ادیپوس و تسئوس: از قهرمانان اساطیر یونانی
أوديب وثيسيوس: من أبطال الأساطير اليونانية
ژانرها
مقدمة
أوديب
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
ثيسيوس
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
صفحه نامشخص
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
مقدمة
أوديب
صفحه نامشخص
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
ثيسيوس
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
صفحه نامشخص
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
أوديب وثيسيوس
أوديب وثيسيوس
من أبطال الأساطير اليونانية
تأليف
صفحه نامشخص
أندريه جيد
ترجمة
طه حسين
Mon cher André Gide
particulière tendresse que vous avez pour eux.
C’est pourquoi je leur appris l’arabe, ajin qu’ils puissent aux lecteurs de l’Orient dire votre message, qui est confiance, courage, sérénité.
Ils témoigneront aussi de cette grande admiration que j’ai pour vous, et qui, depuis notre rencontre, est devenue une si précieuse amitié.
TAHA HUSSEIN
Le Caire, le 7 octobre 1946
صديقي أندريه جيد
صفحه نامشخص
سمعتك تقرأ لنا قصتي «أوديب» و«ثيسيوس»، فعرفت الحنان الخاص الذي تؤثرهما به.
ومن أجل هذا علمتهما العربية ليبلغا إلى قراء الشرق رسالتك التي هي ثقة وشجاعة واستبشار.
وسيشهدان كذلك بما أضمر من إعجاب بك قد أصبح منذ التقينا ودا كريما.
طه حسين
القاهرة، 7 أكتوبر 1946
مقدمة
1
كان لايوس
Laïus
منذ ارتقى إلى عرش ثيبا
صفحه نامشخص
Thèbes
يحيا حياة سعيدة راضية مع زوجه جوكاست
Jocaste . ولم يكن يكدر صفو هذه السعادة إلا شيء واحد وهو أن الزوجين لم يرزقا الولد؛ فخطر للملك أن يستثير أبولون
Apollon
في محنته هذه، لعله أن يجد له منها مخرجا، وأن يتم عليه نعمة الملك السعيد المجيد الذي لا يقتصر على شخص صاحب العرش، وإنما ينتقل منه إلى ذريته التي تتوارثه أجيالها إلى آخر الدهر. فلم يكن لايوس قصير الأمل ولا محدود الأمد. لم يكن يريد أن يملك ليس غير، وإنما كان يريد أن ينشئ أسرة مالكة. ولكن أبولون لم يكن سمحا ولا مواتيا؛ فأظهر للملك في شيء من الإلغاز ما خبأه له القضاء. أعلن إليه أنه إن رزق الولد فسيقتله ابنه. وقد عاد لايوس من معبد أبولون مهموما، شديد الحزن، موزع النفس بين الحرص على الحياة والرغبة في الولد الذي يرث الملك، ويخلد الذكر.
وقد شك طويلا أو قصيرا بين هاتين العاطفتين، ولكنه آثر الحياة آخر الأمر على الولد، فرضي العقم، بل رغب فيه وحرص عليه. غير أن القضاء ماض إلى غايته دائما ، فما هي إلا أن يرزق لايوس من زوجه جوكاست هذا الغلام الذي أنذره أبولون بأنه سيذيقه الموت. هنالك استأثر الحرص على الحياة بنفس الملك؛ فأزمع أن يقتل ابنه قبل أن يقتله هذا الابن، وأسلم الطفل إلى راع من رعاته، وكلفه أن يلقيه على الجبل نهبا للسباع. ولكن الراعي لم يكن قاسي القلب ولا غليظ الطبع، فلم يلق الطفل على الجبل ولم يقتله، وإنما أسلمه إلى راع آخر لملك كورنت
Corinthe
في بعض الروايات، أو علقه إلى شجرة من أشجار الجبل من رجليه اللتين شقهما، وجمع بينهما بحبل متين.
ومهما يكن من اختلاف الروايات، فإن الصبي لم يمت نهبا للسباع ولا نهبا للجوع والبرد والجراح، وإنما تلقاه راعي كورنت فعطف عليه ورفق به. وكان ملك كورنت بوليب
شقيا بعقم امرأته ميروب
صفحه نامشخص
Mérope ، فيدفع الراعي إليه هذا الصبي ويتبناه الملك وينشئه تنشئة أبناء الملوك.
