مقدمة
1 - فاتنة لبنان
2 - شرك الحب
3 - ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
4 - غيظ العدى من تساقينا الهوى فدعوا ...
5 - اليأس
6 - حياة جديدة
7 - ابتسام الدهر
8 - وردة الحقل
9 - السفر
10 - والحب اول ما يكون مجانة ...
11 - التذكار
12 - التهور
13 - خيانة
14 - شهامة المرأة
15 - ماري
16 - القلب الأثير
17 - الصديقتان
18 - السفر
19 - على فراش الموت
20 - كشف الغطاء
21 - ظهور الحقيقة
مقدمة
1 - فاتنة لبنان
2 - شرك الحب
3 - ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
4 - غيظ العدى من تساقينا الهوى فدعوا ...
5 - اليأس
6 - حياة جديدة
7 - ابتسام الدهر
8 - وردة الحقل
9 - السفر
10 - والحب اول ما يكون مجانة ...
11 - التذكار
12 - التهور
13 - خيانة
14 - شهامة المرأة
15 - ماري
16 - القلب الأثير
17 - الصديقتان
18 - السفر
19 - على فراش الموت
20 - كشف الغطاء
21 - ظهور الحقيقة
قلب الرجل
قلب الرجل
تأليف
لبيبة ماضي هاشم
مقدمة
بسم الله وبحمده
وبعد، فهذه رواية غرامية القصص، أدبية المغزى، أنشأتها وقدمتها إلى جمعية السيدات المارونيات، التي أنا إحدى المنتظمات في عضويتها؛ بقصد ضم ما يتسير من ريعها إلى دخل الجمعية، التي أخذت على نفسها تعليم البنات البائسات اللواتي يعجز أهلهن عن الإنفاق عليهن في المدارس، وحسبي عوضا عما تكلفته من التعب، وما أنفقته من الزمن؛ إقبال ذوي الغيرة على مشترى هذه الرواية تعضيدا لجمعيتنا هذه التي تجاهد في سبيل خدمة الإنسانية، ورحمة بالفتيات أن يلبثن بين أيدي الجهالة والفاقة، فيكن عالة على الهيئة الاجتماعية، والله المسئول أن يكلل سعينا بالنجاح، ويمهد لنا سبيل المبرات، وأن يتقبل منا هذه الخدمة المخلصة، إنه تعالى ولي الخيرات بمنه وكرمه.
لبيبة هاشم
الفصل الأول
فاتنة لبنان
لا تزيد المطالع علما بما كان من حوادث الفتنة الأهلية، التي جرت في لبنان سنة 1860، وما وقع في أكثر القرى من المذابح الهائلة، وسفك الدماء الزكية، بحيث اضطر معظم المسيحيين إلى الفرار من السيف والتشتت في آفاق البلاد، وكان حينئذ لأحد أمراء الدروز فتاة بارعة الجمال تدعى فاتنة، فحدث أن خرجت يوما على صهوة جوادها تقصد النزهة مع بعض أترابها من بنات الأمراء، فجمح بها الجواد، وأخذ ينهب تلك الفلوات حتى انتهى بها إلى سفح أكمة، فظهر أمامها واد بعيد العمق، تكتنفه الجبال الشاهقة والصخور والآجام، فهالها هذا المنظر وذهب برشدها، فأفلتت العنان من يدها وأطبقت أجفانها مستسلمة لرحمة القضاء، وإنها لكذلك، إذا بطلق ناري قد دوى بالقرب منها، فانتشر عنه دخان كثيف حجبها حينا عن العيان، ثم انكشف فظهر الجواد يخبط على الأرض بدمائه لرصاصة مزقت أحشاءه، والفتاة ملقاة إلى جانبه مغمى عليها.
وكان السبب في ذلك أن شابا مسيحيا يدعى حبيب، كان أهله في إحدى قرى الجبل، وكان مستخدما عند بعض التجار في بيروت، فلما انتشر خبر الفتنة خاف على أهله فأسرع إلى جواده، وتقلد سلاحه وسار إليهم، وهو يقصد الدفاع عنهم والخروج بهم من دائرة الخطر، وبينما هو سائر بصر بالفتاة على شفير الهاوية، فدعته المروءة إلى إنقاذها، ولما رأى الجواد صريعا أسرع ليرى ما حل براكبته، ولكنه لم يقترب منها حتى وقف حائرا مبهوتا لدى جمالها الباهر، وكاد يلهيه التأمل بحسنها عن الاعتناء بها وإفاقتها من إغمائها.
ولما تمالك روعه جثا أمامها، وأخذ يديها بكلتا يديه فوجدهما مثلجتين، فخفق فؤاده وزاد اضطرابه، وطفق يدلك كفيها الناعمتين، وعيناه تنظران حوله لعله يلقى معينا، فلم يجد إلا قفرا وسكوتا مخيفا، ولكن لم يلبث إلا أن شعر منها بحركة خفيفة، وبأنفاس متقطعة تخرج من فيها، فاطمأن باله على حياتها، إلا أنه لم يجسر على تنبيهها خوف إزعاجها، وطمعا في إطالة النظر إلى وجهها، الذي كان قد سرى إليه دم الحياة، فكساه لونا ورديا زادها بهاء وجمالا، فانتعش الفتى وقد أخذ حسنها بمجامع قلبه.
ثم تململت الفتاة، وفتحت جفنيها فوقع نظرها على الشاب جاثيا أمامها، والذهول قد تسلط عليه، والحنان ظاهر في نظراته، فأثر بها منظره، وراقها جمال طلعته الممزوج بالفراسة والذكاء، فابتسمت له ابتسامة شفت عما خامرها من الشكر، ثم حاولت النهوض فلم تستطع؛ لشدة ما أخذها من الضعف والتعب، فأسندت نفسها إلى ذراعه، ومالت بنظرها إلى ما حولها فرأت الجواد صريعا، فأدركت للحال ما ألم بها من الخطر، وعلمت سبب وجود الرجل إلى جانبها، وأنه هو الذي خلصها من وهدة الموت بهمته وشجاعته، فقالت له بصوت أحياه الأمل فأبعد عنه الوجل: إن حياتي من عندك أيها الشهم الكريم وإن لساني لعاجز عن إيضاح شكري لحنانك وبسالتك، ولكني أسأل الله الكريم، أن يكافئك عني خيرا.
فبهت من كلامها ولم يدر بم يجيبها؛ لأن رنات صوتها الرخيم أثرت في فؤاده، ولم تفسح له مجالا للنطق، فاستعاض عن الكلام بنظرة تعني أنه هو المدين لنعمة القدر الذي سخره لنجاتها.
وبعد حديث جرى بينهما علم أن اسمها فاتنة، وأنها ابنة حاكم البلاد، فساءه ذلك جدا، إذ تأكد أنها من غير مذهبه، وأن بينهما حاجزا منيعا من الدين الذي لا يقوى على اختراقه، ولما زال اضطرابها وعادت إليها قوتها سارت - وهو إلى جانبها - حتى اقتربت من بلدها، فافترقا وفي صدر كل منهما نار من الوجد حامية.
الفصل الثاني
شرك الحب
وبعدما سكن جأش الفتنة، جعل حبيب يتردد إلى البلدة التي فيها فاتنة، وتسمى بالمختارة، وهو غير مبال بشدة الخطر الذي كان يترصده من الأعداء، فكان يتنقل من مكان إلى آخر متنكرا، حائما حول منزلها حتى يفوز منها بنظرة تلطف حر قلبه، ثم يعود من حيث أتى وقد امتلأ فؤاده بهجة وسرورا، وكثيرا ما كان هذا الحب سببا لوقوعه في يد أناس من أعدائه، فينجو منهم بقوة ساعده وشدة بأسه، إلى أن جاءه يوم لم تنفع فيه بسالة ولا جهاد، فوقع في أسر أبيها وغل في سجن مظلم، فأقام يتوقع الموت في كل آن لما كان يعلمه من قساوة الحاكم واستبداده، وحبه للانتقام وسفك الدماء.
ودام على تلك الحال بضعة أيام لم يذق في خلالها لذة الكرى؛ لشدة ما لقي من سوء المعاملة، ومن أثقال القيود والسلاسل التي لم يقدر على احتمالها.
وجلس في إحدى الليالي أمام نافذة السجن يراقب النجم في كبد السماء، ويفكر فيما آل إليه حاله، وكيف أبعد عن فاتنة لبه كل تلك المدة، وهي لم تبال بمصابه الذي سببته له، ولا سعت في إنقاذه من مخالب الموت الذي كان يتهدده، مع تيقنه أنها لا بد أن تكون قد علمت بما جرى له، فأخذ يؤنب نفسه؛ لتورطه في هواها وتعرضه للأخطار بسببها، وهي تعرض عنه في أوان الضيق، ولا تحتال لتخليصه من عذابات السجن، ولكنه مع كل هذه الأفكار لم يكن يشعر إلا بقوة سلطانها على فؤاده، وأنه سيموت سعيدا لأجلها، وعلى هذا الأمل أطبق جفنيه واستغرق في نوم عميق.
الفصل الثالث
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
ولم يمض على نومه إلا قليل من الزمن حتى شعر بأيد تحل قيوده، فاستيقظ للحال وهو يظن نفسه في حلم، ونظر فوقه فرأى شبحا أبيض منحنيا عليه، لم يتمكن من تمييز وجهه بسبب الظلام، فهم أن يتكلم مستفهما لو لم يشعر بيد لطيفة يعرفها قد وضعت على فمه، فهمس قائلا: فاتنة ...
فلم تجبه بشيء، بل أخذت بذراعه وسارت به في ذلك الظلام الدامس حتى انتهيا إلى باب السجن، فخرجا دون أن يعترضهما الحراس؛ لأنها كانت قد سبقت إليه بالأصفر الرنان الذي غل أيديهم وأخرس ألسنتهم، ولما خلا لهما الجو تنفس حبيب نفس الراحة، ومال إلى حبيبته يشكرها على حسن صنيعها، وما اقتحمت لأجله من الخطر والتعرض للوقوع بين مخالب المنية، فقالت له: إن حياة أنت سبب بقائها لحرية بأن تبذل لأجلك وتكون وقفا عليك، والله يعلم أني منذ بلغني وقوعك في هذا الأسر، لم يأخذني منام ولا غفلت ساعة عن السعي إلى أن فزت بأمنيتي، بعد أن اتخذت لذلك أعظم نصير، وهو الرشوة التي لم يكن لي بد منها في مثل هذا الحال، حتى تمكنت من إنقاذك من سجن سيكون قبرا يدفن فيه أولئك الأبرار المساكين ... فهيا بنا نرحل من هذا المكان الذي يتهددنا فيه الخطر من كل الجهات.
وعلى ذلك خرجا يجدان المسير حتى ابتعدا عن البلد، واقتربا من دير القمر ... وعندئذ ظهرت أشعة الغزالة على تلك المروج الخضراء، فجلسا على أكمة ليستريحا من مشقة الطريق، ثم خافا أن تراهما عين عدو من أتباع الحاكم، فنهضا يسيران بين تلك الأدغال، ويتستران بالأشجار الكثيفة، وبقيا يمشيان تارة ويجلسان تارة حتى قطعا مسافة طويلة، وكان التعب قد أخذ منهما كل مأخذ، وكلت قوى فاتنة عن مواصلة السير، ولكنها تجلدت ولم تبد الشكوى.
وكان الوقت وقت شتاء، وقد هاجمهما بلعمان ببروقه وأصوات رعوده، فتعذر عليهما السير وضلا عن الطريق، فدخلا مغارة ليلتجئا فيها من البرد والأمطار، وكانت الشمس قد أفلت، ونشر الليل جناحه على تلك الجبال الجرداء، ثم ساد السكون المخيف، وكانت الأرض قد تغطت بالثلج الناصع البياض، ولم يكن إلا هنيهة حتى سمعا صوت زئير الوحوش الضارية تقترب منهما، كأنها تقصد المبيت في ذلك الكهف، فهرولا متسللين.
وكان حبيب قابضا على ساعد فاتنة، يساعدها على المسير فوق تلك الثلوج، ولم يسيرا طويلا حتى سقطت على الأرض خائرة القوى، وهي ترتجف من البرد والتعب، فاحتملها على ذراعيه، وسار بها يبحث عن مكان آخر يأوي إليه؛ لأن الليل اشتدت ظلمته، وتكاثف الضباب، وهبت من الغرب ريح عاصفة ضربت السحائب ضربا عنيفا، وانقضت من السماء صواعق متتابعة، يتخللها تألق البروق، وقصف الرعود، وزئير الوحوش، فداخله رعب شديد، ولا سيما أن فاتنة لم تعد قادرة على احتمال تلك الحال، فجلس بها في ذلك القفر، وأخذ يفرك يديها ورجليها؛ ليعيد إليها ما فقدت من الحرارة.
ولم يمض عليهما ساعة وهما على تلك الحال من المشقة، حتى سمعا صوت جرس عن بعد، وظهر حالا أمامهما كلب كبير يتبعه شيخ بلباس أسود، بيده سراج صغير يستنير به في أعماق تلك الظلمات، فلما رآهما الشيخ أسرع إليهما وقال: هلما إلي أيها الولدان المباركان.
فنهضا للحال، وتبعاه وهما يشكران الله الذي أرسله لنجاتهما، فقادهما إلى منسكه، ولما دخلاه واستقر بهما الجلوس أخذا يشكران الشيخ على إنقاذهما من يد الهلكة. فقال: بل اشكرا الله الذي قاد خطاكما إلى هذه الناحية، حتى اتفق لي العثور بكما، فإني مثل هذه الأيام أخرج كل ليلة؛ لتفقد من عسى أن يكون قد ضل عن الطرق، فيأوي إلينا، وقد علمت كلبي أن يطوف في ليالي البرد والثلج، ويشم رائحة المسافرين الذين يدفعهم القدر إلى هذا القفار، فإذا عثر بأحد منهم عاد إلي فقادني إليه، أو سمع المسافر صوت الجرس الذي علقته في عنقه فاهتدى به إلي.
ثم إن الناسك قدم لهما طعاما يقتاتان به، وبسطا من العشب اليابس ليناما عليه، فأكلا هنيئا ثم استغرقا في نوم عميق.
ولما أصبحا خرجا إلى باب الكهف، وكان المطر قد انقطع وانجلى وجه الأفق، وبرزت الغزالة من وراء الجبار، فرأيا أمامهما السهول الشاسعة والأودية الوعرة مكسوة بثلج يتلألأ بنور الشمس، وللحال ركع الناسك وصلى صلاة الصبح، فركعا معه، وبعد ذلك جلسوا، فأخذت فاتنة تحدثه بما لقياه من العذاب في ذلك السفر العنيف، وقصت ما كان من أمر الفتنة الجبلية، وأن أباها كان من أعظم الموقدين لنارها، وكانت في أثناء ذلك تتفرس في وجه الناسك؛ لترى ما يبدو منه متى علم أن التي صنع معها ذلك الجميل وأضافها كهفه، هي ابنة ألد أعداء قومه، ولما لم يبد منه ما تتوقع، سقطت جاثية على قدميه والدموع تترقرق في مآقيها وقالت: ما هذا الكرم يا أبت، وكيف لم تطردني بعد ما علمت من أنا، ولم تعاملني بما استحققته بخطيئة ذوي وأهلي، والآن فاعلم أيها الأب الفاضل بأني مسيحية، ولست بدرزية كما سأقص عليك من أمري.
فأجابها الراهب بصوت رزين: يا بنية، إن الله يأمرنا بمصافاة الجميع على حد سواء، وهو وحده يجزي المرء كما يستحق، فاجلسي وقصي علي خبرك. - اعلم يا أبت أني ولدت من أسرة مسيحية في مدينة دير القمر، أثناء الثورة التي حدثت سنة 1842، وقتل والدي وأنا في الأسبوع الرابع من العمر، ولم ترزق والدتي من الأولاد سواي، فربيت في مهد اليتم والهموم، واحتملتني والدتي على ذراعيها، وسارت بي هاربة من مكان إلى آخر، حتى انتهت إلى مدينة بيروت، فأقامت بها مدة أربعة أشهر، غريبة وحيدة تعيش من تعب يديها إلى أن سكنت الثورة، واستتب الأمن، فعادت بي إلى دير القمر.
إلى أن كانت سنة 1845 فعادت الثورة، وقامت رحى الحرب بين الطائفتين المتعاديتين، وعاد الناس إلى التشتت في أنحاء البلاد، وكان لوالدتي معرفة بأسرة بني جنبلاط، الذين كان زمام الأمر في تلك الأيام في أيديهم، ودار حكمهم في بلدة قريبة يقال لها المختارة، فأسرعت والدتي إلى تلك البلدة، ولجأت إلى الأسرة المذكورة، فصادفت عندها كل رعاية وصيانة.
غير أنها لكثرة ما احتملت من الخوف والشقاء مدة خمس سنين أصابها مرض عضال قضت بسببه، وبقيت وحدي في تلك الدار لا أعلم لي أبا إلا رب الأسرة، وكان يعزني إعزازا شديدا، فأحسن معاملتي وجعلني كإحدى بناته، حتى لم يكن هناك من يرتاب في كوني ابنته، وبودي لو أتيح لي أن أشكر نعمته قبل مزايلة منزله والمكان الذي ترعرعت فيه، وقضيت خمس عشرة سنة على أتم الرفاهية والهناء، ولكن قضت الأقدار بما أوجب خروجي عن هذه الحالة.
وكان حبيب كلما أوغلت في الحديث يشعر بأن حملا ثقيلا يزول عن صدره، وهو لا يتحقق هل كان في يقظة أو في منام، فلما انتهت إلى آخر عبارة من حديثها عقب عليها بقوله: لقد خرجت أيها الأب الفاضل من ذلك المنزل الذي كان ملجأها الوحيد ومقر سعادتها ونعيمها، واحتملت من المشقات والأهوال والتعرض للأخطار ما يعجز وصفه؛ لتنقذني من عذاب السجن، وتخلصني من مخالب الموت، وتشاطرني بعد ذلك أنواع الشقاء والبلاء، فليس لدي ما أقدمه لها مقابل تهورها وحبها سوى قلب لم تبق لي النوائب غيره، ويد لا تمتلك غير قبضة السيف لصيانتها، فبارك يا أبت حبنا، وكن شاهدا على صدق ودنا.
فرفع الناسك يده إلى العلاء وهما جاثيان أمامه، وطلب إلى الله أن يبارك اقترانهما، وعند نهاية صلاة الإكليل تناول حبيب من داخل ثيابه ذخيرة ذهبية معلقة بسلسلة دقيقة الصنع، فطوق بها عنق عروسه.
وفي اليوم التالي اكتريا غرفة في سفح الجبل قريبة من الناسك، وأويا إليها ريثما يروق الكأس، وتهدأ الاضطرابات، وكان حبيب يخرج للصيد في النهار، ويعود مساء بما جمع من الطير والحيوان فيقتاتان به وهما ثملان بنشوة الحب.
ولبثا على تلك الحال حتى آخر شهر أبريل (نيسان)، إذ صفا الجو وانقطعت الأمطار، واكتست الأرض والأشجار بحلل الربيع البديعة الألوان، وهب عليهما النسيم عليلا، فتعانقت الأغصان بعد طول الافتراق، وانتشر شذا عبيرها فتعطرت الأرجاء.
وكان حبيب يخرج مع زوجته كل عشية بعد الفراغ من الصيد إلى سهل قريب، ويجلسان على صخرة تجري المياه بقربها صافية، فيسمع لها خريرا كأنه رنة الأوتار، والطيور تغرد فوقها على اختلاف الألحان، وقد تغلغلت بين الأغصان قصد المبيت إلى طلوع النهار.
الفصل الرابع
غيظ العدى من تساقينا الهوى فدعوا ...
غيظ العدى من تساقينا الهوى فدعوا
بأن نغص فقال الدهر آمينا
بينما كان الزوجان جالسين ذات يوم في هذا المكان على عادتهما يتبادلان أحاديث الحب والهيام، قالت له فاتنة وهي تلعب بأطراف شعرها المنسدل على كتفيها، ممثلا ظلام الليل حول بدر محياها، وقد صبغ وجهها الجلنار: إني قد صرت أما.
فضمها بين ذراعيه، وقطف من ورد وجنهما قبلة لم يدر في خلده أنها كانت قبلة الوداع، وقبل أن يجيبها بكلمة سمع عدة طلقات نارية قد دوت بالقرب منهما، فذعر لسماعها، وللحال نهض مستويا وانتضى سيفه باليد الواحدة، وغدارة بالأخرى وصاح من القادم، فأجابه صوت البنادق مكررا تلك الطلقات، فتقدم نحو الصوت بشجاعة عظيمة، وإذا بستة رجال مدججين بالسلاح قد اعترضوه وتكاثروا عليه، فأصابوه برصاصة في ظهره ألقته على الأرض صريعا، فتركوه يتمرغ بدمه وأسرعوا إلى زوجته، وكانت قد سقطت مغمى عليها فحملوها وساروا بها مجدين.
ومضى على هذه الحادثة المفجعة ساعة، وحبيب مطروح على الأرض، والدم يسيل من جرحه لا عين تراه، ولا أذن تسمع أنينه، ولكن الله أبى إلا أن ينقذ من ذلك العذاب الأليم نفسا لم تجترم ذنبا، ولا أتت منكرا، فأرسل إليه الناسك الذي هب إلى ذلك المكان عند استماع صوت البنادق، وأخذ يبحث من مكان إلى آخر حتى عثر على جثة ملقاة على الأرض والدم يتفجر منها، فصوب نحوها نور المصباح، فتبين له وجه حبيب وعلامات الموت بادية عليه، فانحنى فوقه والحزن ملء فؤاده، ووضع أذنه على قلبه، فشعر بحركة خفيفة دلته على وجود بقية من الحياة فيه تؤمله بالنجاة، فهرول حالا إلى منسكه بعد أن وكل الكلب بحراسته.
ولم يكن إلا القليل حتى عاد ومعه ثلاثة من الرهبان، فحملوه وذهبوا به إلى الدير حيث ألقوه على فراش وثير، وأخذوا بمعالجة الجرح، فأخرجوا الرصاصة منه، وضمدوه بالعصائب واللفائف بعد أن وضعوا عليه العقاقير الطبية؛ لالتئامه ومنع الفساد عنه، ثم نشقوه الروائح المنعشة حتى استفاق ففتح عينيه، وتمتم بعض كلمات غير مفهومة، ثم عاد إلى غيبوبته، وقد انتشر الدم في وجهه، وتصبب العرق من جبينه، واستولت عليه حمى مدة أربعة أيام لا يعي فيها على شيء، والرهبان يتناوبون خدمته ليلا ونهارا، حتى خفف وطأتها، فاستيقظ في صباح اليوم الخامس واستوى على فراشه بألم الجرح، مما نبه خاطره إلى ذكر تلك الحادثة المحزنة، فصاح بصوت يفتت الأكباد: فاتنة ... حبيبتي ... فاتنة.
