الذي انضم إلى ثورة أكتوبر الروسية وصار قائد فرقة في الجيش الأحمر. درس التاريخ وعلوم الدين (اللاهوت) في جامعة ميونيخ، وقام برحلات طاف فيها بأوروبا وروسيا وأمريكا الشمالية، وتعرف على كبار شعراء عصره مثل رلكه وستيفان جئورجه اللذين ربطت بينه وبينهما صداقة قوية. نشر المسرحيات والقصائد والقصص والمقالات والترجمات، وقد ظهرت قصيدته عن صورة هيرونيموس بوش في مجموعة شعرية بعنوان «قصائد»، دار نشر بيرتلسمان، جوترسلوه، 1957م، ص98. «عن صورة لهيرونيموس بوش»
صورة نحيلة وحشية،
لا تحسبها فاقدة المعنى.
العالم تضطرب رؤاه كما في الحلم،
والقلق يلح علينا،
القلق ومعه الحسرة.
لكن تواضع هذا القديس الخاشع
يلمس طرف رداء الله. (2) جان تشيرسكي-برانت (
Jan Czerski-Brant )
شاعر بولندي، سبقت ترجمته مع لوحة المعلم والمتعلم. وقصيدته هذه عن صورة القديس أنطونيوس لهيرونيموس بوش، فقد أنشأها في سنة 1974م بعد مشاهدة نسخة مطبوعة منها على بطاقة. وأرجو أن يلاحظ القارئ أن الشاعر قد كتب السطرين الثاني والثالث من كل مقطوعة بحروف كبيرة، كما رتب سطوره على نحو يوحي بطريقة أصحاب الشعر المجسم في تشكيل أبياتهم بصورة هندسية أو رياضية، بحيث يشارك أسلوب طباعتها في الإيحاء بدلالاتها. «القديس أنطونيوس لهيرونيموس بوش»
أبانا الذي في السماء،
طقطقة النار بقاع جهنم،
عفن من شرج الشيطان المجرم.
ليكن ملكوتك.
موكب إبليس، وعرض لصواريخ النصر،
وعقارب يدفق منها طوفان السم.
وليكن ما تشاء.
ريح تطلقها السحرة من دبر فتغم النفس.
حبل المشنقة زناة صرخة مختنق همس.
أتطلع نحو الجبال.
برك براز يغرق فيها الملعونون،
التي أتوقع منها المعونة.
ضجة آلات وجنون عصاة ينتحرون.
من يضع فيك آماله لن يهون،
وأنا قد وضعت مصيري بين يديك،
ووجهت وجهي إليك،
وبمن أستجير،
ومنك المصير،
إليك المصير،
وألجأ منك إليك؟ (3) باول فينس (
)
ولد الشاعر الألماني سنة 1922م في مدينة كونجزبرج - وهي التي ولد ومات فيها الفيلسوف كانت - ثم هاجر منها سنة 1933 مع بداية الطغيان النازي. درس الفلسفة والاقتصاد السياسي من سنة 1939م إلى سنة 1942م في جامعتي لوزان وجنيف السويسريتين، ثم انتقل إلى فيينا إلى أن استقر به المقام في برلين الشرقية منذ سنة 1947م.
كتب ونشر القصص القصيرة والطويلة والتمثيليات الإذاعية والقصائد كما كتب للسينما، وترجم أشعارا لإيلوار وأراجون وماياكوفسكي. ظهرت قصيدته التالية: «تفاعل، هيرونيموس بوش» في مجموعته الشعرية «أربعة خطوط من يدي»، التي نشرتها سلسلة ركلام الشهيرة في ليبزيج سنة 1972م. «تفاعل، هيرونيموس بوش»
أفتح صفحات كتاب. أدخل بيتا.
فيه يولد إنسان؛
والإنسان أنا.
أفتح نافذة،
أتسلقها، أقفز منها،
ألقى إنسانا
علق في فانوس الشارع،
ذا جلد أسود،
ويمد لسانه؛
والإنسان أنا.
في حقل القمح يشاكس،
رجل عار عارية مثله؛
والرجل أنا.
هم يفترسون الواحد
لحم الآخر؛
أي عشاء رباني!
لكني الآن
على مفترق الطرق.
هنالك شب عراك
بين اثنين.
أحدهما يصرخ
من ثقب أحمر في بطنه؛
والصارخ والجرح أنا.
والآخر وسط فناء كنيسة
فوق عمود يخصي نفسه؛
وهو أنا .
أخفض بصري.
يلمع مركز إرسال العالم
تحتي،
وهنالك يغرق رجل في نومه؛
والرجل أنا.
شخص يضغط فوق الزر،
يئن،
والشخص الضاغط فوق الزر؛ أنا.
أنصرف لحالي، يقف قطار،
أركبه، نتدحرج عبر ليال وليال،
نلعب دور الشطرنج معا؛
وأنا اللاعب مع نفسي.
في الخارج شرر متقد،
رجل يتوهج فيه؛
والرجل أنا.
أسقط دون إصابة هدف،
أجد الورقة بيضاء؛
والورقة نفسي.
أحترق وأقفز من وسط النار،
معافى تتضوع مني رائحة المسك،
طهورا قربني الله إليه،
وسيفتح من بعد كتاب،
وسيدخل إنسان بيتا،
وسيولد في البيت وليد؛
أنا، أنا، أنا، أنا ... (4) دومينيكوس لامبسونيوس
ولد شاعر عصر النهضة الألماني سنة 1532م في مدينة «بروجه»، ومات سنة 1599م في مدينة «لوتيش». درس في جامعة «لوفين»، وعمل في خدمة الكاردينال بول رئيس أساقفة كانتربيري، ولما مات الكاردينال سنة 1558 غادر إنجلترا وعمل سكرتيرا لأسقف مدينة «لوتيش» روبرت دي برجيس، وأسقفين آخرين خلفاه في منصبه. عرف معظم علماء عصره وفنانيه وتبادل معهم رسائل ذات قيمة تاريخية وفنية كبيرة. كتب عددا كبيرا من القصائد بجانب روايته لسيرة المصور لامبيرت لومبارد الذي عاش مثله في لوتيش، وألف كتابا بعنوان «صور بعض مشاهير الرسامين الهولنديين»، نشر سنة 1572م في مدينة أنتفيربين، وتحت كل صورة قصيدة موجزة (أبيجرام) تتألف من أربعة أبيات إلى اثني عشر بيتا. والقصيدة - اللاتينية الأصل - التي نوردها هنا هي التي كتبت تحت الصورة المرفقة من رسم المصور هيرونيموس بوش، وتحمل في الكتاب رقم 3. وقد نشر الكتاب في ترجمة فرنسية حديثة، وعني بتحقيقه والتعليق عليه الأستاذ ج. بوراي ، باريس 1956م، ص28. «إلى الرسام هيرونيموس بوش»
ماذا تعني نظرتك المرعبة
ووجهك الشاحب؟
أرأيت بنفسك أرواح الموتى،
أشبه بالصور الرفافة
في نار جهنم؟
لقد انفتحت أمامك
أعماق تارتاروس
1
التي لا تشبع؛
لذلك استطاعت يدك أيضا - أيا كان ما تطويه
أعماق إكليجيس السحيقة -
أن ترسم هذا الرسم الرائع ...
الفصل الثاني عشر
إيكاروس
الصورة لبيتر بروجيل الأب أو الأكبر (1525-1569م) أو بروجل «المزارع»، إشارة إلى اهتمامه بحياة القرويين وعاداتهم وأخلاقهم (راجع ترجمته مع اللوحة التالية)، وهو من أعظم مصوري الطبيعة على الإطلاق، وأهم الساخرين من مفارقات الحياة البشرية ورذائل البشر بعد مواطنه الهولندي هيرونيموس بوش (1460-1516م). والصورة تخلد مغامرة «إيكاروس» الجسور التي تعد أول محاولة يبذلها الإنسان للطيران. وإيكاروس هو ابن الفنان والمهندس الأسطوري الذي بنى المتاهة الشهيرة لمينوس ملك جزيرة كريت. وقد انتقم منه الملك عندما اكتشف أنه نصح «أريادنه» بأن تمد ثيسبوس بخيط يساعده على الخروج من المتاهة الرهيبة بعد قتل الثور الخرافي «المينوتاوروس». ويبدو أن الملك زج بالفنان البارع في السجن، فهرب مع ابنه من الجزيرة الجاحد ملكها وأهلها بطريقة مبتكرة؛ إذ ركب لنفسه ولولده جناحين من الشمع يساعدانهما على التحليق في السماء. غير أن طموح إيكاروس أغراه بالإمعان في التحليق حتى اقترب من الشمس التي صهرت جناحيه الشمعيين، وسقط الطائر الطائش النبيل سقطة مفجعة في البحر الذي سمي بعد ذلك باسمه. وقد ألهمت صورة بروجيل عددا كبيرا من الشعراء المعاصرين
1
نذكر منهم: (1) ألبرت فيرفي (
Albert Vervey )
ولد الشاعر سنة 1865م في أمستردام، ومات سنة 1937م في نوردفيك آن زيه. كان من مريدي الشاعر الرمزي الكبير ستيفان جئورجه، ومن أعضاء حلقته الشهيرة، وعمل منذ سنة 1925م أستاذا للأدب الهولندي بجامعة ليدن، وترجم دانتي وسوناتات شكسبير. نشرت قصيدته التالية عن إيكاروس في الجزء الثاني من مجموعة أشعاره التي صدرت سنة 1938م. «إيكاروس»
أسقطت يا إيكاروس؟ الفلاح يجر محراثه،
وهو مشغول عن سماع السقطة المدوية.
الصياد الجالس على الصخرة لا تصدر عنه حركة.
الصيد همه، وهو يمد بصره للطعم والسنارة.
الطائر الواقف على غصن قريب منه منتبه،
لعل الغنيمة يسقط منها شيء يلتقطه.
الريح تنفخ أشرعة السفينة الحربية الصغيرة،
والبحارة منهمكون في شد الحبال.
سرب النورس الذي يحلق فوقك هو الوحيد
الذي يلاحظ سقوط ساقك البيضاء تحت الماء.
رجل واحد يتطلع إلى أعلى؛ الراعي لمح في الهواء
شيئا غريبا وسأل نفسه أين اختفى وغاب.
خليج ساموس كله تغمره أشعة الشمس،
التي أراد إيكاروس أن يقترب منها فلم يستطع. (2) أودين (ويستان هف) (
Wystan Hugh Auden )
من أهم الشعراء المعاصرين وأبعدهم أثرا وأعمقهم ثقافة. ولد سنة 1957م في يورك ب «إنجلترا»، وهاجر سنة 1939م إلى أمريكا. بدأ حياته ماركسيا، ثم انضم سنة 1940م تحت لواء الكنيسة الإنجليكية. عمل أستاذا للأدب بجامعة أكسفورد، وهاجر في أواخر حياته إلى النمسا حيث مات في فيينا سنة 1973م. كتب الشعر والمسرحية والمقال كما كتب للأوبرا. قصيدته التالية بعنوان «متحف الفنون الجميلة» مأخوذة من مجموعته الشعرية «وقت آخر» التي أصدرتها دار النشر فابروفابر سنة 1946م.
كانوا يعرفون العذاب معرفة كافية،
أولئك المعلمون القدامى، لكم أحسنوا
فهم دوره الإنساني، وقدروا كيف يصيب بعض الناس،
بينما البعض الآخر يأكل أو يفتح نافذة
أو يتابع طريقه في سأم،
وكيف تنتظر العجائز الميلاد المعجز في قلق وخشوع،
بينما الأطفال من حولهم لا يكترثون
بأن يتم أو لا يتم، ويفضلون
أن يتزحلقوا على الثلوج التي تغطي البحيرة
يا طرف الغابة،
لم ينس المعلمون أبدا
أن أسرار التعذيب والاستشهاد الفظيعة
لا بد أن تتم في ركن منزو،
أو بقعة قذرة تتصرف فيها الكلاب على طريقة الكلاب،
ويحك حصان الجلاد مؤخرته البريئة على ساق شجرة.
في لوحة بروجيل عن «إيكاروس» على سبيل المثال:
كل شيء يدير ظهره في برود تام للكارثة،
ربما سمع الفلاح صوت الارتطام بالماء
والصرخة الضائعة، لكن هذا كان في نظره
شيء لا يستحق الاهتمام،
والشمس سطع ضوؤها - كما هو واجبها -
على الساقين البيضاوين اللتين غاصتا في الماء،
والسفينة المتكبرة الباهظة الثمن،
التي لا بد أنها قد رأت شيئا مما وقع - فتى سقط من السماء -
قد كان لها هدف مرسوم تتجه إليه؛
ولهذا واصلت رحلتها في هدوء. (3) رونالد بوترال (
Ronald Bottral )
ولد الشاعر الأمريكي سنة 1906م في كامبورن، كورنويل. اشتغل بتدريس الأدب في جامعتي برنستون وسنغافورة، والتحق بالسلك الدبلوماسي مبعوثا لبلاده في السويد، وإيطاليا، والبرازيل، واليونان، واليابان. وقد نشر عددا من الدواوين الشعرية والدراسات في تاريخ الفن. كتب قصيدته عن إيكاروس سنة 1945م، وكان قد شاهد لوحة بروجيل في قصر الفنون الجميلة في بروكسل.
ظهرت القصيدة أول مرة في ديوانه الرابع «وداع وترحيب» الذي صدر في لندن سنة 1945م، ثم نشرت في مجموعة المنتخبات الشعرية الذائعة الصيت «الكنز الذهبي» التي أشرف عليها الأستاذ بالجريف (لندن 1964م). زعم بعض نقاده أنه تأثر في قصيدته بقصيدة «أودن» سابقة الذكر، ولكنه أكد أنه لم يكن قد قرأها قبل كتابة قصيدته.
أمام عيني أبيه
راح يحلق عاليا في السماء،
حتى انفتحت مدن البحر الأيجي
كما تنفتح الأوعية الدموية تحت المجهر.
شاهد جذوع الأشجار من تحته
ممتدة بلا نهاية، بينما ازدهر المكان-الزمان
في عينيه المشرعتين إلى الشمس.
ذراعاه المجنحتان، وهما امتداد الأفكار الخفيفة
وكبرياء الإبداع،
أخذتا ترتفعان به فوق البشر.
قال لنفسه: «وإذا ما طرت» «إلى منبع الطاقة المميتة،
فسوف أضع يدي على الوصفة
التي تمكن الإنسان من إغداق الدفء والنور».
بيد أن ضوء الشمس لا تحتمله كل العيون
وحرارة الشمس لا تطيقها كل الدماء.
مالت حركته نحو الأرض،
عاجزة عن مساندة غروره.
ورأى في سقوطه الطيور المرفرفة الحرة
تحملها عضلات الكتفين القوية
في دوراتها الواسعة عبر الفضاء،
فوق الشطآن وفوق شظايا الأشياء،
فوق السيوف وفوق الكلمات.
وكورقة شجر منزوعة،
مستضعفة في قبض الريح،
سقط ركاما من ذرات
انتظمت في سرعات متساوية
متوازية الوقع (وفق قوانين الحركة)،
ساعية نحو الأرض.
وعلى منحدر عال فوق البحر
دار الفلاحون ذوو الأيدي الخشنة
دورتهم في حرث التربة،
عميا عن ذاك الجسد الزاخر بطموحه،
الجسد المفعم حيوية؛
إذ يخمد في قاع البحر
لم يترك أي أثر
لغرور أو كبر. (4) ميخائيل هامبورجر (
Michael Hamburger )
شاعر إنجليزي من أصل ألماني. عرف بترجماته الدقيقة الحساسة للشعر الألماني (خصوصا لأشعار جوته وهلدرلين). ولد سنة 1924م في برلين، ثم هاجر مع أسرته سنة 1933م إلى لندن فرارا من الطغيان النازي. يقوم في الوقت الحالي بتدريس الأدب الألماني بجامعة لندن. وقصيدته التالية «سطور عن إيكاروس» كتبها سنة 1951م، وهي مأخوذة من مجموعته الشعرية «أرض بلا صاحب» التي ظهرت سنة 1973م.
الحارث يحرث، والصياد يحلم بالسمك،
وهنالك في العالي، وسط عالم من الحبال،
يعقد البحار تأملاته المتشابكة ،
محموما بذكرياته عن بنات مهجورات،
وبآماله في لقاء قصير،
وفي اكتشافات جديدة،
في «الروم» الذي تجرعه،
و«الروم» الموعود، و«الروم» الممكن.
الأغنام ترعى، ترفع رءوسها إلى أعلى
وتحملق في حاضر عالمها العامر بالأغنام؛
في العصير الجوهري غير المحدود للأشياء،
التي لا ترى منها غير الأخضر والأصفر والبني.
الراعي الفظ المتثاقل سمع رفيف أجنحة - رجح أن تكون جناحي نسر -
وأخذ يبحلق في حيرة،
لكن الوقت تأخر جدا؛
فلقد وقع أسوأ ما يمكن وقوعه
مفقودا في نظر البشرية؛
سقط إيكاروس سقطة أبدية،
سقط بجناحيه المصهورين،
عندما اقترب من الشمس
معلنا سخريته من هذا الكوكب المسيطر
الذي انتصر عليه وبدأ يطل في تهكم
لكي يشرق من جديد.
أما هو - وطموحه الخائب يسحبه إلى أسفل -
فقد ترك للغرق،
بعيدا بعيدا عن إخوته الباقين على الشاطئ،
إخوته الذين عجزوا عن تصوره. (5) رايسا ماريتان (
Raissa Martain )
ولدت الشاعرة الروسية الأصل سنة 1883م على نهر الدون، وماتت سنة 1960م.
تزوجت الفيلسوف المسيحي الشهير جاك ماريتان، وتحولت عن ديانتها اليهودية إلى المسيحية. نشرت قصيدتها «سقطة إيكاروس» في مجموعتها الشعرية «رسالة الليل» التي ظهرت في باريس سنة 1939م، كما وردت في كتاب زوجها «الحدس الخلاق في الفن والشعر»، باريس سنة 1966م، ص327.
غصن عطر يحتضن البحر،
سفن تتفكر في الكون،
وعلى الشط قطيع الأغنام ينام.
إيكاروس سقط من السمت،
كالنورس غاص بقاع اليم،
هاجعة كل المخلوقات
في شمس الظهر،
وجمال العالم لا يزعجه شيء.
الفصل الثالث عشر
العميان
لبيتر بروجيل الأكبر، رسمها سنة 1568م، وهي محفوظة في المتحف الوطني بمدينة نابولي.
بيتر بروجيل الأكبر أو الأول، الذي يلقب كذلك باسم بروجيل الفلاح أو الريفي (وإن لم يشتغل بالزراعة أبدا!) كان من أعظم مصوري المناظر الطبيعية، وأهم رسام ساخر أنجبته هولندا (الأراضي الوطيئة) بعد هيرونيموس بوش (من حوالي 1450م إلى 1516م). لا تعرف سنة مولده على وجه التحديد، ولكن يحتمل أن يكون قد ولد بين سنتي 1525 و1530م، وذلك قياسا على تاريخ انضمامه إلى اتحاد الفنانين في أنتفيرب سنة 1551م، وسفره بعد ذلك مباشرة إلى فرنسا وإيطاليا وصقلية. زار روما سنة 1553م ثم رجع إلى وطنه عن طريق جبال الألب التي أثرت مناظرها عليه تأثيرا هائلا تشهد عليه اللوحات التي رسمها في طريق عودته، وسجلت تطور أسلوبه في تصوير المناظر الطبيعية، وإن لم يبد عليها مع ذلك أي أثر للفن الإيطالي، وبعد عودته إلى بلده بدأ يرسم على طريقة «بوش» ويتناول نفس موضوعاته. يرجع أول رسم معروف له إلى سنة 1553م، وقد أبدع في السنوات العشر أو الاثنتي عشرة الأخيرة من حياته أشهر لوحاته التي صور فيها بأسلوبه المتناهي في الدقة موضوعات دينية داخل مناظر طبيعية رحبة غنية بالتفاصيل، عبر فيها عن اهتمامه بالعادات الريفية وسخريته بمباذل القرويين ورذائلهم وأخطائهم «البريئة» من سكر ونهم وجشع وبخل ... إلخ. مما يفيض على صوره المبكرة طابع الرسائل الأخلاقية، ويؤكد شعوره العميق بالطبيعة ووحدة الإنسان والبيئة (مثل صورته عن سقوط الملائكة المتمردين)، وقد ذهب بعض النقاد إلى أن صورته عن «مذبحة الأبرياء» تعبر عن احتجاجه على مظالم الحكم الإسباني لبلاده، وأن رحيله من «أنتفيرب» إلى بروكسل (حوالي سنة 1563م) كان بسبب خوفه من التعرض للاضطهاد.
أما هذه الصورة التي رسمها للعميان الستة فهي آخر ما رسم في حياته، ولعلها تحمل تحذيرا للمبصرين بأنهم لمسوا خيراتهم، وأن البشر يسقطون دائما في حفر الطريق حتى تبتلعهم حفرة القدر أو الموت، وأن الفنان الملهم يمكن أن «يرسم» وصيته ونبوءته للأجيال ... (1) فالتر باور (
Walter Bauer ) (1904م-...)
ولد الشاعر الألماني في ميرزيبورج على نهر الزاله لأب من الطبقة العاملة، واشتغل بالتعليم بين سنتي 1929 و1939م عندما استدعي للخدمة العسكرية بعد اندلاع نيران الحرب العالمية الثانية. هاجر إلى كندا سنة 1952م، وجرب حظه في أعمال مختلفة حتى انتهى به المطاف إلى التدريس بجامعة تورنتو. اهتم في إنتاجه الروائي والقصصي بحياة الفنانين الكبار؛ فقد كتب رواية عن فان جوخ، وقصصا عن جورجونه ومايكل أنجلو ورمبرانت، وسيرة ذاتية عن مايكل أنجلو، ومقالات عن جويا وكاسبار دافيد فريدريش، كما نشر مجموعات شعرية وتمثيليات إذاعية وكتبا للأطفال. يلاحظ القارئ أن المقطع الثاني من القصيدة يستعرض أعمال بروجيل الأساسية في لمحات سريعة لا تخفى على عارفيه ومحبي فنه. ويقول المؤلف إن عشقه للرسم والرسامين منذ طفولته لا يقل قوة عن عشقه للأدب، وإنه شاهد صورة «العميان» في شبابه - سنة 1925م - عند زيارته للمتحف الأهلي في نابولي، وكان في ذلك الحين يعمل على سفينة بضائع، فأحس وهو في الجنوب بأنه يرى صورة الشمال في هؤلاء العميان ... «العميان»
موكب ستة عميان يخترق الصورة،
ينحدر إلى أسفل، السقوط حتمي؛
فالأعمى يتبع أعمى، لا بد من أن يسقط.
اليوم بديع، لكن ما نراه هو السقوط.
تلك هي الصورة، وهي وصية؛ فالكلمات الأخيرة
تكتب وتوقع في النهاية لا في البداية.
بعدها مباشرة يموت بروجيل، سنة 1569م.
في زمن جمع رفاقا من أصحاب الرؤية؛
رابليه، مونتني، شكسبير.
وكذلك كان بروجيل، صاحب رؤية.
كان الزمن يصر بين القديم والجديد،
ويصمم وسط الخوف والجوع
على أن يجد المجهول.
لكن سبقت صورة العميان أشياء أخرى؛
بروجيل بأكمله وسجل أعماله في «الفلاندر»،
في العالم كله
سقط إيكاروس، دون أن ينتبه إليه أحد،
والنهار الساطع لم تعكر صفوه بقعة واحدة.
برج بابل يرتفع كما ترتفع الأشجار
إلى السماء،
لكن الفنان حريص أن يمنعها من ذلك.
الصلب يبدو كأنه عيد شعبي، لا في أي مكان،
بل في منطقة «فلاندر»،
لكن من يدركه الموت لا يشعر به أحد.
وكذلك اغتيال الأطفال، وتعداد السكان على عهد أغسطس،
وكل شيء يتم فوق الأرض الشبعى والممتلئة؛
تبرير «بروجل» في منطقة فلاندر،
حتى لو كانت ثم تلال وجبال،
فالرسام قد أزاحها وحاكى فعل الخالق،
فصول السنة تتبادل الأدوار طول العام،
الثمرة تحظى بالرعاية،
وقشرة القمح الذهبية تنزعها الأيدي،
وفي الظهيرة يتمدد الحصادون تحت الشجر.
نوفمبر يشهد رجوع الأبقار إلى البيت،
الصيادون والكلاب يفرحون بالدفء،
وأيام الشتاء تصبح في عيون الأطفال ربيعا ثلجيا،
والنهر طريقا باردا تخشخش عليه الأقدام.
الفلاحون يرقصون رقصا مدويا كالرعد،
الأرائك تلتوي، والناس يملئون البطون
ويتلمظون، ويتقيئون، ويفكون الحزام.
هذا هو العالم. حسن أن يكون وأن يكون كذلك.
واليوم الحاضر يقع بين الأمس والغد،
حتى حين تسود السماء وتصبح إسبانية،
وتتدحج الرءوس (إجمونت وهورن).
وكل شيء أحمق، والكل باطل؛
لأن كل شيء حياة، لعب من لعب الأطفال،
جاد وبلا ضحكات،
أمثال يتبعها كل إنسان،
وإن كان الكل يعرفها على حقيقتها،
لكن المعرفة لا تعين؛ فالكل أسير القيد،
والكل سجين أو مشنوق.
المتخمون كسالى من أثر التخمة،
في أرض الأحلام.
و«جربته المجنونة»
1
وصاحباتها لا يترددن
في نهب الجحيم نفسه.
شياطين مساكين، اخترمهم الجوع،
النهم المحسوس لا يعرف حدا يتوقف عنده.
ثم يجيء الموت، أسراب من الموت،
عجز وسقوط، جثث، عفن، نصر أسود
سوى بين جميع الناس.
سمه الحصاد.
كل هذا هو سجل «بروجيل» في منطقة فلاندر،
في العالم.
وذات يوم جميل، في فلاندر الجميلة،
والسماء تكسوها زرقة خفيفة،
يتخللها نور ناعم،
والأرض ساكنة حتى لتسمع صوت الثمرة
حين تسقط وتلمس الأرض،
تراهم قادمين، ستة شحاذين،
ستة عميان يسحبهم أعمى،
كل يوم، وكذلك في هذا اليوم،
وهم يثقون به ثقة عمياء، كما يثقون ببعضهم.
واليد التي يضعها كل منهم على كتف صاحبه، - نشعر بها وإن كنا لا نراها -
تربطهم بالدفء والأمان.
إنهم يثقون بأولهم في الصف؛ فالظلمة في عينيه
تعني البعد الأبعد.
الدفء كذلك يعني القرية،
والريح هي الأفق الحر،
والمطر هو الخطر المحدق والثلج،
والعالم برد وسكون،
لكنهم يثقون فيه،
وكأنه يبصر ما لا يبصرون. بيد أنه لا يرى؛
ولذلك يسقط فجأة.
الرطوبة معناها: جدول،
لكن سقطته أعمق. وهنا تبدأ الدورة من جديد؛
الثاني قد أفلتت منه العصا،
فانهار عليه وجر الثالث معه،
والثالث لم يعرف بعد، وهو يحاول أن يعرف:
شيء قد حدث ... فما هو هذا الشيء؟
ما أيسر هذا الأمر على المبصر.
والذي يمشي وراءه ويضع يده على كتفه،
ها هو ذا يتوقف، يتردد، يتفكر:
إني لأحس بحركة، والحركة تسحبني،
آه، كم يتمنى أن تخرج عيناه الخاويتان من الرأس
لكي ينظر ... لكن هل يقدر؟!
والأمر كذلك بالنسبة للخامس منهم والسادس؛
فكلا الرجلين يحس الأمن، ولا يكترث كثيرا،
والرسالة لم تبلغهما بعد، لكن السقوط
سيكون من نصيبهما.
الموجة تنسكب وتنداح من الأول للسادس،
تنمو، تتمدد في الظلمة من أولهم للآخر.
وكل شيء يتم في هدأة السكينة،
في يوم جميل، سكنت فيه الأرض،
والذين يمشون في النور ويرون في النور
حالهم أفضل (مع ذلك يتمنى الإنسان
أن يعرف إن كان المبصرون يرون أكثر مما يرون)،
ينتشر سكون شامل. والثمرة تسقط فوق الأرض
فتسمع. لكن سقوط العميان على الأرض
لم يزعج راحة هذا اليوم.
الأرض تسمع ولا ترى. أم تراها تفعل؟
فترى العميان الذين يسوقهم أعمى
يسقطون دون أن تتحرك أو تتأثر.
صبرا صبرا؛ فسوف ينهضون من سقطتهم،
ويتمالكون أنفسهم، وينفضون الغبار عن ملابسهم،
ويواصلون مسيرتهم في الظلام ... (2) إريش لوتس (
Erich Lotz ) (1896-1973م)
ولد في مدينة دورتموند، ومات في توبنجن. كان أبوه جزارا، وفقد بصره في الحرب العالمية الأولى، ولكنه تعلم مع ذلك رؤية الصور بخياله وتدريب ذاكرته على الاحتفاظ بالانطباعات الصورية. درس اللاهوت وقضى عشرين سنة من عمره في التعليم بالمدارس العليا، ثم كلف بالتدريس بجامعة هامبورج إلى أن تفرغ للتأليف والكتابة الحرة. ماتت زوجته فانطوى على نفسه ولحق بها بعد موتها بأربعة أيام. نشر عدة مجموعات شعرية ومقالات وذكريات عن شبابه، وقد ظهرت هذه القصيدة عن عميان بروجيل في ديوانه «والليل يسطع كالنهار» الذي صدر سنة 1957م بمدينة توبنجن عن دار النشر هليوبوليس. «بروجيل: أمثولة العميان»
الجرس يجلجل في أرجاء البيت،
والرعب يرج فؤاد الليل الساكن.
وعلى مضض يجفو النوم جفوني.
في الحلم رأيت الصورة،
آخر صور الرسام بروجيل:
نحو الموت الداهم تتعثر أقدام رجال ستة.
الكريات بتجويف الأعين جوفاء،
بغير بريق،
وشعاع الحب كذلك مطفأ،
والكل تشبث بقضيب وتحسس وجهة دربه.
سقطوا في قبضة قدر أعمى،
واندفعوا في الليل الأعمى. (3) كارلو كاردونا (1950-1973م)
ولد الشاعر الإيطالي في بلدة فوريو، ومات بمدينة نابولي. كان أبوه من العمال، واتجه في شعره إلى ما يسمى بالشعر المجسم الذي كان أحد رواده ومؤسسيه. ويلاحظ القارئ أن أصحاب هذا الاتجاه يهتمون بتشكيل كلمات القصيدة على الصفحة تشكيلا يساعد على إبراز جوها وإيقاعها وانطباعها العام، بحيث يؤثر على العين بجانب تأثيره على الوجدان والعقل. «عميان بروجيل»
على
اليسار
تترك الكنيسة
أعمى يتمسك
بعصا أعمى،
يتشبث بجسد أعمى،
يتمسك بعصا أعمى،
يتشبث بجسد أعمى،
يسقط في أرض عمياء
بغير قرار.