وقد شب الصبي قوي الجسم والنفس جميعا، ماضي العزم، صارم الإرادة، معتدا بنفسه، جاهلا لأصله، بعيد الأمل مع هذا كله، عظيم الأطماع، ولكنه يرى من لداته وأترابه ما يريبه؛ فهم يلمحون له بأنه ليس ابن الملك، وهو يضيق بهذه الريبة، ويريد أن يعرف جلية أمره، فيذهب إلى معبد أبولون ليتبين حقيقة الأمر في وحي الإله. والقضاء صارم حازم قاس لا يعرف رفقا ولا لينا، وإذا أبولون لا ينبئ الفتى بأصله، ولا يزيل من نفسه الريبة، وإنما يضيف شكا إلى شك وخوفا إلى خوف، فينبئ الفتى بأنه سيقتل أباه، وسيتزوج من أمه، وسيقترف هاتين الخطيئتين المنكرتين.
وكان لايوس قد أراد أن يقاوم القضاء، فيخلص من هذا الصبي الذي سيذيقه الموت، فانتصر القضاء على إرادة لايوس، وعاش الصبي ونما حتى أصبح قادرا على اصطناع السلاح.
وهذا الفتى ينبئه أبولون بأنه سيقتل أباه ويقترن بأمه، فيريد أن يقاوم القضاء، وهو لا يعرف لنفسه أبا غير بوليب ملك كورنت، ولا أما غير ميروب ملكتها. فليجتنب إذن كورنت، وليأخذ طريقه إلى أي بلد آخر بعيد عن هذه المدينة؛ حتى لا يغرى بقتل أبيه أو اتخاذ أمه لنفسه زوجا. وإنه لفي بعض الطريق عند مكان شديد الضيق، وإذا عربة تعترضه وتأخذ عليه سبيله، فيكون الخصام باللسان، ثم يكون الاقتتال، وإذا الفتى يقتل صاحب العربة، وقد تفرق من كان معه من خدم وأنصار. ويمضي الفتى لوجهه راضيا عن نفسه، مطمئنا لحسن بلائه، غير مقدر أنه قد أنفذ بعض ما كتب القضاء عليه، فقتل أباه، واقترف أحد الإثمين اللذين أنذره بهما أبولون.
وهو يمضي في طريقه حتى يدنو من مدينة ثيبا، فيسمع بأن المدينة مروعة بخطر داهم ونكر مبين؛ فهذا كائن غريب قد هبط عليها من السماء أو نجم لها من الأرض، جاءها من حيث لا تعلم على كل حال، واستقر غير بعيد من المدينة على صخرة مرتفعة يرصد من يمر به من الناس، فيلقي عليهم لغزه الغريب: «ما كائن له صوت واحد، يمشي على أربع إذا أصبح، وعلى اثنتين إذا زالت الشمس، وعلى ثلاث إذا أقبل المساء؟»
وهذا الكائن الغريب الذي اتخذ جسم الأسد، ورأس المرأة، ووصل بجسمه جناحين، والذي يسميه اليونان سفنكس
Sphinx ، ويسميه المصريون القدماء بو الهول، أو أبا الهول، لا يعفي أحدا من الإجابة على هذا السؤال وحل هذا اللغز. والناس جميعا يعجزون عن الإجابة ولا يجدون حلا لهذا اللغز، وهو يعاقبهم بالموت على هذا العجز والإخفاق. وقد عظم الكرب، وعم البلاء، وامتلأت قلوب أهل المدينة خوفا ورعبا، حتى اضطر كريون
Créon
أخو الملكة جوكاست والناهض بأعباء الملك بعد قتل لايوس أن يذيع في أقطار الأرض أن من أراح المدينة من هذه المحنة فله تاجها وله الملكة زوجا.
وقد سمع الفتى بأنباء هذا الكائن الخطر، وبهذا الوعد الرائع الذي يبذل لمن ينقذ منه هذه المدينة البائسة، وهو قوي الجسم والنفس، ذكي القلب، حديد الفؤاد، بعيد الأمل، شديد الطموح؛ فيقبل على أبي الهول يجرب ذكاءه وقوته، ويغامر بحياته في سبيل المجد والملك.