فاقترب الكاهن منه وقال له بصوت ملؤه الشفقة والحنان: سكن روعك يا ولدي، فإنك مريض ومعرض للخطر الذي لا يزال واقفا لك بالمرصاد. - سأكون طوع أمرك يا أبت، إنما أتوسل إليك أن تقول لي بأن زوجتي لا تزال على قيد الحياة وأني سأراها قريبا.
فهدأ الناسك روعه، وسأله كيف وقع ذلك، فقص عليه حبيب الحادثة وهو يبكي ويتأوه ويندب زوجته ويتألم، فقال له الناسك: طب نفسا يا بني وقر عينا، فإننا سنسعى جهدنا لكشف أمرها ومعرفة مقرها، فالزم السكينة والراحة كي يتسير لك الشفاء عاجلا فشاركنا في البحث عنها، والله قادر أن يعيدها إليك سالمة، دون أن يمسها ضرر ولا أذى. - أتوسل إليك يا أبت الحنون أن تبادر الآن إلى البحث والاستقصاء؛ لأني بغير ذلك لا أجد راحة ولا صبرا.
قال ذلك وتحفز للنهوض، وهو يقول والدمع يتساقط على خديه وفؤاده يتقطع حزنا ومرارة: إنني لا أستطيع العيش ساعة واحدة بعيدا عن مصدر حياتي وسعادتي، فلا بد لي من النهوض الآن لإنقاذها وردها إلي.
فأمسكه الكاهن وأعاده إلى فراشه قائلا له: ثق يا ولدي بأننا لا ننفك عن اقتفاء أثرها، ولا نترك وسيلة إلا ونستخدمها لإنقاذها، فلا تجهد نفسك فيما لا فائدة منه، بل يعود عليك بالضرر العظيم.
فاضطجع حبيب على سريره خائر القوى، وعيناه تنظران إلى الكاهن مترجمة عن حاسات قلبه، وما يتقد فيه من نار الغيظ وحب الانتقام، ثم قال: إنني لا أرجع عن الانتقام من هؤلاء الخونة المارقين ما دام في نفس من الحياة، ولا بد من إرجاع فاتنتي إلي وإلا فالموت خير لي وأبقى.
وغاب للحال عن رشده؛ لأن الحمى هاجمته بنيرانها الوقادة، فحبست لسانه عن الكلام، واستولت بسلطتها على جميع أعصابه. أما الكاهن فأخذ يعالجه بما لديه من العقاقير الطبية حتى استفاق من غيبوبته، ثم أوصى الرهبان بخدمته والاعتناء به، وخرج يطوف المدن والقرى مستقصيا عن فاتنة، فلم يقف لها عن أثر، فرجع خائب الأمل بما كان من نتائج بحثه وتفتيشه، وأنه بث العيون والأرصاد في جميع الجهات المجاورة، فلم يسمع عنها شيئا، فشعر حبيب كأن صاعقة انقضت عليه فأفقدته عقله، وأن الأرض قد مادت تحت قدميه، فهب من مكانه كالمجنون، وأخذ يخطر في الغرفة ذهابا وإيابا، والدموع تتساقط من عينيه حزنا وكآبة، ثم انحنى أمام الكاهن وقبل يديه شاكرا له على عنايته وحسن صنيعه، طالبا إلى الله أن يجازيه عنه خيرا، وودعه وودع الرهبان، فركب جوادا قدمه له الناسك، وسار تائها في تلك الفلوات، ينشد ضالته ويبحث عن منية فؤاده غير مبال بما يتحمله من العذاب والتعب، وما يقاسيه من الخطر والنصب، وبقي يطوف المدن والقرى متنكرا، ويبث العيون والأرصاد، فلم يقف لها على خبر، فضاقت الدنيا في عينيه، وانقطع حبل رجائه، وبان لديه هول موقفه إذ وجد أن الفتنة لا تزال ثائرة بين القوم، فهجر ذلك المكان خوفا من الموت، الذي كان يتهدده كل ساعة حرصا على حياة قد وقفها لصيانة امرأته، وإنقاذها من مخالب الأعداء الثائرين، وأخذ يجول من مكان إلى آخر متوغلا في الأدغال والغابات، حتى أضناه التعب وأعياه النصب، فآوى إلى كهف ليستريح من مشقة السفر، وبات تلك الليلة والهموم والأحزان تنازعه من كل صوب ، فحرمته لذيذ النوم والراحة.
الفصل الخامس
اليأس
وبينما هو على تلك الحال، يتقلب بين النوم والأرق، سمع صوت مستغيث بالقرب من مكمنه، فهب للحال، وتقلد سلاحه، وخرج خارج الكهف، فرأى على بعد خطوات رجلا منقضا على خصمه بيده خنجر يلمع في ضوء القمر، فصوب نحوه غدارته ورماه برصاصة فأرداه صريعا على الأرض، ثم دنا من محل الحادثة فرأى الرجل الذي أنقذه، وكان من أبناء قومه قد اقترب وصافحه شاكرا حسن صنيعه.
وإنهما لكذلك إذ رأيا الخيل تعدو نحوهما، فكمنا حينا وإذا بأربعة من الفرسان شاهرين السلاح فأصلياهم بنار بنادقهما الحامية، فقتلا اثنين منهم وركن الاثنان الآخران إلى الفرار، فتقدما حينئذ إلى القتيلين وجرداهما من السلاح والذخائر، وسارا في ذلك الليل إلى مكان آخر؛ ليأمنا فيه شر المصائب والأهوال، وحذرا من رجوع ذينك الخصمين بنجدة لا يقويان على مصادمتها، فساقهما القدر إلى مكان على شاطئ نهر الصفاء على مسافة أربعة أميال من بلدة عبية، حيث تكثر الصخور والأشجار، فنزلا إلى كهف لا يهتدي العدو إليه لما في الطريق من وعورة المسلك وكثرة الأدغال.
ولما استقر بهما المقام سأل حبيب رفيقه عن اسمه، وعن السبب الذي من أجله كان يطارده أولئك الفرسان. فقال: إني رجل من أسرة مسيحية كنا نقطن دير القمر، فلما ثارت الفتنة وأحاطت بنا الأعداء من كل جانب، تركنا منازلنا وأمتعتنا ولجأنا إلى بيت الأسرة الجاويشية، التي قيض الله لها أحد الأمراء الإرسلانيين، فأنقذها من غارة الجموع التي كانت محيطة بمنزلها تهدد المستغيثين بالسيف والنار، وقد خرجت متغلغلا بين أفرادها حتى صرت على مبعدة من البلدة، فأيقنت حينئذ أني بعيد عن الموت، وجعلت أتوغل في الفلوات أتوسد الأرض وألتحف بالهواء، وأعيش على ما أتصيده من الطيور والحيوانات.
وبينما كنت اليوم ذاهبا في ذلك القفر، سمعت صوت امرأة تستغيث، وقد أحاط بها سبعة من الفرسان، فهبت الحمية في رأسي فتقدمت لإغاثتها، فانقض علي خمسة منهم بالسلاح الأبيض، وعرج الآخران عن الطريق، وذهبا بالمرأة حيث لا أدري، فاحتدمت نار القتال بيني وبينهم حتى وجدت نفسي في موقف الخطر، فأركنت إلى الفرار، فأدركني أحدهم وكاد يقضي علي لو لم تأت أنت فتخلصني؛ ولذلك أصبحت رقيق معروفك، وسأجعل حياتي وقفا على خدمتك ما دام لي روح تختلج في الصدر، ولسان لا ينطق إلا بالشكر.
ولم يأت على كلامه حتى تغيرت ألوان حبيب وأبرقت عيناه ثم قال له: دع عنك حديث الشكر - أيها العزيز - لم أكن سوى آلة دفعتها التقادير لرفعك من وهدة الموت؛ فالشكر إذن لله الذي حفظك بعين عنايته، فزدني إيضاحا عن مسألة المرأة التي سمعتها تستغيث من أسر أولئك الفرسان، لعلي أهتدي إلى أمر هو سبب تعاستي ونكد حياتي، وإن شئت أن ترافقني إلى محل الحادثة، وتساعدني على البحث والتفتيش عن ضالتي المنشودة تجعلني أسير فضلك ما حييت.
فقال له: إنني أرى في وجهك ما يدل على الارتباك والاهتمام بأمر هذه المرأة التي لم أتميز هيئتها جيدا؛ لأن الوقت كان مساء، فقص علي أمرك لعلي أتمكن بمعونة الله من خدمتك وتفريج كربك.
فأطلعه حبيب على أمره وكشف إليه شواغل فكره، فتعاهدا على الإخاء، ووطنا النفس على السعي معا واقتسام المخاطر بالسواء.
ولما أذنت شمس ذلك النهار بالأفول، وودعت أشعتها الروابي والسهول، امتطيا جواديهما وسارا على مهل حتى انتصف الليل، وهما على رابية تشرف على دير القمر، فترجلا في مكان منفرد طلبا للراحة والرقاد، وعند الصباح استيقظا من نومهما على أصوات البنادق، فربطا جواديهما إلى جذع شجرة ونزلا إلى البلد يستقصيان الخبر، فرأيا الناس خارجين منها زرافات، وأصوات العويل والبكاء ترن في سفح تلك الأكمة بما يفتت الأكباد، فدخلا بين الجميع يبحثان عن فاتنة، فلم يقفا لها على أثر، فرجعا إلى الرابية حيث مكثا نهارهما، وعند المساء ركبا قاصدين بيت الدين، فدخلا متنكرين، فوجدا البلدة قاعا صفصفا ينعق فوقها البوم، فرجعا أدراجهما، وسارا في تلك الفلوات سيرا حثيثا حتى وصلا إلى المكان الذي أنقذ فيه حبيب رفيقه من أيدي الفرسان، فرأيا جثث القتلى وقد انتشرت هناك، وشاهدا آثار حوافر الخيل متجهة نحو الشمال الشرقي، فتتبعاها بمزيد من العناية والثبات، حتى وصلا إلى مكان مقفر قد كثرت فيه آثار الحوافر والأقدام، وعلى جانبه عظام جثة متراكمة بعضها فوق بعض، وإلى جانبها ثوب امرأة قد تمزق أكثره. ولم يكد يرى حبيب ذلك الثوب حتى هلع فؤاده وارتجفت أعضاؤه، إذ وضح له أنه الثوب نفسه الذي كانت مرتدية به قرينته يوم أخذت منه، فتحقق لديه موتها، وللحال سقط إلى الأرض خائر القوى، وصاح بصوت يفتت الفؤاد والأكباد: آه يا فاتنتي ويا موضع آمالي،أيها الملاك الطاهر، لقد عرضت نفسك للمهالك والأخطار لإنقاذي من القتل فقابلك الدهر على صنيعك بالموت العاجل، فاذهبي بسلام إلى حيث لا شقاء ولا تعب، وها أنذا راحل على أثرك من هذه الدنيا، إذ إننا لم نتمكن من البقاء معا في الحياة، فلا بد أن يكون لنا نصيب باللقاء بعد الممات.
قال ذلك وقبض على خنجره وهم أن يغمده في صدره، ولكن رفيقه أسرع إليه فأمسك يده ورأس الجارحة يكاد يخترق صدره، وقال له: عد أيها الحبيب إلى حالك وتفكر فيما أنت صانع، فإنك سترى أن الانتحار لا يصدر إلا من الجبان الوكل، فإن اليأس لا يتسلط إلا على الخاملين، وذوي الهمم الضعيفة والعقول السخيفة، وعهدي بك رجلا لا تحني ظهره النوائب، ولا تثني همته المصائب، فاعتصم بالصبر، واعلم بأن لا فضل لك بهذا العمل ولا دليل فيه على حبك لامرأتك، فحافظ على حياتك وقاوم كل ما يحل بك من نكبات الدهر بالصبر والثبات، وبذلك يكون لك فضل عظيم في الدنيا وراحة وسعادة في الآخرة.
فبكى حبيب بكاء مرا على فقد حبيبته، وجمع بقاياها فدفنها على رابية صغيرة يجري من سفحها ينبوع من الماء الزلال، وفي اليوم التالي ودع ذلك الضريح بعد أن سقى ثراه بدموعه، ورجع وصديقه من حيث أتيا، وعند وصولهما إلى دير القمر رأيا أن الاضطرابات قد زالت، ورجع الهدوء والسكينة إلى البلد، فمكثا مدة لم يذق فيها حبيب لذة الكرى، فانحلت قواه، وشحب لونه، وتسلطت عليه الهموم والأحزان ، وتراكمت عليه الأكدار والأشجان، فلم ير له دواء ينقذه من شر هذا الداء سوى الرحيل من تلك الديار والتنقل في البلاد والأمصار، لعل ذلك يخفف بلواه، ويلطف حر جواه، فأطلع صديقه على عزمه فوافق على ذلك، وسافرا معا حتى وصلا إلى مدينة بيروت، فنزلا في أحد الفنادق، وناما تلك الليلة نوما ثقيلا من شدة ما أصابهما من أتعاب السفر.
الفصل السادس
حياة جديدة
وعند الصباح نزلا إلى البلدة، ودخلا قهوة قامت أعمدتها في وسط البحر تلاطمها الأمواج فتردها على أعقابها، وقد انتشرت نقطها في الهواء تتلألأ بنور الشمس كقوس القزح، فجلسا بمعزل عن الناس، وكان حبيب ملازما الصمت يتأمل فيما صار إليه حاله، ويرنو بطرفه نحو تلك الأمواج، فيراها مداومة النزاع مع الصخور لا تكل ولا تمل من مهاجمتها رغما عما تلاقيه من المصادمة، فاتخذها مثلا لهذه الحياة التي هي مجمع الأتعاب ومنبعث الشدائد، فهي كبحر عجاج تتلاطم أمواجه، وكلاهما في نزاع دائم، ولكن شتان ما بينهما إذ إن المرء مهما تصلبت عضلاته وقويت بنيته فلا يثبت في ميدان تنازع البقاء، بل ينوء تحت أثقال الحياة ومصائبها، وينتهي الأمر به إلى الاضمحلال والفناء، وهذه الصخور واقفة أبد الدهر ترد هجمات الأمواج بعزم ثابت وقوة عظيمة، تحفظها في عالم الوجود والبقاء.
ولبث حبيب نحو ساعة غارقا في بحار الهواجس، وتارة تبدو على وجهه علائم الثبات والشجاعة والتغلب على طوارئ النوائب، وطورا يتقلب الحزن في أسارير وجهه، فيظهر تأثير اليأس في نظراته ويتململ من ضغط أفكاره، ثم يميل بوجهه إلى البحر كي لا يراه أحد، ويبكي بكاء الطفل غير قادر على كبح جماح الأحزان التي تسلطت عليه.
وكان لصديق حبيب شقيقة تزيده سنا، متزوجة بأحد التجار الموسرين واسمه خليل البيروتي، فحدث أن خليلا هذا كان جالسا وقتئذ بالقرب منهما يقرأ بعض الجرائد، فحانت منه التفاتة فرأى نسيبه، فنهض للحال، واقترب منه، ولما أبصره هذا أبدى السرور والانعطاف، وأكب عليه يعانقه، ثم عرفه بصديقه حبيب نصر الله، وجلس الثلاثة يتحادثون، وجرهم الحديث إلى الكلام عن بيروت وعن أحوالها التجارية، فأخذ حبيب يشرح لهما عن الوساطة التي يمكن اتخاذها للنجاح والإثراء، إذ كان عالما في ضروب التجارة علما وعملا، وبقي ساعة يطرفهم بالأحاديث المهمة، ويكشف لهم عن الأسرار التي عرفها بالمزاولة والاختبار، وهما ينظران إليه معجبين بسعة معرفته التجارية، وعند نهاية الحديث طلب خليل إليهما أن يترددا إلى مخزنه من وقت إلى آخر ففعلا، واستأنس حبيب بصحبته فأكثر من التردد عليه، وتعرف ببعض التجار الذين لهم علاقة معه، فأجلوه واحترموه لما رأوا من حسن خلاله وحميد صفاته، وما آنسوا به من رسوخ القدم في فنون التجارة.
وكان خليل يدعوه غالبا إلى منزله، فيلقى من ملاطفته ومؤانسة وحيدته سلمى ما يبرد لوعته ويلطف كثيرا من أحزانه، حتى أصبح بعد مدة من الزمن لا تطيب له الإقامة إلا بين الأب وابنته، وقد تمكنت عرى الوداد بين الصديقين، فكان حبيب يأتيه من حين إلى آخر بأحسن الآراء التي أوجدها حسن اختباره وتمرنه على الأشغال التجارية، فأحرز خليل أرباحا طائلة بفضل مشورته، فأدخله شريكا في أعماله، وقلده إدارة محله، فشمر حبيب عن ساعد الجد والنشاط، وبذل ما في وسعه لإتمام ما عهد إليه من العمل، فلم تكن إلا سنين قليلة حتى كثرت أرباحهما واتسعت دائرة أعمالهما، فزادت ثروتهما ونالا من الشهرة وحسن الصيت ما جعلهما في مقدمة التجار والأعيان.
الفصل السابع
ابتسام الدهر
ما أسرع ما يندم الدهر على ما وهب، وما أقرب ما يحرم الإنسان ما طلب، فقد أنعم على حبيب بهذه السلوى، وفتح أمامه باب الأمل والثروة، ولكنه لم يمهله طويلا حتى أصاب صديقه بمرض عضال لم تنجح فيه حيلة الأطباء، ولم يكن سوى أيام قليلة حتى أشرف على الموت، فكتب وصيته وسلمها إلى حبيب لما كان له من الثقة بأمانته وأوصاه بابنته خيرا.
وكان حبيب يشعر بميل عظيم نحو سلمى ابنة صديقه لما آنس بها من الذكاء والرقة فوق ما خصها المبدع من الجمال، وهي إذ ذاك في العشرين من عمرها، وكان لها ولع شديد بأبيها، فأثر عليها مصابه تأثيرا كاد يذهب بحياتها لولا عناية حبيب وتشجيعه إياها.
ولما قضى خليل نحبه احتفل حبيب بدفنه احتفالا يليق بمقامه، وجعل همه بعد ذلك الاعتناء بسلمى، فكان يلاطفها ويواسيها ويبدي لها من الشفقة والحنو ما خفف مصابها، واستمال فؤادها إليه فوق ما كانت تضمر له من الصداقة والاحترام اللذين تأسسا في قلبها مدة وجوده بينهما، فكثيرا ما كانت حياة أبيها تستنير بمعارفه، وتتلذذ بأحاديثه الرقيقة، ثم استدعى أقاربها وفض وصية أبيها، وتلاها على مسمع منهم، فرأوا أن الفقيد خص ابنته سلمى بجميع الممتلكات والنقود، وأنه عين حبيب قيما عليها، فخرجوا من لدنها صفر اليدين مقطبي الوجوه، ولما أيقنت سلمى أنها أصبحت وحيدة لا أنيس لها يذود عنها سوى حبيب سلمت إليه مقاليد الأمور، وكاشفا بعضهما الحب، فتعاهدا على الاقتران، وبعد أن صفى الأشغال جمع ثروته وثروة خطيبته التي كانت قد بلغت قدرا عظيما، واقترن بها بحفلة بسيطة لداعي الحداد، ولبثا مدة يرتشفان فيها كئوس السعادة والهناء، ويتمتعان برغد العيش والصفاء، إلى أن أتى العام الأول على زفافهما فتمت لهما حينئذ السعادة بمولود جميل الطلعة، دعواه فريدا، فكانت آمالهما معقودة عليه، وأفكارهما منصرفة إلى الاعتناء به.
وهكذا توالت عليهما الأيام، وانقضى العام الثاني والثالث وهما مع ذلك الطفل في نعيم دائم، ورزقهما الله طفلة جميلة سمياها ماري، فتضاعفت أفراحهما وتعاظمت مسراتهما، وما كان أهنأ تلك الأم وهي على فراش النفاس ترى قرينها جالسا لديها، وقد ضم الولدين إلى صدره وهو يقبلهما تارة وينظر إليها تارة أخرى، فتبسم له وتتحد أفكارهما مع رسل العيون، فتخرج من صدريهما تنهدات تصل بتوسلاتها إلى المبدع الوهاب أن يديمهما في ذلك الفردوس النضير، ويحفظ لهما ما أعطى من الخير الكثير.
ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، فإنه لم يمض أسبوع على ولادة تلك الطفلة حتى أصيبت والدتها بحمى شديدة، أورثت زوجها الحزن، وأولادها اليتم، وألبست المنزل السواد بعد أن ملأت قلوب أهله بالحسرات.
فأثرت تلك الفاجعة على حبيب تأثيرا لم يجد معه سبيلا إلى الصبر والسلوان، ولا وسيلة لإطفاء نار لوعته إلا بمهاجرة ذلك المكان الذي قضى فيه أجمل أيامه، ودفن فيه منتهى آماله.
فصفى أشغاله وجمع ثروته، وسافر بولديه إلى الديار المصرية، حيث ابتاع مقدارا وافرا من الأطيان، فوكل بها بعض الشبان المجتهدين، ومكث مع ولديه بضع سنوات، عاملا على تربيتهما وتهذيبهما حتى بلغا السن الموافق لتعليمهما، ولم يكن في مصر إذ ذاك من المدارس ما يفي بالحاجة، فذهب بهما إلى باريز حيث أدخلهما في أشهر مدارسها، وأقام في منزل صغير قرب نهر السين لا شغل له سوى مطالعة الكتب والجرائد، والتنزه في الأماكن المنفردة، والتردد على ولديه من وقت إلى آخر.
وفي مدة العطلة كانا يأتيان إليه فيصحبهما إلى جميع الأماكن التي يلذ لهما التفرج عليها، ومشاهدة غرائبها، ولا يدع شيئا من عجائب الآثار وبدائع التحف، شارحا لهما ما يهمهما الوقوف عليه من الأحاديث والأخبار فوق ما كانا يتلقيانه في المدرسة من علم واختبار، وهكذا كانت تصرف أوقاتهما في اكتساب الآداب والمعارف، ومداركهما تتسع وتمتد لطلب المزيد منها.