الفصل الرابع عشر
كآبة
حفر على النحاس للفنان ألبرشت دورر (1471-1528م) الذي أتمه سنة 1514م. «دورر» من أبرز الفنانين «العلماء» في عصر النهضة الأوروبية. تتلمذ في البداية على يدي أبيه - الذي كان صائغا استقر سنة 1455م في مدينة نورمبرج، وتزوج من ابنة معلمه سنة 1467م - ثم على يدي الرسام والحفار على الخشب ميشيل فولجيموت (1434-1519م) حيث تدرب ثلاث سنوات على الرسم والحفر على النحاس والخشب للصور التوضيحية للكتب.
تجول أربع سنوات بين مدن مختلفة - مثل كولمار وبازل واستراسبورج - رجع بعدها إلى مسقط رأسه نورمبرج، وتزوج سنة 1494م. يحتمل أن يكون قد قام برحلته الأولى إلى البندقية في خريف سنة 1495م، والمؤكد أنه زارها سنة 1505م، وأقام بها حتى شهر فبراير سنة 1507م. وقد تعرف خلال هذه الفترة على فنان عصر النهضة الكبير جوفاني بيلليني (من حوالي 1430م إلى 1516م)، فأعجب به إعجابا شديدا، كما رسم بتكليف من التجار الألمان المقيمين في البندقية بعض الصور التي تشهد على تأثره بفن ليوناردو وبيلليني. وبدأ بعد عودته إلى موطنه الأصلي في تعميق ثقافته الأدبية والعلمية، والاختلاط بالأدباء، العلماء والمصلحين والمفكرين من أصحاب النزعة الإنسانية (مثل ميلانشتون وإرازموس ولوثر) أكثر من اختلاطه بزملائه الفنانين. عينه الإمبراطور ماكسيميليان سنة 1512م رساما في بلاطه، ولما مات الإمبراطور سافر سنة 1520م في رحلة طويلة حضر فيها تتويج الإمبراطور الجديد (تشارلز الرابع)، وتنقل بين الأراضي الوطيئة وعدد من المدن الأوروبية التي استقبل فيها بالحفاوة والتكريم. رجع إلى نورمبرج في شهر يوليو سنة 1521م، وأهدى مدينته لوحة «الرسل» (1526م،) التي يبدو أنها كانت جزءا من لوحة كبرى عن حوار أو عشاء مقدس، ولم يتم تنفيذها بسبب الاضطرابات التي صاحبت ثورة الإصلاح الديني. وظل مثابرا على العمل والإنتاج على الرغم من إصابته بحمى مزمنة على أثر مخاطرته بالخوض في مستنقعات «زيلاند» لمشاهدة حوت ميت!
أنتج «دورر» إنتاجا ضخما في ميادين الرسم والحفر على الخشب والنحاس، وكتابة الرسائل والبحوث النظرية عن القياس (1525م)، وتقوية الحصون (1527م)، والتناسب والنظرية الفنية (1528م)، بجانب مذكرات رحلته إلى الأراضي الوطيئة. وهو يعد الجسر الرئيس الذي عبرت عليه أفكار عصر النهضة الإيطالية إلى الشمال الألماني. وقد تفاعلت هذه الأفكار مع النزعة الفردية التي انحدرت إليه من التراث القوطي وعملت على تكوين شخصيته الفذة وأعماله المذهلة في غزارتها وحيوية خيالها وتعبيرها، فضلا عن تمكن صاحبها من الصنعة الحرفية في الحفر على النحاس والخشب بوجه خاص.
وقد تمثل هذا في سلسلة من الأعمال الشهيرة مثل «رؤيا يوحنا» (1498م) - وقد كان أول كتاب يقوم فنان واحد على تصميمه وطبعه ونشره بنفسه! - وعذاب المسيح (من 1498م إلى 1511م)، وحياة العذراء (1501-1511م)، وغيرها من الأعمال المفردة مثل «حمام الرجال» (1497م)، ووحش البحر، والابن المعجز (1497م)، وآدم وحواء (1504م) والفارس والموت والشيطان (1513م)، والاكتئاب أو الكآبة (1514م) التي صورها في صورة امرأة عميقة الفكر والحزن معا! (وهي الصورة التي تراها مع هذا الكلام.)
استلهم اللوحة الشهيرة عدد من الشعراء نذكر منهم: (1) بيتر آومولر
ولد في مدينة نورمبرج سنة 1909م، وكتب الشعر والرواية والدراسة والمقال. وضع هذه القصيدة «كآبة، عن صوة ألبرشت دورر» سنة 1967م، وظهرت في مجموعته الشعرية «تأمل 46» التي صدرت سنة 1971م. «كآبة»
فيم تطيلين الفكر
يا ذات الثوب الفضفاض؟
الجبهة تبدو معقودة،
والبرجل في يدك اليمنى،
والنظرة مستغرقة،
ومحدقة
في أبعاد مجهولة.
وصبي يجلس بجوارك،
معتليا حجر الطاحونة،
وعلى الحائط ميزان،
ناقوس، ساعة زمن رملية،
واللوح المحفور يمثل لغز الأعداد المشهورة.
لم هذا الحشد من الأدوات المنثورة؟
من ينشلها من قيد أخرس؟
هل تتعثر خطوات الفعل؛
لأن جديدا يولد؟
هل بدأت ترتفع اليد
حاملة البرجل؟
في قبضتك المضمومة تحيا
قوة عزم تواقة،
وإرادة روح خلاقة،
لم تفتر بعد! (2) إدفين فولفرام دال
ولد الشاعر سنة 1928م في بلدة «زولنجين»، ونشر قصيدته التالية سنة 1974م في مجموعته الشعرية «البحث عن أمفورتا» عن دار النشر بشتله بمدينة إسلنجن. «كآبة»
كيف سيبدو مجلسها اليوم
وسط العلماء وأهل الخبرة
في قاعدة صاروخية؟
في الخلفية
علماء الأمراض النفسية والعقلية.
تستيقظ أكثر من ذكرى
عن أسماء المدن الأخرى (ناجازاكي، هيروشيما)،
عن أعراض ظاهرة أو مختفية،
كيف ستبدو جلستها اليوم؟
لم يعرفها أحد،
أو أسلمها الخونة.
خبراء الأعصاب
على استعداد
أن يجروا رسم المخ.
لم يلحظ أحد منهم
أن كآبة
ذات جناحين (كطير الرخ)! (3) إينا زايدل
روائية كبيرة وشاعرة من المدرسة الرومانطيقية الجديدة. ولدت سنة 1885 بمدينة «هالة» على نهر الزالة، وماتت سنة 1974م، تأثرت في شعرها بالروح الكلاسيكية التي انعكست على بنائه المحكم وتعبيره المتزن، كما تأثرت بالروح الرومانطيقية في قصائدها المعبرة عن حبها للطبيعة وعاطفتها الدينية العميقة.
تميزت قصصها ورواياتها التاريخية بالوصف الواقعي الدقيق والتصوير النفسي الصادق للشخصيات والتجارب الروحية المغرقة في الخيال والحلم. من رواياتها بوابة الفجر، المتاهة، الطفل المتمني، صديقنا بيرجرين، والميراث الباقي التي تعد من أشهر رواياتها وأكثرها رواجا. وقد كتبت سيرتها الذاتية في روايتها «طفولتي وشبابي». نشرت قصيدتها التالية في مجموعتها الشعرية «قصائد» التي صدرت بمدينة شتوتجارت سنة 1955م لدى مؤسسة النشر الألمانية. «عن كآبة دورر»
لديك مقياس الزوايا. لديك البرجل،
ووجدت زجاج الساعة والميزان،
وحسبت كل يوم توازنهما
وأنا لا أملك إلا أغنيتي
تعرفين سر الأعداد.
فوق رأسك يسطع مربع الأعداد الماسية.
عند قدميك ينعس الحيوان.
وأنا أسبح في موسيقى الأفلاك.
1
تحنين جبينك تحت التاج المعقود على رأسك.
تختمر في وجدانك فكرة عظيمة،
تتجلى في صيغة موجزة،
وبسن القلم الواثق ترسمين على اللوح الأزلي
موضع ومسار كوكب جديد.
انظري! إن ما يحركني ويزدهر في صدري
يتخذ هيئة وشكلا،
وها أنا ذا أزدهر، أنا نفسي.
الفصل الخامس عشر
الربيع
(1) الربيع لساندرو بوتيتشيللي (
Sandro Botticelli ) (1445-1510م)
وهو من أبرز المصورين في فلورنسا في أواخر القرن الخامس عشر إن لم يكن أعظمهم تأثيرا. يحتمل أن يكون قد تعلم على يدي فرافيليبوليبي (1406-1469م)، ومن المؤكد أنه تأثر بالأخوين أنطونيو وبييروليولا يولو (اللذين كانا يديران أنجح ورشة فنية في فلورنسا، وأقدرها على استخدام الأساليب العلمية في الرسم والنحت والحفر والتصميم وصياغة الذهب). وأنه وهو الذي رسم لوحة الشجاعة حوالي سنة 1470م لتضاف إلى مجموعة اللوحات الست عن «الفضائل» التي رسمها بييرو (وهي محفوظة في متحف الأوفيتسي). وقد تميزت تلك اللوحة بواقعيتها الشديدة على خلاف لوحاته الأخيرة التي ابتعدت تماما عن الواقعية، واكتست غلالة شاعرية ودينية رقيقة صافية، مثل لوحته الوحيدة التي تحمل توقيعه، وتعد آخر لوحة مؤرخة له، وهي «الميلاد المعجز» (1500م، المتحف الأهلي بلندن)، ونلمس فيها آثار الأزمة الدينية التي اشتعلت في أواخر القرن الخامس عشر، وانعكست على موقفه الغامض من الراهب الثائر سافونارولا، وتوجيه تهمة اللواط إليه. ويكفي أن نتأمل صورتيه الشهيرتين اللتين تجدهما هنا عن «الربيع» و«مولد فينوس»، لنرى امتزاج الأسلوب القديم في اختيار الموضوعات الأسطورية بالمعاني والرموز المسيحية، مع التعبير عن العاطفة، بالاعتماد على الخطوط في تحديد معالم الأشكال، مما يلخص الاتجاه العام للتصوير في القرن الخامس عشر. وقد رسم بوتيتشيللي هاتين اللوحتين الشهيرتين لأحد أفراد عائلة «الميديتشي» التي كانت تحكم فلورنسا، وتدين لها النهضة الإيطالية المبكرة بفضل رعايتها، ولكننا لا نكاد نعرف شيئا عن علاقته بهذه العائلة أو بدوائر الإنسانيين الكبار في تلك الفترة النادرة التي تشبه المنارة الصغيرة السابحة فوق بحار ظلمات التاريخ البشري.
لقي بوتيتشيللي النجاح والشعبية، وجمع ثروة كبيرة من لوحات العذراء «المادونا» ذات الوجه الحنون الرقيق، التي راح ينتجها بأعداد كبيرة. ولكن شهرته بدأت في الأفول بعد سنة 1500م، ولم تستطع الصمود في وجه الأفكار الجديدة والأساليب المبدعة التي ظهرت على المسرح بظهور ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو. ولسنا نعرف شيئا عن السنوات العشر الأخيرة من حياته، خصوصا بعد إنجاز لوحته سابقة الذكر عن «الميلاد المعجز» حوالي سنة 1500م، ويبدو أنه كان قد تردى في حالة بالغة السوء تمخضت عن عدد من اللوحات عن «التقوى» أو «الرحمة» (البييتا) اضطرب فيها أسلوبه إلى حد هستيري. وربما يغفر له هذه السقطات الأخيرة تلك الرسوم الرائعة التي أبدعها قبل ذلك (حوالي سنة 1490م) لدانتي شاعر الكوميديا الإلهية، وكشفت عن حساسيته وشفافية أسلوبه ورقته وحنانه. (2) مانويل ماتشادو (
Manuel Machado )
ولد الشاعر الإسباني الكبير في إشبيلية سنة 1874م، ومات في مدريد سنة 1947م. كان أبوه من أهل العلم. درس الفلسفة واشتغل بالصحافة. أسس مع شقيقه أنطونيو منذ سنة 1922م اتجاها غنائيا في المسرح الشعري. وهو شاعر وكاتب مسرحي. ظهرت قصيدته عن صورة الربيع لبوتيتشيللي في ديوانه «أشعار» الذي صدر سنة 1940م في بارثيلونا، ص155، وقد كتب القصيدة سنة 1910م. «الربيع»
آه من هذه التمتمة الهامسة الغائمة
للروعة الأولى!
من نشوة قبلة شاب
لم يزل يغالب الحياء!
آه من قلة الخبرة بأول عناق!
ستصحو من نومك والحب
يداعب قلبك بين أغان
ونسائم رطبة،
وستبكي بغير هم ولا حزن،
وتعاني المرض الإلهي
الذي يشبع الروح.
أول بادرة تنبئ بزهور البرتقال،
ملك، طفل، أنثى.
والعيون المثقلة بالشهوة،
سكرى بالنوم تسيل رطوبة،
حين تتصاعد العصارات المذهلة،
ووجوه على شكل اليوسفي،
حيية كالزهور في الشمس،
ذهبية محمرة،
في مروج الربيع،
التي تضحك من النشوة والبهجة. (3) أليكس جوتيلنج (
Alex Gutteling ) (1884-1910م)
شاعر هولندي ولد في بلدة فونوسوبو في جزيرة جاوه، ومات في مدينة «دريبرجن» بهولندا. تتلمذ على الشاعر الهولندي أ. فيرفي الذي تأثر بالحركة الرمزية، وكان من مريدي الشاعر الرمزي الكبير ستيفان جئورجه. وقد ظهرت قصيدته عن ربيع بوتيتشيللي مع مجموعة أشعاره التي عني بنشرها أستاذه فيرفي على أثر وفاة الشاعر في سن مبكرة، وصدرت سنة 1911م في أمستردام. «الربيع»
في غابة الحنين التي تنمو فيها
أشجار الزيتون شاحبة الظلال،
تسطع أشكال نساء جميلة
وإن تكن رقيقة محزونة.
فينوس الحبلى تتفكر وتنظر بعيدا،
لكن لا تكاد تبصر ربات الحنان النحيلات،
آه ويصوب «آمور» رب الحب
أول سهم يتعلم منه الإنسان
أن عليه يوما أن يطلب حظه من البهجة،
وأن حلم الشباب لا يمكن أن يدوم.
وهنالك يأتي الربيع صافيا متسربلا بالمروج،
وزفير
1
يحاول أن يمسك بعروسه ،
فتفلت وتضحك منه في حياء.
وعلى العشب، حيث بدأت تسطع الزهور،
يقف «هيرميس» بصندله المجنح،
وكما يسرع في سيره ستمر سريعا كل هذه السعادة. (4) دانتي جابرييل روسيتي (
Dante Gabriel Rossetti ) (1828-1882م)
شاعر ورسام ومترجم، اشتهر بتأسيس جماعة السابقين على رافائيل التي تخيرت نماذجها المثلى من الفنانين الإيطاليين المبكرين، وقد تأسست هذه الجماعة من الشعراء والفنانين سنة 1848م. وكان من أهم أعضائها هولمان هنت وج. أ. ميلليه. وكان روسيتي يستوحي رسومه بنفسه ويكتب القصائد في وصفها ... ظهرت هذه القصيدة «من أجل الربيع لبوتيتشيللي» في الجزء الأول من أعماله الكاملة، لندن، 1906م، ص352. «لأجل ربيع ساندرو بوتيتشيللي»
بأي موكب لأي رأس سنة قديمة
جففتها الريح،
تحتفي هذه السيدة؟
فلورا
2
التي يسعدها الوضع الوشيك،
وتزينها الأزهار،
أورورا وزفير
3
يتشابك شعرهما الرفاف
وهما يقتربان،
وحلقة ربات الرقة والحنان
توشك أن تهيم في قوس الأذرع البيضاء،
وهيرميس، ذو الصندل المجنح في قدميه،
هو الرسول الذي يعلن عن إرادة الآلهة.
عارية كما ولدت، لم تصبح بعد عارية عري الموت.
تقف جذوع الأشجار الشابة سامقة
كأنها أعمدة في معبد هذه السيدة.
فوق رأسها إله الحب «آمور»
يطلق سهامه.
أيكون السر هنا هو سر العرفان أم الأمل؟
وكيف يقدم الجواب ربيع ميت؟
بل كيف تقدمه هذه الأقنعة
لرأس السنة الجديدة التي جففتها الريح؟ (5) بوزيتر لند (
Boseeter Lind ) (1923م-...)
شاعر سويدي، ولد في فاكسيوه. درس الفلسفة واللاهوت والأنثروبولوجيا، ونشر دواوين عديدة بجانب الروايات والقصص وكتب الرحلات والمسرحيات الدينية. رأى صورة بوتيتشيللي سنة 1963م، وكتب القصيدة في السنة نفسها، وقد ظهرت مع قصائد أخرى في ديوانه الذي صدر سنة 1964م في استوكهولم، ص26. «ربيع بوتيتشيللي»
من ينظر في عينيك،
يرى في عز النهار السماء المرصعة بالنجوم
فوق محجريك،
يرى شبكة النور الدقيقة
التي تلتقط الليل.
من ينظر في عينيك،
يسبر أغوار المستقبل،
وفي منتصف النهار يرى الليل،
الذي تتجمع فيه النجوم الأزلية
في لغة واحدة يقرؤها القلب،
يرى الجواب الذي تدخرينه
في انتظار الإظلام المطبق.
آه أي أبعاد،
أي دروب نائية،
سيكون على عيني أن تجوباها في عينيك!
مجرات نجوم لا نهائية،
بقع ضبابية،
طرق لبنية مستعصية،
يشعها القلب في فضائه الكوني!
من ينظر في عينيك،
يتبع الدروب التي كتبها القدر على العين ،
يرى رحلة البشرية في الزمان
نحو صورة النجم المستيقظ
في ضوء النهار.
الفصل السادس عشر
مولد فينوس
للمصور ساندرو بوتيتشيللي (1444-1510م). رسمها حوالي سنة 1485م، وهي محفوظة بمتحف الأوفيتسي بمدينة فلورنسا (انظر ترجمته مع لوحة الربيع السابقة). (1) رافائيل ألبرتي (
Rafael Alberti )
من أبرز الشعراء الإسبان المعاصرين، وتدل قصائده أكثر من أي شاعر آخر على البناء الرياضي المحكم والصافي للشعر العقلي أو (الأبولوني) المعاصر. ولد سنة 1902م في بويرتودي سانتا ماريا بمنطقة كاديز، وبدأ حياته مع الفن سنة 1907م رساما تكعيبيا، ثم اتجه إلى الشعر منذ العشرينيات، وانضم إلى الحركة الشيوعية منذ سنة 1931م، وبعد انتهاء الحرب الأهلية الإسبانية بانتصار الفاشية، هاجر من بلاده وعاش منذ سنة 1940م في الأرجنتين. نذكر له بصدد قصيدة الصورة مجموعة كبيرة نشرها تحت عنوان: «إلى الرسم، قصائد عن اللون والخط»، وقد كتبها بين سنتي 1945 و1952م، وأهداها إلى صديقه بيكاسو، واستوحى منها روائع فن الرسم الأوروبي. وقصيدته التالية عن بوتيتشيللي (نشرت مع أشعاره الكاملة، بوينس آيريس 1961م، ص620)، قد كتبت كما يتضح من صورها وإيحاءاتها الدقيقة الشفافة عن صورة بوتيتشيللي المشهورة عن مولد فينوس. ولعل الرسام نفسه قد استوحى سفر إلهة الحب، التي ولدت من البحر إلى الشاطئ القبرصي بمساعدة إلهات الرياح واستقبال إلهة الربيع لها، وتغطيتها بثياب من عندها، لعله قد استوحى هذه الصور الأسطورية من أنشودة هوميروس إلى فينوس أو بالأحرى أفروديت، ومن المقطوعات الشعرية التي كتبها العالم الإنساني في فقه اللغات القديمة وشاعر عصر النهضة بوليتسيانو (1454-1494م)، وصور فيها حلم جوليانو دي ميدتشي بالحب وأشواقه لجنة ربيع خالد في مملكة فينوس السرمدية.
الرقة رقت،
روح حنان رفت.
في بسمة شفة سكبت،
لمسة فرشاة تسحر،
وتثنت في ريح هبت،
وهواء صاف لامع،
من لوح مصقول ناصع،
يتكثف،
في الثوب الريح رخاء،
عبر البحر، وفوق البحر
يرفرف شعر متموج ،
شعر متلو معجب.
هندسة - أبعد من أن تنعش وترطب -
راحت ترسمها الريح،
وتدفعها نحو الحافة،
والحافة تمطر
طيرا وورودا تزهر،
في هندسة
خطوط وسطوح.
وحواف الصورة
خط يتراقص،
وربيع يغري بالرقصة،
ضمن مكان
أبدعه فن الفنان،
ليسعد
جوف ملائكة مطرب،
ويبارك إسرافيل
وأنشودته الخصبة
بالألحان العذبة،
والملك الرائع
ينسكب حييا في بسمة
خلف الروح المفعم رقة.
روح حنان رفت،
في بسمة شفة سكبت،
وتثنت، في ريح هبت،
وهواء صاف لامع،
من لوح مصقول رائع
يتكثف،
فينوس شاحبة الوجه
بغير رداء. (2) هربرت بوديك (
Herbert Budek )
ولد الشاعر الألماني سنة 1916م في مدينة هاله على نهر الزالة. درس تاريخ الفن، ووجهت إليه سنة 1942م تهمة العمل على إفساد الجيش النازي، ونجا بأعجوبة من حبل المشنقة. تزوج من سيدة أوكرانية ذهب أبوها - وكان أستاذا جامعيا - ضحية جرائم التصفية البشعة التي اقترفها ستالين، وراح ضحيتها ملايين المثقفين، وقد كان هذا أحد الأسباب التي دفعت الشاعر إلى مغادرة بلاده بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
يعيش في كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية ويعمل بالنشر. كتب قصيدته عن أفروديت حوالي سنة 1941م، ونشرت أول مرة مع المختارات من قصائد الصور التي جمعها الأستاذ جسبرت كرانس. «أفروديت»
افتح وجهك،
لم تزل الموجة بعد الموجة تبرق،
ساحرة رطبة،
حول الجسد المشرق،
أما الساعات فتسطع فجأة،
تشعر بتدفق هذا البحر بغير نهاية.
انظر: أنا آتية،
وأنا الأرض، الأنثى ...
الفتنة والإغراء ترفرفان
حول الأعضاء.
انظر: هل تلمح عينك وجه الله؟
الأنجم تفزع وتميل وتنظر،
وشعوب يأخذها الرعب
ولكن بعد قليل تضحك،
تتبسم؛
إذ تبصر صورتها الحلوة،
متجلية في مرآة،
هي مرآتي العلوية ...
واحلل عقدة قلبك؛
فاللذات الرائعة،
ومتع العشاق،
جميع العشاق،
سأسكب
في دمك، فكن محبوبي وأحب،
ودع النبع الأبدي
يفيض، يصب النشوة فيك،
فغص في الموجة غص،
واستسلم للطوفان!
وحياة تزدهر وتنضج
في آلاف الأشكال،
ستنفذ من مركز هذا الكون إليك،
وحدائق تعبق حولك،
وربيع بعد ربيع،
تنسج نورا يدفئ ثلج الخجل
البارد فيك ويهتف:
عانقني،
ضم الصدر إليك،
وسيصبح هذا العالم
ملك يديك!
الفصل السابع عشر
الموناليزا لليوناردو دافنشي
ربما كانت «الموناليزا» هي أشهر وجه إنساني (بورتريه) في تاريخ فن الرسم، وكان صاحبها، ليوناردو دافنشي (
Leonardo Da Vinci ) واحدا من أعظم العباقرة الذين أبدعهم عصر النهضة (الرينيسانس) كما أبدعوه ... تجاوزت عبقريته فنون الرسم والنحت والعمارة ، وتجلت في حدوسه الملهمة بعدد كبير من الاكتشافات والاختراعات التي تم التوصل إليها بعد ذلك في ميادين التشريح وطيران الفضاء وهندسة الآلات الحربية وغيرها من الميادين. تنوعت اهتماماته العقلية والفنية، وتوزعت بين مجالات مختلفة بحيث لم يتمكن من إنجاز مشروعاته الكبرى؛ فقد أوشك على اكتشاف الدورة الدموية، واخترع أول مدرعة حربية، وصمم عددا كبيرا مما يعرف اليوم بالطائرات السمتية أو العمودية (الهيليكوبتر)، واستبق فكرة الغواصة، ولكنه لم يتم اختراعا واحدا منها، وإنما خلف وراءه عددا كبيرا من التصميمات الهندسية التي اكتشف معظمها قبل سنوات قليلة، بالإضافة إلى آلاف الملاحظات والمذكرات والرسوم التخطيطية وعدد قليل من اللوحات الزيتية التي لم يفرغ من إنجازها.
ولد في فينشي سنة 1452م. وكان أبوه موثق عقود فلورنتيني (نسبة إلى مدينة فلورنسا)، وتدرب على فن الرسم في بيت أبيه على يد الرسام والنحات وصائغ الذهب فيروكيو (1435-1488م) الذي أنجز أعمالا فنية عديدة لعائلة الميديتشي التي كانت تحكم المدينة، ويحتمل أن يكون ليوناردو هو الذي رسم الملاك الأيسر في لوحة فيروكيو «العماد» (المحفوظة في متحف الأوفيتس في فلورنسا) رسما بلغ من الكمال حدا جعل معلمه يتوقف عن الرسم ويقصر جهوده على النحت! انضم إلى اتحاد الفنانين في مسقط رأسه سنة 1472م، وأول رسم معروف له هو منظر طبيعي لنهر «أرنو» الذي يمر بمدينتي فلورنسا وبيزا، ويصب في البحر الأبيض المتوسط، يرجع إلى سنة 1473م، ويتميز بقدرته على تصوير بنية الصخور وتكوين الأرض. وقد أثبت ليوناردو ريادته في الفن عندما شق الطريق لمن بعده، وجرب أساليب جديدة في دراساته للنسيج وفي الرسم بالزيت (كما في لوحته عن العذراء «المادونا» المحفوظة في متحف ميونيخ - حيث أثارت تفصيلات قطرات الندى على الزهرية البلورية دهشة معاصريه - وفي لوحته جينيفرا دي بينتشي التي يحتمل أن يكون قد أتمها سنة 1474م، كما يبدو أنها مهدت للوحته الشهيرة الموناليزا. وذاعت شهرته منذ سنة 1481م، فانهالت عليه التكليفات التي كان من أهمها لوحة كبيرة عن «ابتهال الملوك» (الذين قدموا من الشرق لزيارة الطفل يسوع المسيح، والاحتفاء بمعجزة ولادته)، نفذها استجابة لرغبة رهبان دير القديس «دوناتو» في «سكوبيتو» بالقرب من فلورنسا، وإن لم يتم اللوحة كعادته لتوقف الرهبان عن دفع أجره المستحق! وتوجه في سنة 1483م إلى ميلانو، بعد أن استجاب الدوق الحاكم فيها، وهو لودفيكو سفورتزا المورو، للعرض الذي قدمه إليه (في خطاب لا تزال مسودته محفوظة)، وأبدى فيه استعداده لتقديم خدماته في العمارة، والنحت بكل أشكاله ومواده من الرخام أو البرونز أو الطين، والرسم، والهندسة العسكرية!
وفي ميلانو رسم لوحته «السيدة ذات الفراء» (المحفوظة اليوم في مدينة كراكوف)، التي تصور شيشيليا جاليراني عشيقة لودفيكو حاكم المدينة، وتعكس نفس خصائص أسلوبه المبكر الذي تجلى كذلك في نسختين من لوحته المعروفة باسم «عذراء الصخور»، توجد إحداهما في باريس، والأخرى في المتحف الأهلي بلندن، وهما النسختان اللتان ثار جدل طويل بين نقاد الفن حول تاريخهما وأصالة نسبتهما إلى الفنان. وبقي ليوناردو حتى سنة 1499م في بلاط ميلانو، مشغولا بمشروعاته الفنية والعلمية التي لم يفرغ منها كعادته، ومن أهمها مشروع تمثال ضخم من البرونز لفرانتشيسكو سفورزا - والد الدوق لودفيكو - راكبا صهوة حصان. ولم يصب التمثال أبدا، وإن بقيت بعض الرسوم المذهلة التي توحي بأن ليوناردو عكف أثناء انشغاله بذلك المشروع على إعداد كتاب كامل عن تشريح الحصان ... يضاف إلى ذلك لوحته الشهيرة «العشاء الأخير» (لكنيسة سانتا ماريا ديللي جراتسيه)، التي تجلت فيها براعته في النفاذ إلى نفوس تلاميذ المسيح، والتعبير عن توتر اللحظة التي أعلن فيها أن أحدهم على وشك خيانته والوشاية به. والظاهر أن بطء ليوناردو في تنفيذ هذه اللوحة الجدارية وولعه الشديد بالبحث والتجريب قد بررا الفكرة التي نسبها إليه جيل تال من أن الفنان مفكر متأمل مبدع، وأنه فيلسوف يرسم فلسفته، لا مجرد محترف صناع يدهن كل يوم بضع ياردات مربعة على سطح جدار! ولا شك في أن الفكرة التي شاعت في القرن السادس عشر عن كرامة الفنان فكرة ترجع إليه وتستمد منه المثل والقدوة.
غزا الفرنسيون مدينة ميلانو في سنة 1499م، وأسقطوا حكم الميديتشي، فرجع ليوناردو إلى فلورنسا وعمل حتى سنة 1503م مهندسا عسكريا في خدمة «شيزار بورجيا». وتفرغ أثناء فترة إقامته الثانية في فلورنسا للتشريح، وشارك في مشروعات فنية فشل أولها فشلا ذريعا، وكان بتكليف من مجلس المدينة له ولفنانها الكبير الآخر مايكل أنجلو (وكان كل منهما يكن للآخر كراهية لأحد لها!) بتخليد انتصاراتها بعد أن أصبحت جمهورية. أما المشروع الآخر فكان انشغاله بمجموعة لوحات عن العذراء والطفل مع القديسة أنا، وقد بقي من هذه اللوحات اثنتان إحداهما في المتحف الأهلي بلندن، والأخرى في صحف اللوفر بباريس، ويبدو أنه بدأ الأولى في ميلانو ثم حملها معه إلى فلورنسا، أما الثانية فقد بدأ العمل فيها سنة 1506م. كان من أهم الأعمال التي أنجزها في هذه الفترة لوحتنا هذه الشهيرة التي صور فيها زوجة أحد كبار الموظفين في فلورنسا، وعرفت باسم «الموناليزا» أو «الجوكوندا»، وقد عكف على رسمها بين سنتي 1500 و1504م.