صفحه نامشخص
وأبو الهول يلقي عليه السؤال؛ فيجيبه الفتى بأن الإنسان هو الذي يمشي على أربع إذا أصبح؛ لأنه يحبو في الطفولة، ويمشي على اثنتين إذا انتصف النهار؛ لأن قامته تعتدل وتستقيم إذا شب، ويمشي على ثلاث إذا أقبل المساء؛ لأنه ينحني على العصا إذا أدركته الشيخوخة. وقد أفحم أبو الهول وألقى بنفسه من أعلى الصخرة فمات؛ وظفر الفتى بعرش ثيبا، واتخذ الملكة له زوجا، واطمأن إلى أنه قد أفلت مما تنبأ له به وحي أبولون، فلم يقتل أباه، وأين هو من عابر السبيل ذاك الذي قتله؟! ولم يقترن بأمه، وأين هو من ملكة ثيبا هذه التي تزوج منها! لقد ترك أبويه في كورنت وأسس لنفسه ملكا جديدا، وقد رضي عن رعيته ورضيت عنه رعيته ورزق الولد. فله ابنان إتيوكل
Etéocle
وبولينيس
، وله ابنتان أنتيجون
Antigone
وإسمين
Ismène . وهو يرى نفسه سعيدا موفورا راضي النفس رخي البال. ولكن المدينة تمتحن ذات عام بوباء يفسد عليها أمرها كله فسادا عظيما؛ فقد هلك الزرع وجف الضرع وأسرف الموت في كل حي؛ فالطير تساقط من السماء؛ والماشية تخر إلى جنوبها، والناس يستبقون إلى القبور حتى تضيق بهم وحتى يعجز بعضهم عن دفن بعض. وقد عم البلاء وعظم الكرب واشتدت المحنة حتى بلغت أقصاها.
وأهل المدينة يستعطفون الآلهة بالضحايا والقرابين ويتوسلون إليهم بالصلاة والدعاء؛ فلا يغني عنهم هذا كله شيئا. وهم قد هرعوا إلى ملكهم يفزعون إليه ويستعينونه، فيرسل الملك إلى معبد أبولون من يؤامر الإله ويستشيره في هذا البلاء العظيم. ويعود رسول الملك إليه يحمل جواب الإله واضحا غامضا ومعمى صريحا، كما تعود أبولون أن يجيب دائما. أجاب أبولون بأن الآلهة لن يكشفوا الضر عن هذه المدينة إلا إذا ثأرت للايوس من قاتله.
ولم يكد الملك يتلقى هذا الجواب حتى أعلن في حزم وصرامة أنه باحث عن هذا القاتل ومنزل به أشد العقاب، وأنه يطلب إلى أهل المدينة أن يعاونوه على ذلك في غير تردد ولا ضعف مهما يكن هذا القاتل.
ثم هو لا يكتفي بذلك، بل يستنزل اللعنات وغضب الآلهة على هذا المجرم الذي قتل ملكا وعرض المدينة لشر عظيم. ولكن الملك لا يكاد يبحث عن هذا المجرم حتى تتبين له الحقيقة منكرة بشعة؛ فهو المجرم الذي قتل لايوس هناك في ذلك المكان الضيق، وهو الآثم الذي اتخذ أمه له زوجا وعاش معها في هذا القصر وأولدها أبناءه الأربعة.
صفحه نامشخص
ليس في ذلك شك، واسمه نفسه يدله على ذلك دلالة قاطعة، فهو أوديب
Œdipe
ذو الرجل المتورمة، ورجله متورمة حقا من أثر ذلك الثقب الذي علق به إلى الشجرة في طفولته الأولى على الجبل. يعرف ذلك من الراعي الذي كلف قتله، ويعرف ذلك من الراعي الذي أنقذه من الموت وأسلمه إلى ملك كورنت. هنالك يتبين أوديب وتتبين جوكاست أن لا مرد لما كتب القضاء؛ فلم يغن عن لايوس تخلصه من الصبي؛ فقد عاش الصبي حتى قتله، ولم يغن عن جوكاست تخلصها من الصبي؛ فقد عاش الصبي حتى اقترن بها. ولم يغن عن أوديب فراره من قصر كورنت وتجنبه ملكها وملكتها هربا من الإثم، فلم يكن من هذين الزوجين في شيء. وإنما هو ابن لايوس وقد قتل لايوس، وابن جوكاست وقد تزوج من جوكاست.