وفي نهاية السنة الخامسة خرجت ابنته ماري من المدرسة، وقد أنهت دروسها فعادت إلى والدها، وقد زاد العلم جمالها إشراقا، وأعار الشباب لحاظها سحرا حلالا، فإذا تكلمت خالها السامع تنظم دررا، أو صمتت ظنها الناظر ملكا سماويا لما فطرت عليه من الحسن الرائع الممزوج بالرقة والآداب. أما أخوها فريد فلبث في المدرسة حتى نهاية السنة السادسة حيث أنهى دروسه ونال الشهادة، فخرج منها وانضم إلى والده وشقيقته، وقد شمل الجميع السرور والارتياح.
الفصل الثامن
وردة الحقل
وكان لماري صديقة في المدرسة تدعى روزه، وهي مصرية النشأة سورية الأصل، قد هاجر بها والداها الديار السورية؛ لأسباب أهمها تأخر البلاد، وتقهقر أشغالها، وكساد تجارتها، وقلة أرباحها، فاعتنيا بتهذيبها، وأرسلاها إلى تلك المدرسة حيث صادقت ماري فتحابا ولا غرو، فإن الطيور على أشكالها تقع، فقد كانتا متشابهتين بجمال الخلق والخلق، متماثلتين بالجنس والذوق، متعادلتين في المنزلة والثروة، ولم يكن من اختلاف في هيئتهما سوى أن ماري كانت سوداء العينين والشعر، وبيضاء الجبين وخفيفة الروح، وروزه كانت زرقاء العينين كستنائية الشعر ذات بشرة نقية مشربة احمرارا، وكانت هيئتها تدل على حسن الصحة، وتوفر الدم كالبنات القرويات، وكان أترابها في المدرسة يلقبنها بوردة الحقل.
ولبثت روزه في المدرسة سنة أخرى بعد خروج صديقتها، كانت فيها أليفة الوحشة والانقباض، ولم تكن ماري تهمل زيارتها كلما وجدت لذلك سبيلا.
ولما انتهى العام، وأتى الذي تفارق فيه الفتيات المدرسة، ودعت روزه رفيقاتها ومعلماتها وخرجت إلى حيث ينتظرها والدها، وكان قد حضر منذ أيام لمشاهدتها والعودة بها إلى مصر، فما كادت تجتمع به حتى رأت صديقتها ماري مقبلة، وبرفقتها شاب لم تسبق معرفة به، فأسرعت نحوها، وضمتها بلهفة، وقابلت ماري مثل ذلك، فتعانقتا، بينما كان والد روزه والفتى واقفين ينظران إليهما باسمين، وقد انحنيا لبعضهما إشارة للسلام، وبعد أن ارتوى غليل شوق الحبيبتين، تقدمت ماري إلى والد صديقتها وصافحته، ثم أشارت نحو رفيقتها وقالت: أعرفكما بأخي فريد، فنظرا إليه باسمين وبادلاه التحية، وقد غلب الحياء على روزه وتوارد الدم إلى وجنتيها، فغضت أبصارها، ومالت نحو صديقتها تحدثها، وجلس الرجلان إلى جانب يتبادلان الحديث.
وبعد قليل من الزمن نهضت ماري ودعت روزه ووالدها واسمه يوسف روفائيل لزيارتها، وساعدها أخوها بالإلحاح عليهما فأجابا دعوتهما، وسار الجميع إلى منزل حبيب الذي أحسن استقبالهما، ورأى يوسف من لطف معاشرة تلك الأسرة ما قيده بمودتها.
وقد شعر فريد بجاذب يجذب فؤاده نحو روزه، فما فتئ ينظر إليها ويحادثها محاولا التقرب منها، أما هي فكانت مشغولة عنه بصديقتها، والحزن يتقسم فؤادها كلما خطر لها فكر السفر ووجوب مفارقتها، فلم تبال به ولا وجد رسول عينيه سبيلا إلى قلبها الخالي.
وكانت ماري أشجع منها قلبا في موقف الوداع، وأكثر جلدا على احتمال تأثير الفراق، فألوت عليها تقبلها وتمسح دموعها، ثم أعلمتها بأنها لا تغيب عنها طويلا، فإنهم قد صمموا على السفر إلى مصر قريبا، إذ لم يبق ما يوجب بقاءهم في باريز، فصفقت روزه طربا واقترحت عليهم السفر معا.
وبعد المفاوضة في هذا الموضوع قر رأي الأسرتين على السفر معا بعد أسبوع، ولما كان ليوسف بعض أشغاله في مارسيليا تتعلق بمحله التجاري في مصر، فقد اضطر أن يسافر مع ابنته في اليوم الثاني إلى تلك المدينة ليقضي مهمته، منتظرا وصول حبيب وولديه في نهاية الأسبوع.
الفصل التاسع
السفر
ودع الجميع بعضهم بعضا، وذهب المسافران إلى المنزل الذي كان فيه يوسف، فباتا تلك الليلة، وفي صباح اليوم التالي أخذا أمتعتهما وسارا إلى محطة السكة الحديد، فدخلا عربة، وجلسا ينتظران مسير القطار.
وإنهما لكذلك، إذ دخل عليهما شاب جميل الطلعة، وحسن البزة، يظهر من ملامحه أنه شرقي فانحنى أمامهما باحتشام، ثم أخذ لنفسه مكانا في إحدى زوايا العربة، ولما سار القطار أخرج من جيبه جريدة، وجعل يطالع فيها حتى إذا استقر به المقام وأتى على الصفحة الأولى جعل يقلبها بين يديه، وعيناه تنظران إلى رفيقيه خلسة، فآنس في الفتاة جمالا باهرا وأجفانا ساحرة أسرت لبه وجذبت أبصاره، ولكنه ما عتم أن نكس هيبة، وعاد إلى جريدته وهو ينظر إليها من طرف خفي، أما هي فنهضت وسارت نحو النافذة تسرح بصرها في تلك السهول الشاسعة والمروج الخضراء، وقد كسا غصن قامتها ثوب بسيط الزي محكم الوضع، وغطت قسما من شعرها الحريري قبعة من القش خالية من الزخرف فأتبعها بصره، وهو يتأمل ذلك الهيكل الممتلئ والأعضاء المتناسبة، فرآها وقد حاولت إقفال زجاج النافذة للريح التي كانت تمر على محياها بقوة فتؤثر في مقلتيها الجميلتين بما تحمله من ذرات الغبار، وقد عصاها إتمام مرغوبها فأسرع إليها مستأذنا وأقفل النافذة عنها، وعاد إلى مكانه بعد أن فاز منها بابتسامة شكر جزاء صنيعه، وبقي القطار سائرا والسكوت مخيما حول هؤلاء الثلاثة مدة من الزمن، وقد أخذت سيماء الملل تظهر في ملامح المسافرين.
وحينئذ ابتدر والد روزه رفيقه بالحديث فقال: يظهر لي أنك شرقي الجنس أيها الرفيق الكريم. - نعم سيدي لقد أصبت، فإني سوري الأصل، ولقد أتيت إلى هذه الديار من عهد بعيد؛ لأشغال تتعلق بمحل تجاري في بيروت، وقد اضطرني الحال إلى مبارحتها الآن قاصدا مصر. - إذن فستبقى في صحبتنا، فالأجدر بنا أن نقطع هذه المسافة بالمحادثة كأصدقاء دفعا للضجر وحبا بالفائدة، وأنا سوري الأصل نظيرك، لبناني الموطن، وقد هاجرت بلادي منذ أعوام طويلة، فنفسي الآن ترتاح إلى استماع أخبارها واستطلاع حالة أفرادها.
وكانت روزه سامعة حديثهما، فلما انتهى أبوها إلى هذه النقطة عادت إلى مكانها وقالت للفتى: وأنا أيضا يسرني أن أسمع شيئا عن سوريا التي لم يتيسر لي زيارتها حتى الآن، ولا سيما جبال لبنان مسقط رأس أبي، فأرجوك أن تتم الحديث عنها. - إني رهين إشارتكما، فسوف أشرح لكما كل ما أعلمه عن بيروت، غير أني آسف لكوني جاهلا عن أحوال لبنان مع أني لبناني نظيركما، ولكن أهلي أرسلوني إلى مدرسة في قرية عبية، إذ كنت صغير السن، وبعد أن تلقيت فيها الدروس الابتدائية، أرسلت إلى المدرسة الأمريكية في بيروت حيث أقمت مدة ست سنين عاكفا على درس العلوم، وأخيرا نلت البكلوريا، وكنت إذاك في الثامنة عشرة من العمر، فخرجت من المدرسة والآمال توسع لي مجال الرزق والأماني ترتفع بي إلى ذروة المجد، ولم أشأ الرجوع إلى لبنان؛ لأني وجدت نفسي أعظم من أن تسعها تلك السهول القاحلة والروابي الجرداء.
فلبثت في بيروت أخبط في أسواقها، وأتقرب من أعيانها وتجارها، وأنا كلما طال علي الوقت تحققت كساد التجارة، وقلة وسائل الترقي، فاتخذت مهنة التعليم أرتزق منها ريثما يمن الله علي بشغل آخر يكون لي منه ما أشتهي وأروم. ولبثت على هذه الحال مدة أربع سنين، إلى أن أتاح لي الحظ معرفة أحد التجار، وكان باحتياج إلى عميل يورد له السلع والأقمشة من فرنسا وإنكلترا، فاتفقت معه وأتيت إلى هذه البلاد بعد أن جلت في إنكلترا مدة سنة تقريبا، وقمت بخدمته أحسن قيام، ولكني وجدت أخيرا أن لا تقدم لي ولا ارتقاء ما دمت على تلك الحال، فالأفضل لي أن أبحث عن عمل آخر يكون فيه تقدمي وضمانة مستقبلي.
فقالت له روزه: عساك أن تفوز بهذه الأمنية في مصر حيث التجارة بتقدم وأبواب الاستخدام في دوائر الحكومة مفتوحة لمن كان نظيرك. - هذا جل ما أقصده يا سيدتي، فقد قرأت اتفاقا في إحدى الجرائد عن احتياج الدولة الإنكليزية إلى تراجمة يصحبونهم في الحملة التي تسير بقيادة غوردون باشا إلى السودان، فانفصلت عن شغلي، وها أنذا ذاهب إلى مصر الآن؛ لأعرض نفسي في مقدمة الطالبين.
وكانت روزه محدقة إلى جليسها تسمع حديثه معجبة بحسن أسلوبه ورقة ألفاظه، فرأت في جملة هيئته وحركاته ما ترتاح إليه النفس، ويميل لاستحسانه الذوق، فلما أتى على آخر عبارته خامرها بغتة بعض الاهتمام بأمره، وتنبهت فيها شعائر القلق والخوف على حياته فقالت له: ألا تخشى الخطر في اقتحام هذا السبيل؟ - إن الأمل بالنجاح يمحو الخوف ويزيل الجزع، وإن كان لا بد من الموت فهو واحد مهما تعددت الأسباب، فعار علي أن أحيا فقيرا خاملا ما دام لي سبيل للتقدم والنجاح في معترك هذه الحياة.
وهكذا سار بهم القطار، وهم يتنقلون من حديث إلى آخر حتى وصلوا إلى مرسيليا، فنزلوا في أحد فنادقها، ولبث الشاب واسمه الأمير عزيز برفقتها متظاهرا أن عليه بعض مهمات تستدعي بقاءه أياما في تلك المدينة.
وهكذا تسهل له سبيل الاجتماع بها، وتمكن من معاشرتها وسبر غور آدابها، فرأى من باهر صفاتها ولطف مشاعرها ما أدهش عقله، وأخذ بمجامع قلبه، وشعرت هي أيضا بميل إلى مجالسته، ولذة باستماع أحاديثه التي دلت على نزاهته وكرم أخلاقه.
وما هي إلا أيام حتى انضمت إليهم أسرة حبيب، وكان يوسف قد أنهى أعماله، فسافروا جميعا على أول باخرة أقلعت إلى الإسكندرية.
الفصل العاشر
والحب اول ما يكون مجانة ...
والحب أول ما يكون مجانة
فإذا تمكن صار شغلا شاغلا
في إحدى ليالي الخريف المقمرة كانت روزه جالسة في إحدى شرفات قصرها، وقد أسندت رأسها الجميل إلى ساعدها البديع التكوين، بينما كان النسيم يتلاعب بحلقات شعرها الحريري، فتميل في مجرى واحد ينتهي إلى الشاب الغريب الذي عرفته أثناء السفر، وتذكر ما توسمته فيه من حميد الأوصاف، وما عاينته من حبه، وانعطافه إليها، ثم نظرت إلى الطريق، وتمتمت قائلة: إنه لم يمر من هنا هذا المساء كالعادة، فلا يبعد أن يكون قد توجه إلى السودان ... ويلاه ... إلى الخطر ... إلى الموت، ولدى هذا التفكير تنهدت تنهيدا طويلا، وأمرت يدها على جبينها العاجي، ثم تذكرت وعده لأبيها بأن يزورهما قبيل سفره، فعادت إلى التعلل بالآمال وصممت إن هي رأته أن تفرغ جهدها في إقناعه بالعدول عن هذا السفر الشاق. ولكنها خافت أن ينم ذلك عن حبها، ويوضح مكنونات قلبها لشاب لم تعرفه إلا منذ عهد قريب، وفي ذلك من التسرع والطيش ما لا يليق بمن كانت مثلها قد ربيت في مهد الآداب والعلم، وغمرت بحنو والد كريم ليس له تعزية في الدنيا سواها.
وفيما هي على تلك الحال تتقاذفها عوامل الحب وتتنازعها علائم الشرف والأدب، سمعت قرعا خفيفا على باب حجرتها، فنهضت مسرعة وفتحت فإذا بخادمتها تقول: لقد أتى يا سيدتي رجل يدعى الأمير عزيز، وطلب أن يرى سيدي والدك، ولما كان غائبا أتيت أسألك إذا كنت ترومين مقابلته عوضا عنه.
فأبرقت أسرة روزه ورقص فؤادها طربا عند استماعها تلك البشرى، فأجابتها وهي تكاد تسقط إلى الأرض من تأثير المفاجأة: إني آتية، فدعيه ينتظرني في غرفة الاستقبال.
فذهبت الخادمة، وأعلمته بذلك وأسرعت روزه فارتدت ثوبا بسيطا، وأقبلت إلى حيث ينتظرها ذلك الضيف العزيز، وكانت تجهد عبثا في كتمان عواطفها البادية في وجنتيها الملتهبتين، وجبينها المرصع بقطرات العرق، ولما أبصرها عزيز نهض وحياها باحترام عظيم، ثم قال لها بعد قليل من السكوت: ها أنذا أتيت إجابة لدعوتكما الكريمة التي تفضلتما علي بها أثناء سفرنا من باريز، وقد كنت أرغب في زيارتكما منذ وصولي إلى مصر، ولكن حال ذلك دون اهتمامي بالحصول على إذن يرخص لي بمرافقة الحملة السائرة إلى السودان. - مرحبا بك يا سيدي، فإننا ما برحنا منذ قدومنا هذا القصر نتحدث عن لطفك، ونترقب قدومك كما وعدت، فهل أنت باق على عزمك من السفر؟ - أجل يا سيدتي ، وأنا آسف لكوني أجد نفسي مضطرا إليه، فقد كنت قبل مبارحتي فرنسا قرير العين، مسرور الفؤاد، أحسب أن السعادة والثروة والمستقبل محصورة في هذه الرحلة، ولكن لم ألبث بعد مفارقة فرنسا أن تغيرت أحوالي وانتهى بي الضعف إلى التردد والرغبة في العدول عنها، غير أني وجدت أخيرا أن لا بد لي من السفر مهما كلفني من الأتعاب والمشقات. - يتبين لي مما قدمت أنك أدركت صعوبة الإقدام على هذا العمل، وتصورت ما فيه من المشقة والخطر، فعسى أن تنتهي الحال إلى العدول عنه بتاتا. - إني لا أخشى الأخطار يا سيدتي، ولا أرهب الموت إذا كان ذلك في طلب الشرف والتقدم، ولكنني أخاف ما هو أعظم من الموت، وأرغب فيما هو أثمن من الحياة. - وهل من شيء أحب إلى الإنسان من الحياة؟ - إن الحياة لا قيمة لها عند المرء ما لم يمازجها بعض الهناء، ويظهر في سمائها نجوم الأمل، فإذا عزت عليه تلك الغاية وتسلط عليه القنوط، كانت الحياة في عينيه كالهباء المنثور، فيزج نفسه في لجج الأخطار غير متحسر ولا آسف على مبارحة الحياة. - إنك والحمد لله في مقتبل العمر، وزهرة الشباب، وفيك من الصفات الحسنة، والأخلاق الطيبة ما يكفل لك الترقي وحسن المستقبل، فما الذي حدا بك إلى هذا القنوط؟
فأجابها بنغمة رن صدى تأثيرها في فؤاد الفتاة وقال: إني شقي يا سيدتي. - لا تقل ذلك بربك، واعدل عن تحمل أخطار هذا السفر، والانخراط في تلك الخدمة التي ليست سوى ملجأ لذوي الهمم الضعيفة، الذين لا يرون من أنفسهم ميلا إلى التقدم، بل يفضلون احتمال مصاعب العبودية على متاعب الاستقلال، وهؤلاء هم في مذهبي من الجبناء الذين لا تكون آخرتهم سوى الخمول والكسل، وحياتهم سوى الذل وضياع الأمل، وعهدي بك منزها عن هذه الصفات، ميالا إلى طلب التقدم والعلا، فلك مجال واسع في ميدان التجارة، وأنت أهل لأن تكون تاجرا، ولا سيما أنك قد صرفت زمنا طويلا تتعاطى هذه المهنة، فسبرت غورها، وأحطت علما بجميع أسرارها، فصمم على الاتجار في هذه البلدة، وأنا أسعى عند والدي كي يكون لك أكبر مساعد يغنيك عن اقتحام أخطار هذه الحملة. - أشكر لطفك يا سيدتي، وإني أبقى أبد الدهر ذاكرا حميد أخلاقك، وإن مت ففي ساعة احتضاري أذكر حلاوة هذا الاجتماع، وإن عشت فرغبتي من الحياة التمتع بمثل هذه الدقائق التي أحسبها أسعد أوقات حياتي، ومع ذلك ألتمس منك أن تسمحي لي بعدم قبول ما تكرمت علي به من السعي وراء مصلحتي، إذ لا بد لي من السفر والتعرض لسيف البين في ساحات الوغى، فإما أن ألقى حتفي، وإما أن أعود رافلا بحلل النصر، ووسامات الفخر، وحينئذ أزيل بيدي ما يحول من العقبات بيني وبين منية فؤادي، فأستودعك الله يا ذات اللطف ويا معدن الكمال. ولي منة أرجوها منك، وهي أن تذكريني في أوقات الفراغ صديقا لا يلذ له سوى ذكرك، ومقداما لا يروعه الموت في سبيل الوصول إلى مقامك المنيع.
قال ذلك وتقدم نحوها مادا يده يلتمس الوداع، فخان الجلد فؤاد روزه عند مشاهدة هذا المنظر المؤثر، فبدرت من عينيها دمعتان حبستا لسانها عن الكلام، فمدت يدها المثلجة وهي تفكر فيما ستئول إليه الحال، وأنه بعد قليل سيرحل عنها وربما لن تراه فيما بعد.
أما الأمير فلما عاين منها ذلك التأثر استنار وجهه بابتسامة ممزوجة بالأمل، وجثا عند قدميها قائلا: إنني أشكرك يا سيدتي شكرا جزيلا على ما ظهر منك من الحنو والإخلاص، فقد أعدت السعادة إلى قلبي المدنف، ونزلت لآلئ دموعك بردا وسلاما على فؤادي الخافق، فسأبقى خاضعا لأمرك وأجتنب السفر إذا كان فيه ما يؤلمك، وأترك العالم وما فيه من الطمع والثروة والفخار، وألزم النسك والزهد، وإن كان ذلك يرضيك، فأنت دنياي ونعيمي، وفي يدك زمام سعادتي وشقائي، فأمريني بما شئت فأكون لك من الخاضعين.
فشعرت روزه حينئذ بالندم عما فرط منها من الضعف، الذي نم على سرائرها لدى شاب لم تعرفه إلا مدة السفر ما بين باريز ومصر، فجعلته يتمادى بحديث لم يكن قد طرق أذنيها، وخافت أن يرميها بالطيش والزيغ، ولحظ عزيز منها ذلك الارتباك، فخشي أن يكون قد كدر مشاعرها بحديثه، فأردف قائلا: إن حبي لك يا سيدتي عظيم جدا، ولكن احترامي إياك أعظم، وقد همت بحسن سجاياك، وكمال أوصافك أكثر مما ولعت بجمال طلعتك، ولطف حديثك، فثقي بأنك عندي بمنزلة الإله من الشعب، وبمقال الروح من الجسد، ولا تظني أني أقصد بحديثي أمرا أو أطمع منك بعهد، فأنت في عيني أسمى من أن تنطال إليك آمالي، وترفع إلى مقامك الرفيع أبصاري، فإني أحبك حبا لا يمكن وصفه، إذ إنه لا يرمي إلى غاية، وجل ما أشعر به لخدمتك بلا مقابل سوى أن تكوني سعيدة بعيدة عن كل ما يعكر صفاء حياتك.
وكانت روزه مطرقة حياء، ووجهها يتلون بتلون شعورها، كأنه يعكس ما كان يسيطر في فؤادها من التأثر والانفعال، ويبوح بما في ضميرها من السرور والهيام، حتى إذا انتهى عزيز من حديثه، وساد السكوت حينا، رفعت رأسها، وقد ورد الخجل وجنتيها، وبعث السرور في عينيها شعاعا من النور زاد في جمالها رقة وفي نظراتها تأثيرا، وقالت له: أشكرك أيها الصديق على ما جاء في عباراتك من معاني الود، فإنها والحق يقال لأكبر دليل على شرف محتدك، وكريم أصلك.
فانحنى أمامها شاكرا، وودعها وانصرف.
أما روزه فلبثت بعد خروجه تردد في ذهنها كلماته، فيرقص فؤادها طربا، تبحث فيما انطوى عليه من حسن الشمائل وحميد الخلال، فتزداد رفعة في عينيها رغما عن قلة ذات يده.