رجع ليوناردو إلى ميلانو سنة 1506م، وعين رساما ومهندسا لفرانسيس الأول ملك فرنسا، ثم شغل في سنواته الأخيرة ببحوثه وتجاربه العلمية والرياضية، كما خطط لمشروع تمثال لقائد القوات الفرنسية تريفولزيو على صهوة حصان، ولكن المشروع لم يتمخض إلا عن مجموعة من الرسوم تظهر براعته في التشريح! وكان آخر رسم أتمه قبل انتقاله نهائيا سنة 1517م إلى فرنسا هو لوحته عن القديس يوحنا (وهي محفوظة في متحف اللوفر)، أما رسالته عن فن الرسم فقد جمعت بعد وفاته من المذكرات والملاحظات التي دونها، ولم تنشر إلا في سنة 1651م.
وقد مات ليوناردو سنة 1519م في قصر كان قد أهداه إليه ملك فرنسا، وذلك في بلدة «كلو» بالقرب من مدينة «أمبواز»، وانتهت بموته قصة عبقرية نادرة تفخر بها البشرية. (1) إدوارد دودن (
Edward Dooden ) (1843-1913م)
ولد الشاعر الأيرلندي في مدينة كورك، ومات في «دبلن». درس اللاهوت، وأصبح أستاذا للأدب الإنجليزي في كلية الثالوث المقدس في دبلن وهو لم يتعد الرابعة والعشرين من عمره. قام كذلك بالتدريس في جامعتي أكسفورد وكامبريدج، ونشر بحوثا ودراسات عن شكسبير وملتون وشيللي ومونتني، بجانب مجموعات شعرية عديدة. ظهرت قصيدته هذه عن الموناليزا مع مختارات من الشعر الأيرلندي حررها ونشرها الأستاذ ك. هوجلاند بعنوان: ألف عام من الشعر الأيرلندي، نيويورك، 1962م، ص538. «موناليزا»
أيتها العرافة، عرفيني بنفسك
حتى لا أيأس من معرفتك كل اليأس،
وأظل أنتظر الساعات، وأبدد روحي.
ما هي كلمة القدر التي تختبئ بين الشفتين
اللتين تبتسمان ومع ذلك تتمنعان؟
يا سرا متناهي الروعة!
أيها الكمال السماوي!
لا تحيري الوجدان أكثر مما تفعلين؛
حتى لا أكره طغيانك الرقيق.
يداك المشبوكتان في اتزان جليل،
والشعر المتساقط على الجانبين.
لا، لا. إني لأوذيك بكلمات غلاظ.
ابقي صافية، منتصرة، ومستعصية!
ابتسمي كعادتك ولكن لا تتكلمي!
فالدعاية تختبئ دائما في ظل جفونك.
ثم تعالي وارتفعي فوق معرفتنا!
أيتها الهولى من إيطاليا،
أغوينا وحقري شأننا كما تشائين! (2) والتر هوراشيو باتر (
Walter Horatio
) (1839-1894م)
ولد الشاعر الإنجليزي في مدينة شادويل. كان أبوه طبيبا، وتعلم في أكسفورد وتولى التدريس فيها، وقضى فيها معظم سنوات عمره. قام بأسفار عديدة إلى ألمانيا وإيطاليا، وجمعت أواصر الصداقة بينه وبين جماعة الشعراء ونقاد الفن الذين أطلقوا على أنفسهم اسم «إخوان ما قبل رافائيل» (وهي الجماعة التي أسسها الشاعر والرسام الإنجليزي دانتي جابرييل روسيتي سنة 1814م مع زميليه هولمان هنت وج. أ. ميليه، والتمسوا نماذجهم الجمالية لدى عباقرة الفن الإيطاليين قبل رافائيل، كما استوحوا من رسومهم وأعمالهم الفنية كثيرا من شعرهم). كتب «باتر» في تاريخ الفن، ونشر دراسات عن ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو وبوتيشيللي، كما نشر روايات وقصصا قصيرة وقصائد شعرية.
ظهرت هذه القصيدة عن موناليزا مع مجموعة المختارات التي نشرها الشاعر الأيرلندي الكبير و. ب. ييتس تحت عنوان «كتاب أكسفورد للشعر الحديث»، أكسفورد، 1952م، ص1 - لاحظ أن السطرين الثامن والعاشر من القصيدة يشيران إلى لوحتي ليوناردو عن ليدا والقديسة آنا. «موناليزا»
هي أكبر عمرا من الصخور التي تجلس بينها،
كالخفاش.
كانت قد ماتت مرات من قبل،
وتعلمت أسرار القبر،
وغاصت في البحار العميقة،
وما زالت تحتفظ بأيامها الضائعة،
وتاجرت في المنسوجات العجيبة مع تجار الشرق.
ومثل ليدا،
1
كانت أم هيلينا الطروادية،
ومثل القديسة آنا،
كانت أم مريم،
ولم يكن كل هذا في نظرها
إلا كأنغام القيثار والناي،
ولا يعيش
إلا في الرقة
التي صاغت بها الخطوط المتغيرة،
ولونت الجفون واليدين. (3) مايكل فيلد (
Michael Field )
اسم مستعار لشاعرتين خالة وابنة أختها وهما كاترين برادلي التي ولدت سنة 1848م في برمنجهام، وماتت سنة 1914م في ريتشموند، وأديث إيماكوبر التي ولدت سنة 1862م في كينل وورث بمقاطعة وركشير، وماتت سنة 1913م في ريتشمولد بمقاطعة ساري. تلازمت الشاعرتان في حياتهما وأسفارهما وكتاباتهما الأدبية، ونشرتا باسمهما المشترك مسرحيات ومجموعات شعرية. وتعد ترجماتهما للشاعرة الغنائية الإغريقية سافو، وقصائدها التي استوحتاها من الرسوم واللوحات الفنية ونشرتاها سنة 1892م بعنوان «رؤية وأغنية» من أهم أعمالهما. تقول الشاعرتان في هذه المجموعة الأخيرة: إن الجهد المبذول لرؤية الأشياء من مركزها الخاص، عن طريق التخلص من التركيز المعتاد على المرئي كما ندركه في أنفسنا، عملية نتمكن بها من استبعاد صورنا الذاتية والحصول على انطباع أكثر وضوحا وأقل سلبية وأكثر قربا من النفس. وعندما يتم هذا الجهد بأمانة وإصرار، فلا بد أن يتبقى للقوة الحتمية للفردية دور تقوم به، ولا بد للمزاج الشخصي من أن يصوغ الانطباع المنقى. وقد نشرت هذه القصيدة في الكتاب المذكور، ص8 بعنوان: الجيوكوندا لليوناردو دافنشي. «الجيوكوندا لليوناردو دافنشي»
العينان مائلتان، معبرتان، تاريخيتان،
بسمة على الخدين ناصعة كالقطيفة،
توجهها شفتان رزينتان إلى أعلى،
بل ترقد متوهجة طرية،
يبدو الصبر في هدوئها المفعم بالقسوة،
الذي ينتظر ولا يبحث عن الفريسة،
جبين كالغسق، وصدر
يتلامس فيهما الغروب والنضوج بحب وحنان،
وخلفهما صخور بلورية،
بحر وسموات متلاشية الزرقة،
تنعكس على السحاب والماء.
منظر طبيعي يبدو مرهقا من شدة جوعه
لتلك التقلبات التي يستميت عليها الرجال. (4) ياروسلاف فرشليكي (
Jaroslaw Vrchlieky ) (1853-1912م)
شاعر تشيكي، ولد سنة 1853م في «لاون»، ومات سنة 1912م في «تاوس». درس اللاهوت والتاريخ، وشغل في سنة 1893م منصب أستاذ للأدب المقارن في جامغة براغ. كتب الشعر الغنائي والملحمي والمسرحية والقصة القصيرة والمقالة، كما استوحى حوالي مائتي قصيدة من صور ولوحات فنية شاهد معظم أصولها أثناء إقامته في إيطاليا من سنة 1875م إلى سنة 1876م. تذكر له ترجماته لدانتي وكالديرون وثيرفانتيس وجوته. وقد نشرت هذه القصيدة في المجلد السادس من مجموع مؤلفاته الكاملة التي نشرت في براغ سنة 1905م، ص196. «موناليزا»
ابتسامة مفعمة بسحر السر،
فيها الحنان والجمال،
أتراها تغوي ضحيتها
أم تهلل لانتصارها؟ (5) مانويل ماتشادو (1874-1947م)
انظر ترجمته السابقة مع لوحة «الربيع» ليوتينشيللي. نشرت قصيدته عن الجيوكوندا في كتابه «أبولو، مسرح تصويري» الذي ظهر سنة 1910م، ص161، وقد أوردنا له قصائد أخرى استلهمها من صور جويا (إعدام الثوار) ورمبرانت (محاضرة في التشريح). «الجيوكوندا»
فلورنسا،
زهرة موسيقى يتضوع منها العطر،
ومدينة ليوناردو (من لا يوصف، لا يدركه القول أو الفكر)،
أم النابغة الحر
الصادق من غير كلام،
والأسد الثائر،
والروح الطائر كحمامة.
تبتسم الموناليزا،
وتطل البسمة فوق قرون تنزلق وتهوي،
تنظر في أنفسنا أيضا،
والبسمة تبقى ما بقي العمر (حتى لو لم تثبت شيئا)،
تبتسم الجيوكوندا،
أي فرحة؟
أي أرض للأحلام الحلوة
تسكب فيها النشوة؟
أين تتوه العين الغامضة وتسرح؟ (أتفتش عن سر خلف قناع؟)
كلمها القدر فأي كلمة
بلغت أذنيها؟
أي دلال داعب خاطرها؟
أيكون السر الهائل
قد ملك القلب عليها؟ (6) جوستاف فرودنج (
Gostav Froding ) (1860-1911م)
وهذه القصيدة للشاعر السويسري جوستاف فرودنج الذي ولد في مدينة ألسترز بروك ومات في استوكهولم. تعلم في جامعة أوبسالا ولم يتم دراسته. قضى معظم سنوات عمره الأخيرة في مصحات العلاج النفسي. وقد نشرت قصيدته عن الموناليزا في المجلد الرابع من مؤلفاته الكاملة، استوكهولم، 1937م، ص247. «موناليزا»
موناليزا،
موناليزا،
أنا لا أملك أن أعطيك
سوى أغنيتي.
قد يمدحك سواي
فيرفع قدرك ويوفيك،
فإليه اتجهي! (7) هيرمان كلاوديوس (
Hermann Cloudius )
ولد الشاعر الألماني سنة 1878م في لانجنفيلد بالقرب من ألطونا (وهي في الشمال ناحية هامبورج). وهو حفيد أكبر الشعراء المتصوفين في ألمانيا ماتياس كلاوديوس. عمل من سنة 1900م إلى سنة 1934م بالتدريس في المدارس الشعبية في مدينة هامبورج، ثم طرد من عمله لرفضه السماح بإنشاد الأغاني النازية في مدرسته. نشر مجموعات من قصصه وأشعاره الغنائية، وعين في سنة 1956م عضوا في أكاديمية «إيرفورت» في ألمانيا الشرقية (الديمقراطية). وقد ظهرت القصيدة التالية في ديوانه «في بيتي» الذي صدر في ميونيخ سنة 1940م، ص102، وذكر الشاعر أنه أنشأ القصيدة في مدينة جنوا سنة 1939م أمام لوحة ليوناردو الأصلية. والمعروف أن متحف اللوفر يحتفظ باللوحة الخالدة، ولا أدري إن كانت قد وجدت قبل ذلك في جنوا. «موناليزا»
قديما كانت ترتفع الكنائس.
اليوم تتبجح المداخن.
بخطى عمياء
يتابع الزمن مسيره.
كم سار فوق لهيب الصحاري،
وجبال الثلج،
فوق الأفيال المنقرضة والأشجار الضخمة.
من أحسها واستكنه سرها
في أعماق روحه،
استشعر الحكمة،
وواجه كل الكلمات،
وكل الأعمال بابتسامته،
فما عاد شيء يفزعه.
في ساعة الموت
ينفذ من الباب.
هي التي أحست به،
بالخالد الذي لا يتبدل،
بروحه الأبدية،
ترجع إلى موطنها
وعلى شفتيها بسمة. (8) توماس مكجريفي (
Thomas Mcgreevy )
ولد الشاعر الأيرلندي سنة 1893م في كونتي كيري، وهو ناقد فني يقوم بالتدريس في المتحف الوطني بلندن وفي جامعة باريس. نشر مجموعات شعرية ودراسات في الفنون التشكيلية، وظهرت قصيدته عن الجيوكوندا في كتاب «ألف عام من الشعر الأيرلندي» الذي نشره الأستاذ ك. هوجلاند في نيويورك، 1962م، ص706. «جيوكوندا»
منحدرات الجبل من الماء الفضي الثائر،
أسفل،
حول الجبل،
وعبره،
حول جذوع الشجر الناصعة البيضاء،
أبعد، أبعد مما تدركه العين الحساسة،
وعلى جنبات الوادي ووراءه،
في كل مكان،
ينحدر الماء الفضي الهادر!
السحب الزرقاء،
الداكنة اللون - صبغت منها الأطراف بماء الورد
ووضعت داخل أطر فضية -
تتأمل هذا الكون.
توقفت الشمس
فلم تشرق
أو تغرب،
لم تهتم بما ينشغل به الساسة.
الأعراف البيضاء انتفضت
كالزبد الطائر،
وأفاع زرق قد ذابت
في فتحة بسمة،
تلمع لمعان الماسة. (9) كورت توخولسكي (
Kurt Tucholsky ) (1890-1935م)
كاتب ألماني لاذع السخرية، انحدر من أصل يهودي. ولد في برلين، ومات منتحرا في بلدة هنداس بالسويد. أتم دراسة الحقوق ثم اشتغل بالصحافة، وقضى معظم سنوات حياته بعد 1924م في باريس قبل أن ينتقل نهائيا إلى السويد سنة 1929م. نشر قصصا قصيرة ولوحات مريرة السخرية بالحياة «البرجوازية» في ألمانيا، وأشعارا، ومسرحية واحدة. ظهرت قصيدته عن الموناليزا في الجزء الثاني من مؤلفاته الكاملة التي صدرت لدى الناشر روفولت سنة 1960م، ص1322.
يعلق ناقد أدبي ذائع الصيت «وهو هانز ماير» على هذه القصيدة فيقول: «هذه القصيدة المشهورة عن الموناليزا قصيدة متشائمة على طريقة شوبنهور، وهي تريد أن تقول: مر على هذا العالم مر الكرام ، فهو عدم ...» «الموناليزا»
لا أملك أن أحول نظراتي عنك؛
لأنك معلقة فوق الرجل الموكل بحراستك،
وقد شبكت يديك الناعمتين،
ورحت تبتسمين في سخرية.
أنت مشهورة شهرة ذلك البرج في بيزا،
وابتسامتك تؤخذ مأخذ الدعابة.
أجل ... لماذا تضحك الموناليزا؟
هل ضحك علينا، بسببنا، على الرغم منا، معنا، - ضدنا - أم ماذا؟!
أنت تعلميننا في هدوء ما ينبغي أن يحدث؛
لأن صورتك، يا ليزا الصغيرة، تقول:
من خبر هذا العالم خبرة كافية،
فلا بد من أن يبتسم،
وأن يضع يديه على بطنه ويسكت. (10) بيرتة آرنباك (
Birta Arnback ) (1923م-...)
ولدت الشاعرة الدنماركية في بلدة ليزالند بالقرب من مدينة فيبورج. كان أبوها من عمال الغابات. نشرت عدة مجموعات شعرية وقصصية. كتبت هذه القصيدة عن الموناليزا في سنة 1955م. «موناليزا»
عذب هذا كله، ما أحمله في نفسي،
كل ما لا ترين وما لا يعنيك.
في غرفة كياني أحتفظ بكنوز،
ميراثي، مرابع ذكرياتي
عن كل ما لقيته في حياتي،
ودائما، عندما تريدين أن تعرفي،
عندما تلمسين شعري، وتقبلين يدي، وتخاطبينني باسمي،
ألزم صمتي، ألزم صمتي،
هذا هو مينائي الآمن.
أتكتم حقيقتي، أنغلق على نفسي.
لكن لا أقصد من ذلك شرا، أليس كذلك؟
إني أصمت مرتاحة البال، أصمت صمتا عذبا،
صمتا أشعر معه بالراحة والاطمئنان،
ثم لا أكاد أشعر
بأنني أبتسم ... (11) بيتر سبان (
) (1882-1948م)
شاعر ومؤلف موسيقي هولندي. ولد بمدينة ليدن ومات في مدينة نيس. كتب قصيدته عن الموناليزا سنة 1917م، ونشرت في ديوانه «التمجيد» الذي صدر في أمستردام سنة 1961م، ص13. «الجيوكوندا»
مفعمة تبدو الألوان
بنور الفجر،
التعبير بلا حد،
أو إن جاز القول
بلا رحمة.
الكفان الناعمتان،
الجسد الرائع والصدر،
تنتفخ من الحب،
في الخفية بلد السحر ... (12) برونو ستيفان شيرر (1929-...)
ولد الشاعر الألماني في مدينة جريتسنباخ، ودرس الأدب وتاريخ الفن. وهو راهب بنيديكتيني وأستاذ في المعهد الثانوي بمدينة ألتدورف. ظهرت له تسع مجموعات شعرية. وقد نشرت قصيدته عن الموناليزا في ديوان له بعنوان: «صورة واستعارة» صدر سنة 1971م عن دار نشر ركس في لوزيرن وميونيخ، ص28. ومع أن القصيدة قد كتبت سنة 1970م، إلا أن الشاعر يؤكد أن تجربتها ترجع إلى أكثر من عشر سنوات عندما عايش اللوحة المشهورة أثناء زيارته لمتحف اللوفر سنة 1959م، كما سبق هذه التجربة الحية اهتمامه باللوحة وملاحظاته التي دونها عنها وعن دافنشي قبل ذلك بسنوات ... «المرأة، لوحة دافنشي الموناليزا»
ينبثق بريق العينين
من الأعماق الذهبية،
نبع الأبدية.
ويغطي الشعر قناع؛
امرأة، وعروس، وبتول الرب.
واليد ترتاح على اليد.
تتنفس في حر الظهر
أفراح الورد،
والبسمة فوق الشفة وفوق الخد.
أنا أعرفك، عرفتك دوما
وتحدثت إلي،
من قصص الليلة وليال ألف.
حطمت جمود الجسد
نسيج الكذب،
أحلت فتون الحس،
سعار النفس،
لعبث اللذة والمجد،
صلاة رتلها القلب وسبح بالحمد،
للمنعم أوفى بالعهد.
وكذلك أنت عرفت،
وما غابت أسراري عنك.
في نهر جمال الأرض،
يتدفق دمك ويسري في،
يتغلغل نفسك في أنفاسي.
أبكي، يعروك الصمت،
تصغين على باب الروح،
وتأتين لبيتي ومكاني
معك هداياك؛ النور مع الموسيقى.
أتنادين علي؟
وتنتظرين جوابا:
أنت المرأة
سر الأزل المطوي.
الفصل الثامن عشر
موسيقى في الخلاء لجورجونه (من حوالي
1478م إلى 1510م)
«صورة لجورجونه» في الجزء العاشر من مؤلفاته الكاملة، شتوتجارت، ص220.
جورجونه (
Giorgione ) أحد كبار الرسامين من مدرسة البندقية. تتلمذ على يد جوفاني بيلليني (1430-1516م) الذي علم جيله والأجيال التالية، وشارك في تأسيس الفن الحديث كله (بجانب تيسيان الذي تتلمذ عليه وعلى ليوناردو ومايكل أنجلو). كان أول من عرض الصور الزيتية الصغيرة في البندقية للاقتناء لا للكنائس، وكانت في الغالب ذات موضوعات غريبة موحية. وقد عجز كثير من معاصريه عن تفسير صور كالعاصفة التي يمكن أن توصف بأنها أول المناظر الطبيعية المعبرة عن حال نفسية ومزاج متوتر في مواجهة العاصفة الرعدية.
يحيط الغموض بحياته، ولا نكاد نعرف عنه إلا أنه شارك الرسام كاتينا (1480-1531م) سنة 1506م في مرسم عملا فيه معا، تدل على هذا كتابة وجدت خلف لوحته «لاورا» المحفوظة في فيينا، وأنه قام سنة 1508م بالاشتراك مع تيسيان بتنفيذ رسوم جدارية على واجهة مجمع التجار الألمان المقيمين في البندقية. وقد اندثرت هذه الرسوم (أو الفريسكات) ولم تبق منها سوى شذرات باهتة. والمهم أنه تعاون مع تيسيان (من حوالي 1490م إلى 1576م)، وأنه كان في تلك الفترة يفوقه أصالة. ومع ذلك يتعذر الحسم في هذه المسائل بسبب الغموض الذي يحيط بفنه كما أحاط بحياته، وصعوبة توثيق الصور القليلة التي تنسب إليه، ولم يثبت صحة أكثر من ست منها. ويزيد من تعقيد المشكلة أنه مات في شبابه عندما أصيب بالطاعون سنة 1510م، وأن بعض صوره قد أكملها تيسيان وسياستيانو ديل بيومبو اللذان تأثرا به تأثرا عميقا. ولا يزال الجدل مستمرا بين نقاد الفن ومؤرخيه حول أصالة عدد من الصور المنسوبة إليه، والمتناثرة في كثير من المتاحف الأوروبية والأمريكية ... (1) دانتي جابرييل روسيتي (1828-1882م)
سبقت ترجمته مع صورة الربيع لبوتيتشيللي. أما هذه القصيدة التي وصف فيها لوحة جورجونه «عزف الموسيقى في الخلاء»، فقد شاهدها أول مرة في خريف سنة 1849م في متحف اللوفر، ثم كتب هذه القصيدة التي جعل عنوانها «لمشهد رعوي من البندقية لجورجونه»، وظهرت في الجزء الأول من أعماله الكاملة، لندن، 1906م، ص345. «رعوية من البندقية لجورجونه»
أين الماء ليطفئ لهيب عذاب مغيب الشمس؟
لكن غطس إناؤك في الماء ببطء،
لا، بل مل واسمع شهقة الموجة
المترددة حين تلامس حافة الفراغ.
أنصت، إن وراء جميع الأعماق
يتمدد الحر - كالنائم - أخرس في المساء.
اليد تحاول الآن أن تلعب على وتر الكمان
الذي ينشج بالبكاء.
أصحاب الوجوه البنية توقفوا عن الغناء،
بعد أن صاروا من فرط السعادة تعساء.
وإلى أين تسرح نظراتها الآن،
بعد أن ترك الناي فمها الذي لم يزل مقطبا،
بينما العشب الظليل يرطب جنبها العاري؟
دعك الآن! لا تقل لها شيئا؛
حتى لا تنخرط في البكاء،
ولا تسمه أبدا باسمه.
ليكن الزمن كما كان على الدوام؛
فالحياة - كالعهد بها - تقبل الخلود في هدوء
وسلام. (2) أدولف فريدريش فون شاك (
Adolf Friedrich Von Schake ) (1815-1894م)
أديب ألماني وعالم في الآداب الشرقية والغربية. ولد في بروسيفتس بالقرب من شقيرين ومات في روما. قام برحلات عديدة زار فيها مراكز الحضارة والفن الأوروبي في إيطاليا وإسبانيا وبلاد اليونان، واستقر منذ سنة 1855م في مدينة ميونيخ، ولا يزال المتحف الذي يحمل اسمه ويضم مجموعة الصور واللوحات التي جمعها في حياته من أجمل معالم هذه المدينة. له مؤلفات عن الآداب الفارسية والهندية والإسبانية، وترجمات شعرية عن هذه الآداب. نشرت قصيدته التالية: «صورة لجورجونه»
هو الذي رسمها! وهل يقدر على هذا
سوى جورجونه؟
عناقيد العنب المتدلية على أسوار الكرمة،
وأسراب الحصادين في حقل القمح
تعلن أن الربيع الأبدي يجاور الثلج الأبدي. •••
في ظل الشجر الملتف الأخضر تحت الشرفة
يجلس الفارسان بعباءاتهما القطيفية الحمراء.
الأنسام الناعمة على إيقاع الأوتار،
تيمتهما حبا في أغانيهما العذبة الألحان. •••
هل ترى الحسناوين هنا بغير غطاء؟
لا تسألوا إن كان ما رسمه ابن كاستيلفرانكو العظيم
1
في هذه اللوحة هو حب الأرض أم حب السماء! •••
واقنعوا بنصيبكم من هذا الجمال البديع،
الذي ما برح يشع هنا منذ قرون على الجميع،
ويغمر زحام هذا العالم المقفر بالنور والصفاء. (3) بآت بريشبول (
Beate Brechbühl )
ولد الشاعر السويسري في «أوبلتجن» التابعة لاتحاد بيرن. تعلم في صباه جمع الحروف المطبعية، وقام بأسفار عديدة إلى تركيا وإيطاليا وبلاد اليونان، ونشر أكثر من مجموعة شعرية من بينها مجموعة تأثر فيها بالشاعر الإسباني الشهير رافائيل ألبرتي، وجعل عنوانها «الصور وأنا»، وخصصها لقصائد الصور. وقد ظهرت هذه المجموعة سنة 1968م في مدينة زيوريخ، وتجد فيها هذه القصيدة التي لم يستوحها من الأصل الذي لم يشاهده، بل من بطاقة مصورة ظل يحملها سنوات في جيبه وكأنه متحف متجول! «حفل موسيقي في الريف لجورجونه»
في حفل رائع
وضع جورجيو بارباريللي الناس في الطبيعة،
طلب منهم - عراة ولابسين -
أن يعزفوا الموسيقى في حدائق الله،
تكلؤهم عينه التي تفيض عليهم الصفاء والانسجام.
أنا لا أكاد أفكر في هذا عندما أسافر
من المدينة إلى قريتي،
وأقطع الشارع - وأنا أتوثب فرحا -
في حوالي الساعة الحادية عشرة ليلا،
إلى حيث يعيش أهلي وأتنفس رائحة بيتي.
تتناثر أفكاري، لا أتحكم فيها،
وتمتلئ عيناي بالبهجة والعطش.
هنالك أعبر القرية الهاجعة.
أشم رائحة الخنافس،
يحتد الهواء بالعشب الطازج،
والعيون الودودة في الليل،
وبعيدا تبدو الغابة كدجاجة نائمة.
هنا تكون النجوم والسحب حلما،
وهنا تنطلق إلى الآفاق الرحبة،
وتضم الكلمات في لغة
لا تحتاج إلى تفسير.
وهنا لا يوجد ثم مكان
لشعراء ينظمون قصائد مصابة بالربو،
ولا مكان لمن يلوون الأفكار،
ولا للأدباء الذين يقولون:
هنا يزدهر مجدي، وإلى هنا نجيء.
لا، هذا مكان المتواضعين
الذين يضعون آمالهم في الحياة وفي أنفسهم،
2
والذين يعزفون موسيقاهم هم
في مثل هذه الليالي.
أمشي في طرقات القرية الهاجعة في الليل،
لا أحد يعلم أني جئت،
لكن الأشجار، الهواء، الأصوات المعروفة
تسأل: «هل جئت؟»
وأقول: «جئت،
وها أنا ذا أملأ رئتي ودمي منكم.»
ويمينا، وكأنها بالقرب مني،
تقف سلاسل جبال القرن
أشبه بعابر ليل يحمل نبوءة،
من خلفها جبال الألب السويسرية،
وبعيدا تفوح من حولها رائحة النجوم،
وأخيرا أذهب وأنام،
في بيتي.
الفصل التاسع عشر
انتصار جالاتيا
لوحة جدارية لرافائيل (
Rafael ) (1483-1520م). رسمها سنة 1514م في فيلا فارينزينا بروما.
رافائيل هو أحد الثلاثة الكبار بجانب ليوناردو ومايكل أنجلو الذين يمثلون قمة الإبداع الفني فيما يسمى بذروة عصر النهضة التي انطفأت شعلتها بعد موته. أتاحت له عبقريته المبكرة أن يتمتع بمكانة عالية في المجتمع الفني في فلورنسا المزدهرة آنذاك، وأن يدخل إليه من أوسع أبوابه، ويعامل معاملة الند - ولم يزل في السابعة عشرة من عمره - من ليوناردو الذي كان في الثامنة والأربعين من عمره، ومايكل أنجلو الذي كان في السابعة والعشرين. وإليهم جميعا يرجع الفضل في تغيير نظرة الناس إلى الفنان واحترامه وإجلاله إلى درجة تكاد تبلغ حد التقديس. اسمه الحقيقي هو رافايللو سانزيو، وكان أبوه هو الرسام جوفاني سانتي. مات الأب سنة 1494م، وخيم الغموض على السنوات الأولى من حياة ابنه النابغة، ولكن عين التاريخ تنتبه إليه حوالي سنة 1500م أثناء عمله مع أستاذه بيروجينو (من حوالي 1450م إلى 1523م) في الرسوم الجدارية في قاعة «الكامبيو» بمدينة بيروجيا، كما يحتمل أن يكون قد أنجز صورته «حلم الفارس» (التي يحتفظ بها المتحف الأهلي بلندن) في هذه الفترة المبكرة من حياته.
أكدت السنوات العشر التالية (من 1500م إلى 1510م) نبوغه والدور الرائع الذي ساهم به في الارتفاع بالفن إلى ذروة عصر النهضة. وإذا كانت أعماله الأولى قد تأثرت بأستاذه (مثل لوحته عن الصلب)، فإن أول عمل يحمل توقيعه (وهو لوحته عن خطبة العذراء 1504م) قد تجاوز هذا التأثر وشهد بتفوقه عليه في قوة التكوين وصفائه. وكشفت له إقامته في فلورنسا (ابتداء من حوالي سنة 1504م) أن كل ما كان يعرفه قد بلي وتقادم عليه العهد. وبدأ يتعلم كل ما استطاع تعلمه من الفن والفنانين في فلورنسا. وصوره ورسومه التي أنتجها في هذه الفترة تبين قدرته العجيبة على تمثل ما تلقاه من دروس وتجارب، وما استفاده من علم ليوناردو وخبرة مايكل أنجلو في رسم الوجوه والموازنة بين الضوء والظل وصرامة التنفيذ وصفائه (خصوصا في سلسلة صوره التي أتمها في تلك الفترة للعذراء أو المادونا).
