وضحك الحاضرون - من الجنسين - ضحكا عاليا، وابتسم محجوب يداري هزيمته، وقد أفرخ روعه، وارتاح إلى تفرده بالدفاع عن «القومية المصرية»، وقال لنفسه: «إن بدلة التشريفة الحقيقية هي ثوب الرياء؛ فلا يفوتني ذلك!» وتساءل ساخرا: ترى كيف يصلح علي طه هذا الشعب الكريم؟ وكيف يحقق مثله العليا؟
ومضى الوقت واليخت يشق الأمواج وكأنه يسبح في النور السني، وانتبه محجوب مرة ثالثة على قول شاب: فما من شك أن الزوجة أجبرت الباشا زوجها على الإقامة في فندق إبقاء على سائق السيارة.
فسألت إحدى الفتيات باهتمام: وهل حقا خيرها الباشا بين بقائه هو أو السائق؟ - نعم. - وماذا كان جوابها؟ - السائق ...
ولبث يلتقط الأحاديث من هنا وهنالك، طورا في يقظة وانتباه، وطورا شاردا ذاهلا، حتى لاحت الحدائق ساهرة في ضوء القمر كأعذب الأحلام، ونهض الصحاب مهتمين، ثم دعاهم عفت بك إلى البوفيه.
42
استبقوا إلى الموائد، واتخذوا مجالسهم، وأترعت الكئوس، وملأ عفت كأس إحسان، وكانت أول مرة تشرب في جماعة، فقالت بصوت خفيض: حسبي كأس واحدة.
فقال الشاب ضاحكا: هلا تلفعت بخمار التقوى وذهبت إلى «السيدة» للوعظ والإرشاد؟!
ثم همس في أذنها: انظري إلى حكمت، إنها تشرب زجاجة كاملة دون أن يبوح لسانها بسر.
ورأت إحسان الجميع ينظرون إليها لتبدأ بافتتاح الحفل، فرفعت كأسها في شيء من الارتباك، فارتفعت الأيادي بالكئوس، وهتفوا جميعا باسم مدير المكتب، ثم أفرغوا كئوسهم حتى الثمالة. وسرعان ما مزقت السكاكين اللحوم، ثم التقطتها الشوكات وسلمتها إلى الأفواه النهمة، وتحول المقصف إلى ميدان، دارت به معركة بالغة في عنفها، بالغة في لذتها، وتعددت ضحاياها من الأطعمة والأشربة. وتنبهت إحسان إلى أن عفت بك يتعمد أن يلمسها وهو يميل نحوها ليملأ كأسها، وأن حذاءه مس حذاءها أكثر من مرة، ولكنها لم تشجعه. وأكل محجوب وشرب بنهم، لا طلبا للذة، ولكن هربا من مشاعره؛ لأنه ما انفك يفكر في البيت القائم أمام المحطة مذ رسا اليخت إلى شاطئ الحديقة، تولاه شعور بالكآبة والخوف لم يستطيع منه فكاكا. ترى ماذا يفعل والداه في هذه اللحظة؟ ألا يزال والده طريح الفراش؟ وما عسى أن تفعل أمه؟ ... هل نفدت النقود؟ ... هل باعا بعض الأثاث القديم؟ ألا يحتاجان لشيء من فتات هذه المائدة ؟ ... كيف يتخلص من شعور الضيق والكآبة؟! من له بمن يخضع شعوره لقسوة عقله الحر؟! وقد أفرط في الشراب، وثرثر بغير حساب، ولم يأل جهدا في الهرب من باطنه، والارتماء بين أيدي المحيطين به، واختلط الحديث أيما اختلاط. وسأل سائل جماعة المتزوجين: هل حقق الزواج أحلامهم؟ وتبادل الأزواج نظرات الحيرة وضجوا ضاحكين. وسأل آخر عن أمتع ما في الزواج، فقال شاب متزوج: إنه الحب. وقال آخر: إنه الخلاص من الحب! وقال ثالث: إنه تحديد النسل! وأجاب محجوب في سره: «بل هو القرن الذهبي!» وقال حسني شوكت بلا مناسبة: خسرت في الأسبوع الماضي خمسة عشر جنيها.
فقالت له خطيبته: البقية في الأسبوع القادم!
صفحه نامشخص