ثم نهضت وهي تقول: إن المال لا قيمة له عندي، ولا سيما أن ثروة أبي كافية لنا، بل هنالك أمر أرمي إليه وشيء أقف فؤادي عليه، ألا وهو عزة النفس، وكمال العقل، وطهارة الحب، فهذه صفات لا يعادلها مال الأرض طرا.
الفصل الحادي عشر
التذكار
ومرت الأيام وتوالت الشهور، وعزيز لا يألو جهدا عن السعي وراء عمل يدرك منه بغيته، وساعدته روزه على ذلك بأن سهلت له سبيل الاستخدام عند والدها، وكان يتردد في أثناء ذلك إلى منزلها، ويتمتع بمشاهدة طلعتها الباهرة واستماع ألفاظها العذبة.
وكثيرا ما كان يبحث مع يوسف في وجوب توسيع دائرة أشغاله لما في ذلك من الأرباح الطائلة، فاستصوب رأيه وعزم على اتباعه، ولم تكن سوى بعض أيام حتى أنشأ مصرفا عظيما وعين الأمير مديرا له، لما كان يعهد فيه من الأمانة والاستقامة، ومن ذلك الوقت اشتدت العلاقة بينهما، فكان عزيز يدأب النهار بطوله في العمل ويقضي سهراته في منزل يوسف، حتى توثقت الألفة بينهم جميعا ولا سيما بين عزيز وروزه، فقد صفت لهما الأيام بتوفير فرص الاجتماع، فكانا يقضيان الوقت بين نقر الأوتار والتنقل في الحديقة تحت ظل الأشجار، وهما فرحان بما قسم لهما الدهر من الغبطة والسرور، قانعان لما نالا من الهناء والحبور.
وكان في الحديقة شجرة صفصاف كبيرة تتدلى أغصانها الكثيفة إلى الأرض، فتمثل غرفة طبيعية أرضها مكسوة ببساط من نسيج الربيع، وأثاثها مقعدان مصنوعان من الصخور الاصطناعية.
فجلس المحبان يوما في ظل تلك الصفصافة، وباح كل منهما للآخر بما يكنه فؤاده الولهان، وأقسما على الثبات في الحب حتى الممات، ثم تناول عزيز سلسلة ذهبية من عنقه، قد علق فيها ذخيرة صغيرة كانت التذكار الوحيد عنده من والدته، وأعطاها إلى روزه راجيا أن تقبلها منه عربونا لحبهما.
فأخذتها روزه شاكرة، وجعلتها حول عنقها، فتدلت الذخيرة حتى قلبها، فأدخلتها ضمن ثوبها بعد أن قالت لعزيز والسرور يتلألأ في مقلتيها: سأحرص عليها حتى الموت.
فأجابها: أنت يا روزه شمس حياتي، وبدونك لا مطمع لي في الوجود.
وإنهما لكذلك، إذ أقبلت خادمة روزه وقالت: سيدتي، لقد حضرت صديقتك ماري وشقيقها لزيارتك.
فنهضت روزه فرحة بهذا الملتقى، ودعت عزيزا لمرافقتها فحاول الانصراف معتذرا، ولكنها ألحت عليه بالبقاء، وأسرعت أمامه للقاء ضيفيها.
أما هو فلبث واقفا هنيهة، وأفكاره متجهة نحو ماري تتجلى له بهيئتها اللطيفة، ونظراتها الرقيقة التي لم تفارق مخيلته منذ رؤيته إياها، واجتماعه بهما مسافة الطريق بين مرسيليا والإسكندرية، فارتاعت نفسه لتلك الذكرى، وشعر بشوق يدفعه إلى مشاهدتها، ولكنه رأى من الصواب عدم الانقياد إلى هواه؛ خوف أن يقهر أمام تلك القوة الخارقة، أو يبدو من ماري ما يفضح سرهما أمام من عاهدها منذ هنيهة ألا يكون لها في فؤاده شريكة، غير أنه ما لبث أن عادت إليه شجاعته ظنا بأن ذلك الانعطاف الذي شعر به نحو ماري سابقا، لم يكن حينئذ إلا لخلو قلبه من هوى من سواها، أما الآن وقد ملأ حب روزه جوارحه، فلم يعد في فؤاده مكان لغيرها.
وعليه سار إلى حيث كان الثلاثة مجتمعين، وهو واثق من قوة جنانه وصدق وداده، غير أنه لم تقع عينيه على عين ماري حتى بدا من الاثنين ارتباك وشى به خفقان القلوب، وشهد عليه ورد الجنان، فحيا عزيز الجميع وجلس يبادلهم الحديث، وماري مصغية لكلماته التي كانت تنزل بردا وسلاما على فؤادها الطاهر غبطة وحبورا، ولم تجتهد في إخفاء ما يخامرها من السرور بوجوده أو تجتنب ما ينم على ميلها إليه، إذ لم تكن تعلم بما بينه وبين صديقتها من روابط الحب، ولو علمت ذلك لما سمحت لأفكارها أن تتجه إليه، أو لقلبها أن يشتغل به؛ لأنها كانت أشرف طبعا من أن تدخل بين حبيبين متعاهدين، وتفصل بين قلبين متحابين.
ولم تخف تلك الظواهر على روزه، ولكن ثقتها التامة بعزيزها وائتمانها جانب صديقتها حال دون وصول سهام الغيرة إلى قلبها، فحملت ذلك منهما على محمل السذاجة والطهر، وسرت لما رأت من إعجاب صديقتها به، علما بأنها ستبهج لدى إطلاعها على حبهما.
وكان فريد لا ينفك عن التحبب إلى روزه منتهزا فرصة اشتغال الآخرين بالحديث، أما روزه فكانت تحدث الجميع ووجهها يطفح بشرا، وقد صممت على أن تطلع ماري على حبها لعزيز، وتأتمنها على سرها في أول فرصة؛ لأنها لم تكن حتى تلك الساعة تخفي عنها شيئا.
الفصل الثاني عشر
التهور
ففي ذات يوم خرجت روزه إلى الحديقة عند غروب الشمس، وأخذت تسير الهوينى بين الأشجار والرياحين، وهي كلما وقعت عيناها على زهرة جميلة أسرعت إلى اجتنائها، حتى جمعت مقدارا وافرا، فضفرت منه إكليلا، وزينت به رأسها، وجعلت ما بقي فوق صدرها فإذا بها كآلهة الجمال، وأخذت تتثنى بين الزهور والورود فتعيرها لونا من ورد وجنتيها، وتزري بأغصان البان قدا واعتدالا، وهي سكرى بخمرة الحب ونشوة الصبا، وبعد أن خطرت نحو ساعة في تلك الروضة الغناء استولى عليها التعب، وعقد العرق لؤلؤا على جبينها الوضاح كزنبقة رصعها ندى الصباح، فاتخذت لها مكانا أمام جدول الماء الصافي، ولم يستقر بها المقام حتى رأت أباها مقبلا، فأسرعت إليه وعانقته. وكان والدها كلما طال نظره إليها يزداد شغفا بها فيعود إلى ضمها وتقبيلها، ذاهلا عن وجود شخصين كانا قادمين برفقته لأشغال لهما معه، فبعد أن أروى غليل القلب من عناق ابنته، عاد إليهما معتذرا، وسار معهما إلى غرفة قريبة من مدخل الحديقة، قد خصصت للمفاوضات في أمور الأشغال.
فعادت روزه إلى مكانها، وأخذت تسرع نظرها في الفضاء، وكان القمر قد لاح في قبة السماء، فأرسل ضوءه من خلال الأغصان مبددا جيوش الظلام المتكاثف حولها، وهب النسيم يداعب شعرها الحريري، ويلاعب عطفها المياس، فتغار الأغصان من لينه، فيسمع لحفيف أوراقها تنهدات فيها خرير المياه.
وبعد قليل سمعت وطء أقدام قريب، فمالت بنظرها نحو الحديقة فرأت عزيزا، فأسرعت إليه والسرور يتلألأ في محياها، ولم يتمالك عزيز لدى رؤيتها أن صاح: ما أجملك يا روزه! وما أعظم سلطانك على قلبي! إني كلما أطلت النظر إليك وأكثرت من معاشرتك، يظهر لي من سحر جمالك ونبل صفاتك أسرار لم أكن أدركها قبلا، فيا حبذا لو تعلمين مقدار حبي وافتتاني بك.
فابتسمت روزه وهمت أن تجيبه، ولكنها توقفت إذ رأته قد ابتعد عنها خطوة وقال لها بصوت خافت: إني أسمع صوت أناس قريبين منا. - هذا أبي وزائران في الغرفة المحاذية لنا، يتذاكرون في أمور تختص بأشغالهم.
فأصغى عزيز قليلا، وإذا بأحدهم يقول: «سأشتري خمسين ألف قنطار»، فأجابه آخر: «تلك مجازفة»، فقال يوسف: «كلا، فإن أسعار القطن لا بد أن ترتفع ارتفاعا عظيما.» فقال الثالث: «لقد جرأتماني على الاتحاد معكما.»
فأصاخ عزيز سمعا لحديث القوم، حتى إذا ما انفض مجلسهم تأكد لديه أن الأسعار ثابتة الارتفاع، فوسوس له حب الكسب ابتياع كمية وافرة من القطن على حسابه الخاص؛ لينال منها أرباحا طائلة، ولكن أنى له المال للحصول على بغيته، ذلك كان شغله الوحيد وفكره الجديد، فلحظت روزه منه بعض الارتباك فسألته عن ذلك، فلم يشأ أن يبوح لها بشيء، ثم صعدا إلى القصر حتى حان وقت العشاء، فجلسوا على المائدة، وكل منهم لاه بفكره عن غيره، فيوسف يؤمل النفس بالأرباح الطائلة، وعزيز يبحث في سره عن وسيلة تمكنه من إحراز الثروة، وروزه تجهد النفس في معرفة الأسباب التي أوجدت في عزيز بعض التغيرات؛ ولذلك كان السكون مخيما عليهم، لا يسمع بينهم سوى قعقعة الصحون، وبعض كلمات موجزة دارت على أفواههم، ثم نهضوا عن العشاء، وجعلت روزه توقع بعض الأنغام على البيانو، ووالدها وعزيز يدخنان في زاوية أخرى، وكلاهما متظاهر بالإصغاء إليها، ولم يكن إلا قليل حتى انتصب عزيز فجأة، وظهر على محياه ابتسامة الظفر لفكر مر في خاطره فأمله بالفوز العظيم، فودعهما وخرج هائما يخبط في هواجسه، فتارة يثب وثبة الفرح والابتهاج، كأنه بلغ ذروة المجد والإثراء، وطورا يقف مذعورا تتنازعه الأفكار ويصارعه الجزع.
ولما كان اليوم التالي، أقام يوسف حفلة شائقة تذكارا لمولد ابنته التي قد أتمت سنتها الثامنة عشرة، فدعا إليها بعض المقربين من أصحابه، ولما دنت الساعة المعينة وفد المدعوون تباعا، فكانت روزه تقابلهم بوجه يتلألأ بشرا وإيناسا، حتى امتلكت أفئدة القوم بباهر طلعتها وسحر بيانها، وكانت صديقتها ماري أول من حضر مع أخيها فريد، الذي اتخذ له مكانا قريبا من روزه، وجعل يراقب حركاتها ولفتاتها وفي وجهه ما يترجم عن خفوق فؤاده وشدة إعجابه بها، ثم أخذ يحادثها بمواضيع لم تخرج عن دائرة الدعوة، معجبا بكمال الزينة وسلامة الذوق، مادحا كرم الضيافة، متهللا بالأصوات الجميلة التي كانت تحرك القلوب على نغمات الأوتار، أما روزه فكانت تصغي إلى كلامه وعيناها شاخصتان إلى الباب، كأنها تنتظر قدوم واحد من الأصحاب، ولم يكن إلا قليل حتى أقبل عزيز فتهلل وجهها فرحا، وبرقت عيناها سرورا بما أوضح لجليسها أن هذه هي الضالة التي تنشدها، ثم أقبلت إليه تحدثه بعبارات ملؤها الرقة والحب، وانتقلت بعد ذلك إلى غيره فغيره فغيره، مظهرة من اللطف ورقة الجانب ما جعل الجميع مأخوذين بسحر بيانها، ولطف حركاتها، ولبثت على تلك الحالة متنقلة من مكان إلى آخر حتى انتهت إلى صديقتها ماري، وكانت جالسة على مقربة من عزيز تحدثه وعلائم الانشراح بادية على محياها، فاقتربت منهما روزه ونظرت إلى ماري نظرة تعني بقولها: «أرأيت ما أجمله؟» أما عزيز فلم يقو على الثبات أمام تلك النظرات الطاهرة فنهض هاربا من أمامها، أما روزه فسارت مع صديقتها بين صفوف المدعوين إلى أن انتهت إلى حيث كان فريد جالسا على انفراد، وأفكاره سابحة في بحور الهواجس، فلما شعر بدنوها انتعش فؤاده لما رأى من اهتمامها به، ونهض إجلالا لها، فقالت له: علام أنت منفرد هنا يا سيدي، كأنك تأبى مشاركة الجميع بأفراح هذه الليلة. - كلا يا سيدتي، بل أراني في ذروة الفرح والسرور لوجودي بينكم، وأحسب هذه الدقيقة التي شرفتني فيها سيدتي ببعض عنايتها لهي أسعد أوقات حياتي.
فشكرته روزه بابتسامة أجهزت على فؤاده الجريح، ودعته لمجالسة الجميع المتألبين حول موائد المدام، فسار وامتزج معهم، وأخذ يحدثهم في كل موضوع مستطاب، ويورد الأحاديث المفيدة، والنكات المستظرفة برقة وفصاحة لا مزيد عليهما، مما دل على سعة اختباره، وعلو مكانته في العلم والأدب، فاشرأبت إليه الأعناق وحدقت إليه الأبصار، والكل معجب بذكاء عقله وقوة جنانه، وبعد قليل صدحت الموسيقى بأنغامها اللطيفة، تلاها أصوات المغنين فكف القوم عن الحديث، وجلسوا يترنمون على نغمات المثالث والمثاني، ويرسلون أصوات الابتهاج ويبدون إشارات الاستحسان.
وفي أثناء ذلك لحظت روزه بعض التغيير في حركات عزيز وسكناته، إذ أصبح محبا للانفراد، وكثيرا ما سألته عن السبب فكان يتكلف الابتسام محاولا إخفاء ما يقلق فكره ويتنازع لبه من الأسرار، فتأثرت لحالته اعتقادا منها أنه دائم الاهتمام في إيجاد واسطة ينال بها ثروة تؤهله للاقتران بها، وهي بغنى عن كل ذلك ما دام أبوها غنيا وهي الوحيدة عنده، فأخذت تباحثه برقتها المعهودة ودلالها الفتان؛ لتسري عنه ذلك الاضطراب. أما هو فلم يزده ذلك إلا تألما وعذابا، إذ رأى نفسه دونها منزلة وإخلاصا، فإنه على شدة هيامه بها يشعر بميل عظيم نحو ماري، ويرتاح لرؤيتها واستماع حديثها، ولكن إذا غابتا كلتاهما من عينيه لا يفكر إلا بروزه، ولا يكون لماري نصيب من الذكرى والشوق اللذين يشعر بهما نحو حبيبته، وعليه فقد كان محبا لماري، عاشقا لروزه، أسيرا للهواجس والكآبة.
وبعد انقضاء الحفلة ودع القوم أصحاب المنزل وانصرفوا شاكرين.
واختلت روزه في غرفتها فأطلقت العنان لتصوراتها بقية ذلك الليل، فكان تارة يبدو لديها طيف عزيز، وقد كللت جبينه الكآبة، وأذل جفنيه الانكسار فيتقطع قلبها شفقة لحالته، وطورا يخيل لها أنه قد تردد في حبها، وندم على تقيده معها، فينفطر فؤادها جزعا، وتفكر في وجوب ابتعادها عنه وحله من عهوده السالفة، ولكنها لا تلبث أن تسخر من أفكارها وتلوم ذاتها على سوء ظنها به، وهو الذي ضحى بمستقبله، وما كان يؤمله من التقدم والإثراء في الاغتراب إذعانا لأمرها وإجابة لإشارتها.
ومر أسبوع على تلك الليلة دون أن يتقابل المحبان، فارتبكت أفكار روزه وحسبت لانقطاع عزيز عن زيارتها ألف حساب، ولما عيل صبرها وسئمت الانتظار، عزمت على الاستفهام من أبيها، ولكنها لم تجسر على السؤال خوف افتضاح أمرها، وانكشاف سرها، فتسلحت بسلاح الصبر والجلد حتى يأتي الله أمرا كان مفعولا.
الفصل الثالث عشر
خيانة
أما عن سبب غيابه، فإنه حدث أنه تقابل مع فريد، فدعاه إلى الذهاب برفقته مساء لحضور التمثيل في الأوبرا الخديوية، فأجابه إلى ذلك وسار معه، وكانت تلك أول ليلة غاب فيها عزيز عن منزل يوسف منذ اشتدت علائق الود بينه وبين روزه، فبعد أن سار هنيهة مع رفيقه فكر في حبيبته وما يكون من تأثير غيابه عليها بعد أن تعودت تمضية السهرات بقربه، فخطر له أن يعتذر إليه ويعود إلى أعقابه، ولكنه خجل أن يفعل ذلك، بعد أن وعد صديقه بالذهاب، فواصل السير معه مضطرا إلى أن انتهيا إلى قاعة التمثيل، وبعد أن استقر بهما المقام أجال عزيز نظره في الجموع، فأبصر ماري مع أبيها في إحدى المقاصير (الألواج)، وهي مزينة بأفخر الحلي واللباس حتى يخالها الناظر حورية من حور الجنان.
فاضطرب عزيز أي اضطراب، كأن سلكا كهربائيا قد مسه، ولا سيما إذ رأى ماري قد صوبت نظرها إليه باسمة، وأشارت بالسلام، وكان إشراق وجهها، واحمرار وجنتيها ينمان على خفوق فؤادها، وشدة ميلها، فحاول التشاغل عنها وعدم النظر إليها، ولكن قوة كانت تدفعه إلى مبادلتها النظر والابتسام.
ولما أسدل الستار تفرق الجميع طلبا للراحة، فدعا فريد عزيزا لمرافقته إلى حيث أبوه وأخته، فسار معه مسرورا، وقضى بقية السهرة قرب ماري لا يرفع نظره عنها، ولا يمل من استماع ألفاظها، أما هي فكانت كل نظرة وإشارة منها تنبئه بشدة تعلقها به، وهيامها بحميد أوصافه، وهكذا لم تمض السهرة حتى زال رسم روزه من مخيلته، وساد مكانها جمال ماري ورقتها.
وبعد انتهاء التمثيل خرج الناس أفواجا، وكان عزيز يسير مطرقا، وقد التهب دماغه من شدة الانفعال، إذ ما لبث أن بدا أمامه طيف روزه معنفا شاكيا بما جعله يطفر على غير هدى تخلصا من عذابه الداخلي، وكان فريد قد انفصل عن والده ورافق عزيزا مسافة لحظ من خلالها ارتباك أفكاره، فسأله عما به، فأجابه: إني مريض. وهكذا ما صدق أن وصل إلى منزله، فودعه فريد واعدا بأن يزوره في اليوم التالي.
وعاد في اليوم التالي مساء فوجده على أتم ما يكون من الصحة، فمكث معه حينا من الزمن، ثم خرجا معا في قصد النزهة في جهة الأزبكية، ولم يسيرا طويلا حتى اقتربا من منزل فريد، فدعا هذا صديقه لزيارته فلبى طلبه مسرورا، وقضى عنده ساعة تمتع فيها بمجالسة ماري ومؤانستها، ثم تعددت زياراته بعد ذلك لعائلة حبيب، واشتدت الألفة بينه وبينهم حتى كاد ينسى علاقته مع روزه ويهجر ودها.
وشعرت روزه بتغير فؤاد حبيبها وفتور حبه، فداخلها ريب في أمره، وباتت تتوقع خلوة معه تستطلع فيها حقيقة نيته وأسباب تغيبه.
وفي صباح أحد الأيام نهضت روزه باكرا إلى الحديقة، تستنشق من نسمات السحر ما ينعش فؤادها المضطرب، ويخفف عن صدرها أثقال الأشجان، وتستقبل بوجهها حبيبات الندى، أمل أن تلطف من قلبها نيران الشوق والقلق، ثم جلست على مقعد خشبي، وجعلت تلاعب بكفيها الصغيرين زهورا منتشرة حولها، كأنها جيش صغير خاضع لأحكام مليكته، فكانت تارة تجني بعضها وتقربه إلى أنفها، وطورا متنقلة على غير هدى، وأفكارها متجهة نحو عزيز تبحث عن أسباب انقلابه وهجره.
وإنها لكذلك إذ طرق سمعها وقع أقدام، فنظرت وإذا بأبيها مقبل وعلائم الكدر الشديد على وجهه، ووراءه عزيز منقبض الجبين منكس الطرف، وكلاهما مطرق على الأرض لا يلوي على شيء، إلى أن بلغا باب المنزل وتواريا عن عينيها.
فبهتت روزه لهذه المفاجأة التي لم تدر لها كنها، ولذلك الانقباض الذي لم تفهم له سببا، وطدت النفس على البقاء في الحديقة تنتظر خروجهما؛ لعلها تتمكن من الانفراد بعزيز فيطلعها على جلية الأمر، ويلطف ما بها من مر الهواجس، وبعد حين أقبل موزع البريد وبيده رزمة كتب وجرائد، بعضها معنون باسمها والبعض الآخر باسم أبيها، فأسرعت وانتقت منها ما يخصها من الرسائل والجرائد، وعادت إلى مكانها تقتل الوقت بتصفحها، بعد أن أرسلت ما كان لوالدها مع أحد الخدم.
فندعها وشأنها، ونسير بالقارئ في أثر الخادم إلى إحدى غرف القصر، وقد جعلها يوسف لأشغاله الخصوصية، فكان يصرف فيها أكثر أوقاته بعد خروجه من مصرفه، وهناك كان يوسف جالسا وأخذ هيئة الجد والاهتمام، وأمامه عزيز مطأطئ الرأس، ملتهب الصدغ، ينكت الأرض بطرف عصاه، بينما الآخر يطالع ما جاءه به البريد آنئذ، وبعد سكوت قليل رفع يوسف رأسه وخاطبه قائلا: لقد وعدتني يا عزيز بأن تكشف لي الغطاء عن القيمة المسروقة من مصرفي، وترشدني إلى السارق، فهات ما عندك من المعلومات بهذا الصدد، إذ قد صرنا بمعزل عن كل بشر، وأنا أثق بكل كلمة تخرج من فيك، لما أعهده بك من الصدق والاستقامة ، وإني لأبرئن ساحتك من كل شبهة وتهمة وإن تكن أمين صندوق، وبيدك مقاليد عملي، وأنت وحدك المسئول عن كل ما يحدث فيه من الخلل، إذ إنك أنت في عيني أرفع من أن تقدم على مثل هذه الخيانة التي تثبتها عليك قرائن الأحوال، فما عليك إلا أن تقول كلمة فتنفي بها عني الوساوس والهواجس.
