ادیپوس و تسئوس: از قهرمانان اساطیر یونانی
أوديب وثيسيوس: من أبطال الأساطير اليونانية
ژانرها
والتفكير في هذا البطل الأثيني لا يستقيم عند أندريه جيد كما أنه لا يستقيم عند سوفوكل دون التفكير في أوديب. وحسبك أن تذكر أن أمر أوديب قد انتهى في القصة الثانية من قصتي سوفوكل بالتجاء البطل الممتحن إلى أتيكا والتماسه الأمن والجوار عند الملك الأثيني؛ فقد كان الشاعر اليوناني إذن يقرن أحد البطلين إلى صاحبه.
وكذلك صنع أندريه جيد، فسترى في آخر قصة ثيسيوس حديثا بين البطلين حين التقيا يدور كله حول مصيرهما. والواقع أن هذين المصيرين يختلفان أشد الاختلاف، ولكن كلا منهما يدعو على ذلك إلى التفكير في الآخر؛ فقد أتيح الفوز للبطل الأثيني منذ نشأته الأولى، وأتيح له على نحو متصل حتى كانت حياته كلها فوزا لم يعرف فيها الشقاء إلا قليلا، على حين بدأت حياة أوديب شقية مملوءة بالمحن، ولم يكن ما أتيح له من السعادة إلا غرورا.
على أن آخرة الرجلين تختلف أشد الاختلاف: فأما أعظمهما حظا من الشقاء وهو أوديب، فقد مات راضيا عن نفسه وعن الآلهة، مطمئنا إلى هذه السكينة التي أنزلت على قلبه. وأما أعظمهما حظا من السعادة - وهو ثيسيوس - فقد أنفق آخر أيامه منفيا طريدا، نفته الثورة عن وطنه، ولم يجد عند الملك الذي استجار به مثل ما وجد عنده أوديب من الثقة والأمن، وإنما وجد عنده المكر والغدر والموت.
فلا غرابة إذن في أن يفكر أندريه جيد كما فكر سوفوكل في الرجلين معا. ولا غرابة إذن في أن نجمع ترجمة القصتين في سفر واحد، وإن لم يفعل ذلك أندريه جيد؛ لأنه قد أنفق أكثر من عشر سنين بين إنشائه لهاتين القصتين.
على أني حين تحدثت إليه في الجمع بينهما في سفر واحد رضي عن ذلك كل الرضا. وقد عرفت منه في باريس أنه أشار على مترجمه الأمريكي بأن يصنع نفس هذا الصنيع؛ لأن القصتين تصدران عن تفكير واحد وعن موقف واحد أمام مشكلات الحياة. ومع ذلك فبين القصتين اختلاف عظيم في الصورة الفنية؛ إحداهما تمثيلية كتبت للمسرح، على حين أن الثانية نوع من المذكرات يقص فيها البطل الأثيني علينا حياته التي ملأتها المغامرة في ألوان من الدعابة الحلوة أحيانا والجد المر أحيانا أخرى.
ولا يشك قارئ القصتين في أن أولاهما قد كتبت حين كان أندريه جيد قويا سعيدا موفورا مستكملا شخصيته كأحسن ما يستكمل الكاتب شخصيته. كان في الستين من عمره، أو لم يكن قد جاوز الستين إلا قليلا، كان سعيدا بين أهله وأصدقائه، راضيا عن نفسه، وراضيا حتى عن مكر الناس به وكيدهم له وانتقاض بعضهم عليه.
أما القصة الثانية فقد كتبها بعد أن جاوز السبعين، بعد أن فقد زوجه وكثيرا من أصدقائه، وبعد أن خضع لألوان من الأزمات النفسية، وبعد أن ذاق وطنه الهزيمة، وذاقها هو أشد ما يكون ذوقها مرارة، وكتبها منفيا عن وطنه لا يعرف متى يعود إليه، بل لا يعرف أيتاح له أن يعود إليه. فهو مجاهد معاند متحد للأحداث والخطوب حين يكتب قصة «أوديب»، وهو هادئ مطمئن حزين باسم مع ذلك للأحداث والخطوب ساخر منها، مؤمن بنفسه، واثق بوطنه، ذائق حلاوة الصداقة حين يكتب قصة «ثيسيوس».
ولذلك نرى أوديب يفرض نفسه على الأيام ويتحدى الآلهة ويعاند القضاء، ويخرج من المحنة ظافرا يريد أن ينسى الماضي، وألا يفكر إلا في المستقبل، ونرى ثيسيوس قانعا راضيا مطمئنا لا يفكر إلا في الماضي يستحضر منه اليسير والخطير، ويجد اللذة في استحضار ما يستحضر، يتحدث به إلينا أو إلى نفسه، مستمتعا بهذا الحديث قبل أن نستمتع به نحن. لا يفكر في المستقبل، ولا يريد أن يفكر فيه؛ فهو لا ينتظر مستقبلا؛ لأن حياته قد أشرفت على غايتها. وأنت تجد هذا الحزن المطمئن في الأسطر الأولى من القصة حين ينبئك بأنه كان يريد أن يقص حياته ليجد فيها ابنه موعظة وعبرة وتعليما. ولكن ابنه قد مات، وهو يقص حياته مع ذلك؛ لمن يقصها؟ لنفسه أولا، ولمن شاء أن يقرأها من الناس بعد ذلك.
فهو قد تقدمت به السن، وسبقه أكثر أصدقائه وأحبائه إلى الموت؛ فأصبح عشير نفسه، لا يستطيع إن أراد أن يسري عنها إلا أن يقص عليها ما كان له في صباه وشبابه وكهولته من الأحداث، وما مر به من الخطوب، وما تعرض له من المغامرات، يحيا في وقت قصير حياته الطويلة، ويجدد بالذكرى ما اختلف على نفسه من لذة وألم، ومن أمن وخوف، ومن أمل ويأس.
وهو ينتهي آخر الأمر بالموازنة بين حياته وحياة صديقه أوديب، فيرى بعد التفكير الطويل أنه كان أسعد من صديقه حياة وأحسن حظا؛ لأن أوديب قد انتهى إلى الزهد في الحياة والنفور منها والفزع إلى هذا العالم الداخلي يجد فيه الأمن والرضا، على حين لقي هو الحياة كما عرضت على الأحياء، ولعب بالأوراق التي أتاح القضاء للناس أن يلعبوا بها.
صفحه نامشخص