والمهم أنه قد عرف القاتل الذي يجب أن يثأر منه لتخلص المدينة من هذا البلاء؛ فيجب أن يثأر من نفسه إذن، فإن لم يفعل فستثأر منه المدينة التي لم تكن ترى فيه ملكا فحسب، وإنما كانت ترى فيه شيئا يشبه الإله.
فأما جوكاست فلم تكد تظهر على الحقيقة البشعة حتى خنقت نفسها. وأما أوديب ففقأ عينيه بيديه حتى لا يرى الضوء.
وتختلف الروايات بعد ذلك أو قل تختلف الروايات قبل ذلك، ويزيد في اختلافها فن شعراء الممثلين الذين اتخذوا هذه القصة موضوعا للتمثيل؛ فقوم يرون أن جوكاست لم تقتل نفسها، وإنما عاشت حتى رأت اختلاف ابنيها على العرش وتساقيهما الموت، ولم تقتل نفسها إلا بعد أن رأتهما صريعين، وقوم يرون أن أوديب قد نفى نفسه من الأرض بعد أن فقأ عينيه وهام غريبا تقوده ابنته أنتيجون حتى انتهى آخر الأمر إلى ضاحية من ضواحي أثينا فمات فيها.
وآخرون يرون أنه لم ينف نفسه، وإنما نفاه ابناه بعد أن وليا الملك، وآخرون يرون أن ابنيه قد أمسكاه في القصر ولم ينفياه، وإنما نفاه كريون بعد أن مات ابناه، فلجأ إلى الضاحية الأثينية ومات فيها.
هذه هي القصة التي روتها الأساطير اليونانية منذ أبعد العصور؛ فقد تحدثت بها الأودسة
L’Odyssée
في نشيدها الحادي عشر، كما تحدثت بها أقاصيص ثيبا نفسها بعد ذلك.
صفحه نامشخص
2
والشعراء الممثلون من اليونان يعتمدون في تمثيلهم بحكم الفن نفسه وبحكم الدين أيضا على الأساطير؛ فالأبطال القدماء هم موضوع المأساة اليونانية التي تصور حياتهم، أو تصور ما تمتاز به حياتهم من المحن والخطوب. وتصوير هذه المحن التي ألمت بالأبطال وعرضها على النظارة في ملاعب التمثيل شيء كان الأثينيون يرونه فنا ويرونه دينا، فيه الجمال الأدبي الذي يعظ النفس، ويذكي القلب، ويثير العاطفة، وينمي الفضيلة، ويرفع الإنسان عن صغائر الحياة إلى جلائل الأمور، وفيه تقديس الآلهة، وتمجيد الأبطال، والإشادة بالقديم وما فيه من مآثر كتب لها الخلود.
وقد كان اليونان قبل أن ينشأ فن التمثيل، وقبل أن ينشأ فن الغناء نفسه، يتقربون إلى آلهتهم بإنشاد الشعر القصصي والاستماع له. ثم نشأ الغناء فتقربوا به إلى الآلهة، يتغنون حياة الأبطال وحياة الآلهة وما عرض لهم فيها من خير وشر؛ ثم نشأ فن التمثيل فتقربوا به إلى الآلهة كما كانوا يتقربون بالقصص والغناء. ومن أجل هذا كله تغيرت صور الفن الشعري عند اليونان ولم يتغير موضوعه؛ فالأبطال والآلهة هم موضوع القصص في الإلياذة والأودسة، وهم الموضوع الأساسي لغناء المغنين، وهم الموضوع الأساسي لتمثيل الممثلين أيضا.
ومع ذلك فتغير الصورة له خطره العظيم وإن بقي الموضوع ثابتا مستقرا؛ ذلك أن الصورة لم تتغير إلا لأن النفس اليونانية قد تغيرت بحكم ما أحاط بالشعب اليوناني من الظروف. فقد كان القصص اليوناني صورة لحياة الجماعة لا يكاد يظهر فيها من الأفراد إلا شخصية الآلهة والأبطال، بل لا تظهر فيها شخصية الشاعر نفسه.