ولما لم يحصل على جواب منه، نهض على قدميه وأخذ يخطر في الغرفة ذهابا وإيابا، ثم قال له: قل لي بحقك من السارق؛ لينال جزاءه عاجلا، فقد سبقت وقلت لي إنك تعرفه وأنك مستعد لأن تبوح لي باسمه.
فنهض عزيز حينئذ، وتقدم نحوه بجرأة، وكشف صدره بهدوء، وقال له بصوت ثابت: خذ خنجرك، وأغمده في صدري، فإني أنا السارق الخائن.
ولو أن صاعقة انقضت على يوسف في تلك الساعة، لم يكن لها تأثير أعظم من تأثير تلك الكلمات على فؤاده، الذي كان مفعما بمحبة عزيز حتى تلك الساعة، وعلى الرغم من اعترافه بالجريمة، كان يحاول أن يوهم نفسه بأن ما يسمعه غير الحقيقة، أو أنه في حلم، وبعد قليل نظر إليه وقال له: ما هذا الذي أسمعه منك يا عزيز؟ وكيف أقدمت على هذه الفعلة الشنعاء؟ وما الذي دفعك إلى ارتكاب هذه الخيانة؟ أنت يا من اتخذتك بمنزلة ولدي، وائتمنتك دون سائر أقرانك على أشغالي وأموالي!
فلم ينبس عزيز ببنت شفة، ولكن التهاب وجنتيه واحتراق الدمع في مقلتيه كانا يترجمان عما تأجج في صدره من التأثر والانفعال، وبعد سكوت قليل قال له يوسف: إني أشفق عليك كثيرا، وآسف لكوني سلمت جميع أعمالي إليك، ووثقت بحسن خلالك، وجليل صفاتك حتى تمكنت من التصرف بأموالي على حسب رغبتك، فأنت خائن إذن، ولا بد أن تستوفي العدالة منك حقها، فاستعد للدفاع عن نفسك في مجلس لا يخفى فيه نور الحق ولا يموه الباطل. - ليس لي ما أدافع به عن نفسي، بل على العكس فإني أقر أمامك وأعترف بأني مجرم أثيم، قد خدعتك وسلبت خمسة آلاف جنيه من خزينتك، فذنبي عظيم أستحق عليه أعظم عقاب، والرحمة التي أرجوها منك هي ألا تسلمني ليد الحكومة، بل أن تقتص مني بيدك وتفرض علي ما تريد من العقاب فأقبله طائعا. - إني لم أكن قط آلة انتقام من الجانين، بل لي أن أطالب بحقي، وعليك أن تتحمل ما يفرضه عليك القضاء من الجزاء.
فصاح عزيز بصوت يفتت الأكباد: لا تكن يا سيدي قاسيا إلى هذا الحد، ولا تدع الجبن يتسلط على قلبك، فكما سرقت أموالك بيدي اقتلني بيدك، وارحمني من عذاب يعذب القتل دونه.
فلم يجبه يوسف، بل نهض مغضبا وسار نحو الباب تاركا عزيزا في حالة من الذل واليأس يقصر عنهما الوصف، وذهب إلى مخدعه، ففتح خزانة صغيرة في إحدى زواياه، وأخرج منها أوراقا تختص بأشغال مصرفه، وجعل يبحث فيها استعدادا لرفع دعواه على عزيز.
أما عزيز، فبعد مرور بعض دقائق أجال نظره في الغرفة فرأى نفسه منفردا، فأطلق لعبراته العنان، وكان صوت زفيره وشهيقه يرن في أنحاء الغرفة، ولبث على تلك الحال مدة لم ير في نهايتها مهربا له من ذلك العار سوى الانتحار، فصمم النية عليه، ونهض متثاقلا يقصد منزله، وكان يود حينئذ مشاهدة روزه والتزود منها بنظرة أخيرة، ولكنه رأى نفسه لا يقوى على المثول أمامها واحتمال احتقارها، فسار على غير هدى إلى مكان في الحديقة، كان يذهب إليه في ساعات الهناء، وجلس على صخر طالما جلس عليه مع حبيبته، وأخذ يستنشق نسيمات عطرتها أنفاسها، ويلثم أرضا وطئتها أقدامها، وهو يكاد يجن أسفا وحسرة على فقد سعادته، وخسارة آماله، ثم نهض مودعا تلك الرياحين والأزهار، محملا إياها كثيرا من القبلات والأسرار.
وبينما هو يدير نظره في تلك الأنحاء، إذ أبصر على مسافة قريبة منه جريدة مفتوحة تغطي جسما ممددا على الحضيض، لم يلبث أن عرف أنها حبيبته، فطار صوابه إذ رآها ملقاة على الأرض، وأسرع ليعلم ما الخبر! فنزع الجريدة عنها فظهر له وجهها مصفرا كالأموات، وليس بها حركة تدل على الحياة، فأدرك أنها لا بد أن تكون قد اطلعت على جريمته، ووقعت على خيانته منشورة في الجريدة التي كانت تقرؤها، فبحث عنها فوقع نظره في محلياتها على ما يأتي: سرق من خزينة الشهير يوسف رافائيل مبلغ خمسة آلاف جنيه، وقد وقعت الشبهة على أمين صندوقه، إذ يقال أنه ابتاع كمية من القطن في الأسبوع الغابر؛ آملا في صعود أثمانه فخانه الأمل، وقد خسر بسقوط الأسعار خمسة آلاف جنيه، وهي القيمة المفقودة من الخزينة، والتحقيق جار.
فزفر طويلا ثم انحنى فوق حبيبته، وأدنى أذنه من قلبها، فشعر بنبضات خفيفة فعلم أنها لا تزال حية، وما ذلك سوى إغماء بسيط، نتج عن شدة كدرها لدى تلاوة تلك الأسطر، فجعل ينضح وجهها بالماء، ويناديها بصوت خائر إلى أن عاد إليها الشعور فتنهدت تنهيدا عميقا، وفتحت عينيها، وحالما وقع نظرها على عزيز تصاعد الدم إلى وجنتيها، ومالت عنه بأنفة وازدراء، فتمتم المسكين قائلا: إنها تحتقرني.
فأجابت روزه وقد طفحت مقلتاها بالدموع، وخنق صوتها البكاء قائلة: قل لي إنك بريء مما اتهمت به، فتبدد عني غيوم هذه الأحزان.
فلم يجسر عزيز على الجواب، بل غطى وجهه بيديه وبكى.
فصاحت متأوهة: يا إلهي! ما هذا المصاب؟ إنه لا يجسر على دفع التهمة، فهو مجرم، آه ما أشقاني!
فقال لها: العنيني يا روزه، وابغضيني، واحتقريني ما شئت، ولكن لا يمكنك أن تمنعيني من محبتك وتحرميني عبادتك، فالوداع يا مالكة قلبي يا روزه، إن يدي أثيمة لا تطمع بمس يدك الطاهرة، ولساني مدنس لا يجسر على التلفظ أمامك بغير كلمة الوداع، وقلبي المعذب لا يأمل أن تسكب عيناك دمعة على لحدي، وهذا أخف جزاء أستحقه على إثمي، فالوداع الوداع ...
قال ذلك وأسرع هاربا نحو الباب وهو يقول: إلى الموت، إلى الموت.
الفصل الرابع عشر
شهامة المرأة
أما روزه، فلبثت حينا ذاهلة تفكر فيما آلت إليه حالها، ثم نهضت وهي تكفكف العبرات، واتجهت نحو منزلها، وقبل أن تلج الباب رأت أباها خارجا وبيده رزمة ورق، فتقدمت إليه، وألقت نفسها بين ذراعيه، وانخرطت في البكاء.
فوقف يوسف لدى رؤية ابنته على تلك الحال، وجعل يقبلها، ويسألها عن سبب حزنها، ثم دخل بها إلى إحدى المقاصير، وجلس على مقعد، ودعا ابنته إلى الجلوس.
فاقتربت روزه، وجثت على قدمي والدها، وقالت بنغمة تمازجها الرزانة والاحترام: صفحا منك يا أبت عن ذنب اقترفته نحوك، وهو كتماني عنك أمرا كان يجب علي إفشاؤه إليك وإطلاعك دون سائر الخلق عليه؛ هو أني همت بسجايا الفتى عزيز صديقك، وأخلصت له الود، وتعاهدنا على الحب بعد أن نمت نواظرنا على أسرار قلبينا، وبرهن خفقان فؤادينا لكل منا ما لم تجسر الألسنة على إيضاحه ...
ولما رأى ما بيننا من تباين المنزلة والثروة، صمم على الارتقاء إلى ذروة العلاء من أقصر سبيل؛ لكي يتمكن في وقت قريب من مماثلتك والتشرف بمصاهرتك، فاقترض مبلغا من خزينتك آملا بأن يربح أضعافه في البورصة، فيكون له منه عون على نيل مبتغاه، ولكن جرت التقادير بغير المأمول، فعادت عليه النتيجة بالفضيحة والخسارة؛ وما ذلك إلا لأجلي. فأبتهل إليك يا أبت، وأستحلفك باسم والدتي، وبأثمن تذكار لديك أن تسامح هذا الشاب، وتتنازل له عن هذا المبلغ الذي خسره، بعد أن علمت أنه لم يقصد بذلك سرقة أموالك ونهب خزينتك، وأن تكذب ما جاءت به الجرائد من الأقوال عنه؛ فتنقذ بذلك اسمه من العار ...
وإني أعدك وعدا صادقا شريفا، وأقسم لك بشرف أسرتنا بأنني لا أرضى باقتراني به بعد الآن؛ ليثبت لك أن قصدي ليس إلا تخليصه من عقاب أنا كنت السبب في جلبه عليه، وعار لا ينبغي أن نتركه يلتحف به، وإذا كان لا بد لك من شخص تعاقبه فليس لديك سوى ابنتك التي سببت لك خسارة المال، وجلبت عليك العار والوبال، وها أنذا ذاهبة إلى الدير أقضي فيه بقية حياتي؛ لأكفر عن سيئاتي، وإن لم يكفك ذلك فأنا مستعدة لأن أتحمل كل ما تفرضه علي عدالتك، بشرط ألا يكون لي شريك في العقاب.
وكانت روزه تتكلم وفي لهجتها وحركاتها دلائل العزم والثبات، وكان والدها يصغي إلى كلامها معجبا بشهامتها وعزة نفسها. ولما انتهت إلى هذه العبارة انحنى فوقها، فطوقها بذراعيه، ووعدها بالصفح عن عزيز، ثم أنهضها وأجلسها إلى جانبه، وجعل يمسح دموعها بمنديله، فقبلت يديه شكرا وامتنانا، ثم قالت وصوتها يخنقه البكاء: إن اليأس قد بلغ معظمه من ذلك المسكين عزيز يا أبت، وأخشى أن يقوده ذلك إلى ما لا تحمد عقباه؛ لأني سمعته يقول وهو خارج للمرة الأخيرة من منزلنا: إلى الموت ... إلى الموت.
فقاطعها الأب قائلا بحدة: ويحه من أحمق جاهل، فهل سولت له نفسه الانتحار؟ - ربما كان ذلك. - سأبعث بمن يأتي به إلي سريعا، فأبلغه صفحي عنه. - ولكن ربما لا يأتي؛ فقد بلوت طباعه، وتحققت عزة نفسه، فهو يستسهل لقاء المنون على المثول بين يديك الآن بعد إقراره أمامك بإثمه، ولا سيما أنه لا يعرف لأي سبب تدعوه إليك، فهو لا يحلم بصفحك، ولا ترضى نفسه احتمال سخطك، فما ضر لو كتبت إليه كتابا تمنحه فيه عفوك، وتضمنه بضعة أسطر تكذب أقوال الجرائد؛ حتى إذا ما حصل عليه زال منه اليأس، واستعمل شهادتك فيما يبرئ ساحته ويصون اسمه، فإن حياته يا أبت مرهونة على كلمة عزاء، وربما تأخير دقيقة قربه مسافة من القبر.
فأشار يوسف برأسه إشارة تعني أنه مقتنع من حديث ابنته، واقترب من منضدة صغيرة، فتناول قلما وقرطاسا، وجعل يكتب وروزه واقفة وراءه دامعة الطرف، تنتظر بذاهب الصبر إنجاز تلك السطور التي فيها حياة حبيبها وشرفه.
ولما فرغ يوسف من كتابة التبرئة، تلاها على مسمع من ابنته، وزاد على ذلك قوله: إني أعدك يا ابنتي بقبول عزيز قرينا لك ما دمت تحبينه إلى هذا الحد، وما دام ارتكابه هذا الإثم لم يكن إلا طمعا في الوصول إليك.
فارتمت الفتاة على قدميه تغسلهما بدموعها، وتشكره على ما أبدى من الرقة والانعطاف، فأنهضها، وعانقها، ثم دفع الكتاب إلى أحد خدمه بعد أن عنونه باسم عزيز، وأمره بأن يوصله إليه، وخرج بعد ذلك عائدا إلى مصرفه.
وجلست روزه بعد خروجه تفكر في حبيبها اليائس، وما كان عليه في تلك الساعة من الحزن، وما ستئول إليه حاله بعد اطلاعه على صفح والدها، فتارة تمثله واقفا يودع الحياة بكلمات محزنة، وقد صوب مسدسه إلى صدره وهو يستعد للموت، ويتحسر على حياة تضطره الأنفة والشهامة إلى مفارقتها، وتارة تراه ممتدا على الأرض والدم يسيل من جسده، وقد فارقت ذلك القلب الخافق حرارة الحياة، وغشي الحمام تلك العينين اللامعتين ففارقتهما نظرات الحنو والحب، فتذوب محبتها لدى ذلك المشهد المؤلم، وتنادي الله بحرارة متوسلة إليه ألا يحقق ظنونها وهواجسها، وأن يوصل إليه رسولها قبل فوات الوقت.
ثم جثت وحاولت أن تصلي ولكن دون جدوى؛ كانت تحاول جمع شتات أفكارها وتسكين ثائر بلابلها، فما كانت إلا لتزداد تعمقا في المخاوف، ومما كان يزيد في غمها وقلقها ما ذكرته من المقابلة الأخيرة التي تمت بينها وبين عزيز، وما أبدته له حينذاك من التحقير والازدراء، فخشيت أن يكون ذلك داعيا لتماديه بالقنوط والانتحار رغما عن صفح أبيها، وعفوه، فكبر عليها الأمر، وتمثل لها الخطر محدقا بعزيزها من كل جانب، وعظم عليها من جهة أخرى أن تكون سببا في سفك دم زكي وقتل نفس بريئة، فسقطت في حيرة لا تجد سبيلا للمناص منها، ولا سيما وأن الوقت لا يسمح لها بالتفكير والاصطبار.
وإنها لكذلك إذ رأت الخادم خارجا والكتاب في يده، وكان قد تأخر بعض دقائق لارتداء ملابسه، فاستمهلته وأسرعت في الحال، فجعلت على رأسها قبعة، وسدلت على وجهها نقابا قاتما، وسارت برفقته لا يهمها سوى نجاة حبيبها. وكانت تسير بأسرع ما يمكنها، وكلما بلغت منزلا التفتت نحو خادمها منتظرة أن ترى منه إشارة تعني بأنه الضالة المنشودة، وإذ لا تجد منه ذلك تعود إلى الاستغراق في تأملاتها مواصلة السير بهمة لا تعرف الكلل، وأفكارها متجهة نحو عزيز تود لو يعيرها النسيم خفته، أو الطير جناحيه لتوافيه قبل أن يحل الأجل، ويسبق السيف العذل.
وما صدقت أن رأت خادمها وقف أمام منزل صغير، وأشار إليه قائلا: هنا يا سيدتي.
ثم قرع الباب، ولبث كلاهما بانتظار من يفتحه.
وكانت الدقائق طويلة جدا في عيني روزه، التي مع ما هي عليه من الخوف على حياة حبيبها، قد أدركت في ذلك الموقف عظم جرأتها، وعدم مناسبة خروجها من منزلها على تلك الحال خوف انكشاف أمرها، وافتضاح سرها، غير أنها تذكرت وعد أبيها بقبول عزيز صهرا فهان عليها الأمر، وجعلت تشجع نفسها، فلم تزد إلا قلقا وخوفا، وأخيرا شعرت بدوار، وضعف شديد، كادت تسقط لفعلهما لولا بعض الأمل الذي كان يمدها بالقوة؛ لتقوم بما أتت لأجله، فاستندت إلى الحائط، وجعلت يديها التي كانت أشبه بقطعة من الجليد على قلبها الخافق لتسكن اضطرابه، فما كان إلا ليزداد خفوقا كلما تصورت دنو ساعة اللقاء، ولا سيما حين سمعت صوتا لخطوات خفيفة تقترب من الداخل.
ثم فتح الباب، وظهر منه خادم عزيز، فسألته عن سيده، فأجاب أنه غائب.
فطلبت روزه أن يدخلها إلى مخدعه لتنتظر عودته، ظنا منها أنه لا بد أن يحضر قريبا.
فسار أمامها في رواق انتهيا منه إلى ردهة صغيرة يدخل منها إلى حجرتين، فاقترب الخادم إلى أحد البابين، وأشار إلى الزائرة بالدخول، ثم انحنى أمامها، وعاد إلى خادمها فرحب به، وجلس وإياه قرب الباب يتحدثان كصديقين.
أما روزه فدخلت بخطوات مضطربة إلى أن توسطت الغرفة، فأجالت فيها نظرا مسرعا كأنها تبحث عن محتوياتها، وتستطلع من مجمل أثاثها، وكيفية ترتيبها؛ ما كانت عليه حالة حبيبها لدى خروجه منها، فرأت في إحدى زواياها سريرا تدل ظواهر حاله وشكل ثنيات الملاءة التي تغطيه على استلقاء شخص فوقه دون اعتناء، فأدركت أن عزيزا لم يذق لذة الكرى في الليل الغابر، ولا نزع عنه ملابسه، كما يتبين من أثر حذائه فوق الأغطية البيضاء.
ورأت إلى جانب السرير منضدة قد انتشر عليها بعض أوراق وكتب، فأسرعت إليها وكلها عيون تبحث في تلك الأوراق خوف أن يكون فيها كتاب من حبيبها أو وصية منه شأن من يقدم على الموت، ولما لم تر شيئا من ذلك اطمأنت أفكارها قليلا، وأعادت الأوراق إلى أماكنها، غير أنها ما كادت تفعل ذلك حتى توقفت مبهوتة، إذ رأت بينها رسالة قد خطت بيد امرأة تعرفها، فحاولت أن تغالط نفسها، ولكن غلب عليها سوء الظن، فتناولتها بيد مرتجفة، وشعرت بتلاوتها رغما عما كان يخامرها من الارتباك والخجل لاقترافها جريمة سرقة الأسرار، فهي كما يأتي:
حبيبي عزيز
إني شاعرة بحبك لي، واثقة بصدق ودادك الذي باحت لي به نواظرك، ونم عليه اضطرابك وخفوق فؤادك أثناء تلاقينا، فثق أن محبتي تماثل غرامك، وإعجابي بك يعادل حسن سجاياك، وطيب خصالك، فتفضل بقبول تحية من لا تحيا إلا لأجلك ومن لا تجد سعادة إلا بقربك.
محبتك ماري
ولو أن صاعقة انقضت حينئذ على رأس روزه لكان تأثيرها أخف وألمها أقل، فإنها لم تأت على آخر تلك السطور حتى خارت قواها وتضعضعت حواسها، وشعرت في تلك اللحظة أن جميع آمالها قد هدمت وتزعزعت دعائم أمانيها، فأعادت قراءة الرسالة؛ لتتحقق صحة معانيها، فلم يزدها ذلك إلا حزنا ويأسا، فأعادتها إلى مكانها، وقد فهمت الآن معنى نظرات ماري وابتسامات عزيز، واتضح لديها السبب في فتور عزيز وتغيبه عنها في الأيام الأخيرة، وأدركت أن من تسعى في نجاته وتبذل المال لصيانة اسمه، وحفظ شرفه، قد خانها ومال إلى سواها لغير سبب.
فلبثت مدة واقفة ويداها مسترخيتان كمن به مس، والعرق البارد يقطر من جبينها، وسنان الحزن يدمي أحشاءها، وأخيرا رفعت يدها بالرسالة التي تحملها من أبيها، وألقت عليها نظرة مفادها أن هنا سعادة الاثنين وحياة الحبيبين، وأن تمزيقها يفقد الحبيبة حبيبها، ويحرم الخائن أمانيه كافة، فإن ماري إنما أحبت منه حسن الخلال - كما أوضحت في كتابها - فإذا ثبتت عليه التهمة زالت ثقتها منه، وأصبح مكروها لديها، ومحتقرا عند جميع الأصحاب، وحكم عليه بالسجن ومر العقاب.
ثم تنهدت من كبد حرى، وأجالت نظرها في أنحاء الغرفة، وقد بدت في أسارير وجهها علائم الإباء وعزة النفس، مع الأسف على آمالها التي حلت في واد غير ذي زرع.
ثم وضعت رسالة والدها على المنضدة، وسطرت على ظهر غلافها هاتين الكلمتين مذيلتين بتوقيعها: «أنت حر.»
ثم نزعت الذخيرة التي كانت قد أهداها لها، فجعلتها فوق الكتاب، وخرجت من الغرفة بعد أن أعادت على وجهها النقاب.
ولما اقتربت من الخادمين نهضا إجلالا لها، فدست في يد خادم عزيز قطعة من النقود، وأوصته بكتمان خبر مجيئها، وأن يقول لسيده عند عودته أن بعض الخدم أحضر له رسالة وهي موضوعة على مكتبه، فحنى الخادم رأسه علامة الطاعة.
