إن إنكار النظام هنا ليس بأيسر الجوابين، بل هو عند البحث في أسبابه ونتائجه أصعب الجوابين وأغربهما، وأحوجهما إلى البحث من جديد، إلى أن يستقر البحث على قرار.
من قال بالخطة المتبعة والتدبير المقدر فليس من اللازم أن يبسط أمامنا الخطة المتبعة بتفاصيلها، ويضع أيدينا على أوائلها وخواتيمها، وكل ما يلزمه «أولا» أن يدحض حجة الفوضى والارتجال الأعمى، وأن يقرر الفرض المعقول، ثم يقرر أن الواقع يؤيده، ويجري في مجراه، وأدل من ذلك على صحة الفرض المعقول أن الغرض المقصود من الخطة المتبعة يتحقق بما يظهر أنه يناقضها، كما يتحقق بما يظهر أنه يجاريها ويمضي في طريقها.
وسنرى أن هذه الدعوى يسيرة الإثبات، أو أنها على الأقل أيسر إثباتا من دعوى الفوضى والعمل الجزاف.
أما نفي الخطة المتبعة، وادعاء المصادفة المحضة، فليس من اليسر بالمكان الذي يحسبه من يقولون بالمصادفة على أي وجه من الوجوه، وإنهم ليقولون بالمصادفة على وجوه كثيرة، دليل بعضها غير الدليل الذي يقوم به ادعاء الآخرين.
فالمصادفة عند بعضهم مرادفة لمعنى الفوضى والخبط في الظلام، تهدم اليوم ما تبنيه، وتبني ما تهدمه، وتتقدم وتتأخر في العمل الواحد وفي الساعة الواحدة، وتتصرف في عموم حركاتها وأفعالها كأنها مئات من الأضداد يجذب كل منها إلى ناحيته، ولا يستطيع أحد أن يعلم أنه يجذب في الناحية الواحدة مرتين، ومن ادعى لك ذلك فلا حاجة إلى تفنيد قوله بالبحث الطويل وراء حوادث الماضي والحاضر، فإن ظواهر اللحظة الواحدة كافية لتفنيد ما يدعيه، وإن فهمه للمصادفة حتى على هذه الوجه لا يتأتى بغير وجود النظام الذي ينبغي أن تقاس إليه مصادفات الفوضى والخبط في الظلام، ولا بد من بعض النور لنعلم كيف يكون ذلك الخبط في الظلام .
والمصادفة عند غير هؤلاء لا تنقض النظام، ولكنها قد تصاحبه وتتممه، وقد تلازمه في حالات وتفارقه في حالات، وعلى هذا النحو تفهم المصادفة في مذهب الفيلسوف الكبير شارل بيرس
Charles Peirce
رائد اليرجمية المشهور، فإنه لا يفهم المصادفة كأنها الضد المناقض للقوانين الطبيعية، بل يفهم منها أنها قوانين في انتظار التكوين، وأن قوانين الكون لم تتم جميعا في لحظة واحدة، ولم تكن هكذا كما نعهدها الآن في كل زمن وكل ظاهرة طبيعية، ولكن القوانين الكونية أخذت في جريانها مجرى العادة على درجات وأدوار متعاقبة، ومن الجائز أن يشمل القانون الواحد كل ظاهرة من ظواهره في الكائنات المادية، ولا يشمل جميع الظواهر فيما يتعلق بالحياة، ومن أمثلة ذلك عنده أن قانون الحركة المكنية التي تطرد وتنعكس لا ينطبق على حركة النمو في النبات أو الحيوان، وأن الحقائق التي تستخرج من حركات الأجسام في الجملة لا يلزم أن تطابق حركات أجزائها، أو جزئياتها الدقيقة كل المطابقة.
فالمصادفة عند الفيلسوف بيرس لا يتحتم أن تناقض القانون الطبيعي أو تبطله، وقد يكون حكمها كحكم مشروعات القوانين أو حكم القرارات الفرعية في اصطلاح المشرعين، فمن قال بها لم يحسب من القائلين بإلغاء الخطة المتبعة في سياسة الكون. •••
وتفهم المصادفة بمعنى غير ما تقدم عند فريق من القائلين بنفي القصد والتدبير في حركات التاريخ وحركات الطبيعة على الإجمال، فلا هي فوضى تناقض القوانين، ولا هي تتمة للقوانين أو زيادة عليها تجاورها ولا تدحضها.
صفحه نامشخص