فلما ارتقت الحضارة وذكت القلوب وقويت شخصية الفرد، تغيرت صورة الشعر، فظهر شخص الشاعر أولا، وأصبح الشعر لا يضاف إلى شاعر مجهول يسمى هوميروس مهما يكن موضوعه، وإنما يضاف إلى شعراء معروفين يراهم الناس ويتحدثون إليهم ويتحدثون عنهم، وأصبح الشعر لا يصور الآلهة والأبطال الممتازين وحدهم، وإنما يصور شخصية الشاعر نفسه، ويصور معها شخصية كثير من الأفراد وما يجدون من لذة وألم، ومن حب وبغض، ومن عاطفة وشعور بوجه عام. ثم أصبح الشعر لا ينشد إنشادا يسيرا تسنده بين حين وحين نغمات ساذجة توقع على أداة ساذجة من أدوات الموسيقى، وإنما ينشد إنشادا معقدا يتشكل فيه الصوت بالأشكال المختلفة التي يقتضيها الغناء، وتسنده وتريح منه أحيانا أدوات موسيقية كثيرة مختلفة، ويسنده الرقص أيضا بحيث يوشك أن يشبه الأوبرا في عصرنا الحديث، لولا أنه كان يخلو من حركة التمثيل.
ثم تتقدم الحضارة، ويرقى العقل، وتقوى الشخصية، وتظفر الشعوب في المدن بحقوقها السياسية، فتتغير صورة الشعر؛ وإذا الحوادث التي كانت تقص في الشعر القصصي، وتغنى في الشعر الغنائي، قد أصبحت تعرض على النظارة في ملعب التمثيل يجريها الشاعر على أيدي أشخاص يمثلون الأبطال والآلهة أنفسهم. وهذا التمثيل نفسه لا يخلو من الغناء والرقص توقعهما الجوقة، وقد يشارك فيهما كليهما أو أحدهما الممثلون. وقد أصبح جمهور النظارة ذا شأن خطير؛ فهو يشارك في حفلات التمثيل لا بشهود التمثيل فحسب، ولكن كذلك بالقضاء بين المستبقين من الشعراء الممثلين. وقد كان الشعراء يشاركون بأنفسهم في التمثيل أول الأمر، ثم نشأت طائفة الممثلين المحترفين، وجعل الشعراء يكتفون بإنشاء الشعر وإرشاد الممثلين وأعضاء الجوقة.
كذلك كانت الحال في القرن الخامس قبل المسيح حين عرض الشعراء الثلاثة الممتازون: إيسكولوس
Eschyle
وسوفوكل
Sophocle
صفحه نامشخص
وأوريبيد
Euripide
لحياة الأبطال والآلهة؛ فعرضوها في الملاعب على النظارة من الأثينيين.
وكان من نتيجة هذا كله أن هؤلاء الشعراء وغيرهم من الشعراء الممثلين كانوا يرون من الطبيعي والمألوف أن يعرضوا للموضوعات التي سبقهم إليها القصاص والمغنون، فينشئوا فيها قصصهم التمثيلي، بل كان من الطبيعي والمألوف أن يعرض المتأخر منهم لما عرض له المتقدم، لا يجدون في ذلك حرجا، بل يجدون فيه سبيلا إلى الإجادة والإتقان.
فقصة أوديب مثلا قد عرض لها إيسكولوس، ثم عرض لها بعده سوفوكل، ثم عرض لها بعدهما أوريبيد، ثم عرض لها شعراء آخرون من اليونان؛ لم يجد أحد في ذلك حرجا.
وهذه السنة التي سنها اليونان قد انتقلت منهم إلى غيرهم من الأمم؛ فالرومان في العصر القديم حين حاولوا التمثيل اتخذوا أكثر الموضوعات لقصصهم من التمثيل اليوناني نفسه؛ فقصة أوديب مثلا عرض لها منهم غير شاعر، وامتازت قصة سينيك
Sénèque
من هذه القصص التي وضعها الشعراء اللاتينيون. وجرى الأمر على ذلك بعد النهضة الأوروبية في العصر الحديث، فاستعار شعراء التمثيل من الإنجليز والألمان والإيطاليين والفرنسيين خاصة موضوعات شعرهم التمثيلي من تمثيل اليونان والرومان.