الفصل الخامس عشر
ماري
نذهب الآن بالقارئ الكريم إلى شارع الأزبكية، حيث يوجد قصر جميل البنيان في حديقة غناء متسعة الأطراف، فيها من الأشجار والنبات والأزهار ما يشرح الصدر ويدهش الأبصار؛ فضلا عن التماثيل على جوانب طرفها ومنعرجاتها، وهي منحوتة على أجمل شكل، وأحسن صنع، وجملة ظواهر القصر وما عليه من الاتساع والزخرفة تدل على سعة يد أصحابه وسمو مكانتهم، أما داخله فمفروش بالرياش الثمين، والتحف النادرة، والآثار القديمة؛ فضلا عن النقوش البديعة التي تزين سقوفه وجدرانه.
فهناك كان يقطن حبيب نصر الله مع ولديه فريد وماري، ولا غرو فإن ثروته ازدادت كثيرا في تلك الأيام؛ إذ كانت قد تضاعفت أثمان الأطيان، وارتفعت أسعار الغلال، فكان ذلك سببا في إثرائه وكثرة غناه.
وفي إحدى مقاصير ذلك المنزل جلس حبيب وولداه يومئذ حول مائدة، وشرعوا في تناول الغداء، وهم يتبادلون الأحاديث، ثم قص فريد على والده ما قرأ في الجرائد عن اتهام عزيز بسرقة مصرف يوسف رافائيل، فأظهر والده الكدر، وتشوق كلاهما لمعرفة الحقيقة.
وكانت ماري تسمع ذلك، وفؤادها يتقطع حزنا وغما، فلما تفرقوا عن المائدة احتجبت في مخدعها، وأطلقت لعواطفها العنان، فكانت كالمأخوذة لفرط ما حل بها من تأثير المصاب.
ولبثت على تلك الحال من التحسر والأنين حتى المساء، إذ دعيت للعشاء فاعتذرت، ولبثت ذلك الليل في غرفتها تصعد الزفرات، وتسكب العبرات، لا تجد سبيلا إلى العزاء، ولا ذاقت أجفانها لذة الرقاد.
ولما كان اليوم التالي أذاعت الجرائد خبرا يكذب ما نشرته بالأمس، واتصل ذلك بأسرة حبيب، ولما تأكدت ماري من براءة حبيبها فاضت مدامعها سرورا، وحمدت ربها على أن ما بلغهم عنه لم يكن شيء من الصحة، فكان مثلها حينئذ مثل من استيقظ بعد حلم مروع، فجعل يطرد ما بقي من مخيلته من آثار تذكاره الشنيع.
الفصل السادس عشر
القلب الأثير
وكان عزيز قد وافى منزله على أثر خروج روزه منه، فدخله وفؤاده طافح بالأحزان، وأفكاره غارقة في لجج اليأس، فجلس أمام مكتبه، وأسند رأسه إلى يديه، وجعل يراجع ما في مخيلته، وما مر عليه من الحوادث، وينظر آسفا إلى آثار تلك القصور التي كان يحاول بناءها في ساحة الآمال، فقوضتها أيدي الظروف في لحظة من الزمن، وتركته يخبط في ظلام القنوط دون أن يجد مناصا من حكم القضاء، أو وسيلة لدفع ذلك البلاء، وأخيرا ضاقت الدنيا في وجهه، فاندفع يسير في الغرفة طولا وعرضا، ونيران الحزن تزداد في فؤاده اضطراما حتى غدا صدره كبركان ثائر، ثم أخرج من جيبه لفافة تبغ، فوضعها بين شفتيه، واقترب من المنضدة يبحث عن نفط لإشعالها.
فوقعت عينه اتفاقا على الذخيرة، وكانت لم تزل حيث وضعتها روزه مع الكتاب، فبهت لدى رؤيتها، وتناولها بيده مستغربا أمر وصولها إلى مخدعه، ثم رأى العبارة التي خطتها أنامل خطيبته على ظاهر الكتاب، فاتضح لديه سر الأمر، وشعر كأن خنجرا وخزه في فؤاده المفعم بالحسرات، غير أنه لم يبد إشارة تدل على لومها وعتابها؛ لأن الحال التي أضحى فيها من صغر النفس، ومرارة اليأس بارتكاب تلك الجريمة، لا يستغرب مثل ذلك الكره والنفار اللذين نالاه منها باستحقاق.
ولم يكد يتصفح الكتاب حتى ازدادت نفسه صغرا أمام مكارم والدها، وانسحق فؤاده تحت تلك الرحمة التي لم ير نفسه أهلا لها، فتفجرت مآقيه بعد طول الاحتباس، وشعر كأن حملا ثقيلا قد تزحزح عن صدره، فطوى الكتاب ودسه في جيبه كمن يحرص على كنز ثمين، وسار توا إلى مصرف صديقه يوسف بعد أن استفهم من خادمه عن كيفية وصول الكتاب والذخيرة إلى مخدعه، فأجابه مموها أن بعض الخدم قد أحضرهما.
ولما بلغ المصرف قابله يوسف ببشاشته المعهودة، فأكب عزيز على يديه يقبلهما شاكرا، ويثني على مروءته وشهامته، فطيب هذا خاطره، وبلغه صفحه شفاها، وفوق ذلك وعده بإبقائه في خدمته، دون أن يوضح له الأسباب التي دعته إلى ذلك الانقلاب؛ حفظا لشرف ابنته وضنا بكرامتها.
ومر ذلك اليوم والذي بعده وعزيز مواظب على أعماله في المصرف كالعادة، وأفكاره متجهة نحو روزه يتلهف لمشاهدتها، ولا يجسر على زيارتها والمثول أمامها بعد الذي تحقق من كرهها ونفارها، فحاول سلوها والتشاغل عن ذكرها بممارسة الأعمال ومعاشرة الخلان.
وكثيرا ما كان يزور أسرة حبيب، فيصادف بينهم كل ترحيب وإكرام؛ ولا سيما ماري التي لقي من أنسها وانعطافها ما حبب إليه كثرة التردد، وساعده على مداواة جرح الفؤاد، غير أنه كان إذا خلا بنفسه تتمثل له روزه بكامل أوصافها وجمال طلعتها؛ فيرى نفسه صغيرا لدى عظمة ذاتها ذليلا أمام عزة نفسها، فيحاول الهرب من تلك الأفكار، والتشاغل بذكر ماري التي أسرت لبه بخفة روحها، وتهالكها في سبيل رضاه، فيقابل بين الاثنتين، فيجد بونا في أخلاقهما يحاكي ما يجده من الفراق في حبه لكلتيهما، فكان مع شدة ميله إلى ماري وارتياحه لعشرتها، لا يشعر نحوها بما لروزه من السلطة على فؤاده والاستسلام لسلطان هواها، بل كانت منزلتها من قلبه منزلة لعبة يلهو بها عن أتراح الدنيا وأثقال الحياة.
ولنعد الآن إلى روزه، فإنها عادت منزلها مظلمة الوجه جامدة العينين، يخيل لمن يراها أنها في حالة سكون وهدوء، لولا ما يرى من اضطراب خطواتها واتساع حدقتيها وشرود بصرها، فكانت تخطر في مخدعها ذهابا وإيابا وأفكارها ذاهلة وتنهداتها متواصلة، وأحيانا تقف فجأة كمن به مس، فتفرك كفيها بمرارة، ثم تعود إلى أسرع من مسيرها الأول دون أن تستقر على حال، كأنها تطلب ملجأ من ذلك اليأس الذي سقطت فيه آمالها، أو تبحث فيما يلطف نيران الأشجان المتقدة في أحشائها، وأخيرا شعرت بخور عزيمتها، وضيق صدرها، بحيث لم يعد يمكنها الاستمرار على تلك الحال؛ فانطرحت على مقعد مستسلمة لعوامل الأحزان، فكان قلبها يخفق بشدة وصدرها يكاد ينفجر بما جرعته من غصص الكرب، وما عتمت بعد ذلك أن هطلت دموعها ففرجت همها، وأطلقت نفسها من عقال اليأس، فاستوت جالسة، وأخذت رأسها بين يديها، وهامت في بيداء التفكير.
وبينما هي كذلك، إذ أومض برق الأمل في فؤادها فأنعشه، فرفعت رأسها، وتنهدت طويلا كمن اهتدى إلى حل لمشكل اضطرابه، وقالت: أجل، إنها هائمة به، وقد أقرت له بذلك ... ولكن ... هو ... هل يهواها ...؟ وهل كتب لها ...؟ آه من لي، فيطلعني على حقيقة الأمر، ويزحزح عن بصري غمامة تعذب دونها ظلمة القبر؟ هي الأيام بيننا، وسنرى ما يأتي به الغد، فإذا كان لم يزل على وده وإخلاصه، ولم يدخله من هوى ماري ما يجعله يفضلها علي، فلن يلبث أن يأتي معتذرا مستعطفا، بحيث يعيد المياه إلى مجاريها بكلمة من فيه، ولا سيما بعد الذي رآه من صفحنا عنه وشدة تعلقي به، وأما إذا كان هوى ماري قد محا رسمي من فؤاده، فيحسب علمي إلهاما من السماء جاء طبق غايته ومراده، فحينئذ لا يجب أن آسف عليه، أو أن أجعل قيد هواي واسطة للحصول عليه.
ومضت بعد ذلك بضعة أيام وعزيز لم يعد إليها، فأخذ أملها الأخير يضمحل، وثقتها برجوعه تقل، إلى أن تلاشى الخيط الأخير من حبال رجائها، فقامت عندها قيامة الأحزان، ولازمت العزلة والنواح إلى أن هزل جسمها، وأصبحت لا تقوى على الخروج من منزلها؛ لفرط ما حل بها من الضعف والسقام، فكانت تصرف أكثر أوقاتها بالقراءة، وتارة تلهي نفسها ببعض أشغال يدوية، وأحيانا تخرج إلى الحديقة مستندة إلى ذراع خادمتها، فتجلس في ظل الأشجار، وتذكر أياما قضتها مع الحبيب بين خرير المياه وتغريد الطيور، وتنظر حولها حينئذ فترى نفسها وحيدة، لا أنيس لها سوى بعض الأزهار، وقد مالت نحوها كأنها شاعرة بنيران أحزانها لتلطفها بماء خضرتها، فتنحني روزه لاستنشاق عبيرها كوالدة تتكلف تقبيل طفلها، وقد طوق عنقها بذراعيه الصغيرتين قصد أن يكفكف ما يراه من الدموع المنحدرة على خديها.
ودامت الحال كذلك بضعة أشهر وروزه لا تعرف سلوا، فجفاها الرقاد ليلا، وضاقها الهم نهارا، بحيث لم تعد تكف عن البكاء إلا إذا حضر والدها، فتتكلف الابتسام رحمة به، إذ لحظت أنه شاعر بفرط حزنها، يتألم لآلامها، وينتعش لابتسامها.
ولما رآها قد تمادت بالأحزان، عرض عليها أن يستدعي عزيزا، ويصرح له عن رضاه به صهرا، إذ ظن أن اجتنابه زيارتهم ناتج عن خجله وخزيه، فرفضت روزه ذلك بأنفة شاكرة والدها على اهتمامه بأمرها.
وكان فريد يتردد إلى منزل يوسف من وقت لآخر، وقد تشبع فؤاده من حب روزه، وتملك هواها قيد رشده، فجعل يتحبب إليها ويتقرب منها بما يشف عن نية صالحة وصداقة طاهرة، فلم تبال به أو ترحم فؤاده؛ لأن هوى عزيز كان قد استوطن قلبها، وملأ جوارحها، فلم يترك مكانا لمن سواه.
ولم يفت فريدا شيء من حركاتها وتماديها بالغم منذ افتراقها عن عزيز، فثبت لديه أنها مولعة به، ولا تزال تؤمل عودته، ولكن علمه بزيغ عزيز عن هواها وارتباطه بشقيقته ماري رجح لديه أنها سوف تعتزل ذكره يوما، وتنسى سابق وده متى اتضحت لها خيانته، وثبت لديها اقترانه بمن سواها، وعلى ذلك بات:
يعلل النفس بالآمال يرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
بينما كانت روزه تتقلب على فراش الأحزان، وتتململ تململ الملدوغ، وتئن أنين الثكلان، كان عزيز يمرح مع حبيبته ماري في بحبوحة الصفاء والهناء، وقد تعاهدا على الحب، وختم والدها بخاتم رضاه على عهد الولاء، فماد بعطفها السرور، وذهبا يجران أذيال الغبطة والحبور، وتعين يوم الخطبة بعد قليل من الزمن، فوزعت رقاع الدعوة على الأصحاب، ومن جملتهم أسرة يوسف.
وما أن اطلعت روزه على هذا الخبر حتى تقطعت أحشاؤها حزنا ولهفا، وتساقطت نفسها حسرة ويأسا؛ لأن المصاب لم يكن يحتمله قلبها أو يتسع له نطاق صبرها، فأصيبت على أثر ذلك بحمى شديدة ذهبت بورد خديها، وأودت بنضارة جمالها، وتركتها رازحة تحت أثقال الداء، وهيئتها أشبه بالأموات منها بالأحياء.
فهلع قلب والدها خوفا على حياتها، ولم يدخر شيئا من وسائل المداواة والتمريض لدفع العلة عنها، وإعادة الطمأنينة والسعادة إلى فؤادها، وقد كرهت نفسه عزيزا وقبح ساعة عرفه فيها؛ لأنه مصدر تلك الويلات، فجزاه بأن فصله من خدمته، وكان قد مضى زمن على السرقة، فلم يكن من يذكرها، ولا علم السبب في طرده إياه.
ولازم فريد منزل يوسف مدة مرض ابنته، فكان يتنسم أخبارها من الأطباء والممرضات، ولوائح الغم والقلق بادية على وجهه، تترجم عما في فؤاده من عواطف الحب والهيام.
ولحظ منه يوسف ذلك، فحاول أن ينهاه عن التمادي في الحزن رحمة بحياته أن تعبث به أيدي القضاء، فما كان ذلك إلا ليزيد نيران فؤاده اضطراما، بحيث لم يعد قادرا على الصبر والكتمان، فكاشف يوسف بأمره، وتوسل إليه أن يسمح له بابنته زوجة، فلم ير الأب في الفتى ما يمنع من قبوله صهرا، فوعده بأن يجيب سؤاله إن هي شاءت ولم يسبقه إليها رسول البين.
غير أن الدهر رحم ذلك الوالد المسكين، فلم يشأ أن يزج شيخوخته في أعماق الأحزان، فلم تكن إلا أيام قليلة حتى تماثلت ابنته، وأذن لها الأطباء بالتنزه في الحديقة، ومقابلة المقربين من أصدقائها.
فتهلل فريد سرورا بسلامتها، وما صدق أن أذن له في مشاهدتها حتى أقبل إليها وفؤاده يخفق جذلا وتأثرا، وعيناه تترجمان عن شدة حبه واحترامه لتلك الملائكية التي أكسبها السقام جمالا غير جمالها، فكانت على ما بها من صفاء اللون ونحول الجسم فتنة للناظر وموضوعا لتغزل الشاعر.
فقابلته باسمة ومدت له يد شفها السقم، فبدا للعين جمال تكوينها وتناسق أعضائها، فقبض عليها مسلما وهنأها بالسلامة، ثم دعته إلى الجلوس، ودارت بينهما الأحاديث، فكان يورد على مسامعها من العبارات المضحكة والنكات المستملحة ما خفف كربها، وأنعش نفسها، فارتاحت لمؤانسته، وأصبحت منذ ذلك الحين تميل إلى مجالسته.
غير أن الضربة التي أصابت فؤادها، وجرحته جرحا غير قابل للاندمال، قضت على آمالها بما لم تر معه بدا من الصبر والاحتمال، فتجلدت على هذا المصاب الأليم بعد أن تأكدت خيانة عزيزها، وفقدها لحبيبها الذي أضحى في اعتبارها كميت لا تفيد فيه العبرات، ولا تعيده الزفرات، وأصبحت منذ ذلك الحين تميل إلى معاشرة الأصدقاء، وترغب في الأحاديث السارة، بعد أن كانت تفضل الانفراد بأحزانها، وخيبة آمالها، والانزواء في سجن ريبتها وآلامها.
وقد شعرت حينئذ بحاجة إلى صديق يواسيها، ويضمد جراح قلبها الكسير، فتذكرت ماري، وتمنت لو أن المصاب اقتصر على فقد خطيبها، ولم يتجاوز إلى صديقتها التي كانت تجد فيها شريكة تشاطرها الغم وتقاسمها الألم، ولبثت على حالها من الوحدة والكرب، وليس لديها سوى فريد الذي ما برح يتردد إليها صابرا على مضض نفارها صبر الكرام، قانعا منها بغنيمة النظر وما قل من الكلام.
وبعد مرور الأيام، وطول عهد المصاب، أصبحت أقل نفورا من معاشرته وأكثر ميلا لاستماع أحاديثه التي لم تكن تخرج عن دائرة الفكاهة والأدب.
الفصل السابع عشر
الصديقتان
أقبل الصيف يجر أذيال نسماته الحارة بما يذيب، وهب الناس للاصطياف. وكذلك أسرة حبيب، فقد صمموا على السفر إلى ربوع لبنان، أما فريد فأبى مرافقة والده وشقيقته مفضلا البقاء في مكان يستنشق مع نسماته أنفاس حبيبته مستعلما عن أحوالها، وسير علتها من وقت إلى آخر، وقد ناب عنه في صحبتهما عزيز، إذ لم يكن لديه من الأعمال ما يحول دون سفره.
ولما حان وقت السفر ذهبت ماري لوداع صديقتها، وحالما رأتها أبدت مزيد الأسف لما رأته فيها من آثار السقام، وأسرعت فطوقتها بذراعيها، وقبلتها بلهفة وحنو، وهي تقول لها وفي صوتها رنة حزن: أواه أيتها العزيزة، إني لم أكن أتصور أن أراك على هذه الحال من الضعف والهزال، فلقد حضرت مرة لزيارتك بعد أن بلغني خبر انحراف صحتك، فلم يؤذن لي بمشاهدتك، فكنت أعود بصفقة الخاسرين مواصلة الاستفهام عنك من وقت إلى آخر، إلى أن قيض لي مشاهدتك اليوم، فالحمد لله على سلامتك.
فتجلدت روزه ما أمكن، وقبلت صديقتها بفتور، ثم جلستا، وأخذتا بأطراف الحديث، فقالت روزه: كيف أنت يا ماري هذه الأيام؟ - إني كما تتمنين لي من الهناء والرفاه، وقد عزمنا على الرحيل إلى سورية، فأتيت أتزود من محياك قبلة الوداع. - وهل عزمتم على الاصطياف فيها؟ - نعم، وسنمكث هناك طول الصيف، وربما تجاوزناه إلى فصل الخريف لبعض أشغال يقصد والدي الاتجار بها بين الشام ومصر. - وهل عاودت والدك الهمة للعمل، فقد كان في عهدي أنه انقطع عنه منذ أمد طويل. - في عزمه أن يرسم خطة الأشغال، ثم يكل إدارتها إلى أخي وخطيبي، ولا بد من استصحاب أحدهما لمساعدة أبي على انتقاء الموافق من المصنوعات الشامية التي يندر وجودها في مصر، ولما كان أخي مرتبطا بخدمة البنك العقاري، فلا يمكنه مرافقتنا والاستعفاء من أشغاله قبل أن يتأكد من نجاح العمل الجديد، وعليه فسينوب عزيز مكانه في رفقتنا.
ولدى ذكر عزيز، غصت روزه بريقها وكلل العرق جبينها، غير أنها تجلدت، وأجابتها وهي تكاد تنشق مرارتها: حسنا يفعل. - إني واثقة بأن هذا العمل سوف يعود على عزيز بالنجاح والثروة، أفلا ترين رأيي؟
فأشارت إليها بالإيجاب، وقد تبين الكمد من وجهها.
أما ماري فلم تنتبه لتبدل ملامح صديقتها، إذ قد شغلت حينئذ بذكر عزيز، وسرحت أفكارها في جمال المستقبل وسعادة أيامه.
فقالت لها روزه، وهي تحاول الابتسام: وهل تحبينه يا ماري؟
فأكدت لها بنظرة لطيفة، وقد تضرج خداها، وافتر ثغرها. - وهو يهواك طبعا. - إلى حد العبادة.
ثم جعلت تسرد لها من الأدلة القاطعة، والبراهين الناطقة بصدق هواه، وكثرة هيامه، وتلك تتلقى سهام كلمتها بصدر أدمته يد الأحزان، وهي تتلوى كطير مذبوح، وتتنهد من صدر مقروح، محاولة امتلاك نفسها وكتمان حزنها، غير أن الضعف غلبها أخيرا، فهوت إلى الأرض، وهي تئن أنين المحتضر، وتصعد الزفرات، فيسمع لها حشرجة أشبه بصوت مدية تخترق الأحشاء.
فأسرعت ماري وطوقتها بذراعيها، ثم أسندتها إلى صدرها، وهي تردد اسمها، وتتبعه بأحب الألقاب.
فأشارت روزه إلى صديقتها بتسكين قلقها، إذ لم تكن تقوى على النطق، وكان صدرها يصعد، ويهبط بسرعة، فيعسر عليها التنفس.
ولبثت برهة على تلك الحال عرضة للتأثر والانفعال، ثم انحل عقد دموعها النحيب والشهيق حتى نزفت عبراتها، فأطبقت أجفانها، ومالت برأسها على كتف صديقتها، وساد السكون حينا، استردت به روزه شيئا من القوة، ففتحت عينيها، ونظرت إلى ماري فرأتها تبكي، وعلائم التأثر بادية على محياها، وجملة هيئتها تدل على سلامة طويتها، وخلوص ودها، حتى ليخال الرائي أنها مستعدة لبذل النفس والنفيس في سبيل إنقاذ صديقتها، وإزالة الأسباب التي تؤلمها.
فقبضت روزه على يديها بحنو، وقالت لها وهي تتكلف الابتسام: لا تقلقي أيتها العزيزة، فما هذه إلا نوبة عصبية تنتابني أحيانا. - فدتك نفسي أيتها الحبيبة، إني لم أكن أتصور أن أراك على هذه الحال من الضعف والهزال، وإنه ليؤلمني فراقك على هذه الصورة، ولا يهدأ لي بال إلا إذا أتحفتني بالأخبار السارة عنك من وقت إلى آخر.
ثم رسمت على جبينها قبلة جمعت معاني الطهر والوداد، فوعدتها روزه بذلك، وبعد حصة قضتها الصديقتان بين أحاديث متفرعة، نهضت ماري وودعت صديقتها، فكان وداعا مؤثرا في فؤاد روزه كامن الحزن، وزادها أسى ما رأت في رفيقة صباها من علائم الود، فجعل قلبها بخفق بشدة، وكادت شفتاها تبوحان بأسرار فؤادها لماري؛ ولكنها ما عتمت أن ملكت رشدها، واسترجعت قوتها، فهزت يد صديقتها، وهي تتمنى لها سفرا سعيدا.
