وإنه لكذلك إذ وقعت عيناه على رسالة ماري، فانتفض كمن لسعته أفعى، وأخذها بيده وهو يقول: لقد علمت الآن السبب الذي حدا روزه على التباعد وفصم العهود، فلا بد أن تكون قد اطلعت على هذه الرسالة التي شهدت بخيانتي ونكث ودي، ففعلت ما توجب عليها الأنفة وعزة النفس، وساعدني ذلك على التطوع في الزيغ والغدر.
ثم جعل يتأمل فيما كانت عليه حالها وقتئذ من شدة الحزن واليأس، وما ذرفت عيناها الجميلتان من الدمع، فكاد قلبه يتقطع حسرة وأسفا، ثم صاح من فؤاد قرحته أنياب الندم: الويل لي! أنا الشقي! كم جلبت على تلك النفس الطاهرة من الآلام، وكم سببت لها من الأسقام، فضلا عما جررت عليها من خسارة المال وضياع الآمال، أواه! من لي فيزيل هذا الحاجز بيني وبينها الآن، ويرجع إلى قلبي سعادته المفقودة، ويعيد إليها سابق ثقتها بي؟
وبعد أن أنهى أعماله، وجمع أمتعته، ذهب إلى والده، فتلقته شقيقته بالترحيب وعانقته مكثرة من ملاطفته، ثم قصت عليه خبر زفاف روزه إلى أخيها فريد، بما أمكن من التلطف بالحديث.
فشعر حينئذ بأن الأرض تميد تحت قدميه، ولبث مدة شاخص النظر مقطب الوجه صامتا، لم ينبس بكلمة، إذ لم ير وجها للومها، بل كان يردد في سره قائلا: لقد جوزيت بخطيئتي، ونلت جزاء غدري وخيانتي.
وما زالت ماري تحدثه وتمازحه إلى أن خف ما به.
ولقي بعد ذلك من حسن معاملة أسرته عموما، ومن أخيه خصوصا ما لطف حزنه وأخمد نيران فؤاده. وكان فريد يزورهم من وقت إلى آخر، ثم يعود إلى قرينته التي فضل الإقامة معها منفردين، وكثيرا ما كان يدعو أخاه لزيارته، أما عزيز فكان يصعب عليه مواجهة روزه، والنظر إليها، ففضل الابتعاد معتذرا إلى أخيه.
حتى إذا كان بعض الأيام وروزه واقفة في ردهة منزلها، وقد ارتدت ثوبا فاحما زاد جمالها بهاء، وبشرتها نقاوة، لم تشعر إلا وعزيز واقف أمامها ينظر إليها بانكسار.
فحالما وقعت العين على العين، وقف كلاهما مبهوتا، كأن به سحرا، وقامت رسل الأنظار تشكو إلى القلوب ما جنته عليها من أيدي البعاد، ولبثا كذلك هنيهة يتمتعان بلذة حلم ما عتم أن أعقبه مرارة اليقظة، فانتبه عزيز إلى حقيقة مركزه، والتفت بنظره إلى ماضي حياته، وقابل بين هذا وذاك، وللحال أطرق خجلا حزينا، وقال بصوت اليأس: ما أشقاني ...!
فمدت روزه إليه يدها باسمة، فقبض عليها بلهفة فضغطت على يده بحنو قائلة: لا تتفوه بمثل ذلك أيها الصديق؛ فأنا شقيقتك منذ الآن. - آه ... إذن قد صفحت عني. - لقد صفحت عنك، وفوق ذلك فإني أحبك حب الأخت لأخيها. - هذا غاية ما أرجوه منك، فما أنت إلا ملك كريم.
ثم أكب على يدها، فتركته يقبلها، ويغسلها بدموعه، وقلبها يتقطع حسرة وشفقة عليه.
صفحه نامشخص