فأشار إلى صدره كأنه هو الذي اكتشفها وقال: حفريات الجامعة، بعد سير دقائق من الهرم الأكبر دنيا غريبة محاطة بالأسلاك الشائكة، وجميع مفتشيها من أصدقائي وزملائي، فمتى نذهب معا لمشاهدتها؟
فقالت بسرور: لا أدري، ولكنني سأذهب يوما ما ... أليس كذلك يا فاضل؟
فقال فاضل بلا وعي منه وقد أخذ يعتوره الفتور: طبعا ... طبعا ...
وشعر محجوب عبد الدائم وهو يعبر حديقة الفيلا بعد انتهاء الزيارة أنه من الممكن أن ينشأ بينه وبينهما نوع مما يسميه الناس بالصداقة، وتفكر فيما يمكن أن يفيده من هذه الصداقة إذا حدثت، أم يخرج منها كما خرج من زيارة البك صفر اليدين ...
14
ووجد نفسه في شارع الفسطاط مرة أخرى، ولفحته ريح باردة عاتية لم يدر متى هبت، تهز الأغصان فيضج الطريق بحفيفها، وتصفر بين الجدران فيصم الآذان زفيفها، فسرت إلى جسمه المتعب رعدة تمشت في مفاصله؛ فأمشير أقسى من أن يحتمله ضعيف جائع. بيد أن أفكاره شغلته عما حوله، فاقتحم طريقه نصف شاعر بقساوة الجو. ذكر فاضل، وقارن بينه وبين نفسه، هنالك الصحة والجمال والغنى، وهنا المرض والدمامة والفقر، ومع ذلك فهما قريبان! أما تحية ففتاة أرستقراطية، صورة حية للدنيا التي يطمح إليها. ترى هل يذهب بها يوما إلى الأهرام؟ إن فتاة مثلها لحقيقة بأن تكون مفتاحا سحريا يفتح الأبواب المغلقة ويصنع المعجزات. تفكر في ذلك طويلا، ولكن يا أسفا. أيجوز أن يغرق في تلك الأحلام وينسى همومه الراهنة؟ من أين له النقود ليبتاع كتاب اللاتيني؟ وكيف له بمقاومة الجوع الذي بات يهدد جسده وعقله؟! ... يا عجبا! ... هل من دليل على حقارة الإنسان أكبر من ضرورة الطعام لحياته؟! أيكون هذا الطعام الذي يقتلع من الطين ويسمد بالقاذورات زبدة الحياة وقوامها؟ وعماد التفكير؟ والمبدع الحق للمثل العليا؟ أليس هذا دليلا على أن جوهر الإنسان قذارة وحقارة؟! وحث خطاه، وكانت الرياح لا تزال تزمجر كاسرة، والسماء تتلبد بالسحاب المظلم، ومياه النيل الزمردية تصطخب وتعربد، فألقى على ما حوله نظرة غاضبة، وبصق على الأرض باحتقار كأنما يناصب الدنيا العداء! ... ألا يحسن به أن يقترض؟ ... ممن؟ ... وكيف يقضي دينه؟ لن يكون الشهر القادم بخير من سابقه، بل لعله أسوأ، فما العمل؟ لو كان يعرف فن النشل؟ ... النشل فن سحري، والنشال يملك ما في جيوب الناس جميعا، وقد عرف سادة هذا البلد مغزى هذه الحكمة، ولكن ما العمل؟ هل يعيد على حمديس بك الكرة؟ أيقابله في الوزارة ويسأله صراحة المعونة؟ واعترضت سبيل أفكاره صورة تحية؛ تحية بنبلها وأرستقراطيتها، أيرضى أن تعلم أنه بائس شحاذ! ... هذه الفتاة تحرك مشاعره، ليس مجنونا فيهذي كما هذى علي طه؛ فهي شهوة جديدة كتلك التي علقت إحسان لا أفلاطون ولا هيام. ومن عجب أنه كان عظيم الثقة بنفسه لحد غير معقول، ربما كان مبعث هذا ما طبع عليه من جسارة وجرأة، وفضلا عن ذلك كان يشارك العامة اعتقادهم في التفوق الجنسي على الأغنياء؛ فاعتقد صادقا أن تحية ليست بمنأى عن طموحه. كانت أحلامه لا توقفها السموات، وزادها الجوع جنونا؛ ذلك الجوع الذي جعل من دراسته كفاحا مريرا، ومن لياليه عذابا أليما. وكتاب اللاتيني، تبا له! كيف يحصل على النقود؟!
15
واستيقظ في صباح اليوم التالي أهدأ نفسا، فهمدت الأخيلة التي بعثتها في عقله زيارة آل حمديس؛ ولذلك أمكنه أن يثوب إلى رأي، وأن يقرر أن يقصد إلى حمديس بك في الوزارة مادا يده بالسؤال، مضحيا بصداقة تحية وفاضل، ولم ير بدا من العدول عن الذهاب إلى الكلية، وامتنع عن تناول الإفطار ليوفر ما يركب به الترام في الذهاب والإياب، ومضى إلى حال سبيله فبلغ وزارة الأشغال في تمام العاشرة، وعرف السبيل إلى سكرتير قريبه، فوجده رجلا في الأربعين، فحياه بأدب وقال له: أريد مقابلة سعادة البك. - من حضرتك؟ - قريب البك ... محجوب عبد الدائم.
فاستنظره الرجل لحظة وغاب عن عينيه، ولبث محجوب يفكر فيما عسى أن يقوله البك، ويرتب الكلام ترتيبا مؤثرا، وعاد الرجل بعد قليل وجلس إلى مكتبه وهو يقول: البك يرأس المجلس الاستشاري، فيحسن أن تعود يوما آخر.
وبغته ذاك الجواب، وكبر عليه، فشعر بضربة تهوي على أم رأسه، وقال برجاء: ولكني أريده لأمر هام جدا. - لا شك في هذا، إن شاء الله، ولكن يوما آخر. - أستطيع أن أنتظر ساعة أو ساعتين.
صفحه نامشخص