ثم سارت نحو الباب، والتفتت إلى صديقتها وهي تكفكف دموعها، فقالت لها: إن قلبي يأبى مطاوعتي على الذهاب، ولكن ما العمل؟ فإن والدي وعزيزا ينتظراني لتهيئة ما يلزم للسفر حتى نكون غدا صباحا على استعداد تام للرحيل، فلا بد إذن من المسير، ولا يبرح من ذهنك أن تكتبي إلي في أول فرصة.
فانقضت كلماتها على قلب روزه كالصاعقة، ولم تقو على احتمال تلك الضربة، فلمعت مقلتاها، وفغرت فاها لدى تفوه صديقتها بالعبارة الأخيرة، وكادت تقول لها: ردي علي حبيبي. غير أن ماري كانت قد توارت خارج الباب، فسقطت خائرة القوى، يكاد يقضى عليها من الغم والأسى، وقد حاولت البكاء فخانها الدمع بما استوقد صدرها وضرم أنفاسها. فنهضت واجمة، وهي تطالب الحمام، وتنادي القبر لتلجأ إليه من ذلك العذاب الذي قوض دعائم اصطبارها، ثم اقتربت من النافذة لعلها تلقى من نسيم الروض تحية تنعش منها الفؤاد، فألقت نظرها على ذلك الشارع الكبير الغاص بالعربات والخيول التي تقل المتنزهين من رجال وسيدات وأولاد، وقد أرسلت عليهم الشمس أشعتها السنجابية مودعة قبل الأفول ... وما هي إلا لحظة حتى استردتها إليها، وتوارت خلف حجابها؛ كي تجلب إلى الفم قبلة لا أمل بعدها بلقاء.
فابتسمت روزه ابتسامة السويداء، وقالت: هكذا قد آذنت شمس حياتي بالزوال، ولكن قبل ساعة المغيب، فوداعا أيها العالم المملوء من المسرات، ووداعا أيتها الشمس التي ستنشرين جناح أشعتك غدا على قبري. أستحلفك بأن تترفقي بحال الأزهار التي ستنبت حول ضريحي، فلا تمسيها بأذى، بل تزودي الآن من أدمعي ما يلطف حر أنفاسك.
وعقب ذلك دمعة سقطت على خدها كقطرة الندى، فأخذتها على طرف أنملها، وأرسلتها مع الهواء، ثم ألقت نظرة أخيرة على الشارع وهمت بالرجوع.
وعند ذلك استوقف بصرها أحد المارين، وكان يشبه عزيزا بقامته ومشيته، فلبثت ترقبه إلى أن اقترب من منزلها، فتبينته جيدا فإذا هو عزيز بعينه، وكان يتقدم نحو الباب، فظنته قادما لعيادتها لدى علمه بأنها مريضة، فارتعشت كمن مسها سلك كهربائي، ولكنها لبثت واقفة تغالب اضطرابها وضعفها، وقد صممت على امتلاك نفسها أمامه - إن هو زارها - والتظاهر بما يوافق كبرياءها ويخالف شعورها.
وما كاد عزيز يقترب من باب منزلها، حتى ظهرت ماري على عتبته، وإذ شاهدت خطيبها أسرعت نحوه فتصافحا، ولبثا حينا يتحدثان وعلائم الحب والارتياح مرسومة على محياهما، وفي نظراتهما، وابتساماتهما، وما عتما بعد ذلك أن سارا متجهين نحو منزل ماري.
ولما عاينت روزه ذلك منهما، ورأت عزيزا عدل عن زيارتها، وعاد برفقة ماري، زفرت زفرة كادت تنقصف منها ضلوعها، وسقطت مغمى عليها.
ولم يكن قد أخطأ ظنها، فإن عزيزا حين بلغه خبر مرض روزه صمم على زيارتها رغما عما يعترضه من الخزي والتأثر، فاتفق خروج ماري ساعتئذ وتلاقيها به، فشغلته رؤيتها عن كل إنسان، ولا سيما أنها سألته أن يرافقها إلى منزلها فأطاعها، ومن يرفض خدمة سيدة تكلفه بقضائها، ولا سيما إذا كانت تلك السيدة عزيزة عنده، ثم جعل يسألها عن روزه أثناء مسيرهما، فحدثته بما أعاد إليه بالطمأنينة، وأكد له زوال الخطر عنها.
وألحت عليه ماري تمضية ذلك المساء بقربها ففعل، وأخذ يعاونها في تهيئة مهمات السفر، وبشائر السرور تضرب في قلبيهما مبشرة إياهما بسفر جميل ومستقبل بهي.
فنتركهما يمرحان في بحبوحة آمالهما، ونعود حيث تركنا روزه مغمى عليها، فبعد أن مضى عليها بعض دقائق دخلت خادمتها فرأتها على تلك الحال، فاعتنت بها إلى أن ثاب إليها رشدها، ولما استفاقت شعرت بقوة حديدية، أعادت إليها حياة كانت تظنها من هنيهة قد قاربت الانطفاء. فإن مشاهدة عزيز الأخيرة وما رأت عليه من علائم الصحة والبشر، ومظاهر الود نحو خطيبته الجديدة قد قطع الشريان الأخير الذي يربط قلبها به، فخرجت من ذلك اليم مطلقة القياد، أقوى منها على كفكفة الدمع ومداواة جرح الفؤاد.
الفصل الثامن عشر
السفر
وفي اليوم العاشر من شهر مايو كانت باخرة فرنسية تمخر مياه المتوسط، وقد صفا لها وجه السماء، وسادت السكينة فوق سطح المياه، ووقف الخطيبان فوق ظهر السفينة، يتمعنان النظر بجمال الطبيعة، والنسيم يهب عليهما مداعبا، فيقبل ورد الخدود، ويرتشف كوثر الثغور.
وفي صباح اليوم الثاني رست السفينة في ميناء بيروت، فخرج المسافرون أفواجا إلى ظهرها، يرسلون النظر إلى تلك المدينة التي خصتها الطبيعة بجمال الموقع واعتدال الإقليم، فبسطت أجنحة سهولها بشكل نصف دائرة، ينتهي طرفاها بلسانين يدخلان في البحر، وكلها مزدانة بالمناظر الطبيعية الجميلة والمباني الفخمة، وقد بدت في أعلاها جبال لبنان بارزة بحلتها الخضراء، وقد بيض الثلج مفرقها، وأرسلت الغزالة من لحاظها سهاما أصابت كبد شيخوختها، فلمع بارق ثغرها بابتسامة أعادت إليها حرارة الشباب، واندفعت تشارك الطبيعة بهجتها.
وكانت الزوارق قد انتشرت حول السفينة انتشار الجراد، وجعلت نوتيتها تساعد المسافرين على النزول، فلم تكن ساعة حتى أقفرت الباخرة، وسار كل من المسافرين إلى وجهته.
وقضت أسرة حبيب ليلة في أحد فنادق بيروت، وفي اليوم التالي ساروا إلى جبال لبنان، فجعلوا يتنقلون في قراها، يتمعنون النفس بجمال مناظرها وجودة هواها، وكانت ماري أشدهم سرورا بتلك المشاهد الطبيعية التي لم تكن قد ألفتها، وكانت تقضي أكثر أوقاتها في الحقول، تجمع من زهور البرية ما استطاعت يداها الناعمتان قطفه، وتعود إلى منزلها مشرقة الوجه باسمة الثغر، فيقابلها والدها بالابتسام، ويتشاغل بحلاوة حديثها وقبلاتها عن مر التذكار، الذي ما فتئ يتردد في مخيلته منذ وجوده في تلك الجهات، التي قضى فيها غابر أيامه وماضي حياته.
أما عزيز، فكان همه التفكير في أمر مستقبله، والحصول على عمل يكون له من ورائه مركز حسن وثروة واسعة، وكثيرا ما كانت تتمثل له صورة روزه في خلوته مصوبة سهام عتابها إلى قلبه، فيهرب من ذلك التذكار، ويتلهى بمعاشرة ماري، والنظر إلى ألطف حركاتها، لائما قلبه على عصيانه وتفضيله تلك على خطيبته كونها تسويها جمالا وتزيدها غنى ووجاهة.
وكانوا قد انتهوا حينئذ إلى زحلة، فمكثوا فيها أسبوعا كاملا، ثم برحوها إلى بعلبك آسفين لفراقها، معجبين بجمال نهر البردوني الذي يتخلل تلك البلدة فيزيدها جمالا، ويجذب إليها قلوب النائين عنها.
وثاني يوم وصولهم إلى بعلبك ذهبوا لمشاهدة قلعتها القديمة؛ وهي تعد من أعجب مباني الدنيا - موقعها إلى غربي المدينة - وأشهر شيء يرى منها من السهل رواق مؤلف من ستة أعمدة، وقسم من جدران هيكل كبير، وجدران وأعمدة هيكل أصغر واقع إلى أسفله، والطبقة السفلى - التي جعلت عليها الأبنية العظيمة - فهي بناء متسع الدائرة، جدرانه مبنية بحجارة كبيرة منحوتة محكمة الوضع، يحتوي الجانب الغربي منها 3 أحجار كبيرة جدا، طولها جميعا 190 قدما، وطول أكبرها 64 قدما عن الأرض، فوقفوا حينا يتأملون ذلك المشهد العظيم، ثم دخلوا إلى رواق طويل من الجهة الشرقية، ينتهي إلى دار مسدسة الزوايا فأخرى مربعة، وعلى جانبيها مخادع كثيرة، وأمامها أعمدة ضخمة مزينة بنقوش متقنة، فساروا منها إلى الهيكل الكبير، فشاهدوا في داخله كثيرا من الآثار والنقوش، ومعظمها قد لعبت به أيدي الخراب، ولم يزل إلى اليمين واليسار عمودان ضخمان مجوفان، في جوف كل منهما درج لولبي يدخل إلى أحدهما من خرق؛ زحفا على البطن، داخله 69 درجة، تؤدي إلى أعلى الهيكل.
فتركوه، وساروا برفقة الأدلاء إلى هيكل الشمس، وكانوا قد مضى عليهم نحو أربع ساعات، وهم يتنقلون بين تلك الخرابات، فانتهوا إلى باب الهيكل، وكان التعب قد أثر فيهم، فجلسوا على حجارة كانت هناك مبعثرة، ينبئ وجودها عما فعلته يد الدمار، وتناول كل منديله، وجعل يمسح العرق عن جبهته.
ثم نظروا إلى ذلك الباب، وهو غلق قائم الزوايا، قائمتاه حجران يغشيهما نقوش من الأزهار، والأكاليل، والملائكة، ونحوها، وقد نقش على عتبته صورة نسر في مخلبه صولجان، وفي منقاره أكاليل من ورق الأشجار والأزهار، جعلت أطرافها من الجانبين بيد ملاكين، فسروا بتلك المشاهدة البديعة، وخرجوا من القلعة معجبين بما ترك الأولون للآخرين.
وبعد أن أقاموا بضعة أيام في بعلبك، عادوا إلى زحلة، ومنها إلى دمشق بعد أن مروا على كثير من القرى فمكثوا بها أياما.
ورأوا في دمشق من جودة الإقليم، ووفرة المنتزهات والبساتين، وكثرة المياه ما حبب إليهم طول الإقامة. ولا غرو فهي جنة المشرق ومطلع أنواره كما قال فيها ابن بطوطة؛ قد تحلت بأزهار الرياحين، وتجلت في حلل سندسية من البساتين:
بلاد بها الحصباء در وتربتها
عبير وأنفاس الشمال شمول
تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق
وصح نسيم الروض وهو عليل
فقضوا فيها نحو ثلاثة أشهر على أتم هناء وأحسن رخاء، وابتاع حبيب ما وافق رغبته من البضائع الجميلة، والمصنوعات المتقنة، ثم سافروا إلى بيروت على أن يبرحوها بعد أسبوع عائدين إلى مصر.
الفصل التاسع عشر
على فراش الموت
وفي تلك الأثناء، كانت روزه قد تماثلت شيئا فشيئا، وعادت إلى سابق عادتها من المعيشة، مفضلة عشرة الأصدقاء على ما كانت ترغب فيه قبلا من الوحدة والانفراد.
وكانت تلك أحسن فرصة لفريد الذي جعل يتقرب منها، ويباسطها أشهى الأحاديث، وأجمل الأخبار، دون أن ينطق بكلمة تشف عن هواه، الذي ما برح يعذب مهجته ويلعب بعواطفه، خوف أن يلقى من صدها ما يرهبه ويخشاه، فمال إلى الصبر والكتمان ما وجد إليهما سبيلا.
ولكن غلبه الوجد أخيرا، فقابلها يوما عند باب المنزل، وكانت سائرة إلى الحديقة، فسار برفقتها، ولم يكن بينهما ثالث، فجعل يساعدها على قطف الأزهار، واجتناء الورود، وهما يتباعدان تارة، ويتقاربان أخرى، إلى أن شعرت روزه بالتعب، فجلست على مقعد خشبي طلبا للراحة، وقد عقد العرق على جبينها الفضي لؤلؤا، وشهد ورد وجنتيها بأنها سلطان الورود وزهرة الحقول.
ورأت فريدا ينظر إليها هاشا، فابتسمت له، وكأن تلك الابتسامة منحته شجاعة لم تعهد به من قبل، فجثا عند قدميها وقال مستعطفا: أي روزه؛ هل يأتي يوم تشرق فيه شمس آمالي، فتبدد ظلمات تعاستي، أم قضى علي سلطان حبك بالشقاء أبد العمر، ولا ذنب لي إلا إخلاصي وشدة احترامي لذاتك البهية.
ثم صمت هنيهة، وجعل ينظر إليها واجفا جزعا، كمن ينتظر لفظ الحكم عليه من حاكمه.
فلم يبد على روزه أدنى تأثر أو اهتمام، بل أجابته بمنتهى البساطة والاحتشام: إني أودك كصديق.
فلم تزده تلك العبارة إلا إبهاما، ودام السكوت هنيهة، لم يجد فيها إلى النطق سبيلا، بل كانت ضربات قلبه المسرعة، وترقرق الدمع في عينيه، يترجمان عما توقد في صدره من عوامل التأثر والهيام، فود أن يستطلع ميولها واعتقادها فيه، ولكن خشي أن يبدو له منها ما يقطع آماله، ويصرم حبل رجائه، فلزم الصمت، وبقي ناظرا إليها كالمأخوذ.
وكأن كلماته على ما فيها من معاني الحب، أعادت إلى روزه ذكرى ساعات قضتها مع عزيز، فتنبهت فيها لواعج من الحزن كانت كامنة، فقطبت حاجبيها، ونهضت فاستطردت سيرها بين الأزهار، وخلفته صريعا وهي قائلة: تأملوا كيف فعل الظبي بالأسد.
وبعد أن أتمت دورة صغيرة في الحديقة عادت إلى مكانها، وقد فارق ملامحها الاكتئاب، فرأت فريدا جالسا مكفأ الوجه، كسير القلب، تكاد الأحزان تقطع أحشاءه، وتذيب لفائف قلبه.
فاقتربت منه مشفقة، ونادته باسمه مجردا من الألقاب، وكان يمازج نغمتها شيء من الرقة والحنان.
فرفع رأسه ونظر إليها نظرة تترجم عن حزنه ويأسه، وأجابها بانطلاق مدامعه، وتصاعد زفراته، ثم كأنه خجل من نفسه لما أظهر من الضعف، فغطى وجهه بيديه وجعل يكفكف دموعه.
فذاب قلب روزه شفقا عليه، ولا سيما أنها سبقت فعلمت تأثير الحب، واستبداد أحكامه في القلوب، فأمست ترثي لحال المحبين، ولكنها مع ذلك لم تجد من قلبها مجيبا لهتاف فؤاده، فحاولت تلطيف أحزانه بما حضرها من العبارات الرقيقة، ولكن لم يزده ذلك إلا شغفا بها، وولوعا بعذوبة منطقها، فعاد إلى الحديث بصوت تمازجه الرزانة والوقار، فقال: اعلمي يا سيدتي أنني لم أكن أقصد تعكير صفو راحتك بمثل حديثي، وطالما كتمت عندك جواي، ولم أشرك أحدا من المخلوقات في آلام نفسي، ولو لم يطفح الكيل في فؤادي، ويذهب الغرام برشادي، لما تجرأت الآن على التلفظ أمامك بما قد يؤلمك سماعه، ومع ذلك فإذا كنت ترين بعض الخطأ فيما فعلت، فلك أن تبعديني من مجلسك، وأنا أعدك بالامتثال، ولو كان في ذلك تلفي وموتي. - إني بالعكس أيها الصديق أجد بقربك عزاء وسلوة، غير أني آسفة لما سببت لك من الآلام عن غير عمد، وليتني قادرة أن أخفف بعض أشجانك أو أقابل عواطفك الشريفة بمثلها، ولكن ذلك لا يكون مطلقا، فإن القلب كالجواد الحرون لا يخضع لقيادة العقل، ولا تؤثر فيه قوة اليد، وغاية ما يمكنني صنعه هو أن أكون صديقة لك. - إنه ليكفيني منك ذلك، فسترين مني صديقا يبذل مهجته في سبيل مرضاتك، ويجود بحياته للذود عنك، وفوق ذلك فإني أعد بألا أكرر على مسامعك لفظة حب، أو كلمة تخرج عن دائرة الصداقة الأكيدة.
وقد بر فريد بوعده، وكأن المودة الخالصة التي وقف لها قلبه، وخلو فؤاد روزه من هواها قد تغلبا على عواطف وجده، فأصبح لا يهمه إلا مؤانستها، ولا يبتغي إلا سرورها ورضاها.
وكانت تقابل معاملته بالامتنان معجبة بصفاء قلبه وصدق وده، وهكذا كانت تمر الأيام بهما، والصداقة الخالصة تنمو وتتفرع في قلبيهما.
وكان التعب والقلق قد أثرا على جسم يوسف أثناء مرض ابنته، فاعتراه على أثر ذلك مرض ثقيل أعيا الأطباء، فلم ينجح فيه دواء، وكانت تلك ضربة على قلب روزه المدنف، فإنها لم تكد تنجو من فتكات الغرام حتى أصيبت بأعز الناس لديها، ومن كان لها عضدا دون سائر الأنام، فشق عليها ذلك ، لا سيما أنها رأت العلة تزيد استحكاما من والدها رغما عن المداواة وحسن الخدمة، فكادت تفقد رشادها حزنا ولوعة، وكان فريد ملازما لها قائما على مساعدتها في خدمة والدها، فرأت منه في آن الضيق صديقا مخلصا يوثق بشهامته، فسمت منزلته عندها، ولم تعد تسمح له بمفارقة منزلها، ولا سيما في مثل تلك الحال التي كانت أحوج فيها إلى صديق يشاطرها الحزن والتعب، ويخفف عنها غصص الوحدة والكرب.
وما لبث الداء أن اشتد بذلك الشيخ المسكين؛ حتى لم يبق منه إلا رمق خفيف، فدعا ابنته وفريدا إليه وباركهما، وأراد مخاطبتهما، فخانه الضعف وعقد لسانه الداء.
فجزعت روزه وحملقت إلى والدها وهي تذرف دموعا سخية، تأثرا لما صارت إليه حالة ذلك الوالد الحنون من السقام، واعتقادها أنها هي السبب فيما ناله من الحزن فالداء العقام.
وكان هذا الفكر يعذبها ويؤلمها، إلى حد أنها كانت تتمنى أن تفتديه بروحها، وتصل ما بقي من أيامها بحياته.
وبعد قليل انطلق لسان يوسف من عقدته، ونظر إلى ابنته بانعطاف، وسألها أن توافيه بقليل من دواء كان بجانبه، فأسرعت وناولته جرعة ممزوجة بدموعها، وبعد أن شربها شعر بقليل من الراحة والنشاط، فقبض على يد ابنته بإحدى يديه وبالأخرى على يد فريد، وقال: اعلمي يا بنية أنني راحل عن هذه الديار الفانية، ولم يبق لي فيها سوى دقائق معدودة، والذي يحزنني هو أنني سأتركك وحيدة في هذا العالم، لا أحد يعتني بك أو يهتم بشأنك، وعليه فأرى أن يكون لك رفيق يشاطرك الحياة ويقاسمك الملاذ، ولا أجد من هو أليق من صديقنا فريد الذي على ما أعهد فيه من نبل الأخلاق، وطيب العنصر، قد تجدين فيه خير نصير، وأحسن نصيب. وهنا حول نظره نحو الفتى، كأنه يطلب مصادقته على قوله، فأجاب هذا: إني أقسم لك بشرفي أن أبذل ما في وسعي؛ لكي أجعلها سعيدة.
فأردف الأب قائلا: ولا تظني يا ابنتي أن سعادة الزواج لا تتم إلا حيث يحل الغرام؛ فرب هوى أفضى بذويه إلى ريبة، وأوصلهم إلى سوء المصير، وكم من متزوجين حسنت حالهم، وسعدت أيامهم، وهم لا يعرفون من الحب سوى ما داخل قلوبهم رويدا مع طول الألفة، وتوالي الأيام، فإن الخلال الحسنة والصفات الحميدة هي التي تجعل كلا من الزوجين محترما من رفيقه، وإنكما لواجدان ذلك في بعضيكما، فليس ما يمنع من تآلفكما إذن، واتحاد قلبيكما، فعديني أيتها العزيزة بأن تجيبي طلبي، وتدعيني أنزل لحدي بسلام.
فاضطربت الفتاة لهذه المفاجأة، ولم تقو على الكلام.
فرأى والدها ترددها، وشعر بارتعاش يدها في يده، فضغط على أناملها بمنتهى الحنو وقال لها: روزه، روزه، اذكري محبتي لك، وعدم رفضي لشيء من رغائبك، أفترفضين الشيء الوحيد الذي أطلبه منك، وأنا على حافة الأبدية.
فتأثرت روزه من حديث والدها، ورأت أن لا بد من طاعته، ولا سيما أنه قد عانى كثيرا من الأحزان والآلام، فلم يعد يمكنها أن تضيف إلى ذلك حزنا آخر برفضها منة يرتجيها منها في آخر ساعات حياته، ومن جهة أخرى لم يكن ما يمنع اقترانها بفريد ما دامت مطلقة القياد، وما دام هو راغبا فيها، فإذا كان الغرام في شرع العاقلين ليس من ضروريات الزواج، فليس ما ترتجيه من دنياها أفضل من ذلك النصيب، وهي التي نبذ فؤادها الهوى، وأقفل بابه في وجه الغرام، فسيان عندها هذا أو ذاك، ما دامت مضطرة إلى من يحميها، ويرافقها في هذه الحياة التي عدمت من كل سلو وعزاء.