اتجه إلى روما في أواخر سنة 1508م بعد أن سمع عن عزم البابا جوليوس الثاني على تجديد الفاتيكان وتزيين حجراته، وكان مايكل أنجلو قد سبقه إلى هناك وعكف على تنفيذ رسومه المشهورة على سقف السيستينا «الكابيلا سيستينا»، وبدأ رافائيل العمل مع تلاميذه ومعاونيه على تزيين جدران الغرف برسومه الرائعة التي أتمها بين سنتي 1900-1911م ، ونذكر أهمها وهما «مدرسة أثينا» (التي تجد قراءة تحليلية لها في كتابي مدرسة الحكمة)، و«الجدل»، اللتان تصوران الفلسفة واللاهوت كمرحلتين من مراحل تطور العقل البشري بأسلوب كلاسيكي بالغ الصفاء والاتزان، فضلا عن الرسوم التي أنجزها بنفسه أو صممها وأشرف على تنفيذ مساعديه وتلاميذه لها على جدران غرفة أخرى هي غرفة هيليو دوروس، وصور فيها - بأسلوب أكثر درامية وألوان أكثر حيوية - موضوعات متصلة بالتأييد الإلهي للكنيسة، وهي طرد هيليودوروس من المعبد، وتحرير القديس بطرس ومعجزة المناولة في بولزينا.
تراكمت أعباء العمل على رافائيل، وانهالت عليه العروض من البابا والملوك والأمراء، وأسند إليه الإشراف الهندسي على بناء كنيسة القديس بطرس الجديدة خلفا للمهندس برامانته الذي مات سنة 1514م، وتنفيذ مجموعة المشاهد المستمدة من العهد القديم في مدخل الفاتيكان، وقد أتمها سنة 1919م، ويرجح أن يكون دوره فيها قد اقتصر على التصميم لكثرة مهامه ومشاغله. وكان آخر عمل كلف به هو لوحته الكبيرة «التجلي» (متحف الفاتيكان) التي صممها ونفذ معظم رسومها، ومات قبل إتمامها، فأكملها وريثه وتلميذه جوليو رومانو (من حوالي 1492م إلى 1546م)، وتشهد هذه الأعمال الأخيرة بأنه كان على مشارف تحول فني جديد، لولا أن عاجلته المنية في عامه السابع والثلاثين.
أما هذه الصورة الجدارية فتعبر عن عروس البحر جالاتيا (ومعناها في اليونانية الأبيض اللبني) التي ذكرها هوميروس أول مرة في إلياذته (النشيد 18، سطر 45)، ثم روى «أوفيد» قصتها (التحولات، 13، سطر 738 وما بعده)؛ فقد عشقها العملاق الأعور الرهيب (أو السيكلوب) بوليفيموس الذي يذكره قارئ الأوديسة بغير شك؛ فهو الذي سجن أوديسيوس ورفاقه في كهفه، وراح يزدرد اثنين منهم كل صباح ومساء، حتى احتال عليه الداهية بدهائه وفقأ عينه الوحيدة بعمود ناري بعد أن أطعمه هو ورفاقه وأسكروه؛ وهرب أوديسيوس مع من تبقى منهم، وخرج العملاق الأعمى يتخبط وينادي على «اللاأحد» الذي غرر به وعلى أبيه بوزيدون رب البحر لينتقم له!
والمهم في هذا السياق أن هذا العملاق الرهيب قد عرف قلبه الحب قبل أن يجري له ما جرى على يد السندباد اليوناني ورفاقه؛ فقد جن جنونه بعروس البحر جالاتيا، وراح يتودد إليها دون فائدة؛ ذلك لأن قلبها كان مشغولا عنه بحب شاب اسمه أكيس. وكانت المحبوبة المتكبرة تستمع ذات يوم مع حبيبها لأغنيات الحب اليائسة التي كان ينشدها بوليفوموس. وانتهى العملاق من أغنيته وانتبه إليهما وهما يغادران مخبأهما، فاستبد به الغضب وانطلق يجري وراءهما. أسرعت جالاتيا إلى الماء وغاصت فيه، وأدرك العملاق حبيبها وقذفه بصخرة عظيمة سحقته، لكن الحبيبة لم تنس حبيبها فحولته إلى نهر يحمل اسمه إلى الأبد! ... (1) رونالد بوترال (
Roland Bottral ) (1906م-...)
سبقت ترجمته مع لوحة بروجيل «سقطة إيكاروس». وقد شاهد الشاعر الإنجليزي هذا «الفريسكو» أو الرسم الجداري لرافائيل أول مرة سنة 1949م، ووصفه في كتابه «مراكز الفن في العالم، روما» الذي صدر في لندن ونيويورك سنة 1968م، ص30. أما القصيدة نفسها (وهي من نوع السوناتة) فقد أنشأها سنة 1972م. ويلاحظ أن العجوز الذي يشير إليه السطر الأول هو نيرويس إله البحر، أما قصة حب العملاق الأعور (السيكلوب ) بوليفيموس لجالاتيا ابنة إله البحر نيرويس، فقد رواها الشاعر الروماني أوفيد في كتابه التحولات، الفصل الثالث عشر، السطور 749-897 وذكرناها قبل قليل ... «جالاتيا»
نيريدا، يا بنت عجوز البحر،
كم كرهت الدب والفيل
اللذين يثقلان عليك كل يوم بزيارتهما،
ويجيء إليك رسول غرام من بوليفيم العليل!
نحن نراك هنا في عريك الجسور،
ورداؤك الأحمر الأنيق يرفرف في الريح.
عيناك وأذناك تنصرفان عن العربة
التي يجرها زوج الدلفين؛
لكي تتجه إلى أغنية الحب التي يترنم بها المارد السقيم.
كل ما يتحرك على هذا المسرح الحي العريق،
من فن راق ودقيق الصنعة وبديع،
هو في خدمتك ولا يستغني عنك،
ووحوش الماء الخشنة الملتفة في الأعشاب الخضراء،
تعب مع حوريات البحر، تبادلها أدوار الحب،
وهي تنفخ في الناي وتشدو بالألحان المرحة،
بينا يصوب كل «كيوبيد» إلى القلب سهامه.
الفصل العشرون
الليل
(نحت لفنان عصر النهضة مايكل أنجلو بونارتي (
Michalangelo Bounanoti ) (من 1475م إلى 1564م). أبدعه سنة 1521م ليزين ضريح جوليان ميديتشي في فلورنسا). (1) جوفاني سترونزي (
Giovanni Strozzi )
ولد سنة 1517م في فلورنسا ، ومات فيها سنة 1570م. عاصر ازدهار الحركة أو النزعة الإنسانية، وانتفع بثمرات التراث اليوناني التي بعثها «الإنسانيون» في مدينته، وبالإنتاج الأدبي والفني الرفيع الذي نفخوا فيه من جمال الطبيعة وجلال المثل الأعلى للإنسان.
عاش في رعاية أسرة «الميديتشي» التي ارتبط اسمها في التاريخ برعاية النهضة في إيطاليا، وبعثه «كوزيمو ميديتشي» في بعثات دبلوماسية وثقافية عديدة. كتب الأبيجرام (القصيد الموجز) والسوناتة. وهذه القصيدة التي استوحاها من «ليل» معاصره مايكل أنجلو، ترجمها الشاعر الألماني المشهور «رينيه ماريا رلكه»، ولم أستطع التوصل إلى أصلها الإيطالي الذي كتبه الشاعر سنة 1545م. «عن ليل مايكل أنجلو»
الليل في تمثال
مستغرق في نومه هناك،
في حجر قد صاغه المثال،
في هيئة الملاك،
ها أنت ذا تراه،
والنوم قد كساه بالجمال والجلال،
حياته في نومه،
ونومه حياة.
إن كنت لا تصدق الكلام،
أيقظه؛ كي يقرئك السلام! (2) مايكل أنجلو بوناروتي
ولد الفنان العظيم سنة 1475م في كابريزه بالقرب من مدينة أريستو، ومات سنة 1564م في روما. عمل رساما ونحاتا ومهندسا معماريا في فلورنسا وروما. قد لا يعرف الكثيرون منا أنه شاعر تأثر بمواطنه بتراركا في شكل الشعر كما تأثر في مضمونه وروحه بالراهب الشهيد سافونارولا. ومع ذلك احتفظ شعره وأدبه بوجه عام بطابع خاص ميزه عن الأدب الإيطالي في عصره. وهذه القصيدة «رد» من «مايكل» على «الأبيجرام» أو القصيد الموجز الذي أوردناه الآن للشاعر ستروتزي. يلاحظ أن السطرين الثاني والثالث من القصيدة يعبران عن سخط الفنان على الأوضاع السياسية في مدينة فلورنسا، وقد وقف مايكل أنجلو سنة 1530م في صفوف المدافعين عن الجمهورية والمقاومين لحكم «المدينة» الذين طردوا من المدينة، ثم لم يلبثوا أن رجعوا إليها واستولوا على الإمارة. «رد»
أحب ما أحببت من دنياي أن أنام،
وبعد ما جربت ما جربت من مرارة الأيام
قررت أن أمجد الحجر،
فضلت للإنسان
أن يكون صنما
وأن يعيش كالأصنام،
فإن طغى الزمان
وعم فيه العار والدمار والقذر،
فالخير كل الخير أن يعيش كالعميان
ويغلق الآذان.
أرجوك ... لا تنبه الحجر،
وإن فتحت فاك فاحترس،
وكن على حذر! (3) جامباتيستا مارينو (
Giambattista Marino )
ولد سنة 1569م في مدينة نابولي ومات بها سنة 1625م. دخل السجن مرات عديدة وقضى من عمره سبع سنوات (1615-1623م) في فرنسا. كتب الشعر الغنائي والملحمي والهجائي. ويعد من أبرز ممثلي الحركة المعروفة في الأدب والفن الإيطالي بوجه خاص بين سنتي 1520 و1600م باسم «المانيرية» (أو مدرسة أصحاب الأسلوب الذاتي والعاطفي المتكلف المبالغ فيه الذي اتبعه فنانون وأساتذة «عصابيون» كبار، منهم مايكل أنجلو نفسه وإلجريكو وتنتوروتو). وهي مدرسة تركز في الرسم الوجه الإنساني، وتلجأ للألوان الفاقعة المعبرة عن القلق والاضطراب، ولعل المدرسة كلها قد تأثرت بظروف العصر المضطربة وبثورة الإصلاح الديني والإصلاح المضاد وإرهاب محاكم التفتيش ... إلخ، فابتعدت عن روح الفن في عصر النهضة والباروك اللذين تقع من الناحية الزمنية بينهما. والمعروف أن مارينو قد ألف عددا كبيرا من القصائد استوحاها من لوحات وأعمال فنية أخرى شاهدها، أو حازها في مجموعاته الخاصة، وقد نشر معظم هذه القصائد في ديوان سماه «الجاليريا» أو المتحف سنة 1619م. «ليل مايكل أنجلو»
يا من تقف أمامي،
هل تعجب حين تراني
وأنا الليل الراقد
في الحجر البارد
يتردد في النفس الهابط والصاعد؟
أنا مثلك حي، وحياتي
في هذا النحت الخالد
إن كنت تراني لا أتحرك،
لا يخرج من شفتي حرف واحد.
لا تلق الذنب على الفنان؛
فطبع الليل هو الكتمان،
وقلب الليل كقلب العابد.
الفصل الحادي والعشرون
العبد المحتضر
تمثال من المرمر لمايكل أنجلو، نحته الفنان حوالي سنة 1513م، محفوظ ومتحف اللوفر. وقد ألهم الشاعر الألماني: (1) كرستيان مورجن ستيرن (
Christian Morgen Stern ) (1871-1914م)
ولد سنة 1871م في مدينة ميونيخ، ومات سنة 1914م في ميران بإيطاليا. وهو حفيد الرسام كرستيان مورجن ستيرن (1805-1867م)، كما كان أبوه كارل إرنست مورجن ستيرن (1847-1928م) رساما. واشتهر كلاهما - الأب والجد - بتصوير المناظر الطبيعية والريفية. درس الحقوق والفلسفة وتاريخ الفن، وقام برحلات زار فيها بلاد النرويج وسويسرا وإيطاليا، وتعرف إلى الفيلسوف المتصوف والعالم الروحاني «رودلف شتاينر» وتأثر به تأثرا كبيرا انعكس على شعره الذي يمزج الإحساس الفاجع بالسخرية المرة. نالت قصائده التي جمعها تحت هذا العنوان الدال «أغاني المشنقة» حظا كبيرا من الشهرة، وقد رسم بنفسه بعض أشعاره. ترجم إلى لغته بعض الأعمال الأدبية عن النرويجية والسويدية، وخصوصا لإبسن وسترندبرج وكنوت هامسون. نشرت قصيدته عن تمثال «العبد المحتضر» لمايكل أنجلو في ديوانه «نضج هادئ» سنة 1945م في ميونيخ، ص67.
أمام تمثال العبد المحتضر
لمايكل أنجلو
أنت الألم
الذي يتحاشى العيون الغريبة،
الألم الموغل في عمقه،
الذي يغمض عينيه بنفسه.
أنت الألم
الذي يتعذب بلا دموع
لأن تيارها ينسكب
صامتا في داخلك.
الحسرات الضارية إلى حد الموت
تفر مذعورة
لتحتمي خلف جفونك
المرتخية في همود ...
وعندما تتفجر ثورتها
يلسعها العقل بسوطه الحاد
لتلزم حدودها.
ها هي ذي متلاصقة
كخيول مفزوعة،
مطرقة الرءوس مرتجفة
غطاها الزبد المتكاثف والدم ..
ثم تهوي على الأرض
كأنما أصابتها الصاعقة
بضربة أخيرة
أرعبتها حتى الموت.
وجسدك الذي تضنيه الحسرات
يريد أن يهوي معها على الأرض.
آه ... يلتهب الجرح الأسود
في صدرك المنقبض ..
تتنهد ..
بملامحك الصلبة،
تحتمل وتحتمل
عذاب مصيرك ... (2) هيرمان كازاك (
Hermann Kasack ) (1896-1966م)
شاعر وكاتب روائي ومسرحي كبير. ولد سنة 1896م في مدينة بوتسدام، ومات سنة 1966م في شتوتجارت. كان أبوه طبيبا، وعمل مراجعا للنصوص الأدبية في دور النشر. كتب هذه القصيدة عن تمثال العبد المحتضر في سنة 1935م، وظهرت في ديوانه «الوجود الأبدي» الذي أصدرته دار النشر زوركامب في فرانكفورت سنة 1949م، ص160. «عبد مايكل أنجلو»
يا من نحت من الصخر
بعض الجسد والذراع والساق،
أبتهل إليك أن تخلص جسدي
من مخالب الرخام؛
لأن اليد تريد أن تمسك،
والقدم تريد أن تنطلق،
أيها الروح المبدع!
صغ نفسي في شكل مرئي حي.
اضرب، وانزع عني الغشاء
الذي قيدني مدى الحياة
حتى أتحرر وأملأ الفراغ،
حتى أتنفس منشرح الصدر.
ها هي ذي تسقط، ها هي تتكسر
هذي الأسمال الصخرية،
ومن السطوح التي لم تتشكل
ينمو النهم العاري للإنسان.
لكن آه من رهبة المكان
التي تهوي بجبروتها علي،
فجأة يتمنى عرضي المستباح
أن يلوذ بالحجر ويختبئ فيه .
يا من إليك تضرعت بوجدان مشبوب،
أيها الروح الذي سوى قدري:
أرجعني كما كنت قبل أن أولد؛
فالحرية قد مزقتني.
ارمني في الأغلال القديمة،
ألق الحمل على كتفي.
ساعدني على أن ألتمس خلاصي
في الحجر الذي أخرجتني منه.
ليشق الجسد ويطلق آهاته،
وليبق في الحجر فلا يعرفه أحد؛
لأنني أريد أن أظل لك عبدا،
ولا أريد أن أكون ندا لك. (3) فيتيسلاف نيزفال (
Vitezslav Nizval ) (1900-1958م)
شاعر تشيكي. ولد سنة 1900م في بيسكوبكي جنوب ولاية ميرين، ومات سنة 1958م في مدينة براغ. درس الأدب وتاريخ الفن، ويعد - بجانب الشاعر هالاس - أعظم شعراء تشيكوسلوفاكيا المعاصرين. كتب الشعر والقصة والمسرحية، وترجم كثيرا من الأعمال الأدبية إلى لغته. وقد وردت هذه القصيدة مع قصائد أخرى مختارة من شعره صدرت بالألمانية عن دار النشر زور كامب، وأشرف على تحريرها الأستاذ ي. شروفر، فرانكفورت، 1967م، ص102. «في اللوفر»
هذا الفتى الذي نحته مايكل أنجلو
كان بالتأكيد يلقي بنفسه في البحر كل صباح.
حاجته الملحة للعناق قد جعلت فخذيه في غاية الاستدارة،
وجعلته يبدو أخا كبيرا في عيني فتاة صغيرة
تضع عذريتها تحت تصرفه.
رأسه الذي لم يكتمل هو الذي يحميه
من أن يشيخ قبل الأوان.
أيها الفتى الحيي ،
الحكمة كل الحكمة
ألا تظهر الانفعال ... (4) صوفوس ميكائيليس (
Sophos Michaelis ) (1865-1932م)
ولد الشاعر الدنماركي في أودنسة. نشأ لأب فقير يشتغل بالأعمال اليدوية، ودرس الأدب الفرنسي وتاريخ الفن. كتب الشعر والقصة والمسرحية، كما ترجم لحياة الفنانين التشكيليين المحدثين. وقد قام بأسفار ورحلات أثمرت عددا كبيرا من قصائده التي استوحاها من الصور واللوحات التي شاهدها. كتب القصيدة التالية سنة 1917م، ونشرت في كوبنهاجن في السنة نفسها. «عبد مايكل أنجلو»
كالبذرة تتنهد،
نائمة في التربة،
تتفتح في رفق
من برعمها الأول،
قد حان الوقت لكي تطلع،
وأوان الرغبة قد آنا،
والموعد جاء لكي تنزع
قشرتها، ترمي الأغلال،
تتحرر من قيد الأرض،
كالبذرة تتنهد،
نائمة في التربة،
من ذا الذي علمها
الصعود للأعالي؟
إن أول البراعم
كالحلم في وضح النهار،
ومع ذلك فالبراعم
تغمر وجه الغابة .
أرواح النبات الرقيقة
تتنهد حالمة
بالقوة والمجد.
من ذا الذي علمها
الصعود للأعالي؟
في هدوء ينبض قلب
تحت الثرى،
أفكار الحياة الخصبة
تنعس في دقاته.
مع ذلك خرجت كل الأجيال
من هذا القلب،
كل خلايا الحياة
تحصي أحفادها منه.
في هدوء ينبض قلب
تحت الثرى.
الشوق الكامن فينا
قد ولد كما يولد أعمى،
ومع ذلك نحن إلى النور
حنين رضيع يصعد
في الهواء الحر.
فمتى تتفتح أعيننا؟
متى تسقط عن ثمرتنا القشرة؟!
إن كل إيماننا ومعرفتنا
يشيخ مع الزمن.
مع أن الشوق بأنفسنا
قد ولد كما يولد أعمى،
سنظل نحن إلى أعلى،
للنور الأبدي الأسمى. (5) فولف هاينريش فون دير مولبه (
Wolf Heinrich Von Der Mulbe )
شاعر ألماني. ولد سنة 1879م في برلين، ومات سنة 1965م في ميونيخ. نشر روايات وقصصا قصيرة وأشعارا وترجمات مختلفة. وقصيدته هذه عن العبد المحتضر هي إحدى القصائد من قالب السوناتة التي كتبها عن مايكل أنجلو، وظهرت في مجموعته الشعرية بعنوان: «مايكل أنجلو، باقة سوناتات في مدينة هانوفر سنة 1912م». «العبد المحتضر»
عندما تبلغ أعلى ذرى حياتك،
تلين الأغلال التي قيدتك وأرهقتك بالهموم،
وعلى أجنحة سعادتك وأفراحك،
يتشابه الموت والحياة كما تتشابه النجوم.
الأقنعة قد سقطت، وسوف تبدو لك العلامات
منبئة عن أشياء بعيدة لا تدركها الأسماء،
تتغنى أعضاؤك بجمالها العجيب،
وتزدهر شفتاك بينما تنطفئ وتميل للمغيب.
وترن بسمعك موسيقى كأنها انبثاق نبع عميق،
تند عن صمته المقلق، صمته الثقيل،
زهرات بيضاء مضيئة في الليل الغريق،
نادتها من أعماق معتمة كالهاوية السوداء،
أنوار السماء لترتفع إلى الأعالي،
حيث تتألق أضواء الأبدية ساطعة اللألاء. (6) كونراد فرديناند ماير (
Conrad Ferdinand Meyer ) (1825-1898م)
شاعر وروائي كبير ولد في مدينة زيوريخ في قرية كيلشبرج بالقرب من زيوريخ. وواضح من القصيدة التالية أنها تشير إلى عدة تماثيل مشهورة من إبداع مايكل أنجلو؛ فالسطور الأولى منها تصور بكلماتها تمثال العبد المحتضر الذي يحتفظ به متحف اللوفر في باريس، والسطران الخامس والسادس يعبران عن تمثال جوليانو ميديتشي فوق ضريحه في مقبرة عائلة الميديتشي بالقرب من مدينة فلورنسا، ثم تتتابع الإشارة الموحية إلى تمثال موسى والرحمة (السيدة مريم تحمل المسيح الممدد على حجرها) اللذين يعرفهما كل من زار كنيسة سان بيترو في فينكولي بروما، وكنيسة القديس بطرس في الفاتيكان. أما «خارون» فهو في الأساطير الإغريقية حادي الأرواح عبر نهر «استيكس» الذي يجري في العالم السفلي ليسلمهم إلى هاديس إله الموتى، وقد صوره مايكل أنجلو في رسمه الكبير المشهور على قبة سيكستينا في كنيسة الفاتيكان. نشرت القصيدة في المجلد الأول من مؤلفات «ماير» الكاملة الذي ظهر في «بيرن» سنة 1963م، ص331. «مايكل أنجلو وتماثيله»
أيها العبد،
إنك تفتح فمك،
لكنك لا تتنهد.
شفتاك صامتتان.
لا يرهقك - يا من امتلأت بالأفكار -
حمل الجبهة التي أثقلتها الخوذة.
وأنت تقبض على ذقنك بيد عصبية،
ومع ذلك، يا موسى، لا تهب واقفا.
وأنت يا مريم مع ابنك الصريع
تبكين، ولكن لا تنسكب الدمعة.
إنكم تصورون ملامح الألم والعذاب،
لكن يا أولادي، بلا ألم أو عذاب!
هكذا يطل الروح المتحرر
على العذاب الذي انتصر عليه.
وماذا يمكن أن يصيب الصدر الحي
الذي يحس في الحجر أنه منتش وسعيد؟
إنكم تخلدون اللحظة،
وإذا متم،
كان الموت بلا موت.
في الدغل الكثيف ينتظرني حادي الأرواح خارون،
الذي يسلي وقته بالعزف على الناي ...
الفصل الثاني والعشرون
فيل يحمل مسلة
نحت لجوفاني لورنز بيرنيني (
Bernini ) (1598-1680م) مع مسلة مصرية يرجع تاريخها إلى سنة 570 قبل الميلاد، روما، ميدان مينرفا.
برنيني هو الذي طبع مدينة روما بطابع شخصيته العاصفة، ورؤاه الدينية العميقة، وعمارته وتماثيله ونحته المنتشرة في ميادين المدينة والفاتيكان، بحيث يستحيل أن تتصور روما بغير برنيني، أو نقدر برنيني خارج روما!
ولد في نابولي، وكان أبوه نحاتا توسكانيا انتقل إلى روما حوالي سنة 1605م ليعمل في خدمة البابا بول الخامس. تميزت أعماله المبكرة في النحت (مثل العنزة أمالتيا، وإينياس، وأنكيزيس، ونبتون، وتريتون، وكلها تقع بين سنتي 1615 و1620م) بالتأثر بأسلوب «المانيرية» التي كان أبوه ينتمي إليهما، وربما ساعده على إنجاز بعضها. والمانيرية أسلوب في الرسم والنحت ساد الفن الإيطالي من حوالي سنة 1520م إلى 1600م ، واعتمد على التصميم الذهني أكثر من الإدراك الحسي المباشر، واتجه إلى المبالغة في تأكيد أهمية الشكل الإنساني وقسمات الوجه والجسم، والإسراف في التعبير عن العواطف الذاتية باللون والضوء والحركة إلى حد التكلف والاضطراب. وقد كانت المانيرية ثورة على صفاء الأسلوب الكلاسيكي الرزين عند رافائيل، وانعكست عليها آثار الاضطرابات التي نجمت عن ثورة الإصلاح الديني (البروتستانتي) ورد الفعل الكاثوليكي عليها.
تحرر «برنيني» من تأثير هذه المدرسة وأصبح الممثل الأكبر لفن عصر «الباروك» في ذروته (من 1630م إلى 1680م، وإن سادت روح العصر نفسه حتى القرن الثامن عشر عندما تبعه فن «الروكوكو» فالكلاسيكية الجديدة في عصر التنوير)، وربما كان أهم سمات الفن في هذا العصر - الباروك - هو «الإيهام» بالضوء واللون والحركة، وبساطة الموضوع وطبيعة التعبير، وكل هذا للتأثير على عواطف المشاهد، وجذبه للمشاركة في المشاعر الدينية التي تتملك شخوص الأتقياء من القديسين، وتبرز عذابهم وآلامهم. ومع أن برنيني قد تأثر بالفن الوثني القديم وبفن مايكل أنجلو (1475-1564م)، فقد تأثر كذلك بأسلوب معاصريه (مثل كاراتشي وكارافاجيو وريني)، وأخذ يحرر أشكاله من الكتلة التي كان مايكل أنجلو يلصقها بها، ومن طريقة «المانيرية» في إبراز الزوايا المتعددة للوجه البشري، واتجه إلى تصوره الجديد عن الشكل ذي الوجه الواحد والوجهة الواحدة الذي انطلق من قيود الكتلة الحجرية، وتخلص من حدود المكانية لينفذ في مكان المتأمل المشاهد ويشده إلى عالم فعله وتعبيره النفسي، وعواطفه الدينية والصوفية. وكثيرا ما عمد بيرنيني لإبراز هذه العواطف إلى استخدام مواد مختلفة من الرخام الأبيض والملون، والبرونز والجص والحجر والزجاج، والمزج بينها إلى حد المبالغة في الزخرف والتلوين (من خير الأمثلة على هذا مجموعة تماثيله على ضريحي البابا أوربان الثامن والبابا إسكندر السابع في كنيسة القديس بطرس بالفاتيكان، حيث صور الأخير تصويرا دراميا حيا في رخام أبيض وملون مع تمثال برونزي لملاك الموت وهو يدون اسم البابا في كتابه.) ومجموعاته النحتية وتماثيله النصفية تكشف عن قدرته على الاستبصار بأعماق الروح، وحرصه على التعبير عن أحوال النفس ومشاعر الإيمان والقوى التي كانت كذلك تسيطر عليه كجزويتي مخلص. وقد أتاحت له الرعاية البابوية فرص القيام بأعمال معمارية ونحتية لا يكاد يحصرها العد في كنيسة القديس بطرس، وما حولها، وفي الفاتيكان والكنائس وفوق الأضرحة والنوافير البديعة التي لا ينساها زائر روما والفاتيكان. وقد كلفه «الملك-الشمس» لويس الرابع عشر سنة 1665م بإعادة تصميم مبنى «اللوفر»، ودعاه لزيارة باريس حيث أتم له تمثالا نصفيا رائعا (وهو محفوظ في قصر فرساي)، وتمثالا آخر له على حصان لم يكد يصل بعد ذلك (سنة 1685م) إلى فرساي حتى استبشعه الملك، وأمر مثاله الخاص جيراردون أن يكسره ويزخرف به الحديقة. وتنسب لبرنيني صور عديدة من أهمها صورة شخصية له (متحف الأوفيتسي في فلورنسا) والقديسان (المتحف الأهلي في لندن). (1) أثاناسيوس كيرشر (
Athanasius Kircher ) (1601-1680م)
ولد سنة 1601 في بلدة جيزا بالقرب من مدينة فولدا، ومات في روما سنة 1680م. راهب جزويتي، وعالم في الرياضيات والعلوم الطبيعية، وباحث في اللغة، وأحد العلماء الموسوعيين في عصره. يرجع إليه فضل الإسهام في تأسيس علم «الصينيات»، كما كان من أوائل الرواد الذين حاولوا فك طلاسم الكتابة الهيروغليفية، وعندما عثر سنة 1665م في روما على هذه المسلة المصرية، كلفه البابا ألكسندر السابع بحل ألغاز النقش الهيروغليفي المحفور عليها. كما كلف الفنان بيرنيني بتصميم تمثال أو أثر فني تدخل المسلة في تكوينه. وقد جاءت هذه القصيدة التي نظمها كيرشر باللاتينية (
Elephas Obelisci Gestator ) في مقدمة كتاب أهداه سنة 1666م إلى البابا المذكور، وشرح فيه نقوش المسلة (راجع دراسة للأستاذ و. س. هيكشر عن فيل بيرنيني والمسلة، مجلة الفن، العدد 29، 1947م، ص155-182). «فيل يحمل مسلة»
1
المسلة المصرية، رمز أشعة الشمس،
يهديها الفيل إلى البابا ألكسندر،
أليس حكيما، هذا الحيوان؟
أبانا السابع ..
الحكمة أهدتك إلى العالم شمسا؛
ولهذا تتلقى اليوم من الشمس هدية.
2
ما من حيوان، وكما سبق القول،
يعدل الفيل في ذكائه.
إن الفيل هنا - حيث كان يمكن أن يقوم هيكل شامخ -
يحمل باقتدار معلم،
المسلة ذات النقوش الهيروغليفية. (2) فالتر هوليرر (
Walter Höllerer ) (1922م-...)
ولد الشاعر وأستاذ اللغة والأدب الألماني في زولسباخ-روزنبرج بمقاطعة بافاريا، وهو يعمل بالتدريس بالجامعة الهندسية في برلين الغربية منذ سنة 1958م. يعد من أهم الأدباء المؤثرين على حركة الشعر الحديث سواء بشعره المجدد أو دراساته النقدية أو نشاطه الثقافي الواسع. وقد ظهرت قصيدته هذه عن فيل بيرنيتي بميدان مينرفا ضمن مجموعة شعرية مختارة أشرف بنفسه عليها بعنوان «عبور» كتاب الشعر في منتصف القرن، فرانكفورت، دار النشر زور كامب، 1956م، ص126. وتمثال الفيل الذي يحمل المسلة المصرية على ظهره يصوب أمام كنيسة سانتا ماريا في ميدان مينرفا بروما. ويقول الشاعر إنه قد رأى التمثال أول مرة سنة 1944م؛ أي قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأنه قد دونها بعد إعداد طويل سنة 1950م. ويبدو أن هذا الفيل ظل يداعب خياله فترة طويلة؛ إذ نراه كذلك في روايته التي نشرها سنة 1973م، وهي «ساعة الفيل». «فيل بيرنيني، ميدان مينرفا»
ظله المائل كان يضحكه كثيرا؛
فقد كان باستطاعته أن يلتفت إليه
فيراه ويمد بصره على غير انتظار
إلى كنيسة سيدتنا العذراء،
بل إلى البانثيون.