فانحنت على يد والدها، وقبلتها قائلة: إني أعدك بما تشاء يا أيها الوالد الحنون. - الآن طابت نفسي، فسأموت قرير العين.
ثم ضم يديها بين يديه، وخاطب فريد قائلا: وما يمنع من قرانكما في الحال، فتبتهج نفسي، وتباركما.
فتبادل فريد وروزه النظر، ولم ير منها ترددا، فنهض وهو يقول: سيكون كما تريد يا سيدي.
وبعد مضي دقائق قليلة، كان العروسان واقفين أمام سرير المحتضر، وإلى جانبهما كاهن يبارك قرانهما، ووراءهم الممرضات، والخدم وقوفا يشاهدون تلك اللحظة البسيطة، ويوسف ينظر إليهما، وابتسامة ظاهرة على شفتيه المفتوحتين، ولبث شاخص البصر إليهما حتى انتهت واجبات الكاهن، ففتح ذراعيه وضمهما بما بقي لديه من القوة، ولم تكن إلا ساعة حتى لفظ روعه بين دموعهما وابتسامته.
الفصل العشرون
كشف الغطاء
وكان قد مضى على أسرة حبيب أسبوع، وهم مقيمون في أحد فنادق بيروت، فصمموا على العودة إلى مصر، ولما كانت الليلة الأخيرة من وجودهم في بيروت تأخر عزيز عن الحضور، وكان من عادته أن يأتي الساعة الثامنة، فيتناول العشاء مع خطيبته ووالدها، فمضى الأجل المضروب، وأزف وقت النوم، وعزيز لم يحضر، فقلقت أفكار ماري وجفاها الرقاد، فتناولت كتابا، وجعلت تتلهى بقراءته عن الهواجس التي كانت تتردد في فكرها، بينما كان والدها جالسا متكئا يدخن وأفكاره متجهة نحو عزيز.
وإنهما لكذلك، إذ سمعا جلبة وغوغاء في ساحة المنزل، فأسرع حبيب وابنته يستطلعان الخبر، فوجدا صاحب النزل والخدم متألبين حول شيء ينظرون إليه، ففرقا الجمع، ونظرا فرأيا منظرا يفتت الأكباد، وتقشعر لهوله الأبدان، رأيا عزيزا مطروحا على الحضيض، لا يعي شيئا وثيابه ملطخة بالدماء.
وصاحت ماري عند ذلك صيحة مزعجة، وسقطت مغمى عليها، فأدخلها والدها إلى مخدعها، وأوقف لها من خادمات المنزل من يعتني بها، وأرسل فاستدعى الأطباء لمعالجة عزيز، فحضروا بعد ساعة، ودخلوا إلى الغرفة التي فيها الجريح، وكان حبيب واقفا بجانب سريره يعالج جرحه بالوسائط المعروفة لمنع سيل الدماء.
فاقترب الأطباء، وفحصوا الجريح، فرأوا أنه لم يزل هناك أمل بنجاته، فنزعوا ثيابه بخفة وحذر، فظهر صدره عاريا، وإلى الجانب الأيسر جرح بليغ يجري منه الدم.
فاقترب حبيب من الأطباء يستخبرهم عن حالة الجريح، فرأى أحد الأطباء ينزع من عنقه سلسلة ذهبية معلقا فيها ذخيرة ملطخة بالدم، فما كادت عين حبيب تقع على تلك الذخيرة حتى أخذته قشعريرة وعراه دهش عظيم، فأسرع وتناولها من يد الطبيب، ومسح الدماء المتكاثفة على ظاهرها، ثم نظر إليها، فجحظت مقلتاه وتعاظم دهشه؛ لأنه وجدها أشبه بالذخيرة التي أهداها إلى قرينته الأولى يوم زفافها إليه، فتأملها جيدا وفتحها فأبصر في داخلها صورة صغيرة تمثل هيئته حين كان شابا، فلم يعد لديه ريب في كونها الذخيرة نفسها التي كانت له، فاستغرب الأمر، واندفع يتفرس في ملامح عزيز، وهو يتمتم في سره قائلا: هل يمكن أن يكون هذا ولدي؟ ولكنه عاد فتذكر أنه رأى بعينه بقايا قرينته الأولى، وكانت لا تزال حاملا، فترجح لديه سبب آخر لوصول الذخيرة إلى الفتى عزيز.
وحينئذ كان الأطباء قد فرغوا من عملهم، فأشاروا إلى حبيب بوجوب الانتباه التام إلى الجريح، ثم أقبل رجال الضبط، ومعهم مدعي العموم، فأجروا التحقيق اللازم، وعلموا بعد البحث أن تلك الفعلة كانت بقصد سلب الجريح ما كان معه من نقود، كما كان يحصل أمثال ذلك في مدينة بيروت، فخرجوا غير مبالغين بالأمر، ولم يعرف بعد ذلك الضارب.
وأصاب عزيز حمى شديدة تلك الليلة دامت إلى الصباح، فكان يتفوه بكلمات متقطعة، يتخللها اسم روزه أحيانا.
وكانت ماري ساهرة عليه الليل بطوله، فلما سمعت اسم روزه يلفظ بين شفتيه داخلها الريب والغيرة، إذ لم تكن تعلم حتى الساعة بأن له سابق علاقة مع فتاة سواها.
وتكرر اسم روزه على لسان الجريح مع بعض ألفاظ دلالتها دلالة واضحة أن صاحبة الاسم ما زالت تتخايل له وتعذب مهجته، فهاجت بها الغيرة، وأخذت تفكر فيمن تكون تلك الفتاة التي تقاسمها قلب حبيبها، وأول ما خطرت في ذهنها صديقتها روزه، وللحال اتضح لها الأمر جليا، وتمثلت لها صديقتها لحظة الوداع بسائر حركاتها، وما بدا عليها من علائم التأثر والارتباك لدى ذكر عزيز، ففهمت معنى تلك النوب التي ادعت أنها تصيبها أحيانا، وأدركت السبب في كل ما أصاب صديقتها من حزن ومرض، غير أنه أشكل عليها معرفة السبب في افتراقهما ما داما متحابين.
ولبثت مصغية إلى كلماته المتقطعة إلى مطلع الفجر؛ لعلها تتمكن من اكتشاف سره واستطلاع أمره، فلم تفلح، وكان والدها يسير في الغرفة ذهابا وإيابا، ويفرك كفيه مجهدا قريحته في حل ذلك السر الذي أخذ يجمع حواسه، ولما أعياه التعب خرج الردهة ضائع الأفكار بعيدا عن محجة الهدى، ورمى بنفسه على المقعد خائر القوى.
وعند الساعة العاشرة من صباح اليوم الثاني، كانت قد خفت وطأة الحمى عن الجريح ففتح عينيه، وأمر يده على جبهته، ثم أجال نظره في الغرفة، فأبصر ماري إلى جانبه شاحبة الوجه مقرحة الأجفان، فتناول يدها وأدناها من شفتيه.
وكأن تلك القبلة سم نفثته عقارب الغيرة على يد الفتاة، فأسرعت وسحبتها من يده مستنكرة أن تمسها ما زالت تتحرك بذكر ضرة لها، وأشارت إليه بالسكوت، قائلة: إنك مريض أيها الصديق وتحتاج إلى الراحة.
فأغمض عينيه، وعاد إلى سبات النوم الذي كان لم يزل مخدرا دماغه المتأثر بفعل الحمى.
وعاده الأطباء على أثر ذلك؛ فرأوا من تحسن حاله ما بشرهم بزوال الخطر عنه.
وما فتئ يتقدم إلى الصحة رويدا، حتى إذا أصبح قادرا على الحديث قص على ذويه حادث تلك الليلة المشئومة. قال: بينما كنت عائدا إلى الفندق نحو الساعة التاسعة مساء، لم أشعر إلا وذراعان قويتان أحاطتا بي، فلم تدعا لي مجالا للحركة، فصحت بالفاعل، وللحال انتصب أمامي رجل كبير الجثة، وطعنني في صدري تلك الطعنة التي لم أعد أعي بعدها شيئا.
فتبين من حديثه أنه لبث على تلك الحال نحو ساعة إلى أن قيض له مرور بعض خدم الفندق فعرفوه، وأتوا به على ما ذكرنا. برئ جرح عزيز بعد أسبوعين فما صدق حبيب أن رآه معافى حتى أتاه يوما مستطلعا سر الذخيرة، فوجده يبحث بين ثناياه وفي جيوبه وعلائم القلق بادية على محياه وفي حركاته.
فسأله عما به، فأجابه: إني أطلب ذخيرة ذهبية كانت معي ليلة جرحت، وأخشى أن يكون قد استولى عليها الأشقياء مع ما سلبوه مني.
فأخرجها حبيب من جيبه، وأراها إياها قائلا: أليست هذه هي؟
فأجابه بالإيجاب، ومد يده لاستلامها مسرورا، فبقي حبيب قابضا عليها، وسأله ببشاشة: من أين لك هذه يا عزيزي؟ - إنها آخر تذكار قلدتنيه والدتي وهي على فراش الموت؛ ولذلك فهي ثمينة لدي ولا سيما أنها تحتوي على رسم والدي المتوفى. - متى توفي والدك؟ - في إحدى معارك جبل لبنان سنة 1860، وأسرت والدتي أيضا في المعركة نفسها، وكانت إذ ذاك حاملا بي، ثم قدرت لها النجاة بوساطة شهم باسل، ففرت عائدة إلى بيت نشأت فيه، واستغفرت مربيها عن جرم أتته بزواجها سرا، وفرارها مع قرينها، فصفح لها، وعادت إلى سابق معيشتها في منزله، غير أن حزنها الشديد على زوجها أسقم جسدها، وذهب بنضارتها، فسارت نحو القبر بخطوات مسرعة إلى أن لحقت به وأنا في الخامسة من العمر، ولما كانت على فراش الموت دعتني إلى جانبها، وقصت علي تاريخ زواجها، ثم تناولت هذه الذخيرة، وقبلت الرسم الذي في داخلها باكية، وطوقت عنقي بسلسلتها وهي توصيني بالاحتراس عليها، ثم قبلتني وأسلمت الروح. - وماذا كان اسم والدتك، وما هو اسم مربيها؟ - اسم والدتي فاتنة، ومربيها أحد أمراء جمبلاط.
فشهق حبيب شهقة كادت تودي بحياته، وطوق الفتى بذارعيه وهو يقول بصوت تقطعه العبرات: ولدي، ولدي، ولدي، كيف لم أعرفك حتى الآن؟ وكيف لم تنبهني عاطفة الحنان الأبوي إلى أن هذا الدم الذي يجري في عروقك هو دمي؟
فارتمى عزيز مدهوشا وهو يقول: والدي ...! شقيقتي ...! - أجل، إنك ولدي، وقد روت لك والدتك خبر موتي؛ لأنها رأت مصرعي بعينها، ولكن كتبت لي الحياة بعد ذلك بعناية أولي الفضل من خدام الله الصالحين، وقد بحثت بعد ذلك فلم أهتد إلى مكانها، فقطعت الأمل من بقائها في قيد الحياة، ولا سيما بعد أن رأيت آثارا جعلتني أتأكد موتها، ولكن فلنحمد الله الآن على إلهامه إيانا إلى معرفة هذا السر، وهيا بنا نبشر شقيقتك ماري بذلك؛ إذ لا يجوز أن ننفرد دونها في هذا السرور.
وهكذا نهض الاثنان، وهرولا نحو مخدعها، وكان حبيب يتقدم ولده وهو يقفز كالغزال، وشعر بأن دم الشباب قد عاد إليه، ولما بلغ مخدعها رآها جالسة تبكي بدموع حارة، فأسرع وقبل جبينها، ثم سألها عن سبب بكائها، فانطرحت على صدره باكية، وشرحت له ما وعته من الألفاظ التي تفوه بها عزيز أثناء مرضه، والتي استدلت منها على أن فؤاده مرتبط بسواها، وعليه؛ فقد صممت على الانفصال عنه، والذهاب إلى أحد الأديرة، حيث تقضي أيامها نادبة حظها متفردة في آلامها.
فجعل والدها يلاطفها ويقبلها، ثم أخبرها بأمر عزيز، وأنه أخوها، وقص عليها القصة من أولها إلى آخرها. وكان عزيز قد دخل حينئذ فوثبت نحوه وهي تقول أخي، فيجيبها شقيقتي، ثم تعانقا. وانضم إليهما الوالد، فامتزجت دموع الثلاثة، وسقت وجناتهم الملتهبة بنيران الانفعال، فكان لهم مشهدا لا يملك الناظر إليه نفسه من التأثر والبكاء.
الفصل الحادي والعشرون
ظهور الحقيقة
وفي عصر اليوم التالي برحوا مدينة بيروت عائدين إلى مصر، وكانت ماري تقص على عزيز أثناء الطريق أخبار روزه، وما تبينته فيها من دلائل الحب والتألم لبعده.
فكان يصغي إليها وحشاشته تتقطع حزنا وندما على ما بدا منه نحوها من الطيش والغدر، وما جلبه عليها من السقم والكدر. وقد وطن النفس على العودة إليها وطلب الصفح منها، وهو واثق بقبولها لتوبته لما يعهده بها من صدق المودة ورقة القلب، ولا سيما بعد أن اتضح عذره في إجابته دعوة المودة، وانقياده لجاذب الإخاء.
وبوصولهم إلى مصر أسرع عزيز توا إلى منزل روزه، فأخبر بوفاة والدها منذ يومين، وعدم تمكنها من مقابلة أحد لما هي عليه من الحزن والغم.
فعاد أدراجه أسفا على وفاة صديقه، متلهفا على رؤية حبيبته، وتفريج كربتها متأملا في حالتها، وما تتجرعه من غصص الكرب، فشعر أن الدنيا قد ضاقت به، فأسرع إلى منزله ليستريح قليلا من عناء السفر، فوجد أن خادمه الأمين قد قام بترتيب المنزل وتنظيفه مدة غيابه بما أوج ثناؤه عليه.
فبات تلك الليلة على أن ينتقل بأثاثه في اليوم التالي إلى منزل والده، الذي ألح عليه بوجوب الإقامة معهم.
ولما كان الصباح، جمع أمتعته بمساعدة خادمه، وبينما كان يرصف الكتب، رأى بينها على المائدة منديلا لطيف الصنع، فتناوله حتى فاحت منه رائحة طيبة، كانت تستعمله روزه عادة، فتأكد أنه لها، ولا سيما بعد أن رأى مطرزا إلى جانبه حرف الراء.
فجعل يقبله ويسقيه بدموعه، متلهفا على أيام قضاها بقربها، مستنشقا ذلك العطر مع أنفاسها الزكية.
ثم خطر له أن يبحث عن سبب وصول ذلك المنديل إلى مخدعه، فدعا خادمه وقال له: لمن هذا المنديل؟ ومن أتى به إلى هذا المكان؟
فلم يعلم الخادم بم يجيبه، فإنه كان قد رآه قبل ذلك الحين، فلم يشك أنه لسيده، وبعد تردد طويل قال: لا أعلم. - كيف تجهل ذلك والمنديل يخص امرأة، فإذا لم تكن تعلم أنت الذي أتيت به إلى هذا المكان، فلا بد أن صاحبته دخلت هذ الحجرة، فسقط منها اتفاقا، وفي كلتا الحالتين ينبغي أن تطلعني على جلية الأمر.
فتذكر الخادم مجيء السيدة روزه رافائيل منذ بضعة أشهر، وأدرك أن المنديل لا بد أن يكون قد سقط منها وقتئذ، إذ لم يدخل غرفة سيده سواها من النساء، فوقع في حيرة بين أن يقر له بالحقيقة فيقع تحت اللوم، أو يلجأ إلى الخداع فلا يروج عليه المقال.
ولحظ عزيز ارتباكه، فداخلته الظنون، وألح عليه بالجواب، فلم ير الخادم بدا من الإقرار، ولا سيما بعد أن شاهد في سيده علائم الحدة والغضب، فأعلمه بزيارة روزه.
فصاح عزيز مندهشا: السيدة روزه رافائيل ... أتت إلى منزلي؟ متى كان ذلك؟ - لا أذكر تاريخ اليوم، ولكني أذكر أن سيدي عاد إلى المنزل يومئذ نحو الساعة السابعة صباحا، وكان الكدر آخذا منه كل مأخذ، فناولته رسالة كان قد أحضرها أحد الخدم، بعد اطلاعه عليها تبدلت ملامحه من العبوسة إلى الطلاقة ثم دخل مخدعه، ولم تكن إلا ساعة حتى خرج مسرعا، وعليه ملامح القلق، وبعدئذ حضرت السيدة روزه رافائيل. - وهل كانت وحدها؟ - لا، بل يصحبها خادم لها، وقد طلبت إلي أن أدخلها إلى مخدع سيدي، وكانت تحمل رسالة إليه. - وبعد ذلك ...؟ - بعد أن مكثت نحو ربع ساعة عادت من حيث أتت، ولم أر الرسالة عند ذلك في يدها. - ويحك! لم لم تخبرني بمجيئها قبل الآن؟ - لم أجسر على مخاطبة سيدى آنئذ؛ لما كان عليه من الغضب، ولعلمي أنه لا بد من أن يعلم ذلك في منزل سيدي رافائيل أثناء زيارته له.
وعند ذلك صرف خادمه وأطرق برأسه وهو يقول: أواه! ما أشقاني! لقد حضرت بنفسها لتبشرني بالنجاة بعد أن سعت لي عند والدها بالشفاعة، فقابلتها بالهجران، ورضيت من الدنيا بمودة فتاة ساذجة جذبت إليها بعامل الإخاء، فلقد كنت غبيا وقتئذ، ولم أدرك قيمة ذاتها وخلوص ودادها، أما الآن فقد اتضح لعيني كل شيء، ولكن هل تعلم هي ما أقاسيه من الحسرات؟ وهل يرد لنا الدهر ما فات؟
ثم اقترب من مكتبه، واستأنف رصف كتبه وهو يصعد الزفرات، ويعيد في ذهنه ماضي أيام قرب روزه وحلاوة اجتماعات سمح الدهر بها حينا وانقضت.
وإنه لكذلك إذ وقعت عيناه على رسالة ماري، فانتفض كمن لسعته أفعى، وأخذها بيده وهو يقول: لقد علمت الآن السبب الذي حدا روزه على التباعد وفصم العهود، فلا بد أن تكون قد اطلعت على هذه الرسالة التي شهدت بخيانتي ونكث ودي، ففعلت ما توجب عليها الأنفة وعزة النفس، وساعدني ذلك على التطوع في الزيغ والغدر.
ثم جعل يتأمل فيما كانت عليه حالها وقتئذ من شدة الحزن واليأس، وما ذرفت عيناها الجميلتان من الدمع، فكاد قلبه يتقطع حسرة وأسفا، ثم صاح من فؤاد قرحته أنياب الندم: الويل لي! أنا الشقي! كم جلبت على تلك النفس الطاهرة من الآلام، وكم سببت لها من الأسقام، فضلا عما جررت عليها من خسارة المال وضياع الآمال، أواه! من لي فيزيل هذا الحاجز بيني وبينها الآن، ويرجع إلى قلبي سعادته المفقودة، ويعيد إليها سابق ثقتها بي؟
وبعد أن أنهى أعماله، وجمع أمتعته، ذهب إلى والده، فتلقته شقيقته بالترحيب وعانقته مكثرة من ملاطفته، ثم قصت عليه خبر زفاف روزه إلى أخيها فريد، بما أمكن من التلطف بالحديث.
فشعر حينئذ بأن الأرض تميد تحت قدميه، ولبث مدة شاخص النظر مقطب الوجه صامتا، لم ينبس بكلمة، إذ لم ير وجها للومها، بل كان يردد في سره قائلا: لقد جوزيت بخطيئتي، ونلت جزاء غدري وخيانتي.
وما زالت ماري تحدثه وتمازحه إلى أن خف ما به.
ولقي بعد ذلك من حسن معاملة أسرته عموما، ومن أخيه خصوصا ما لطف حزنه وأخمد نيران فؤاده. وكان فريد يزورهم من وقت إلى آخر، ثم يعود إلى قرينته التي فضل الإقامة معها منفردين، وكثيرا ما كان يدعو أخاه لزيارته، أما عزيز فكان يصعب عليه مواجهة روزه، والنظر إليها، ففضل الابتعاد معتذرا إلى أخيه.
حتى إذا كان بعض الأيام وروزه واقفة في ردهة منزلها، وقد ارتدت ثوبا فاحما زاد جمالها بهاء، وبشرتها نقاوة، لم تشعر إلا وعزيز واقف أمامها ينظر إليها بانكسار.
فحالما وقعت العين على العين، وقف كلاهما مبهوتا، كأن به سحرا، وقامت رسل الأنظار تشكو إلى القلوب ما جنته عليها من أيدي البعاد، ولبثا كذلك هنيهة يتمتعان بلذة حلم ما عتم أن أعقبه مرارة اليقظة، فانتبه عزيز إلى حقيقة مركزه، والتفت بنظره إلى ماضي حياته، وقابل بين هذا وذاك، وللحال أطرق خجلا حزينا، وقال بصوت اليأس: ما أشقاني ...!
فمدت روزه إليه يدها باسمة، فقبض عليها بلهفة فضغطت على يده بحنو قائلة: لا تتفوه بمثل ذلك أيها الصديق؛ فأنا شقيقتك منذ الآن. - آه ... إذن قد صفحت عني. - لقد صفحت عنك، وفوق ذلك فإني أحبك حب الأخت لأخيها. - هذا غاية ما أرجوه منك، فما أنت إلا ملك كريم.
ثم أكب على يدها، فتركته يقبلها، ويغسلها بدموعه، وقلبها يتقطع حسرة وشفقة عليه.
ولبثت بعد ذلك تظهر له تمام المودة والمصافاة إلى أن زالت وحشته، ولم يزل حبها من فؤاده؛ ولذلك صمم أن يقضي بقية حياته عزبا، قانعا بأن ينظر إلى مالكة قلبه، ويوقن بأنها قد رضيت عنه ونسيت ماضي ذنوبه.
صفحه نامشخص