غير أن من الواضح أن هذا شيء محرم عليه؛
فهو في الحقيقة لا يخرج عن حدوده،
إنه يقف في مكانه، كما يقف ممثل كوميدي عجوز،
تغمره بالغبار سيارات الفورد والكاديلاك،
تلف مسلته، كعقرب الساعة،
حول الميدان. شيء رتيب. وتتم الدورة.
لكن حدث يوما أن ألصق داعية متحمس للسلام
فوق رأسه لافتة بيضاء،
ودائما ما يقف هناك في وضع خاص
كمن يضع علامة استفهام
على أسئلة بالغة الصعوبة.
السكارى يترنحون، ينامون ليلة بعد ليلة،
في ميناء الساعة القمرية والشمسية.
الفصل الثالث والعشرون
تحذير أبوي ...
الصورة لجيرارد تيربورش (
Gerard Terbursh ) (1617-1681م)، وهو رسام هولندي تميز بتصوير الوجوه (البورتريه)، ومناظر الحياة العائلية بأسلوب رقيق يتسم بدقة معالجته للألوان والأضواء، واهتمامه برسم الثياب الحريرية والقطنية والعناية بتفاصيل الثنيات والانكسارات وملامح الوجوه التي ينبعث منها سحر يشبه سحر الدمى والعرائس.
كان أبوه رساما قليل الشأن. دفعه نبوغه المبكر إلى التنقل بين مدن وبلاد مختلفة، فعاش في أمستردام وهارلم - حيث كان «رمبرانت» و«هالز» يصنعان مجدهما - وزار إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا، وأتيحت له فرصة التعرف على كبار فناني العصر مثل رمبرانت وهالز وفيلا زكويز وبيرنيني الذين لم يؤثروا في فنه تأثيرا يذكر. أشهر لوحاته هي لوحة «السلام في مونستر» التي يصور فيها أهم الشخصيات التي التقت في هذه المدينة الألمانية لتوقيع معاهدة فيستفاليا (15 مايو 1648م) التي وضعت نهاية لحرب الثلاثين المدمرة. (1) فرانس فرايهيرفون جودي (
Franz Freiherr Von Gaudy ) (1800-1840م)
ولد الشاعر الألماني في مدينة فرانكفورت على نهر الأودر (بجمهورية ألمانيا الديمقراطية) ومات في برلين. ينحدر من أصول اسكتلندية، وكان أبوه قائدا بالجيش. درس في الكلية الفرنسية، ثم في مدرسة البلدية في مدينة «بفورتا». عمل ضابطا بالجيش البروسي، ثم لم يلبث أن اعتزل الخدمة العسكرية سنة 1833م. كتب الشعر والقصة القصيرة. وقد ظهرت قصيدته هذه عن لوحة جيرارد تيربورش «تحذير أبوي» في المجلد التاسع من مؤلفاته الكاملة التي نشرها أ. مولر، وصدرت في برلين سنة 1844م وذلك مع مجموعة أخرى من القصائد التي استوحاها من صور وأعمال فنية ص10-85. «تحذير أبوي»
الفارس يسند ظهره على كرسيه المريح،
الساق على الساق، والقبعة على حجره.
العاصفة التي اختزنها من وقت طويل
تنطلق على رأس ابنته. «هل ظننت، لأنني سكت،
أن من الممكن أن يضحك أحد علي؟»
أيا ما كان الأمر،
أنا لم أعد أصبر على هذا.
من هذا الرقيع الذي يمثل دور الراعي
أمام بيتي اثنتي عشرة مرة كل يوم؟
وعلى نحو مزر يقلب عينيه
ويطرف بهما نحو مخدعك؟
هذا الذي تحالف مع القطط
ليفسد نومي كل ليلة؟
تهزين رأسك؟ ألم تسمعي شيئا؟
حتى الموتى أيقظهم صوته.
ما اسمه؟ هل تعترفين؟
ماذا يبغي الوقح المدلل؟
تهزين رأسك؟ لم تريه؟
صاحب الشارب الكبير؟ أبدا أبدا؟
من كان ذلك الشاب
الذي سلمك الخطاب في الكنيسة؟
تهزين رأسك؟ لم تقرئي شيئا؟
وتصورت أن أباك نائم على أذنيه؟
ولماذا لا تلبسين ثياب البيت؟
هل سيمر النبيل «بارت» الآن؟
تهزين رأسك؟ ليكن في علمك
أن الثوب الحرير لا يلبس إلا في الأعياد.
يحتبس صوت الأم فتخفي أنفها
في الكوب وهي تتمتم بالدعوات.
وترشف نبيذ الراين من الكأس
قطرة قطرة كأنه دواء.
الأم الشابة خجلى، أقسم على هذا،
وقد رشاها العاشق المتيم من زمن طويل؛
لأن من يريد إغواء الابنة
يجد من الحكمة أن يبدأ بالأم.
تختنق العذراء وتنشج باكية،
تنظر للأرض وتسكت مهما قال الأب.
هل تجدي الموعظة وتثمر؟ أرجو هذا،
لكن في رأيي لن يتغير شيء!
الفصل الرابع والعشرون
محاضرة في علم التشريح للدكتور تولب
لوحة للفنان رمبرانت فان رين (
Rembrandt ) (1606-1669م) رسمها حوالي سنة 1632م، وهي محفوظة في متحف موريتسهويز، الهاج. ورمبرانت واحد من أعظم الفنانين في كل العصور، وأغزرهم إنتاجا، وأقدرهم على تحليل النفس البشرية والتعبير عن خفاياها وهواجسها وهمومها. ولد في مدينة ليدن غداة حصول هولندا على الاستقلال، وكان أبوه طحانا. قضى حوالي العام في جامعة ليدن، وتعلم على يدي رسام يدعى «سواننبورج»، ثم عاما آخر على يدي الرسام بيتر لاستمان (من سنة 1624م إلى سنة 1625م)، الذي تعرف عن طريقه على فن الباروك المبكر، كما تأثر بكل من كارافاجو (1573-1610م) وإلزهيمر (1578-1610م) ويبدو أنه نضج في سن مبكرة بحيث تتلمذ عليه الرسام «دو» (1613-1675م) الذي اشتهر برسم مشاهد الحياة اليومية وأثرى من ورائها (بين سنتي 1628 و1631م)، عندما انتقل رمبرانت إلى أمستردام واستقر فيها.
ترجع أولى لوحاته المعروفة إلى سنة 1626م، وهي تشهد على اهتمامه بالضوء وتعمقه في أسرار الشخصيات التي رسمها، واختار معظمها من العلماء، مثل لوحتيه عن «نزاع العلماء»، و«عالم في حجرة عالية السقف». وقد لفت إليه الأنظار بعد انتقاله إلى أمستردام بهذه اللوحة عن «درس التشريح للدكتور تولب» (1632م)، التي رسمها بتكليف من اتحاد الجراحين، وهي محفوظة في متحف ماوريتزهويز في مدينة الهاج. وذاعت شهرته بعد الانتهاء من هذه اللوحة كرسام دقيق التعبير عن الوجه الإنساني (البورتريه). وبدأت التكليفات تنهال عليه من شخصيات المجتمع المرموقة (مارتن داي وزوجته، جان بيليكورن مع ابنه ومع زوجته وابنته)، بجانب لوحتيه عن رجل مجهول والمرأة ذات المروحة.
تزوج سنة 1634م من «ساسكيا فان إيلنبورخ» التي أتاحت له رخاء العيش ووثقت علاقته بالطبقة الراقية، فسجل هذه النعم في أكثر من لوحة رسمها لنفسه معها أو لها وحدها. ولكن الزوجة المحبوبة لم تلبث أن ماتت سنة 1642م وتركته مع ولده الوحيد منها «تيتوس» الذي خلده في أكثر من صورة. وفي السنة نفسها رسم لوحته الشهيرة التي عرفت باسم «الحراسة الليلية»، التي جمع فيها عددا من وجوه المتطوعين للدفاع عن أمستردام (كتيبة الكابتن فرانز كوك، متحف ريجكزموس في العاصمة الهولندية).
وقل الطلب عليه ابتداء من سنة 1642م، حتى أحكم الإفلاس قبضته الخانقة عليه سنة 1656م، وأنقذته هينريكه ستوفلس - التي وظفته عندها، وعاش وابنه معها منذ سنة 1660م - من ورطته مع الدائنين. وفي هذه الفترة من حياته اتجه إلى رسم الموضوعات المستوحاة من الكتاب المقدس (مثل لوحته التالية عن داود أمام الملك شئول)، وتصوير المناظر الطبيعية ودراسة وجوه اليهود الذين كان يعيش وسطهم، ومن أهمها روائعه التي تتجلى فيها قدرته على سبر أغوار شخصياته مثل التاجر اليهودي (1650م)، واليهودي العجوز على كرسي مريح (1652م).
أما عن لوحاته الشهيرة التي صور فيها نفسه بين سنتي 1629م وسنة 1669م - وهي تبلغ نحو الستين لوحة - فتسجل كل مراحل حياته ولحظات معاناته بتعمق نفسي لا يجاريه فيه فنان آخر، وراحت العروض تنهال عليه في أواخر عمره من جهات عديدة، فأنجز مجموعة من أهم صوره مثل «درس التشريح للدكتور دايمان» (1656م)، و«مؤامرة الباتافيين» (1661م لقاعة مجلس المدينة، وهي محفوظة في المتحف الأهلي باستوكهولم)، و«صناع اتحاد النساجين» التي تعد من أعظم مجموعات (البورتريه) في تاريخ الفن (متحف ريجكس بأمستردام)، و«شمل الأسرة» التي أثرت جميعها على معاصره فرانز هالز في شيخوخته البائسة، وعلى أجيال الفنانين من بعده تأثيرا لن يخمد أو يموت. (1) مانويل ماتشادو (1874-1947م)
انظر ترجمته مع لوحة «الربيع» لبوتيتشيللي. «رمبرانت، محاضرة في علم التشريح»
أعداء النور، الذين يسكنون الأركان والأحشاء،
يظهرون على السطح أول مرة؛
رؤى عاتية ورؤى ناصعة
عن الحقيقة المخيفة، وصور من هول المحرقة.
ألوان بلون الورد، والعاج، والحجر،
قرمزية دافئة وصفراء ناصعة صافية،
تركت أضرحة القديسين الذهبية،
لتتحول هنا إلى دم وشحوب جثث وصديد.
هكذا كان رمبرانت، الذي بلغت شهرته العالمين،
ريشة وحشية راجفة من شدة التوتر،
فنان، جن كثيرا، لكن جبار.
وهكذا قهر رمبرانت النور والظلام.
الألم تلقى أول صوره،
والبؤس تلقى رسامه في روعة وكبرياء.
الفصل الخامس والعشرون
داود يعزف على القيثار أمام الملك شئول
اللوحة لرمبرانت (1606-1669م) (انظر ترجمته السابقة مع لوحته محاضرة في علم التشريح). (1) هيرمان كلاوديوس (
Hermann Claudius )
ولد الشاعر الألماني سنة 1878م في بلدة لانجنفيلد بالقرب من ألطونا في شمال ألمانيا. كان أبوه يعمل في السكك الحديدية، وهو حفيد الشاعر الصوفي الكبير ماتياس كلاوديوس. اشتغل معظم حياته بالتدريس في المدارس الشعبية في مدينة هامبورج، ثم اعتزل التعليم في أثناء الكابوس النازي لرفضه السماح لتلاميذ مدرسته بإلقاء الأناشيد النازية. كتب الشعر والقصة، واختير عضوا في أكاديمية إيرفورت للعلوم والفنون (بجمهورية ألمانيا الشرقية) سنة 1956م، وقد استوحى الشاعر هذه القصيدة من لوحة رمبرانت بعد مشاهدته إياها سنة 1930م، وتحت تأثير تجربة عاطفية مر بها في ذلك الحين. أما عن الحكاية التي تقوم عليها هذه القصيدة والقصائد التالية، فارجع إلى سفر صمويل (1، 16، 14-23، 18، 6-16، 10). «لوحة رمبرانت في الهاج»
والملك شئول تكلم وقال: غنني يا غلام!
وتناول داود القيثار، عزف وغنى،
وغنى وعزف على القيثار.
وشدا شدوا عجبا عن أيام طفولته السعيدة،
عن أفراح بهرت عينيه، عن دمه،
عن أشواق صحت في الليالي الخرساء،
عن جمال حبيبته، عن نهديها - وهما أشبه بالكرمة في وادي إنجادي -
عن خصلات شعرها المضطرب الأمواج،
عن كل مفاتن جسدها -
وشد على القيثار وعزف وغنى،
عن قوة رجولته الشابة الرزينة
التي تدفقت في عروقه كعصارة العنب الناضج -
عن قمم أحلامه الجسورة،
عن شرف الرجل، نضال الرجل ومجده -
وشد على الأوتار وغنى
بشقاء شعبه ونعيمه،
وعزف وغنى عن رسالة شعبه،
وعزف وغنى عن إله شعبه -
وغنى وغنى واجتر سعادته.
ونسي الملك المتجهم كل النسيان.
أما هذا فكان يجلس على عرش جلاله وقوته،
ورداؤه الملكي يسطع في الظل الكثيف.
كانت يمناه تقبض على الرمح.
وبيسراه رفع الرداء إلى جبهته المقطبة.
هكذا جلس بعين واحدة. والعين اتقدت بالشرر.
نظر في نفسه ورأى الموت أمامه.
ورأى الموت وسمع صوته
أجوف وكثيفا كالصوت الخارج من قبر: «هات الرمح وانزل عن عرشك
أيها الرجل العجوز!»
وفجأة طار رداؤه.
يده اليمنى رمت الحربة،
والقيثار تأوه من ألم الجرح.
لكن في الشارع وأمام الأبواب
كان الشعب يهتف: «مبارك الملك داود،
المجد لداود!» (2) صوفوس ميخائيلس (
Sophus Michaelis ) (1865-1932م)
ولد الشاعر الدنمركي في «أودنسه» ومات سنة 1932م. كان أبوه عاملا يدويا فقيرا، وقد درس الأدب الفرنسي وتاريخ الفن، ونشر الأشعار والقصص والمسرحيات بجانب كتب ودراسات عن الفنانين المعاصرين. ولا بد من أن أسفاره ورحلاته العديدة قد ساعدته على استلهام قصائده الكثيرة عن الصور التي شاهدها في المتاحف ودور الفن المختلفة. ظهرت هذه القصيدة مع قصيدته عن تمثال العبد المحتضر لمايكل أنجلو في مجموعته الشعرية التي صدرت في كوبنهاجن سنة 1917م، ص81. «داود يعزف على القيثار أمام شئول» - الآن سأضفر أنغامي
كي أملأ روحك بغنائي،
وسيخطر قلبك مرتعشا
تحمله موجة قيثاري،
ويدي ستحرك بدهاء
جنة أوتاري الشمسية،
وسينبع يا ملكي نهر
بدموع العين ويفتر،
من نبع الروح الأبدية،
قل لي هل تشعر بالبحر
يرتفع ويهدر من لحني؟
أتطارد شيطان الشر،
في صدرك عاصفة الفن؟ - قيثارك ينشج أغنية،
فيؤجج لوعة أحزاني
ويرطب بالدمعة عيني
ويحرك شوقي وحناني،
كم قدت السفن إلى الحرب،
وهزمت الموت مع الرعب!
هل تلعب يدك بوترين،
فتشق فؤادي نصفين؟
أيامي انسكبت كالماء،
والفرحة غاضت من نفسي،
والألم مقيم كالداء،
وغناؤك لا يدفع يأسي.
يا ولدي الملعون توقف!
عن طعن الجرح بأنغامك؛
فالحربة في كفي ترجف ،
والرمح يهم بإعدامك. - هبطت عاصفة في القيثارة أو إعصار،
نفذ الرمح الطائش في الحائط كالمسمار،
لم يقطع قلب العازف مزق أحد الأوتار!
أخذت كل الأنغام لرائعة الصوت
ترضع من قلب ينزف دقات الموت،
ارتفع الماء وفاضت أغوار النبح
رنت في الليل الحالك موسيقى الدمع! (3) ستيفان جورجه (
Stefan George ) (1868-1933م)
ولد الشاعر الرمزي الكبير في «بوديهايم » بالقرب من مدينة «بنجن»، ومات في مدينة «لوكارنو». كان أبوه تاجر نبيذ، وقام برحلات وأسفار عرفته على الكنوز الطبيعية والفنية في إنجلترا وسويسرا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا. اشتهرت «الحلقة» التي كانت تجمع حوله عددا كبيرا من المريدين والمعجبين من كتاب وشعراء وفلاسفة وفدوا عليه من مختلف البلاد الأوروبية، وتأثروا به تأثرا كبيرا في الربع الأول من القرن العشرين، يشبه تأثر السالكين بشيخهم والأتباع بطقوس معلمهم وكاهنهم.
ظهرت هذه القصيدة أول مرة سنة 1907م، ثم نشرت في سنة 1931م في ديوانه «الخاتم السابع»، ص46، ثم أعيد طبعها وظهرت في مؤلفاته الكاملة التي صدرت سنة 1958م في دوسلدورف وميونيخ عن دار النشر هلموت كوبر. «الملك وعازف القيثار»
العازف:
لما جذبت الرداء أمام وجهك،
أدركت بأنك تخفي دمعة،
وأن نظرة سيدي إلي غير مستريحة.
إن كنت اليوم لا تكلم عبدك،
فكيف يأخذك الغضب على من دعوته
ألا يتركك ولا يتخلى عنك غناؤه.
هل رجع الشعب الجاحد لتذمره؟
أم إن الكهنة المتغطرسين يهددونك؟
الآن عرفت:
النصر يثير حفيظة الإله الغيور.
ما دامت تتجسس على عاري،
فاسمع ما يحنقك ولا يخلق بك:
أكثر من الأعداء الذين سميتهم والذين أصمد لهم أجمعين.
يدمرني من يريد الحب، وهذا هو أنت.
فاحمل أنت كذلك نصيبك الذي لا يبدله أحد.
يا من أحب ألا أفتقده، ويا من أكرهه،
من لا يعلم كم يملؤني سما.
سيفي درعي الذي لم يزل السائل المخيف ملتصقا به،
تطرق أنت عليه إلى أن يسمعك صليله.
في الماء تلقيه حتى يرقص ويثر دوائر
أشبه بضربة اختارها للقضاء النازل.
ثمرات حقولي - التي راحت تنضج جاهدة
عبر مواسم الصيف الطويلة -
تمر عليها وتنفضها بغير اكتراث،
وترطب فمك الشبعان بواحدة منها .
وعذابات ليالي المحمومة
يذروها في ريح النغم الهامس.
وخواطري القدسية التي تلتهم حياتي
تبددها في الهواء فقاعات ملونة،
وحزني الملكي الجليل تصهره وتذيبه
بعزفك الملعون في نغم باطل. (4) رينيه ماريا رلكه (
Rainer Maria Rilke ) (1875-1926م)
هو الشاعر الألماني الأشهر. أعذب صوت تردد عن محنة الوجود وسره في الربع الأول من القرن العشرين. ولد سنة 1875م في مدينة «براغ»، وقام بدور الشاعر الجوال في بلاد كثيرة (من بينها مصر)، حتى مات سنة 1926م في فال - مونت بواليس بمنطقة الألب السويسرية. درس الأدب وتاريخ الفن والفلسفة (وتأثر بوجه خاص بأب «الوجودية» كيركجور)، واهتم طوال حياته بالفن والفنانين، واستلهم العديد من قصائده الغنائية، فتعرف أثناء إقامته في روسيا على الرسام ليونيد باسترناك، وتزوج المثالة كلارا فيستهوف، وعمل سكرتيرا للمثال الفرنسي الشهير رودان الذي ألف عنه كتابا. وأتاحت له إقامته في باريس منذ سنة 1952م أن يتردد على اللوفر، وأن ينطبع وجدانه بروائعه فضلا عن روائع سيزان وكوكوشكا وباول كليه، اللذين جمعت بينه وبينهما الصداقة، وأن يكتب المرثيات الخمس الأولى من مرثياته الثماني المشهورة إلى دونو عن لوحات «بيكاسو»، كما أثمرت زيارته القصيرة لمصر عن عدد من روائع قصائده التي تعكس انبهاره بأسرار النحت المصري. وقد نشرت قصيدته داود يغني أمام «شئول» ضمن مؤلفاته الكاملة دار النشر إنزيل، 1955م، المجلد الأول، ص488-490. «داود يغني أمام شئول»
1
هل تسمع يا ملكي عزفي على القيثار
وكيف يلقي بنا في أبعاد نجوس فيها؟
النجوم تدفعنا فنتصادم في اضطراب،
ثم نسقط في النهاية كما يسقط المطر،
وتزدهر الأرض حيث تلمسها قطراته.
تزدهر الفتيات اللائي عرفتهن،
واللائي أصبحن الآن نساء يغرينني،
رائحة العذارى يمكنك أن تحسها،
والفتيان يقفون - وقد أسقمهم التوتر واللهاث -
على أبواب تتكتم الأسرار.
ليت ألحاني تعيد إليك كل شيء،
لكن نغمي يترنح سكران.
لياليك، يا ملكي، لياليك،
وكم كانت تلك التي هدتها قواك!
آه كم كانت تلك الأجساد جميلة.
تذكاراتك أحسب أني أصحبها وأناجيها؛
لأني أشعر.
لكن أي الأوتار سيقدر
أن يطلق منها آهات النشوة،
أو آهات الحسرة.
2
يا ملكي، يا من ملكت كل هذا ،
ويا من بصرف الحياة
قهرتني وغمرتني،
تعال من فوق عرشك وحطم قيثاري،
قيثاري الذي أرهقته وأضنيته.
إنه ليشبه شجرة مضمحلة.
خلال الأغصان التي حملت لك الثمار،
تطل الآن أعماق، كأنها لأيام آتية،
وأنا لا أكاد أعرفها.
لا تتركني أسقط في نومي
بعد اليوم على قيثاري.
تأمل هذه اليد، وهي يد غلام،
أتعتقد، أيها الملك، أنها عاجزة،
عن أن تعزف على مفاتيح جسد؟
3
يا ملكي، مهما تتخف في الظلمات،
فما زلت تحت رحمتي.
انظر، أغنيتي الراسخة لم تتصدع،
والمكان من حولنا سيلفنا ببرودته.
قلبي اليتيم وقلبك المضرب
معلقان في سحائب غضبك،
يعضان بعضهما في جنون،
ويشتبكان في قلب واحد كما يشتبك مخلبان.
أتحس الآن كيف نغير أشكالنا؟
ملكي، يا ملكي، إن الثقل ليصبح روحا.
آه لو أمكننا أن نتماسك،
فتتشبث أنت بالجديد وأنا بالقديم،
عندئذ نصبح كالفلك الدائر.
الفصل السادس والعشرون
بروميثيوس في متحف مدريد
الصورة للفنان الإسباني جوسييه أو خوزيه ريبيرا
Ribera (1591-1652م) الذي ولد بالقرب من فالنثيا، وتعلم - فيما يرجح مؤرخو الفن - على يد الفنان الواقعي ريبالتا (1565-1628) قبل سفره إلى إيطاليا وإقامته في نابولي ابتداء من سنة 1616م. يتميز أسلوبه في رسم أعماله المبكرة بامتزاج الواقعية الإسبانية بمثالية الإنتاج الفني في ذروة عصر النهضة، مع النزعة الدرامية واختيار الموضوعات التراثية والأسطورية، واستخدام أسلوب التضاد المفرط بين الضوء والظل في تنفيذ هذه الموضوعات التي اتسمت في الغالب بالقسوة والتكلف، على نحو ما ترى في هذه الصورة عن بروميثيوس، سارق النار من الآلهة وصانع البشر في الأساطير الإغريقية. ولكن هذا الأسلوب سرعان ما تحول إلى النعومة والرقة وإبراز كتل الضوء في بحر الظلام الداكن، ولعله قد تأثر بالفنان الإسباني (البرتغالي الأصل) فيلاسكويز (1599-1660م) الذي زار نابولي في سنة 1630م.
حظيت أعمال ريبيرا بشعبية واسعة في إسبانيا؛ إذ قدمت موضوعات إسبانية صميمة مما شاع تناوله في الحركة الفنية التي جاءت بمثابة رد فعل على ثورة الإصلاح الديني، واهتمت بتصوير القديسين والقديسات بأطوالهم الممتدة وسماتهم المميزة، وتقديم مشاهد من عذاب السيد المسيح، وحياة الرسل والقديسين مفعمة بالعاطفة والإيمان . ويبدو أن مدرسة نابولي الفنية - التي يوصف أعضاؤها بأصحاب الرسوم المعتمة - تدين لريبيرا بأكثر مما تدين لكارافاجيو. (1) تيوفيل جوتييه (
Théophile Gautier ) (1811-1872م)
ولد الشاعر الفرنسي في بلدة تارب، ومات في بلدة نويي بالقرب من باريس. وهو شاعر، ورسام، وكاتب روائي ومسرحي، وناقد. ساعدته رحلته التي قام بها إلى إسبانيا سنة 1844م على اكتشاف المصورين الإسبان زورباران، وموريللو، وريبيرا وفالديس ليال، فكتب قصائد عن أعمالهم نشرت في فبراير سنة 1844م في مجلة باريس. ظهرت قصيدته عن صورة بروميثيوس التي كتبها في مدريد سنة 1870م في مجموعة شعرية بعنوان «أشعار أولى» ص321. «بروميثيوس في متحف مدريد»
آه! مقيد هو على صلبان القوقاز،
هذا التيتان
1
الذي نهب لنا السماء
من قمة «جلجتته»
2
يسب الآلهة،
ويسخر من الأوليمبي
3
الذي سحقته صواعقه.
لكن عندما يقترب المساء، يتكئ على قاعدة الصخرة،
التي ينكمش عليها ذلك الجسور العظيم،
سرب من حوريات البحر، عيونهن مغرورقة بالدموع،
يتبادلن معه زفرات الشكوى والأنين.
وأنت يا ريبيرا، أيها القاسي، يا أقسى من جوبيتر
4
تسيل من جنبيه المجوفين بطعناتك المخيفة
ما يشبه شلالات الدم والأحشاء!
وتظل تطارد جوقة فتيات البحر،
وتترك اللص الجليل، سارق الشعلة المخصبة،
وحيدا في الظلام العميق يصرخ ويصيح!
الفصل السابع والعشرون
بسيخة المهجورة أمام قصر أيروس
صورة للفنان كلود لوران
Claude Lorrain (1600-1682م) رسمها سنة 1664م، وهي محفوظة مع مجموعة لويد. ولوران رسام فرنسي عرف بروحه الشاعرية في تصوير المناظر الطبيعية. ولد بالقرب من مدينة نانسي، وتدرب في بداية حياته على طهي الحلوى، ثم سافر إلى إيطاليا حوالي سنة 1613م وعمل هناك (جرسونا) عند الفارس داربينو ومصور المناظر الطبيعية أجوستينو تاسي الذي رعاه وسمح له بالتتلمذ عليه (من سنة 1620م حتى سنة 1625م)، واتخذه بعد ذلك مساعدا له. وذاعت شهرته في رسم المناظر الطبيعية ابتداء من سنة 1630م، وكان تأثير «تاسي» وأقطاب المدرسة (المانيرية) (راجع ما ذكره عنها في ترجمة برنيني) مثل ألزهيمر والأخوين بريل لا يزال واضحا عليه؛ فقد كان يواصل تراث هذه المدرسة في تقسيم اللوحة إلى مساحات يلون الأمامي منها بالبني الميال إلى الاخضرار الكابي، والأوسط بالأخضر الفاتح. والبعيد بالأزرق مع اللجوء (للكواليس) أو الأشجار والأنهار والتلال والأحراش على جانبي الصورة لخلق الإيحاء بالمكان غير المتناهي. وقد ظل التكوين عنده ثابتا لا يكاد يتغير؛ كتلة ضخمة من الأشجار على جانب من الصورة، توازنها كتلة أقل حجما على الجانب الآخر، ومساحة الوسط يشغلها ملمح صغير يمكن أن يكون جسرا أو قصرا أو مزرعة، ثم المساحة البعدى التي يشغلها عند طرف الأفق البعيد الغارق في الضوء الذهبي أشجار وتلال وأنهار، وحتى صوره التي رسمها للبحر والموانئ والشحن ... إلخ. لم يتغير فيها التكوين الذي زاد عليه تصوير انعكاسات الضوء على الماء، أو إضافة أشكال بشرية صغيرة تبدو كما لو كانت جزءا من الطبيعة، أو مستغرقة بمآسيها وأحزانها في لا نهائية الضوء والفراغ وشاعرية الرؤية (مثل شخصية بسيخة التي تراها في هذه الصورة ضائعة وحيدة). (1) بيير جان جوفيه (
Jouve ) (1887م-...)
ولد الشاعر الفرنسي في مدينة أراس، وتحول إلى الكاثوليكية منذ سنة 1924م. كتب الشعر والرواية والقصة القصيرة، وله ترجمات عديدة ودراسات عن الرسامين الفرنسيين في القرن التاسع عشر مثل ديلاكروا وكوربيه وميريون. تأثر في أفكاره وكتاباته بالشاعر والمتصوف الإسباني (القديس) سان خوان ديلا كروز (1542-1563م)، وبمؤسس التحليل النفسي الفيلسوف فرويد. وقد شاهد الشاعر لوحة كلود-لوران في باريس، كما شاهدها في معارض عديدة لروائع الفن الفرنسي. «بسيخة المهجورة أمام قصر أيروس»
أيها الجمال الأخضر! أيمكن أن تموت؟
نور الحزن حريق مظلم فوق البحر،
ينداح مع المراعي الخضراء.
مردة يتفكرون في ثنايا أشجارهم الملتفة
التي لا تنسى،
والجبال الصخرية تتلاشى،
ويسود مذاق الموت المتميز،
وحش البحر المفعم بالأسرار،
السيل العاري ذكرى خالدة في القلب،
يحرك الوحش الأخضر في الصدر
الذي تشقه على البعد أشرعة علامات بيضاء،
وبسيخة مركب معتم مملوء بالوعود،
بيدين مرتخيتين، بقدمين مثلجتين في العشب،
تجلس مع خرافها الهائمة هنا وهناك،
المنهمكة في التهام يأس المراعي.
وانظروا؛ وحش، قسوة على هيئة مبنى،
قصر الدفء العطر الليل والظلال،
كوم ركام الحب وقد نزل عليه عقاب الصاعقة،
كهف الإبطين الأسود حيث يقيم
ذلك الذي أحبته، الخائن ذو العين الجميلة كاللؤلؤة،
ذو الأعضاء التي يتصاعد منها الدخان على الدوام،
وذو التنين
المغطى بالدم، بالصمغ، بالدموع،
ذلك الذي أحبته! والذي خرق المركب البديع.
الفصل الثامن والعشرون
آمور وبسيخة
الحب والنفس
النحت للمثال السويدي «يوهان طوبياس فون سيرجل»
Sergel (1740-1814م). تعلم في استوكهولم وباريس، وعاش في روما من سنة 1767م إلى سنة 1778م حيث انتقل من أسلوب عصر الروكوكو الذي كان متأثرا به إلى الأسلوب الكلاسيكي. له تماثيل نصفية ومجموعات نحتية ونصب تذكارية (مثل تمثال الملك جوستاف الثالث في استوكهولم) بجانب رسوم ساخرة. وآمور أو كوبيدو في اللاتينية هو إله الحب عند الرومان الذي يقابل إيروس عند الإغريق. وقد كان في الأصل قوة كونية عملت على تحويل العماء والاختلاط (خاءوس) إلى عالم منظم، ثم اتفق فيما بعد على أنه هو ابن آريس (إله الحرب)، وأفروديت (إلهة الحب والجمال التي تقابل فينوس عند الرومان). كما صور في صحبة أمه على هيئة صبي مجنح يحمل قوسا وسهاما يسددها إلى قلوب المحبين! أما حبيبته أو زوجته فهي في الأساطير الإغريقية بسيخة، ولعلها كانت - كما تروي حكاية أبوليس - ابنة ملك امتحنتها فينوس بشتى المحن والآلام حتى استحقت أن تصبح حبيبة آمور. وبسيخة (النفس) ذات تاريخ طويل في الحياة العقلية اليونانية من فجرها قبل سقراط حتى الأفلاطونية المحدثة، ويهمنا هنا أنها مع حبيبها وزوجها قد ظلت موضوعا أثيرا يجسمه ويصوره الفنان منذ العصور القديمة وحتى عصرنا الحاضر (المجموعات الرخامية في متحف الكابيتول بروما، وتماثيل ليزيب وكانوفا وتورفالدسن وبيجا ورودان، ولوحات رافاييل وروبنز وتيسان وكوكوشكا وأوبرا وباليه الموسيقى لولي). (1) هجالمار جولبرج (
Hjalmar Gullberg ) (1898-1961م)
ولد الشاعر السويسري في مالو، ومات غرقا سنة 1961م في بحيرة إدنجن. نشأ مع أسرة عمالية تبنته منذ الصغر ودرس تاريخ الأدب. كتب الشعر وله ترجمات مختلفة، وقد خلف الكاتبة السويدية الشهيرة سلمى لاجرلوف في عضوية الأكاديمية السويدية. كتب أثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945م) قصائد عديدة عن الصور والأعمال الفنية التي أجليت عن المتحف الأهلي في استوكهولم. نشرت هذه القصيدة في الجزء الرابع من مجموعته الشعرية الكاملة التي ظهرت في استوكهولم سنة 1955م، ص98. وقد ترجمت الشاعرة الألمانية نيلي زاكس هذه القصيدة مع مجموعة مختارة من الشعر السويدي في القرن العشرين ، وظهرت سنة 1947م في برلين تحت عنوان (الموجة والجرانيت، ص98).
آمور وبسيخة «الحب والنفس»
إذن فهذه نهاية الحكاية
عن زواج لا تكافؤ فيه.
المرمر مفعم بالشكاة؛
إذ حانت ساعة الفراق.
راكعة على ركبتيها، هذه التي تعذبت
كما تتعذب امرأة من البشر،
ضارعة بذراعيها وعينيها:
يا عريس السماء! ابق معي!
قبل أن تخفت أصداء الشكاة
التي تطلقها الحبيبة بغير كلام،
يكون إله قد رفع جناحيه،
والقوم على أهبة الفرار،
على استعداد أن تحطم شظايا
المصباح الذي يكشف عن الجمال،
ويدوس بقسوة على فؤاد
قد ملأه الحب والوفاء.
لم يكن الدمع قد جف في عينيك - وذراعاك مرفوعتان للضياء -
شاهدت إلها علويا،
حرم على وجهك أن يلقاه.
الحزن الفاجع سيئودك حمله،
يا بسيخة، يا من اختلست بعض السرور،
وأنت تتملين نفحة من نعيم السماء؛
قربانا لعذابك طول الليالي.
الفصل التاسع والعشرون
إعدام الثوار
صورة للفنان الإسباني فرانشسكودي جويا (
Goya )(1746-1828م)، ترجع إلى سنة 1814م، وتوجد اليوم في متحف البرادو في مدريد.
توصف الصورة أيضا باسم (2 مايو 1808م)، وهي تصور مع توأمها - 3 مايو 1808م - كوارث الحرب وفظائع جنود نابليون الذي اجتاح إسبانيا سنة 1808م، وخلع ملكها فرديناند السابع عن عرشه ليضع مكانه شقيقه يوسف بونابرت! عرف «جويا» في تاريخ الفن بأنه آخر الكبار وأول المحدثين. وقد بدأ أعماله الأولى متأثرا برسوم «تيبولو» الحائطية، بينما تأثرت لوحاته للبورتريه أو الوجه الإنساني بالفنان «منجز» وفناني البورتريه الإنجليز في القرن الثامن عشر.
غير أن دراسته لأعمال المصور الإسباني بيلاسكويز - الذي خلفه جويا في عمله كمصور للبلاط الإسباني - قد عمقت أسلوبه المتميز باستيطان النفس ومشاعرها وهواجسها، وانتهت به إلى نوع مبكر من التأثرية؛ ولهذا كان له أكبر الأثر على المصورين الفرنسيين في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وخصوصا على «مانيه». والمهم أن الصورة تصور إعدام الفلاحين الإسبان الذين ثاروا على الحكم الفرنسي رميا بالرصاص في مدريد في فجر اليوم الثاني من مايو سنة 1808م. (1) إريك كنودسن (
Erik Knudsen )
ولد الشاعر سنة 1922م في سلاجيلز، من أعمال الدنمرك. كان أبوه معلما ، واشتغل مثله بالتعليم. كتب الشعر والمسرحية والمقال، وقصيدته التالية نشرت في مجموعة شعرية صدرت سنة 1958م. «نظام العالم»
ضعوا الأصابع في الأفواه! أغمضوا العيون!
لن يجديكم هذا شيئا!
الموت يصيب، الموت تحالف مع الليل،
هذا الليل الثلجي الأعمى،
الذي لا يشي بشيء، ولا يلد غير اعتقالات جديدة،
باسم النظام المقدس.
البعض عليهم أن يقتلوا. والبعض عليهم أن يموتوا.
وهؤلاء وأولئك لا يتغيرون.
وهنالك دائما إله، يزيل آثار الدماء،
ويسطع نوره دائما فوق أرض النسيان.
البعض عليهم أن يموتوا،
البعض عليهم أن يحلموا
زمنا أطول من الزمن
الذي تستغرقه طلقة بندقية.
وثمن الحلم هو هذه الليلة،
هذه اللحظة على الضوء الوحشي للمصباح،
حيث يتحطم العالم في صرخة. (2) مانويل ماتشادو
انظر ترجمته مع صورة «الربيع» لبوتيتشيللي. والقصيدة الآتية من مجموعته الشعرية التي ظهرت في برشلونة سنة 1940م بعنوان «شعر»، وقد كتبها سنة 1910م. «إعدام الثوار»
شاهد ما حدث ... الليل الأسود، نار الجحيم ...
عفن تنبعث رائحته من الدم والبارود والصراخ والأنين،
وأذرع ممددة في هذا الدوي؛
لتعبر عن آلام مهولة.
على الأرض مصباح لا يكاد يضيء،
نوره الأصفر ينشر الرعب،
صف البنادق الموجهة في وحشية ورتابة،
لا تكاد العين تراه.
نواح، لعنات .. قبل صدور الأمر بإطلاق النار
يتسع الوقت لأحد الرهبان لكي تتردد كلمته الورعة،
لكن أقصى ما يستطيع تبليغه،
هو أن من الصعب إرضاء الله.
الضحايا المقدمون للموت تثور نفوسهم غضبا.
رموش عيونهم مفتوحة على اتساعها،
لحمهم الأبدي يناول الأرض التحية. (3) فالترباور (
Walter Bauer )
ولد الشاعر سنة 1904م في بلدة ميرزيبورج الواقعة على نهر الزالة. كان أبوه عاملا، واشتغل من سنة 1929م إلى سنة 1939م بالتعليم في المدارس الابتدائية، ثم جند في الحرب العالمية الثانية. هاجر سنة 1952م إلى كندا حيث زاول مهنا مختلفة، وأقبل على الدراسة إلى أن أصبح أستاذا بجامعة تورنتو. كتب الشعر والرواية والقصة، خصوصا عن حياة المصورين الكبار من أمثال فان جوخ، مايكل وجورجون ومايكل أنجلو، ورمبرانت، وجويا، كما كتب التمثيليات الإذاعية وقصص الأطفال. نشرت قصيدته التالية الثاني من مايو في مجلة الأدب والرسم التي تصدر في مدينة هيدلبرج في يناير سنة 1973م. «الثاني من مايو» «الثاني من مايو»: الرجل ذو القميص الأبيض،
مثل المشعل المحترق، المتصلب،
قبل أن يهوي في الليل،
هكذا تموت الثورة، وهكذا يموت الشعب.
لأجل أي شيء؟
إنه يموت. لأجل أغلال جديدة. انظر إلى الصورة.
جويا المبصر والرائي. الرسام عين،
والنظرة المفتوحة، الباردة، القادرة مع ذلك دائما
على امتصاص كل شيء،
تتبعها اليد التي توزع الضوء والليل.
الفصل الثلاثون
أوديسيوس يسخر من بوليفيموس
للمصور الإنجليزي جوزيف مالورد تيرنر (
Turner ) (1775-1851م)، رسمها سنة 1829م، وهي موجودة في المتحف الأهلي في لندن (والصورة تقدم جزءا من اللوحة فحسب).
جوزيف مالورد وليام تيرنر (1775-1851م) من أعظم مصوري المناظر الطبيعية وأرقهم وأغزرهم إنتاجا؛ إذ يقدر عدد الصور التي تركها وراءه بثلاثمائة لوحة زيتية، وعشرين ألف رسم وصورة بالألوان المائية!
ولد في حارة العذراء «ميدين لين» في كوفنت جاردن (سوق الفاكهة والخضار في لندن)، وكان أبوه يعمل حلاقا. نبغ نبوغا مبكرا، فقبلته مدارس الأكاديمية الملكية الإنجليزية سنة 1789م. وعرض أعماله أول مرة سنة 1791م في هذه الأكاديمية التي غمرته طوال حياته بأفضالها؛ إذ اعترفت بعبقريته وحمته من بعض نقاد عصره وفساد أذواقهم، وضمته إلى عضويتها الكاملة سنة 1802م.
وكان في السابعة والعشرين من عمره، وعينته أستاذا للعلم المنظور فيها سنة 1807م، ثم اختارته في سنة 1845م نائبا لرئيسها. عمل لدى الدكتور مونرو - الذي كان طبيبا هاويا للفن، وحول بيته إلى أكاديمية لرعاية الفنانين الشبان - مع صديقه توماس جيرتين (1775-1802م) الذي أحدث ثورة في الرسم بالألوان المائية، وتعلم منه وساعده مساعدة كبيرة. واستمر في التصوير بالألوان المائية حتى سنة 1797م عندما عرض في الأكاديمية الملكية أولى صوره الزيتية التي تأثر فيها بأسلوب المدرسة الهولندية في القرن السابع عشر (فلوحته ضوء القمر على سبيل المثال شديدة الشبه بمناظر ضوء القمر التي تخصص فيها فان دير نير)، بيد أن التأثير الحاسم عليه قد جاء من أشهر رسامي المناظر الطبيعية على الإطلاق، وهم: الفرنسيان كلود لوران (1600-1682م)، ونيكولا بوسان (1594-1665م)، والإنجليزي ريتشارد ويلسون (1713-1782م)، مما نجد صداه في إحدى لوحاته البارزة التي رسمها في تلك الفترة (1803م) وهي «كاليه بير»، التي تميزت بروحها الشاعرية والرومانطيقية، وفتحت عليه بابا هبت منه رياح النقد اللاذع، وخصوصا من دكتاتور النقد الفني في عصره وهو السير جورج بومونت. بيد أن النقاد المنصفين سرعان ما وقفوا بجانبه، فبدأ السير توماس لورنس بالدفاع الحار عنه، ولما أوشك النقاد والجمهور على نسيانه، واتجه اهتمامهم إلى جماعة «السابقين على رافائيل» (انظر ما كتب عنهم مع صورة الربيع لبوتيتشيللي في ترجمة الرسام والشاعر الإنجليزي دانتي جابرييل روسيتي)، فوجئ بثناء جون راسكين (1819-1900م) عليه في الجزء الأول من كتابه عن الرسامين المحدثين (سنة 1843م). وقد كان راسكين ولا يزال واحدا من أكبر الأدباء وأعظم النقاد في تاريخ الفن بوجه عام، والقرن التاسع عشر بوجه خاص، على الرغم من كل ما يوجه إليه من اتهام بالشطط والتناقض والعاطفية وربط الفن بالأخلاق والدين. وقد جاءت المفاجأة من تحمس الناقد الأديب لفن تيرنر تحمسا ظهر في عنوان ذلك الجزء الأول من كتابه: «الرسامون المحدثون، تفوقهم في فن تصوير المناظر الطبيعية على كبار الفنانين القدماء جميعا. والتدليل على هذا بأمثلة مما هو حق وجميل وعقلي من أعمال الفنانين المحدثين، وخصوصا أعمال ج. م. و. تيرنر عضو الأكاديمية الملكية المبجل».
أوصى تيرنر بجميع صوره ولوحاته ورسومه - التي ذكرنا عددها في البداية - لتئول إلى ملكية الدولة، ومعظمها محفوظ اليوم في المتحف البريطاني والمتحف الأهلي ومتحف تيت في لندن. (1) جيمس إلروي فليكر (
James Elroy Flecker ) (1844-1915م)
عن لوحة تيرنر: أوديسيوس يسخر من بوليفيوس. ولد الشاعر الإنجليزي سنة 1884م ومات سنة 1915م في داغوس بسويسرا. عمل في قنصليات بلاده بالقسطنطينية وأزمير وأثينا وبيروت، وكتب القصة القصيرة والمسرحية بجانب ترجماته العديدة. وقصيدته هذه عن لوحة تيرنر التي رسمها سنة 1829م، ظهرت مع أشعاره الكاملة التي نشرها السير جون اسكوير في لندن سنة 1947م، ص34.
يلاحظ القارئ أن الصورة والقصيدة تعبران عن الأحداث التي رواها هوميروس في النشيد التاسع من الأوديسة (من البيت 105 إلى البيت 566) عن «الكيكلوب» الرهيب الذي دخل أوديسيوس ورفاقه كهفه، فراح يلتهم الواحد منهم تلو الآخر إلى أن تغلب عليه أوديسيوس بدهائه فأسكره، وغرس في عينه الواحدة قضيبا حديديا متوهجا بالنار، واستطاع أن يهرب مع رفاقه بعد أن ضلل الوحش عن اسمه، فأخذ هذا يصرخ ويستغيث برفاقه من العمالقة، مما فعل به (لا أحد) (انظر كذلك رواية أخرى عن حبه لحورية البحر جالاتيا مع صورة رافائيل عن انتصار جالاتيا التي هام بها هذا العملاق حبا، فداوت بالموسيقى والغناء عاطفته التي لم تستطع أن تستجيب لها. أما «ترنكاريا» المذكورة في السطر الثاني من القصيدة فهي اليوم صقلية التي كانت موطن «بوليفيم» أو «بوليفيموس» الذي ذكرنا حكايته مع السندباد الإغريقي الماكر. وأما عن «هيبريون» الذي يرد ذكره في السطر الثالث من القصيدة، فهو اسم يطلق على إله الشمس هيليوس، وقد جعله الشاعر الألماني هلدرلين (1770-1843م) عنوانا لروايته النثرية الوحيدة التي كتبها على صورة رسائل بين سنتي «1797-1799م») (راجع إن شئت كتابي عن هلدرلين، دار المعارف، القاهرة، سلسلة نوابغ الفكر الغربي، 1974م، ص88-94). «أوديسيوس يسخر من بوليفيموس»
يا رسام النهار، دع روحي المظلمة تطير
إلى مضيق مسينا في ترنكاريا،
لتشاهد خيول هيبريون الخالدة
وهي تندفع صاخبة على السلالم النارية،
لترى طلائع سفن الآخيين من جديد
وهي تنزلق بالقرب منها،
وأوديسيوس وهو في غليونه
1
المجلو
يتهكم بسخرية، والنيريديات
2
ينشدن له: إلى الأمام!
وعمالقة الكيلكوب المذهولون
يتلاشون في الأفق البعيد.
أيها المعلم، إنك ترسم عاطفة الأرض،
ترسم موسيقى مولدها، في نغم منتصر خافت،
ألق الأشياء التي ضاعت،
وروعة الأشياء التي طعنت في السن.
قدم لنا أغنية معزولة من القوة والوهج
عن الصباح الفتي الجناحين،
وبهجة الفرح الأكيد،
والذهب الساطع وندى الزنابق الرطيب.
الفصل الحادي والثلاثون
ميناء جرايفسفالد
يعد كاسبار دافيد فريدريش (
Caspar David Friedrich ) (1774-1840م) من أكثر مصوري الطبيعة تعبيرا عن الروح الرومانطيقية الألمانية بوجه خاص، والأوروبية بوجه عام.
تعلم في كوبنهاجن ومنعه الخوف من زيارة إيطاليا خشية ألا يغادرها أبدا إن وقعت عينه على روما! اهتم بالتعبير عن تأثير الضوء وتغير الفصول، ويوشك إحساسه بصمت الغاية وسكينتها ألا يكون له نظير، اللهم إلا عند «ألتدورفر» (1480-1538م) الذي صور الغابات وغمرها بعاطفته وشاعريته قبل عصر الرومانطيقية بزمن طويل.
عرض لوحته «صليب في الجبال» سنة 1808م، فأثارت الجدل حول صلاحية المناظر الطبيعية للتعبير عن الموضوعات الدينية. والواقع أن صوره تشف عن روح دينية وإن لم تقصد مباشرة إلى الرموز والشخصيات الدينية، ومعظمها محفوظ في متحف مدينة درسدن التي قضى فيها معظم حياته. أما هذه الصورة فهي محفوظة بالمتحف الأهلي ببرلين الغربية. وقد رسمها فريدريش حوالي سنة 1810م. (1) داجمار نك (
Dagmar Nick ) (1926م-...)
ولد الشاعر الألماني في مدينة برسلاو، ويعيش منذ سنة 1933م في برلين. درس بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في ميونيخ علم النفس وعلم الخطوط. نشر أربع مجموعات شعرية وثلاث مجموعات من المقالات، وله مسرحيات إذاعية وترجمات مختلفة. وقد نشرت هذه القصيدة أول مرة في كتاب الأستاذ جيسبرت كرانس: قصائد عن صور، مختارات شعرية ومعرض فني، ميونيخ، دار نشر كتاب الجيب، 1975م، ص205. «ميناء جرايفسفالد»
المراكب ساكنة، أمواج صغيرة
تطرق على ألواحها.
المساء يرسل أنفاسه من البحر،
الذي تتقطر في مياهه ألوان صفراء.
الساعة المتأخرة تجعل الأمور عسيرة.
الرائحة وحدها لا تزال تسبح في الهواء،
رائحة غريبة يمتزج فيها الزيت بالقار،
وهي العلامة المميزة لكل ميناء.
تحت الأشرعة المطوية تنعس القوارب،
أسكرها غروب الشمس فراحت تعانق الأحلام.
ومن مكان بعيد تتردد أصداء ضحك وغناء،
والأنغام الهامسة المنبعثة من قيثارة
تتحسس بأجنحتها الخفيفة طريق الشاطئ الطويل.
ومن السحب التي أخذت تذبل ويكسوها الشحوب
تستدير الريح مبتلة بالبحر؛
لتوازن نفسها وهي تعض الصواري.
الفصل الثاني والثلاثون
دير في غابة بلوط
الصورة للفنان كاسبار دافيد فريدريش (1774-1840م)، أعظم الفنانين الرومانطيقيين الألمان (راجع ترجمته السابقة مع لوحته عن ميناء جرايفسفالد)، وقد رسمها بين سنتي 1809 و1810م، وتوجد اليوم في متحف قصر شارلوتنبورج بمدينة برلين الغربية. (1) تيودور كورنر(
Theodor Körner ) (1791-1813م)
ولد الشاعر الألماني سنة 1791م في مدينة دريسدن، ومات سنة 1813م بالقرب من بلدة جاديبوش متأثرا بجرح شديد أصابه في مبارزة. وهو ابن كرستيان جوتفريد كورنر الذي كان صديقا للشاعر الكبير فريدريش شيلر، ودارت بينهما رسائل حميمة لها دلالتها على حياة شيلر وفكره وشعره. درس الشاعر هندسة التعدين والمناجم في فرايبرج، كما درس الحقوق والتاريخ والأدب والفلسفة في ليبزج وبرلين. طردته الجامعة سنة 1810م لأسباب سياسية، وأقام في فيينا من سنة 1811م إلى 1813م، وشارك في المسرح الشعري، ثم تطوع في جيش لوستوف البروسي الحر سنة 1813م، واشترك في حروب التحرير من قبضة نابليون، وجرت أناشيده وأغانيه على لسان الشعب.
ظهرت هذه القصيدة عن لوحة كاسبار دافيد فريدريش ضمن مؤلفاته الكاملة التي نشرها أ. فيلدينوف في ليبزج سنة 1913م، ص99. ويحتمل أن يكون الشاعر قد شاهد اللوحة في مرسم الفنان بمدينة دريسدن، أو في معرض الأكاديمية الذي أقيم سنة 1810م في برلين. وقد عرف فريدريش برسمه للطبيعة الميتة (أو الصامتة)، ولعل هذا هو الذي جعله يكتب هذه الأبيات التي يقول فيها: «سئلت لماذا تختار الموت لموضوعات رسومك، ولماذا تكثر من تصوير القبر والفناء؟ فأجبت: لكي تتسنى للإنسان حياة أبدية، فعليه في أغلب الأحيان أن يسلم نفسه للموت.» «دير في غابة بلوط» «طبيعة ميتة»
1
الأرض صامتة في حزن عميق عميق،
تسري فيها أنفاس الأرواح الهائمة في الليل.
أنصت لحفيف الريح العاصفة في شجر البلوط العجوز،
ونواحها المدوي خلال الجدران المتداعية!
فوق القبور يتمدد الثلج الكثيف،
متآخيا مع الأرض في هدوء، كأنما يريد أن يدوم للأبد،
والضباب المعتم الذي يلف الليل بالسواد،
يعانق العالم برذاذ الموت البارد.
القمر الفضي يطل وهو يرتع في شحوب،
عبر النوافذ الخربة في حنان وسكون،
وكذلك يخبو ضوء أشعته الناعم.
وبهدوء وبطء نحو قضبان باب الدير،
كما تتجول صامتة في الليل الأشباح،
يخطو موكب جنازة خطوات الأرواح.
2
وفجأة أسمع أعذب الألحان،
كأنها كلمات الله صبت في أنغام،
وأرى ضوءا كأنه ينسكب من الصليب،
يتوهج مع سطوع نجمي من بعيد.
هنالك يتبين لي من تلك الألحان،
أن نبع النعمة يتدفق في الموت،
وأن المباركين ببركة الله
هم الذين يمرون خلال القبر إلى النور الأبدي.
هكذا يخلق بنا أن نتأمل عمل الفنان!
فقد هدته ربات الفنون ورعته في حنان،
على أروع طريق نحو أجمل الأهداف.
هنا يحق لي أن أتشجع وأثق بفؤادي،
وما ينبغي علي أن أظهر الإعجاب في برود،
لا، بل علي أن أشعر، وفي الشعور يبلغ الفن الكمال.
الفصل الثالث والثلاثون
قاطعو الأحجار
لوحة للفنان «جوستاف كوربيه (
Courbet )» (1819-1877م)، وقد رسمها سنة 1849م، وظلت محفوظة في متحف دريسدن حتى أتلفت سنة 1945م.
كوربيه رسام واقعي تغلب عليه النزعة الطبيعية المتطرفة. آمن بالواقعية ودعا إليها، وهاجم الكلاسيكية «الأكاديمية» والرومانطيقية السائدة في أيامه بقسوة ألبت عليه النقاد، وسببت له المتاعب في حياته.
ولد في «أورنانز» بسويسرا بالقرب من الحدود الفاصلة بينها وبين فرنسا، ثم سافر إلى باريس سنة 1840م، وعلم نفسه بنفسه عن طريق نسخ اللوحات في «اللوفر» والتردد على المرسم (الأتيلييه) السويسري. اتجه إلى النزعة الطبيعية مع التأثر بفن مدرسة البندقية التي اهتمت بالتفاصيل الدرامية وتفاعل النور والظلال، وبأعمال كارافاجيو (1573-1610م) ببساطتها وواقعيتها التي ألهمت العديد من كبار الفنانين. استمد موضوعاته من الحياة اليومية ومعاناة الفقراء، وتصوير الوجوه والأجساد العارية، والحياة الساكنة والأزهار، ومناظر البحر والطبيعة التي تعكس في الغالب البيئة الجبلية بالقرب من مسقط رأسه في أورنانز، كما أدخل فيها أحيانا مناظر نساء عاريات، ورحلات صيد، وغزلانا وسط الثلج. غير أن شهرته ترجع إلى تصوير حياة الفقراء والكادحين من العمال والفلاحين، على نحو ما ترى في صورته هذه عن قاطعي الأحجار. وفي لوحته الكبرى «دفن الموتى في أورنانز» (رسمها سنة 1850م وتوجد في اللوفر) التي تضم أكثر من أربعين شكلا بشريا، ولوحته الضخمة «رسام في مرسمه» (1855م، اللوفر)، التي وصفها بعض النقاد بأنها «مانيفستو» (بيان) فلسفي!
كان كوربيه فيما يبدو شديد العداء للكنيسة ورجالها، وقد رفضت المعارض لوحته «العودة من المؤتمر» التي صور فيها قساوسة سكارى، ثم اشتراها كاثوليكي متعصب لكي يدمرها! وجلب على نفسه المزيد من الحقد والاضطهاد بتدخله في السياسة واشتراكه في ثورة 1848م الديمقراطية، وفي «كومونة باريس»
1
سنة 1871م، مما أثار غضب السلطة التي سجنته وحكمت عليه بغرامة مالية كبيرة عقابا له على دوره في تدمير نصب نابليون التذكاري في ميدان «فيندوم»، مما أدى في النهاية إلى هربه إلى سويسرا سنة 1873م، حيث مات بعد ذلك بسنوات قليلة.
يتهم كوربيه بعدائه للثقافة والمثقفين، على الرغم من روابط الصداقة التي جمعت بينه وبين الشاعر «بودلير» والفيلسوف والكاتب الاشتراكي بيير جوزيف برودون (1808-1865م صاحب العبارة المشهورة: «الملكية سرقة»، التي وردت في كتابه، ما الملكية؟ وصاحب الكتاب المشهور نظام التناقضات الاقتصادية، أو فلسفة البؤس الذي انتقده ماركس وشهر به في كتاب بؤس الفلسفة). وقد رفض كوربيه النزعة المثالية في الفن، كما أدان معها الكلاسيكية والرومانطيقية، وحقر من شأن الموضوعات الأدبية التي تستنفد جهود أصحابها بدلا من الاتجاه إلى الواقع، وتصوير العمال والفلاحين الذين اعتبر حياتهم أنبل موضوع يمكن أن يتناوله الفنان.
لم تلق أعماله بوجه عام - على الرغم من فوزه سنة 1849م بالميدالية الذهبية من معرض باريس - سوى التجاهل والنقد المرير. وقد عرض لوحاته عرضا مستقلا أثناء المعرضين الدوليين اللذين افتتحا في باريس عامي 1855 و1867م، محاولا بذلك أن يرد على الجحود والتجاهل الرسمي الذي فرض عليه، فلم يلق غير المزيد من التجاهل والجحود! وحال هروبه من فرنسا سنة 1873م دون التعرف من قريب على الحركة التأثيرية وحضور معرضها الأول الذي افتتح في باريس سنة 1874م (وشارك فيه عدد كبير من أعلامها مثل مونيه ورينوار وسيزان وديجا وسيسلي وبيسارو وجيومان وبودان)، والواقع أنه أثر على هؤلاء التأثيريين الذين اعترفوا بفضله، سواء بأسلوبه في تنفيذ المناظر الطبيعية أو في كراهيته للنزعة الأكاديمية والذهنية، أو في ضرب المثل لهم بإقامة المعارض الخاصة. وقد شابت أعمال كوربيه و«تقنيته»، أو أسلوبه في تنفيذها، عيوب فنية كثيرة - ليس أقلها اختياره لموضوعات واقعية ذات صوت ميلودرامي صارخ، وافتقاره للحساسية في ألوانه ولمسات فرشاته - ولكن يبدو أن عيوبه الشخصية والخلقية من غرور وسلاطة لسان وحدة طبع قد ساهمت بنصيب كبير في الجناية على حياته المضطربة البائسة. (1) رينيه شار (
René Char ) (1907م-...)
ولد الشاعر الفرنسي الكبير سنة 1907م في «ليل-سور-سورج» بمقاطعة بورفانس. ظل سيرياليا حتى سنة 1938م، وكتب الشعر كما كتب عن الفن. شارك في الحرب الأهلية الإسبانية ضد الفاشيين من أتباع فرانكو، كما شارك مشاركة فعالة في حركة المقاومة للاحتلال النازي لبلاده، وكان قرب نهاية الحرب العالمية الثانية في صفوف فرقة المظلات. ظهرت قصيدته عن لوحة كوربيه «قاطعو الأحجار» أول مرة سنة 1938م في ديوانه «في الخارج يحكم الليل»، ثم نشرت بعد ذلك في مجموعة أشعاره التي ترجمها إلى الألمانية شاعر كبير مثله هو باول سيلان.
2 «قاطعو الأحجار»
الرمل، القش، يعيشان حياة ناعمة،
النبيذ لا يتكسر عليهما،
من الحمام حصدا الريش،
من عنق الزجاجة أخذا اللسان الشره،
إنهما يعطلان كعوب الفتيات
اللائي يخرقان عرائسهن
على هيئة فراشات.
والدم الذي يستعذبان عذابه
يسقط في دعابة خفتهما.
نحن نلتهم طاعون النار الرمادية في كوم الحجارة،
وعندما تحاك الدسائس في المجلس البلدي،
نشعر فوق الطرق المهدمة بأنا في أحسن حال،
هنالك حيث الطماطم في البساتين،
تحملها إلينا الريح في غسق الفجر، «وتحمل معها» نسيان الخبث الذي نلقاه من نسائنا،
ومرارة العطش المنساب في ركبنا.
يا ولدي إن أعمالنا المغبرة بالتراب
سوف ترى هذه الليلة في السماء،
وها هو زيتنا الرصاصي يصحو من جديد.
الفصل الرابع والثلاثون
حقل القمح والغربان
اللوحة للفنان الهولندي الشهير فنسنت فان جوخ (
Vincent Von Gogh ) (1853-1890م)، وهي آخر لوحة رسمها قبيل انتحاره مباشرة في شهر يوليو سنة 1890م؛ فبعد أن فرغ من رسمها - بالقرب من بلدة «أوفير-سور-أواز» - أقدم على محاولة الانتحار في أحد حقول القمح، وأطلق الرصاص على نفسه، ومات متأثرا بجرحه بعد ذلك بأيام قليلة.
كان أبوه قسيسا، وعاش حياة متقلبة جعلته يتنقل بين بلاد ومدن عديدة. عمل في بداية حياته مع بعض تجار الصور واللوحات الفنية الذين كان يتعامل معهم شقيقه وراعيه «ثيو» بين الهاج ولندن وباريس. درس اللاهوت وقام بالتبشير بين عمال مناجم الفحم في حي بوريتاج ببلجيكا، وشارك هؤلاء العمال بؤسهم وشظف معيشتهم. لم يبدأ في ممارسة الفن إلا بعد أن طردته الكنيسة من بعثة التبشير (سنة 1880م)، فأخذ يعلم نفسه الرسم ويتنقل على مدى السنوات التالية بين بروكسل واتين والهاج ودرنته، وأثتفيرب التي حضر بعض دروس الرسم في أكاديميتها. ثم لحق بشقيقه «ثيو» في باريس، واتصل عن طريقه بالفنانين التأثيريين الذين تعرف على أعمالهم وربطت الصداقة بينه وبينهم مثل؛ تولوز-لوتريك، وبيسارو ، وديجا، وسورا، وجوجان الذي تبعه إلى مدينة «أرليس» سنة 1888م. وقد أصابه المرض العقلي منذ ذلك الحين، وأخذت الاضطرابات النفسية والعقلية تهاجمه سواء في المصحات العقلية، أو في أرليس وريمي، أو بعد انتقاله إلى أوفير-سور-أواز حيث مات منتحرا كما تقدم. بعد ستة شهور من وفاته لحق به شقيقه «ثيو» الذي كان فان جوخ قد كتب له مجموعة من الرسائل المطولة التي تكشف عن شخصيته وفنه وعذابه.
تتميز رسومه في المرحلة التي قضاها في هولندا بالألوان الداكنة والأشكال الراسخة، والموضوعات المستمدة من حياة الفلاحين وكدهم اليومي (مثل لوحة الحذاء الشهيرة!) ويبدو أن فترة إقامته القصيرة في «أنتفيرب» قد عرفته بالفن الياباني، وبأعمال مواطنه العظيم روبنز (1577-1640م). بيد أنه تحول تحولا تاما بعد وصوله إلى باريس؛ إذ تبنى الأسلوب التأثيري، مع الاهتمام بطريقة التنقيط التي كان يتبعها «سورا». كان غير موضوعاته القديمة واتجه إلى رسم الزهور والوجوه (البورتريه) والجسور ومناظر باريس ومقاهيها وروادها الفقراء. أما في «أرليس» فقد بدأ يجرب رسم المناظر الطبيعية والأشخاص بألوان حية متوهجة، تعبر مشاعره المتوقدة بالحياة والنور، وحساسيته الملتهبة بالعذاب والألم الكوني والميتافيزيقي.
والصورة التي تراها «حقل القمح مع الغربان» تعبر عن المرحلة الأخيرة التي قضاها في «أوفير» ووقع فيها تحت تأثير النوبات العصبية الملحة، مما زاد من حيوية ألوانه، واضطراب أشكاله التي تشبه دوامات نارية تجرف كل شيء. أثر فان جوخ تأثيرا كبيرا في الحركة التعبيرية وعلى أحد روادها وهو أدفار مونش (1862-1944م)، الذي تجد صورته الشهيرة «الصرخة» في هذه المجموعة. (1) أنا بوجونوفسكا (
Anna
) (1927م-...)
لم يكن الهدف من هذه القصيدة التي كتبتها الشاعرة البولندية هو وصف صورة محددة، بل التعبير عن إحساسها بفن فان جوخ في مجموعه، وتأثرها بوجه خاص بتمزقه الميتافيزيقي الذي ينعكس بوجه خاص على هذه الصورة. وقد ولدت الشاعرة سنة 1927م في مدينة لودز، وتعيش في مدينة وارسو. والقصيدة مأخوذة من مجموعة شعرية بعنوان «الشعر البولندي الجديد» ترجمها كارل ديديسيوس إلى الألمانية، ونشرت سنة 1965م في مدينة دار مشتات. «حقل القمح والغربان»
هندسة زهور الكاستانيا،
أنت الذي قستها -
آلاف البقع التي تثير الدوار
أنت حسبتها -
سحابة الحياة،
ثبتها على أعداد
ضربات الفرشاة والقلب.
السحب تتشابك في سلسلة،
الأرض تتنفس الخضرة،
القمح يغرق العيون طوفانه،
والغربان - رماد الفحم
المتبقي من العدم -
تغطي وجه الشمس.
وأنت يا فان جوخ،
دائما ما تضيق
عقدة الألوان ..
تستعبد الشعاع
بلوالب النيران،
وتخنق البريق
بسحب البخار والدخان،
من ذا الذي تقيده بقيودك؟
من تمسك به؟
ما يتبقى منك: رماد وسناج،
1
وهو يفتش في بنفسج الأرض،
ويشرب مرارة السماء،
راح يضرع إلى الله: «قسمت لي يأس ألوانك،
بكاءك، شوكك، أحجارك،
جعلتها من نصيبي -
سوداء وساكنة،
هي أحشاء قوس قزح -
ينفجر الريش الفاقع في أجنحة الشيطان،
وجرح الهاوية الأسود
يفغر فاه. (2) باول سيلان (
) (1920-1970م)
تحت صورة لفنسنت فان جوخ: القصيدة للشاعر الألماني باول سيلان، وقد كتبها في سنة 1956م. ولد في مدينة شيرنوفتس التي تقع اليوم في الاتحاد السوفييتي، ومات بإغراق نفسه في نهر السين. درس الطب واللغات والآداب الرومانية، وعاش في باريس ابتداء من سنة 1948م حتى انتحاره. يعد من أهم الشعراء الألمان المعاصرين، ويتميز شعره برهافته الشديدة، وغناه بالألم الكوني ونبضه بالحس الفاجع للقدر الفردي المظلم. ترجم كثيرا عن الفرنسية، وعرف بترجمته الرقيقة الدقيقة لشاعر فرنسي قريب من مزاجه وعالمه وهو «رينيه شار». نشرت القصيدة أول مرة في العدد الثالث من مجلة «أكسينته» (نبرات) الأدبية سنة 1956م، ثم أعيد نشرها في ديوانه «قضبان اللغة»، الذي صدر في مدينة فرانكفورت على نهر الماين سنة 1959م (راجع إن شئت كتابي لحن الحرية والصمت، الشعر الألماني بعد الحرب العالمية الثانية. القاهرة، المكتبة الثقافية، هيئة الكتاب، 1974م. «حقل القمح والغربان»
أمواج القمح تحط عليها أسراب الغربان.
زرقة أي سماء هذي؟
العليا؟ السفلى؟
آخر سهم تطلقه النفس،
خفقان أقوى،
لمعان أقرب.
وهنا وهناك
يتجلى العالم. (3) ألبرشت جوز (
Albrecht Goes ) (1908م-...)
القصيدة للشاعر الألماني ألبرشت جوز، وقد ولد في ولاية «فيرتمبورج» بجنوب ألمانيا. كان أبوه قسيسا، واشتغل بالوعظ فترة قصيرة من حياته قبل أن يهب نفسه للتأليف والكتابة الحرة ابتداء من سنة 1953م. نشر الشعر والقصة والمقالة والمواعظ الدينية ، ونشرت قصيدته هذه في ديوانه «قصائد» الذي صدر سنة 1958م لدى الناشر فيشر في مدينة فرانكفورت على نهر الماين. وقد ذكر الشاعر أنه شاهد «حقل القمح والغربان» في أواخر العقد الثاني من هذا القرن. «حقل القمح والغربان»
ليس سماء «ما تبصره العين»،
إن هي إلا كتل سحاب
زرقاء وسوداء،
ومثقلة بالأنواء.
خطر هواجس وعذاب.
قل لي:
مم القلق؟
تكلم،
هل تشعر بالخطر المحدق؟
وعر هذا الجبل تصدع،
والحقل حريق،
ذهبي يسطع،
قلبي - وهو غراب الجوع -
يحلق فوق الأرض
وينعق.
الفصل الخامس والثلاثون
الصرخة
للفنان النرويجي وأحد رواد الحركة التعبيرية «إدفارد مونش» (
E. Munch ) (1863-1944م).
قضى «مونش» معظم سنوات حياته المبدعة في باريس وبرلين حيث أقام في سنة 1892م معرضا لصوره كان له صدى قوي وتأثير كبير على مسيرة التعبيرية الألمانية في السنوات التالية.
جمعت روح الصداقة بينه وبين رائد التعبيرية في المسرح الحديث وهو أوجست سترندبرج، كما تأثر من ناحية الشكل بكل من فان جوخ وجوجان، ولكن ميله إلى التعبير عن هواجس النفس القلقة المعذبة جعله يختار الموضوعات التي تدور حول الحب والمرض والموت، محاولا أن يجد المعادل الرمزي لها، ويصور عجز الإنسان حيالها؛ ولذلك يتسم فنه بنوع من «العصابية» التي تصل في كثير من الأحوال إلى حد هستيري (كما ترى في صورة الصرخة المنشورة مع هذا الكلام).
يحتفظ المتحف المسمى باسمه في مدينة «أوسلو» بحوالي ألف عمل من أعماله في التصوير والحفر، كما توجد بعض أعماله في متاحف الفن الحديث في أماكن أخرى متفرقة.
أما الشاعرة التي استلهمت صورته المعبرة فهي مارجوت شاربنبرج (
Margot Scharpenberg ).
وقد ولدت سنة 1924م في مدينة «كولن» (كولونيا) على نهر الراين.
حصلت على دبلوم في المكتبات، وهاجرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث تعيش منذ سنة 1962م في نيويورك. صدرت لها مجموعات شعرية عديدة، ومجموعات قصص قصيرة، ومقالات متنوعة. ظهرت قصيدتها عن «صرخة» مونش في ديوانها «آثار» الذي أصدرته دار النشر جيليس وفرانكه في مدينة دويسبورج سنة 1973م.
غناء
فوق الماء،
وموسيقى الماء
لا تطفئها إلا النار.
غناء فوق الجسر،
وصراخ عذارى
لم يتغن به إنسان
من أجل الصم،
عبر عنه الفنان
كي لا يهووا
في جوف الصورة
كالعميان.
الصرخة
كالشلال،
تطلق بأصابع يد،
توغل في البعد،
إلى أميال،
تشبه قبضة حجر
فوق الجلد.
الطبلة
فاغرة الفم.
الفصل السادس والثلاثون
صلح
حفر على الخشب للفنان التعبيري فرانز مارك (1880-1916م). (1) فرانز مارك
Franz Marc
ولد سنة 1880م في مدينة ميونيخ، حيث قالت جماعة الفارس الأزرق التعبيرية التي كان أحد أعضائها المؤسسين مع كاندنسكي وأوجست ماكيه وفيننجر وغيرهم. ظلت الحيوانات هي موضوعاته الرئيسة، واشتهر برسم الحصان حتى أصبحت تنويعاته المختلفة على الحصان الأزرق من أبدع وألمع أعمال التصوير في الفن الحديث. تأثر في بداية حياته - مثل بقية الفنانين التعبيريين - بالحركة التأثرية والتجريدية في فرنسا، والتقى سنة 1912م في باريس بالفنان التكعيبي ديلوتاي (1885-1941م)، فاتجهت أعماله الأخيرة - ومنها اللوحة المنشورة - نحو المزيد من التجريد، وهو تجريد تكسوه مسحة صوفية وكونية تلفه في غلالة رمزية وشعرية، وتبعده عن النزعة الشكلية والهندسية بقوة التعبير وعاطفته الكامنة فيه. سقط قتيلا في الحرب العالمية الأولى في معركة «فيردون»، ويحتفظ متحف مدينة ميونيخ بمعظم أعماله (لاحظ أن الشاعرة التي استوحت رسمه من أهم أعضاء الحركة التعبيرية الألمانية في الشعر والمسرح؛ ألا وهي الشاعرة). (2) إلزه لاسكر شولر (
Else Lasker Schuler )
ولدت سنة 1869م في فوبرتال-إلبرفيلد، وهاجرت سنة 1933م - مع بداية الطغيان النازي - إلى مدينة القدس، وماتت فيها في يناير سنة 1945م بعد أن قاست أمر آلام الفقر والبؤس. جمعت أواصر الصداقة بينها وبين كبار الأدباء التعبيريين من أمثال دويبلر، وجورج تراكل، وجوتفريد بن. يتحد في كتاباتها الخيال الحي المتوهج مع حب الطبيعة، والولاء للثقافة الألمانية والديانة اليهودية التي تنتمي إليها. وقد استطاعت قصيدتها - التي نشرت مع أشعارها الكاملة سنة 1966م في دار النشر كوزيل بميونيخ - أن تعكس الجو التعبيري والروحانية الكونية التي تميز اللوحة الأصلية، بجانب تكثيف الإحساس بالوحدة والتعاسة والإرهاق والحنين إلى المستحيل، وكلها توحي بطابع التعبيرية في الفن التشكيلي والأدب على السواء. «صلح»
سيسقط في حجري نجم هائل ..
نريد الليلة أن نسهر سهرا،
أن نتعبد بلغات
قدت من نغم القيثارة سرا.
تعال الليلة نتصافى ،
وسيغمرنا الله بنعم ثرة.
قلبي مع قلبك
طفلان اشتاقا للراحة
في حضن النوم الحلو المرهق،
تاقا للقبلات،
فلم تتردد، ولم الحيرة؟
آه يا حبي،
أفلا يتجاور مع قلبك قلبي،
أولا يصبغ دمك الفائر
خدي حمرة؟
تعال الليلة نتصالح،
لو نتعانق
لامتنع علينا الموت،
وزالت شوكته المرة،
ولسقط النجم الهائل
في حجري مرة ..
الفصل السابع والثلاثون
الجائعات
نحت من الجبس يرجع إلى حوالي سنة 1932م للفنان التعبيري والكاتب المسرحي «إرنست بارلاخ
Ernst Barlach » (1870-1938م). تميزت أعماله في النحت والرسم بروح مأسوية (تراجيدية) قاتمة وتشاؤم فاجع، أثارت ثائرة النازيين الذين حطموا معظم تماثيله فلم يبق منها سوى عدد قليل مبعثر بين بعض المتاحف الألمانية والمتحف الصغير الذي يحمل اسمه بالقرب من مدينة «لينيبورج».
ربما كانت أعماله في الحفر على الخشب من خير أعماله، وقد صور فيها فلاحين وشحاذين وشخصيات كادحة استوحاها من زيارة قام بها إلى روسيا، وتأثر أسلوبه فيها بفن الحفر القوطي المتأخر في ألمانيا. واهتمام بارلاخ بالتعبير عن البؤس والبؤساء في مختلف الصور والأشكال التي يمتحن بها وجود الإنسان، يقربه من أعمال فنانة معاصرة له هي «كيته كولفيتس» (1867-1945م) التي أبرزت عذاب الأمهات والأطفال في الرسم والحفر. استلهم نحته عن الجائعات عدد من الشعراء نذكر منهم: (1) إليزابيث إمونتس دريجر (
Elisabeth Emundts Dragor ) (1898م-...)
كتبت الشاعرة هذه القصيدة سنة 1970م، وقد ولدت سنة 1898م في مدينة «كولن» «كولونيا» بألمانيا ، وعاشت حياتها في مدينة بينسبرج. أصدرت رواية واحدة ومجموعة من القصص القصيرة وأربع مجموعات شعرية. وجدير بالذكر أن ديوانها «القلب اللامتناهي» يضم عشرين قصيدة مستوحاة من نحت «بارلاخ»، وأمام كل قصيدة قطعة النحت التي استلهمتها. والقصيدة من الديوان المذكور الذي ظهر سنة 1970م عن دار النشر موسينر. «أمهات بائسات»
نحن التعساء الفقراء
وأتعس من عانى الفقر،
نلد الأطفال صغارا
ونجر الحمل طوال العمر،
نطرحهم للكون ثمارا،
نغذوهم بدماء القلب،
نحملهم في ليل الرحم
كما يحمل ذنب.
ونخاف الدرب،
ودرب الجائع صعب؛
جر الأطفال أمام الرب.
ماتت كل الآمال
ولم يبق سوى الأمل الأوحد
يخفق في الصدر؛
أن نحمل هذا العبء،
نجر نجر الحمل الصعب
لعل الله يطل علينا
ويساعدنا،
أن ننتشل صغار الطير
من المحنة والكرب. (2) أناليزه بونجيروت (
Anneliese Bungoroth ) (1923م-...)
وهذه القصيدة للشاعرة أناليزه بونجيروت عن مجموعة الجائعات كتبتها في سنة 1965م بعنوان «اللاجئون». ولدت الشاعرة سنة 1923م في مدينة ماينس، وتلقت تعليما وتدريبا قانونيا يؤهلها للخبرة في شئون الزواج. وهي تعيش متفرغة للكتابة الحرة في «بيبريش» من ضواحي مدينة فيسبادن. واللاجئون هي إحدى قصائد ديوان كامل بعنوان «معبر» استلهمت جميعها من نحت بارلاخ، وتجدها على صفحة 30 من هذا الديوان الذي صدر في مدينة جوتنجن عن دار النشر فاندنهوك وروبرشت. «اللاجئون»
نتجول عبر الزمن
بلا وطن،
في أي مكان لا نجد الأمن،
لا نشبع حتى من ضوء الشمس؛
لأن العالم ضن علينا
بمكان إلا في الظل.
من يحسب أن جهنم
من لهب النار فحسب،
فجهنم من ثلج الوحدة
والبرد يلف القلب.
من يذكرنا؟
من يرحمنا؟
من يتضرع - وهو المتخم -
لله ويسأل
أن يعطيه خبز اليوم،
كفاف اليوم؟
أنسيتم أيام المحنة
جوع البطن
وذل النفس؟
وجراح الأمس هل اندملت،
وجراح الأمس؟
عميت أعينكم عما يفزع أمن القلب،
وضمائركم قد غطتها
سحب الكذب على الجار،
المسكين المتعب.
أعماكم رغد العيش،
فما أبصرتم
جوع الجائع عن قرب،
وشبعتم حتى التخمة،
هل ذقتم يوما
أو جربتم
طعم الحب؟
هل نملك إلا أن نضرع
في كل صلاة
كي يغفر لكم الرب؟
الفصل الثامن والثلاثون
شكل امرأة مضطجعة
الشكل للمثال الإنجليزي الشهير هنري مور (
Henry Moore ) (1898-1986م)، وهو محفوظ في متحف «تيت» في لندن. بدأ مور تعليمه وتدريبه في مدينة ليدز، وفيها التقى بالمثالة التجريدية باربارا هيبورث، ثم في لندن حيث حصل سنة 1925م على منحة للدراسة في باريس وإيطاليا. تبنى أسلوب الحفر المباشر واستخدام مادته - سواء كانت من الحجر أو الخشب - للتعبير عن الأشكال الطبيعية. كان أهم أعماله المبكرة هو تمثال «ريح الشمال» الذي أعده لمبنى «ميترو الأنفاق» في لندن. وتبعته أعمال أخرى من النحت البارز للمعمار، ومن النحت المعروض في الخلاء، كما في تماثيله العديدة في لندن وباريس وروتردام وأرنهيم وفرايبورج بالجنوب الألماني، بجانب تمثاله عن العذراء (المادونا) الذي أتمه سنة 1944م لكنيسة القديس متى في «نورثامبتون». بدأت شهرته العالمية مع حصوله سنة 1948م على جائزة النحت في معرض «البينالي» بالبندقية.
جيمس كيركوب (
James Kirkup )
القصيدة للشاعر جيمس كيركوب الذي ولد سنة 1923م في ساوث شيلدز من أعمال دورهام بإنجلترا. كان أبوه نجارا، وقد عمل بتدريس الأدب الإنجليزي في جامعات أوروبية وأمريكية وآسيوية مختلفة. نشر العديد من الروايات والمسرحيات ومذكرات الرحلات والمجموعات الشعرية، كما ترجم كلا من الشاعر المفكر الفرنسي بول فاليري والكاتب المسرحي والروائي السويسري دورنمات إلى اللغة الإنجليزية. نشرت قصيدته هذه عن تشكيل هنري مور «المضطجعة» في ديوانه تعاطف صحيح وقصائد أخرى الذي صدر في لندن سنة 1952م، ص25. «شكل امرأة مضطجعة»
مضطجعة للخلف. قدماها في الرمل المتحرك
كجذور ضاربة في شاطئ منحدر،
هي المرساة الملقاة
بذراعيها نصف المدفونتين في الأرض المختفية،
في ساحل زماننا الذي يفكك كل شيء،
ذلك الملعب الذي تدور فيه اللذة المشكوك فيها،
والألم الأكيد.
همودها المهيب تحت شمس عالم آفل
يعني شيئا أكثر من احتجاجنا ورضوخنا،
بل أكثر من اتزان البحار
التي تبدو قوتها في أغلب الأحيان كأنها نصف مستهلكة،
ومع ذلك فهي دائما ما تغرق صلواتنا.
من حولنا يضطجع كل شيء ويتحلل، مدفوعا إلى موت الشكل.
في أفران الهواء، في صحاري البحر التي يستحيل الرسو فيها،
الشجرة التي سقطت، الحجر، المناطق الريفية
ذات الكهوف التي شهدت ميلادنا،
إرعاد الظلام فوق «إيفيرست» الأرض.
وهي كذلك تضطجع، في الإشفاق الأعمق للتسليم،
في تحول حر للأشكال، يبين لنا كيف سيكون موتنا.
نحن كذلك ينبغي علينا أن نحدق في الحاضر كالصخر.
إن رأسها المرفوع يؤكد لنا في هدوء كهدوء المرساة،
مع أن الجميع يموتون،
فلا شيء يموت أبدا ...
الفصل التاسع والثلاثون
القبلة
نحت للفنان الروماني قسطنطين برانكوزي (
C. Brancusi ) (1876-1957م)، أتمه سنة 1908م.
يعد برانكوزي من أبرز ممثلي النزعة التجريدية المطلقة بين النحاتين المعاصرين، وتتميز أعماله ببساطة الشكل والمبالغة في صقله وتنقيته بحيث تشع بإيحاءات شعرية وصوفية متعالية. التحق بأكاديمية الفنون في «بوخارست» وهو في الثامنة عشرة من عمره، وغادرها بعد ست سنوات ليستقر - ابتداء من سنة 1904م - في باريس حيث وقع في البداية تحت تأثير المثال الفرنسي الشهير «رودان»، كما يشهد على ذلك تمثاله رأس فتى (1905م). وكان من أوائل الفنانين الذين تأثروا تأثرا عميقا بالنحت «البدائي» الذي اكتشفه الفنانون - خصوصا في فرنسا - في أوائل القرن العشرين. وكان من أهم العوامل التي أثرت على الفن التجريدي الحديث. ويعد نحته «القبلة» (1908م) - الذي ترى صورته مع هذا الكلام - أول محمل هام يتضح فيه تأثره بالفن الأفريقي، وتلمس فيه نزعة التبسيط الشديد في الشكل والأسلوب الفني الناضج الذي تطور بعد ذلك وإن لم يتغير تغيرا حاسما حتى آخر حياته. ولعل أعماله الأخرى التي عالج فيها موضوعاته الأثيرة - وهي الرأس البشري والحيوانات البحرية والطيور - لعلها تدل على اتجاهه المتزايد نحو تجريد الشكل وتبسيطه، وتصفيته من جميع التفاصيل بحيث لا يبقى منه في النهاية إلا الكتلة البيضاوية الخالصة (مثل رأس ربة الفن النائمة 1910م، والسمكة 1922-1924م، ونحت للعميان 1924م). وقد كان نحته «القبلة» بمثابة الموضوع الأساسي الملهم لأضخم نحت كلف بعمله لحديقة «تيرجو-جيو» العامة بالقرب من القرية التي ولد فيها، وهو يمثل عمودا هائلا من الصلب يبلغ ارتفاعه حوالي المائة قدم، حتى سماه الناس العمود اللانهائي، كلما تندر عليه بعضهم بتسميته تمثال الأبطال. ويبدو أن البساطة المطلقة التي طبعت نحت برانكوزي قد أوقعته في مشاكل عجيبة وقضايا غريبة؛ إذ رفض موظفو الجمارك في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1926م اعتبار تمثاله طائر في الفضاء (ويرجع إلى سنة 1919م) عملا فنيا، وأبوا السماح بدخوله قبل دفع الضرائب الجمركية المستحقة على كتلة من البرونز المدور يبلغ ارتفاعها أربعا وخمسين بوصة! (وهي توجد الآن بمتحف الفن الحديث في نيويورك). ومع أن برانكوزي لم يخلف وراءه مدرسة مستقلة، فقد أثر فنه تأثيرا كبيرا على عدد من المصورين والنحاتين التجريديين المعاصرين نذكر منهم موديلياني، وهانز آرب، وبربارا هيبورث، وهنري مور.
حظيت «القبلة» باهتمام عدد من الشعراء نذكر منهم ستة من مختلف البلاد والأعمار: (1) كاريل جونكهير (
Karel Jonekheere )
شاعر بلجيكي. ولد سنة 1906م في أوستند. كان أبوه من كبار موظفي الشرطة، وصار من بعده من كبار موظفي الثقافة. وباب «القبلة» - وهو عنوان قصيدته التالية - هو نفسه عنوان إحدى مجموعاته الشعرية: «باب القبلة»
عري في الغابة،
باب مطلق،
شفتان كقوقعتين،
وشوشتا
حول الحافة والحد،
والأفواه ثمانية
من حجر صلد،
تختلج الرعشة فيها
إذ نتذكر
إزميلا في اليد.
باب القبلة
رحم أزلي
تطرقه دقات النوء،
البرق ... الرعد. (2) يوجين جيليفيك (
Eugéne Gullevic )
ولد سنة 1907م في مقاطعة بريتاني ويعيش في باريس. نشر عدة مجموعات شعرية، وظهرت قصيدته «القبلة» في كتاب عن «برانكوزي» صدر في بوخارست سنة 1970م. «القبلة»
أن نكون
ما كناه للأبد،
ولو يحن
برانكوزي،
كان حتما يرانا
في العناق غارقين،
وهو من قد صاغ «قبلة»
لجميع العاشقين،
صاغها في السر
تشبه الحجر،
حين يفنى في الحجر. (3) جي دو بوشير (
Guy De Bosschere )
ولد سنة 1924م في فوريست، وتعلم في بلجيكا. انضم لصفوف المقاومة أثناء الحرب العالمية الثانية، ويعيش منذ سنة 1960م على العمل في إحدى دور النشر في باريس. «القبلة»
وردة العين التي بلا نهاية،
حيث يدور الصمت حول نفسه،
يلتف حولها
صمت الحجر،
والجسدان
فرقت بينهما اندفاعة،
ظلالها دمرت الصفاء والوداعة،
وهذه الشفاه في عناق
وقبلة تنظم الفراق. (4) إرنست ياندل (
Ernst Jandl )
ولد سنة 1925م في فيينا، ودرس الأدبين الألماني والإنجليزي، وعمل بالتدريس في المدارس الثانوية. من أبرز ممثلي الشعر المجسم، ومنه قصيدة «القبلة» هذه. لاحظ ترتيب الكلمات ونظام طباعتها بحيث تجسم المعنى وتشكل الإيحاء والإشارة. ومع أن «القصيدة» تشبه أن تكون فكاهة أو دعابة، فهي تستحق التأمل. «القبلة»
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم
نعم (5) ماكس آلهاو (
Max Alhau )
ولد سنة 1936م في باريس حيث لا يزال يعمل في تدريس الأدب، وقد نشرت قصيدته في الكتاب الذي سبقت الإشارة إليه والذي يضم الأشعار والدراسات التي جمعت احتفالا بذكرى برانكوزي في كتاب صدر سنة 1970م في بوخارست. «القبلة»
انشق الحجر لكي يصمد لامتحان الزمن،
بهذا العناق الذي لن يقدر شيء على تفريقه،
تنفذ الحياة في صميم الأشياء، هو شيء أشبه
ببداية العالم، حيث ولد الإنسان من الطين،
وفتش عن المرأة ليغيب في جسدها،
هذه القبلة تبشر بالفجر وتأسر الأبدية في
مسارها. (6) يون كارايون (
Ion Caraion )
ولد سنة 1923م في روجافات من أعمال رومانيا، ودرس علوم اللغة في جامعة بوخارست، واشتغل محررا ببعض المجلات. وقصيدته «أحجار» من مجموعته الشعرية التي نشرت بالألمانية في بوخارست 1974م. ويلاحظ أن وصف الأحجار بأنها عظام أمنا الأرض قد سبق إليه الشاعر الروماني أوفيد في التحولات (الكتاب الأول، السطور 383، 386، 393، وما بعدها). وتحكي الأسطورة اليونانية أن دوكاليون وبيرا، وهما الوحيدان اللذان نجوا من الطوفان الذي سلطه زيوس على الأرض، راحا يلقيان عظام الأم العظيمة - أي الأحجار - وراءهما، فنشأ عنها البشر ذكورا وإناثا. «حجارة مهداة لبرانكوزي»
حجارة بديعة - جميلة ودون أن تحس -
كأنها الطبيعة ..
نامت في الظل وتحت الشمس
عظام الأرض. (7) جورج شيرج (
George Scherg )
ولد سنة 1917م في مدينة كرونشتات من أعمال رومانيا. درس الأدب الألماني واللغات الرومانية والفلسفة، ويشتغل بتدريس الأدب الألماني بجامعة هيرمان-شتات. نشر مسرحيات وروايات ومقالات ومجموعات شعرية. «المعرفة شيء ثمين، لكننا نعرف القليل»
المعرفة شيء ثمين
لكننا نعرف القليل،
وإن كنا نحس ببعض الأشياء،
غير أن هنالك شيئا واحدا نعرفه،
شيئا واحدا نصونه ونحميه،
ما من قانون أسمى منه.
نحن لا نعرف
ما هو طيران الطير،
لكننا نغوي أنفسنا ونغويه.
نحن لا نعرف شيئا
عن قوة القبلة وخطرها،
عن نعمتها ولعنتها،
لكننا ندخل دائما
من باب القبلة.
من ذا الذي يفكر، من،
في العملات الفضية الثلاثين
التي تربو قيمة رنينها
على قيمتها؟
نحن لا نعرف
ما هو الحب،
ومع ذلك نخونه،
وكأنه عدو
لجأ إلينا كي نحميه.
نحن لا نعرف
ما هي السماء،
وإنما نكتفي بالإحساس،
لكن الإحساس
شيء أكبر من هذا.
نحن نؤمن،
أجل نؤمن
بأن ثمة عمودا
موجودا وراء وجودنا
قد خلق من الأزل ليحمل السماء.
لكن شيئا واحدا نعرفه،
شيئا واحدا نصونه ونحميه.
ما من قانون أسمى منه.
الجهل، والإحساس، والإيمان،
الغواية، والخيانة، والقبلة، والحب.
إنها لا تمحو اليقين،
بأن ذلك العمود إذا انهار
انهارت السماء.
الفصل الأربعون
الأقنعة العجيبة
اللوحة للفنان البلجيكي جيمس إنسور (
James Ensor ) (1860-1949م)، وهي محفوظة في المتحف الملكي بمدينة بروكسل. تعلم «إنسور» في بروكسل، ولكنه قضى حياته في أوست إند. تتسم نظرته بالقتامة وتغشاها كآبة الموت، وهو يتخذ موضوعات صوره ورسومه من كبار فناني عصر النهضة مثل كالو (1593-1635م)، وبوش (1450-1516م)، وبروجل الكبير (من حوالي 1525-1569م)، ثم يعالجها بأسلوب روبنز وكوربيه ومانيه. وهو غالبا ما يلجأ إلى الأقنعة - كما يفعل في هذه الصورة - وإلى الهياكل العظيمة للتعبير عن مشاعر باطنة خفية، وذلك قبل بداية التعبيرية كاتجاه فني محدد، خصوصا عند الفنانين الألمان من جماعتي «الجسر» و«الفارس الأزرق».
عرض لوحاته مع «جماعة العشرين» التي انضم إليها في سنة 1884م (وهي جماعة من الفنانين البلجيكيين عرضت صورا لفنانين غير بلجيكيين مثل سورا، وسيزان، وفان جوخ، وجوجان)، ثم لم يلبث أن طرد منها سنة 1889م بعد أن رفضوا عرض لوحته «دخول المسيح إلى بروكسل». (1) كريس تانسبرج (
Kris Tanzberg ) «الأقنعة العجيبة» القصيدة للشاعر السويسري كريس تانسبرج الذي ولد سنة 1943م لقيطا بلا أبوين معروفين، وجرب مختلف المهن والأعمال، فاشتغل في فترات متقطعة من حياته بالزراعة وقطع الأخشاب والأحجار والوعظ والحلاقة والصحافة والتجارة والتدريب الرياضي والتعليم في المدارس الشعبية وأمانة المكتبات ... أتاحت له هذه التجارب فرصة السفر والتجوال بين البلاد الأوروبية. ظل ينشر قصائده ولوحاته القلمية ويذيعها عن طريق الإذاعة حتى ظهر ديوانه الأول سنة 1975م من قصيدة واحدة طويلة «أبيفانيا أو التجليات». سيلاحظ القارئ أن مقطوعات القصيدة تعكس تفاصيل الصورة وتحولها إلى مرايا تنعكس عليها أمراض المجتمع والعصر. ولعل افتقار هذه الوجوه المشوهة العجيبة إلى الآذان والأنوف يكون تعبيرا عن تبلد هؤلاء المصلحين الأدعياء، وفقدانهم الإحساس بالحياة والناس. والسطور الأربعة الأخيرة تؤكد أن العالم ينتهي نهاية هادئة لا ضجيج فيها، وتذكرنا بقصيدة إليوت المشهورة عن «الرجال الجوف» (راجع ترجمتها الكاملة في الجزء الثاني من ثورة الشعر الحديث لكاتب هذه السطور)، بل إنها في الواقع لتكرر الأبيات الأربعة الأخيرة من قصيدة إليوت الشهيرة. وكان الشاعر السويسري يحاول أن يوجد علاقة حميمة بين صورة الفنان البلجيكي وواحد من أعظم قصائد العصر. «الأقنعة العجيبة»
من أين أيتها الأقنعة الفاقعة اللون،
يا من تومئون إيماءات عاجزة؟
إلى أين يا نواطير الحقول،
يا من تنقصكم الآذان والأنوف؟
لا مراء،
أنت قادم من مجلس التعليم،
وأنت من الأسقفية العامة،
وأنت من وزارة
الإرشاد القومي وعلم الفحش.
1
لا مراء،
أنتم مشغولون
بالدعوة والتوعية،
للإنقاذ،
للحضارة.
أصابعكم تشير
للمحنة الماثلة
على الجدار،
لكنكم بلا عمود فقري.
جباهكم تتلبد
بتجعيدات المفكرين،
لكنكم بلا مخاخ.
ارفعوا مصابيحكم البائسة كما تشاءون،
لقد انطفأت ناركم.
قووا أنفسكم من الزجاجة بقدر ما تستطيعون.
عبثا تفعلون؛
فالأحشاء تنقصكم.
ضعوا على رءوسكم قبعات خشنة مدببة،
تلفعوا بالمسوح القطيفية المقدسة.
عبثا تفعلون؛
لأنكم جوف.
في الشارع تتدافع الغوغاء
من أجلكم،
تخفق أعلام الثورة
تأييدا لكم.
لكنكم عاجزون،
حتى عن ربط أحذيتكم.
لا تسقطوا
حتى لا تهووا فوق الألواح الخشبية
مثل بالون مشدود مفرغ من الهواء.
هكذا ينتهي العالم،
هكذا ينتهي العالم،
هكذا ينتهي العالم،
لا بفرقعة مدوية،
بل بالتنهيدة والأنين ..
الفصل الحادي والأربعون
امرأة جالسة على كرسي وثير
اللوحة لبابلو رويز بيكاسو (
) (1881-1973م)، وهو من أعظم الفنانين الذين بدءوا عصرا جديدا وغيروا من طبيعة الفن ومن نظرتنا إليه، شأنه في هذا شأن عباقرة آخرين من أمثال جوتو ومايكل أنجلو وبرنيني. مر بيكاسو في تطوره الفني الطويل وتجاربه الرائدة مع اللون والشكل والخط والمرأة بمراحل متعددة، لا مجال هنا للحديث عنها. يكفي أن هذه اللوحة التي رسمها أثناء الحرب العالمية الثانية؛ أي حوالي سنة 1942/1941 تعد امتدادا للمرحلة التي بدأ فيها تصوير مصارعي الثيران وبلغت ذروتها في لوحته الكبيرة الشهيرة «جيرنيكا» التي تسجل سخطه على الحرب عموما، والحرب الأهلية في بلاده بوجه خاص، واستبشاعه للعنف والوحشية، ووقوفه في صف السلام وصفوف الفقراء والمعذبين والمنبوذين.
1
وقد ساد هذه المرحلة بطبيعة الحال مزاج سوداوي عبر عن نفسه في الأشكال المحرفة والوجوه الممزقة المقلقة والخيال المتحرر المخيف في قدرته على التكوين والتفتيت وإعادة التكوين، والبهيمية الوحشية الموحشة التي تتغلغل حتى في الآلة والجماد، بل تكاد تسري في الجمال والصفاء، كما توحي بذلك اللوحة التي نحن بصددها.
ألهمت اللوحة بعض الشعراء، منهم صديقه الصدوق جان كوكتو، وشاعرين آخرين هما: (1) لوثر كلونر (
Luthar Klunner )
ولد الشاعر سنة 1922م في برلين. درس اللاهوت وكتب القصيدة والقصة القصيرة والمقال، وترجم للشعراء الفرنسيين. كتب قصيدته هذه «امرأة ذات صدر أزرق» متأثرا بصورة للوحة بيكاسو مطبوعة بالألوان على بطاقة كان قد ثبتها على جدار حجرته الصغيرة في سنوات الطلب. «امرأة ذات صدر أزرق»
يا امرأة لا وجود لها، يا امرأتي،
يا امرأة الماء، يا عذراء يا حبيبة.
امرأة كل رسائل القلب،
أم الألوان،
أصابع رطبة،
ويد دافئة متعبة.
طفل غريب من بعيد بعيد،
نقاء البحر الأخضر العميق،
حنان تابوت زجاجي فقير،
وشهوة الليالي الممطرة بلا صوت،
حيث لا يلقى الصدى ظلا.
آلهة شامخة منبوذة،
بسيطة كالصاعقة،
بضعة خطوط للمائدة والكرسي،
عالمك وعالمي،
جمال عظيم خامل، جمال القلوب،
الدم والنور
أمام أقنعتنا الليلية. (2) فريدريش راشه (
Friedrich Rasche )
ولد سنة 1900م في بلدة «راديبويل» بالقرب من مدينة درسدن، ومات سنة 1965م في مدينة هانوفر. درس اللاهوت والفلسفة والأدب الألماني وتاريخ الفن في «ليبزج»، واشتغل معلما وناقدا ومحررا أدبيا. وهذه القصيدة «بيكاسو، الإنسان» مأخوذة من المجلد الثالث من أشعاره التي نشرت بعد موته بعنوان «من كل الرياح الأربع» (هامبورج 1967م)، ويبدو أن الشاعر قد رأى في «المرأة» التي تصورها اللوحة رمزا يجسد كل رذائل العصر وآثار التشويه على وجهه وروحه؛ ولهذا ارتفعت نغمة الأخلاق لديه أكثر مما ينبغي! «امرأة جالسة على كرسي وثير»
الاستدارة الضيقة للخد،
مشطوفة كقمر مصغر.
الفك الأسفل ملوي،
والفم يتفجر بالصرخة.
العين بلا رمش تبحلق،
سمكة فزعها العمق،
ذهب الخوف الباهت بعقلها،
تترقب خطاف السنارة!
الانحناءة المتكبرة للأنف
ثنتها قبضة سوداء.
غارت في طيات الجبهة
قوقعة الأذن.
وجبين لم يعد يشي
بما حملته الأفكار،
تصبب بعرق العذاب المخضر،
شيبته محنة الموت.
قصبة العنق الجوفاء
تلحم العدم بالعدم،
صحراء الوجه،
أسر الجسد.
ملعونة اليد والرحم،
والصدر المشقوق الصدع.
شب وكبر في الخطايا.
اسمه: بلا أمل. (3) جان كوكتو (
Jean Cocteau ) (1889-1963م)
كتب الشاعر والفنان الفرنسي المتعدد الاهتمامات (المسرح والرواية والمقال والفيلم والرسم والرقص والنحت والموسيقى !) هذه القصيدة أو السوناتة وأهداها لصديقه سنة 1954م، بعد أن وهبه قبل ذلك (سنة 1919م) أنشودة طويلة، ووضع عنه دراسة مستفيضة (1923م). وهذه القصيدة التي جعل عنوانها «الشابة» مأخوذة من مجموعته الشعرية «واضح، غامض» التي صدرت في موناكو لدى الناشر دي روشير سنة 1954م. ويلاحظ أن جانب الوجه أو صورته الجانبية تعريب لكلمة «البروفيل» التي يستخدمها الشاعر وتتردد على ألسنة فنانينا: «امرأة جالسة على كرسي وثير»
قولي لي، ماذا أصنع؟
كيف يحدث هذا؟
أنظر إلى الشابة من أمام
فتريني مع ذلك جانب وجهها،
كيف يحدث هذا؟
لها حين أواجهها عين واحدة،
وحين أرى جانب وجهها عينان.
قولي لي: ماذا أصنع؟
قولي لي: ماذا أصنع؟
كيف يحدث هذا؟
يزن وجهها مرآة
تعكس جانب وجهها.
الفصل الثاني والأربعون
الثورة
الصورة تمثل جزءا من لوحة زيتية رسمها مارك شاجال (
Marc Chagall ) (1887-1983م) في سنة 1937م. وكان شاجال قد رجع بعد قيام ثورة أكتوبر الكبرى إلى مسقط رأسه «فيتبسك»، حيث عينه الحزب الشيوعي مسئولا عن الفنون الجميلة ، وقام هناك بتأسيس أكاديمية فنية. ويلاحظ أن الشطر الأيسر من اللوحة يمثل الثورة السياسية، ويرى فيه البحارة رافعين البنادق والأعلام، أما الشطر الأيمن منها فيعبر عن الثورة الفنية والإنسانية. وربما أمكننا أن نميز فيها سفينة تندفع إليها مجموعة من الناس فضلت الهجرة إلى بلد آخر، وحفلا يشارك فيه نساء ورجال وأولاد وبنات، وعلما أحمر مطروحا على الأرض، وحمارا وقورا يتربع فوق كرسي. أما في وسط اللوحة فنرى مائدة وقف عليها رجل في وضع مقلوب، وهذا الرجل هو إليتش لينين بلحيته وقبعته المعروفة، وقد استند جسده على يده اليمنى، ومد ذراعه اليسرى كبهلوان، أو بطل رياضي يعرض ألعابه البارعة! وأما الطرف الآخر من المائدة فقد استند إليه يهودي حزين، لعله شاعر أو متشرد، أو مراب أو رجل متدين، يتكئ رأسه على يده اليسرى، وتحمل يده اليمنى لفافة تشبه أن تكون طفلا - كما تصورت صاحبة القصيدة التالية التي شاهدت اللوحة مطبوعة على بطاقة بريدية - بينما هي في الواقع نسخة من التوراة أو صحف منها على لفائف من الرق. وثمة أشياء ووجوه أخرى عديدة وضعت بجانب بعضها على طريقة شاجال في شغل الفراغ بموضوعات تتجاور بصورة غير مألوفة، وتسبح قلقة في فضاء اللوحة، وتوحي في الغالب برموز دينية وشعرية وذكريات عن الريف الروسي. استلهم الصورة الشهيرة عدد من شعراء العصر نذكر منهم: (1) سارة كيرش (
Sarah Kirch )
ولدت الشاعرة سنة 1935م في ليملنجرود في منطقة الهارس من شمال ألمانيا. درست علم الحياة (البيولوجيا) في جامعة هالة، كما درست الأدب في جامعة ليبزيج، وعاشت فترة من حياتها في برلين الشرقية قبل أن تنتقل إلى شطرها الغربي. تعد اليوم من ألمع الشعراء في الأدب الألماني، وتذكر لها ترجماتها للشعر الروسي (خصوصا ألكسندر بلوك وأخماتوقا وغيرهما)، ويلاحظ أن التاجر الذي يشير إليه السطر العاشر من قصيدتها (شاجال في فيتبسك، 1966م) موجود على الحافة السفلى للوحة، إلى اليمين، وأن البحارة الذين يلوحون ببنادقهم في الطرف الأيسر منها، وأن الرسام الذي يقف أمام الحامل ويستعد لتسجيل ظواهر الثورة موجود في الجزء الأعلى من اللوحة إلى اليمين. أما الطفل الذي يضعه اليهودي على ركبته فهو كما سبقت الإشارة نسخة من التوراة وليس طفلا. «الثورة»
كان المصباح الزيتي لا يزال مشتعلا
عندما جاء العمال في الليل رافعين الأعلام المشدودة.
على المائدة وقف على رأسه في مهب الريح
رجل له ذقن «لينين» وقبعته.
الكأس تنقلب وتسيل، يهودي عجوز
يشبه إليتش في عامه الأخير،
يضع على ركبته طفلا في لفافة حمراء.
الحيوانات لم تعد تسكن الهواء.
تسع شمعات والقصور تحترق بلهب ناعم.
التاجر يحمل كيسه، يقفز بمعطفه الأخضر في السفينة
لكي يغادر هذه البقعة من الأرض.
كتائب البحارة تلوح بالبنادق،
الرسام يهيئ القماش على الحامل
ليعرض علينا الانقلاب الذي تم بنجاح. (2) كورت بارتش (
Kurt Bartsch )
ولد الشاعر سنة 1937م في برلين الشرقية، وتقلب بين مختلف الحرف العملية والوظائف المكتبية والتعليمية. درس في معهد الأدب بجامعة ليبزيج. وهذه القصيدة التي سماها «عيد الثورة» - عن لوحة لمارك شاجال - نشرت في مجموعته الشعرية «ماكينة الضحك» التي صدرت عن دار فاجنباخ ببرلين سنة 1971م. «الثورة»
على المائدة الفارغة
يقف العلم الأحمر فوق رأسه،
يفرش المائدة بالأمل المخضر،
يقف على رأسه، فتصبح السماء تحته
تفرق بياضها على السطوح والأسوار الخضراء،
وتخيط للنساء - بملء الحنجرة - مناديل الرأس.
يتشقلب، أحمر، يقف على رأسه،
يفقد من الجيوب الخضراء تفاحة،
تتفجر في قلب الملاءة الكبيرة. (3) بول إيلوار (
Eluard )
من المعروف أن الشاعر الفرنسي العظيم كان على علاقة حميمة بعدد كبير من المصورين الذين اشترك معهم في مطلع حياته - سنة 1917م - في تأسيس الحركة السريالية (مثل بيكاسو وكيريكو وماكس أرنست، بجانب الشاعرين المشهورين بريتون وأراجون). ومع أنه انشق عن الحركة السريالية وانخرط في مقاومة الاحتلال النازي لبلاده وانضم سنة 1942م للحزب الشيوعي، فقد بقي على صداقته وحبه لكبار المصورين، ومن أهمهم بيكاسو. وهذه القصيدة التي جعل عنوانها «إلى مارك شاجال» (كتبها سنة 1946م) لم تستوح من هذه اللوحة وحدها، وإنما تشير إلى «موتيفات» أو إيحاءات وموضوعات ابتعثتها أعمال شاجال ورموز عالمه الفني المحلق على جناحي الخيال الشعري المبدع والعاطفة الصوفية المكتئبة في أجواء غريبة وبسيطة بساطة أرواح الأطفال ونفوس أهل الريف المتدينين. «الثورة»
حمار أو بقرة ديك أو حصان،
حتى جلد عازف كمان،
إنسان مغن طائر وحيد،
راقص بارع مع زوجته،
زوجان مغموسان في ربيعهما.
ذهب العشب، رصاص السماء
يفصل بينهما اللعب الأزرق.
من صحة ندى الصباح
يسطع الدم، يرن الفؤاد.
عاشقان أول الظلال،
وفي نفق تغطيه الثلوج.
ترينا الكرمة الباذخة
وجها له شفتا قمر
لم ينم الليل أبدا.
الفصل الثالث والأربعون
ثورة الجسر
الصورة للفنان باول كليه (
) (1879-1940م) رسمها سنة 1937م، ويحتفظ بها متحف الفن في مدينة هامبورج.
تعتمد أعمال كليه - أو بالأحرى رؤاه الفنية - على الخيال الخلاق المتحرر من قيود المنطق والمعقول، وتتميز بنظرته الكونية الصافية التي تشرك الكائنات في «سيرك فلسفي» تملؤه أحزان القلب المفعم بالهموم الميتافيزيقية، ويديره الألم والحلم والسخرية، ويمتزج فيه التجريد بالتعبير عن البراءة والدعابة التي تذرف الدموع.
تلقى «كليه» تدريباته الأولى في مدينة ميونيخ، وتأثر رسمه وحفره في بداية حياته بفن الشاعر والرسام الإنجليزي وليم بليك والمصور بيردسلي، بجانب تأثره في مرحلة متأخرة من حياته بفن «جويا» و«إنسور». كان معلما بفطرته وعاطفته، وتولى التدريس في أشهر مدارس الفنون في العصر الحديث، وهي المدرسة المعروفة باسم «الباهوهاوس» التي أسسها المهندس المعماري «جروبيوس» سنة 1919م في «فيمار» (وهي المدينة الكلاسيكية الألمانية التي عاش فيها الشاعران الكبيران جوته وشيلر)، ثم انتقلت إلى مدينة «ديساو» ومنها إلى برلين، حيث أغلق النازيون أبوابها سنة 1933م.
قام «كليه» بالتدريس في أقسام الزجاج والنسيج والتصوير، كما نشرت المدرسة بعض كتاباته في التربية الفنية مثل «أساليب دراسة الطبيعة» (1923م)، والكتاب التخطيطي التربوي (1925م)، والتجارب الدقيقة في واقعية الفن (1928م). وقد رافقه في تلك المدرسة الشهيرة زميلاه في جماعة «الفارس الأزرق» التعبيرية وهما: كاندنسكي وفيننجر، اللذان شاركهما من قبل في معرض الجماعة الذي أقيم سنة 1912م في ميونيخ. سافر إلى تونس سنة 1914م في صحبة الفنان التعبيري «أوجست ماكيه»، حيث تكشف لخياله المبدع عالم جديد من الألوان، وبدأت مرحلة «تونسية» في إنتاجه الذي ابتعد عن النزعة الأدبية التي طبعت أعماله السابقة، وتحولت رسومه المائية إلى الأشكال البسيطة الموحية ببراءتها وسذاجتها وسيطرة روح الطفولة عليها.
استوحى الشاعر «كريس تانسبرج» صورته «ثورة الجسر»، كما استوحى في نفس الوقت قصيدة قصصية (بالاد) من شعر «جوته» هي قصيدة «الناقوس المتجول» عن طفل يهرب أيام الآحاد من الصلاة في الكنيسة ليتجول في الحقول، فتحذره أمه من الناقوس الرنان الذي سيأتي بنفسه ويأخذه معه. ويتصور الطفل المرعوب أن ناقوس الكنيسة يتجه نحوه مترنحا ويوشك أن يسحقه فيسرع في العدو عبر الربى والمروج، ويدخل الكنيسة بحيث تصبح زيارته لها بعد ذلك عادة متأصلة في نفسه!
أما الشاعر تانسبرج فقد ولد طفلا لقيطا في ولاية «شفيز» السويسرية سنة 1943م، وتقلب بين أعمال وحرف مختلفة؛ فكان قاطع أخشاب ومزارعا وصبي حلاق وصحفيا وواعظا ومعلم رياضة بدنية وبائعا وقاطع أحجار وأمين مكتبة. وأتاحت له هذه الأعمال فرصة التجوال في مختلف البلاد والآفاق والمتاحف؛ ولهذا كان من أكثر الشعراء المعاصرين إنتاجا لقصيدة الصورة المستلهمة من كنوز الفن القديم والحديث. «ثورة الجسر»
كان هنالك شعب، لم يرد أبدا
أن يحيا في علاقة طيبة مع جيرانه،
على الرغم من أن الجسر ظل يصرخ دائما:
أريد أن أنقلكم للشاطئ الآخر.
الرسام تكلم وقال: الجسر يصرخ،
وبهذا صدر لك الأمر،
وإذا لم تكن على استعداد للذهاب،
فسوف يأتي ويأخذك معه.
الشعب تفكر وقال:
الجسر يشتتني عن أهدافي.
سأبقى منطويا على نفسي،
وأستطيع أن ألعب اللعبة وحدي.
الجسر الجسر لم يعد يصرخ،
والرسام نفض يديه.
لكن يا للرعب الذي حل بعد ذلك!
لقد أقبل الجسر يترنح،
يترنح بسرعة لا يصدقها أحد،
أقبل قطعا متناثرة،
وأخذ يقترب كما في الحلم،
كأنه جسور كثيرة كثيرة.
الشعب المفزوع يريد أخيرا
أن يذهب لجيرانه فوق الجسور.
لكن الأمر الآن في حكم المستحيل؛
فالجسر تفتت قطعا صغيرة.
الفصل الرابع والأربعون
أشخاص وكلب أمام الشمس
الصورة للفنان الإسباني الأصل خوان ميرو (
Juan Miró ) (ولد سنة 1893م) الذي يعد - بجانب سلفادور دالي - أهم السرياليين الإسبان في القرن العشرين. تعبر صورته هذه - مثل غيرها من صوره - عن طابعه المتميز بالبراءة الساحرة والبساطة الطفلية المهندسة (إن صح هذا الوصف!) وقد رسمها سنة 1949م، وتوجد بمتحف الفن بمدينة «بازل» أو «بال» السويسرية. رآها الشاعر الألماني بيتر يوكوسترا (
Jokostra ) (ولد سنة 1912م) سنة 1952م مطبوعة بالألوان على بطاقة بريدية، ويبدو أنه ظل محتفظا باللوحة على جدار مسكنه أو في ركن من أركان ذاكرته، حتى ظهرت للنور في هذه الأبيات التي كتبها سنة 1964م: «تحت صورة لميرو»
يا ميرو الرقيق،
من يدخل في ظلك،
يطارد خفافيش الليل
من الشعر،
يلعب مع كلاب الريح،
1
سبعة عشر وأربعة.
خفي (كالأسرار)
هو الأثر الهندسي
لظلالك،
الكرات القمرية
حمراء وماكرة.
كذلك الشمس
ترتفع وتهبط
في نفس المصعد
ولا تغيب.
وراء أفق
أضأت في الأنوار.
ولأن هذا ما تريده،
تغوص النجوم،
عندما تمسح الغبار عن مسارها
بلمسة من فرشاتك.
يا ميرو الرقيق،
كل الأشياء،
التي تحبها وتناديها،
تتلاقى في براءة (لقاء) الأشباح اللطيفة.
الفصل الخامس والأربعون
الزرافة المحترقة
الصورة للفنان الأشهر سلفادور دالي (
Salvador Dali ) (ولد سنة 1904م)، رسمها سنة 1935م، وتوجد بمتحف الفن في مدينة «بازل» أو «بال» السويسرية. وهي من أدل لوحاته على فنه المتطور من مرحلة إلى مرحلة (من التكعيبية إلى السريالية إلى غرائب لا تندرج تحت وصف أو مذهب محدد!) شأنه في هذا شأن مواطنه بيكاسو.
استلهمها الشاعر بييت برشبيل (المولود سنة 1939م). هذه القصيدة التي يحكي قصتها فيقول إنه شاهد اللوحة الأصلية سنة 1963م أو 1965م في متحف «بازل»، واحتفظ في جيبه ببطاقتها المطبوعة أكثر من سنة - كعادته في الاحتفاظ ببطاقات أخرى وكأنه متحف متجول! - وجدير بالذكر أن الشاعر ألف ديوانا كاملا مستوحى من الصور واللوحات الفنية لمختلف الرسامين سماه «الصور وأنا»، وظهر في زيورخ سنة 1968م. «الزرافة المحترقة»
نسختان من امرأة،
صحراء أفريقية، سماء ربيع إسبانية،
جبال بابل، إنسان الساونا،
1
الزرافة التي تحترق متوهجة
وتنتظر في هدوء،
حتى تلتهم النار مراعيها البرية وسماواتها.
هذه لحظات، تمتد على السنوات،
على الحياة شبيهة بخيمياء.
2
أحد مؤسسي الديانات،
أو: حياة في الجحيم،
يسمح فيها أحيانا بالتخفيض على المبيعات بالجملة،
صورتها الفرشاة بالأدراج الفارغة المشدودة.
والطحال المنزوع،
ربما كان هو المخ الذي يتأرجح
وسط أسماك خرساء،
وصحراء صامتة.
الإيماءات هناك،
القروح، مساند الجسد،
السموات البلورية،
البشر - المحترقون بلا حراك -
كل شيء هناك.
ما تفتقر إليه هو تكرار الأحلام.
كثيرا ما أتمنى أن أخبئ زمنا طويلا
في جيوبي لكي أحميه من الحساسية المفرطة،
من تأثيرات الطقس المتقلب والأعمال التجارية.
وعندما ينتهي كل شيء،
أتمنى أن أستخرجه من الجيوب،
أن أتأقلم معه،
كما توقعت هذا من الناس.
كثيرا ما أتمنى
أن أحتفظ معي بالزمن،
كما أحتفظ بيقين الموت،
كزرافة محترقة،
مختلجة بالذكريات
عن الصبي الصغير بسرواله القصير،
الذي يدور فوق قريته بطائرة من صنع يديه،
وينفذ ببصره داخل المطابخ والنوافذ،
ولا يفكر أبدا في المستقبل،
ولا في الحياة بوجه عام،
ولا بوجه خاص،
بل يدور بطائرته الخشبية
التي ركب فيها موتور
سيارة شيفروليه قديمة
فوق البيوت القليلة،
فوق القرية،
والمدن،
والعالم.
قائمة المصادر والمراجع
(1) المراجع الأجنبية
Everyman’s Dictionary of European Writers by W. N. Har-graves - Mawdsley - London, Dent & Sons, 1968.
Irmscher, Johannes (Hrsg.), Lexikon der Antike - Leipzig, VEB Bibliographisches Institut, 1972.
Krpanz, Gisbert (Hrsg.), Gedichte auf Bilder. Anthologie und Galerie München, DTV, 1975.
Kranz, Gisbert (Hrsg.), Deutsche Bildwerke im Deutschen Gedicht. München, Max Hueber Verlag, 1975.
Kranaz, Gisbert (Hrsg.), 24 Gedichte interpretiert. Bamberg, C. C. Buchners Veplag, 1972.
Murray, Peter & Linda, The Penguin Dictionary of Art & Artists. London, Penguin Books, 5th Edition, 1984.
The Oxford classical Dictionary
poetics.
Myers, Bernard’s and schipley D. (Editors), Dictionary of 20th century Art. New-York, Mcgraw-Hill Book company, 1974.
The Readers Companion to World Literature. Edited by L. H. Homstein, G. D. Percy, S. A. Brown. New York, Menter Books, The New American Library, 1973.
Sylrester, David, Modern Art from Faurism to Abstract Ex-pressionism. New York, Grolier, 1967.
Walsh, Williams, Heroes and Heroenes of Fiction - classical, Mediaeval, Legendary -
1966.
Wilpert Gero von, Lexikon. Deutscher Dichter - Stuttgart, Kroner, 1963.
Wilpert Gero von, Sachwörterbuch der Literatur - Stuttgart, Kröner, 1974. (2) المراجع العربية
د. جابر أحمد عصفور، الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي. القاهرة، دار المعارف، 1973م.
د. شكري محمد عياد، كتاب أرسطوطاليس في الشعر، القاهرة ، المكتبة العربية، دار الكاتب العربي، 1967م.
مجلة أبولو (أربعة مجلدات من سبتمبر 1932م إلى أكتوبر 1933م).
مجلة فصول، المجلد الخامس، العدد الثاني، 1985م (الأدب والفنون).
دواوين ومجموعات شعرية مختلفة منصوص عليها في الكتاب، وكتب مفردة عن كبار الفنانين.
عبد الغفار مكاوي، ثورة الشعر الحديث، من بودلير إلى العصر الحاضر (في جزأين) القاهرة، هيئة الكتاب، 1972-1974م.
عبد الغفار مكاوي، لحن الحرية والصمت، الشعر الألماني بعد الحرب العالمية الثانية، القاهرة، هيئة الكتاب، 1975م، المكتبة الثقافية.
عبد الغفار مكاوي، التعبيرية، صرخة احتجاج في الشعر والقصة والمسرح، هيئة الكتاب، 1973م، المكتبة الثقافية.
صفحه نامشخص