وقد وضع الشاعر الإنجليزي دريدن
Dryden
صفحه نامشخص
في القرن السابع عشر قصة أوديب، كما وضع الشاعر الإيطالي ألفييري
Alfieri
في القرن الثامن عشر قصة أوديب أيضا. أما الفرنسيون فقد فتن شعراؤهم وكتابهم بقصة أوديب منذ أواخر القرن السادس عشر إلى الآن. ولست أحصي شعراءهم الذين عرضوا لهذه القصة، وإنما أذكر أن كورني
Corneille
قد وضع قصة تمثيلية لأوديب فتن بها معاصروه، وأن فولتير
Voltaire
قد وضع في أول القرن الثامن عشر قصة لأوديب كثر حولها الحديث والنقد، وأن شاعرين فرنسيين هما دي سيس
Ducis
وشينيه
M. J. Chénier
صفحه نامشخص
1
وضعا قصتين لأوديب في آخر القرن الثامن عشر وأول القرن التاسع عشر.
أما في هذا القرن العشرين؛ فقد عني بأوديب الكاتب الفرنسي العظيم أندريه جيد
André Gide
في القصة التي نترجمها في هذا السفر، كما عني به الكاتب الشاعر المعروف جان كوكتو
Jean Cocteau
في قصته المشهورة «أداة الجحيم».
فأنت ترى أن السنة اليونانية التي أتاحت للشعراء ألا ينفروا مما سبقوا إليه قد أصبحت سنة أدبية إنسانية شائعة على اختلاف العصور. وأنت ترى كذلك أن قصة أوديب وحدها قد شغلت شعراء كثيرين في الأمم المختلفة على اختلاف العصور، وما زالت تشغل الشعراء والكتاب إلى الآن. وأكبر الظن أنها ستشغلهم دائما.
3
ولا أكاد أذكر من القصص اليوناني القديم الذي شغل به المحدثون شيئا تجاوز القرن السابع عشر والثامن عشر إلا قصة «أفجيني في توريس»
صفحه نامشخص
Iphigénie en Tauride
التي عني بها جوت، وقصصا قليلة أخرى طفت في القرن العشرين، أعظمها خطرا قصة «أوديب» هذه وقصة «إلكتر»
Electre
و«أمفتريون»
Amphytrion ، وقد جددهما جان جيرودو
Jean Giraudoux ، وقصة أنتيجون، وقد جددها جان كوكتو بين الحربين، ثم جددها جان أنوي
Jean Anouilh
في هذه الأعوام الأخيرة. وهناك قصص تمثيلية معاصرة جددت أو حاولت أن تجدد بعض القصص التمثيلي اليوناني القديم، ولكنها لم تبلغ الملعب أو لم تظفر فيه بفوز باهر ونجح عظيم.
ولعل المحدثين المعاصرين يؤثرون أن يشهدوا القصص اليوناني يعرض عليهم كما تركه أصحابه مع قليل أو كثير من التغيير، إلا أن يوجد الكاتب الممتاز الذي يستطيع أن يدل بالقصة اليونانية على أكثر مما وصل إليه الشاعر اليوناني القديم، أو أن يعرضها في شكل أشد ملاءمة لروح العصر الحديث.
وهذا هو الذي فعله جيرودو حين اتخذ إلكتر رمزا لا للانتقام وحده كما فعل القدماء، بل للعدل أيضا؛ للعدل الذي يجب أن تبلغه الإنسانية، وأن تضحي فيه بكل شيء مهما تكن التضحية قاسية، ومهما تكن الضحية غالية، والذي لا يحفل بانثلال العروش، وانهيار النظم، وإزهاق النفوس، وسفك الدماء، وصب الدمار على المدن، بل يرى في ذلك كله إيذانا بطلوع فجر جديد.
صفحه نامشخص
وكما فعل جان بول سارتر
Jean-Paul Sartre
في قصة «الذباب» حين أراد أن يجدد مأساة إلكتر فجعل أخاها هو البطل، ولم يكتف بفكرة الانتقام من الأم التي خانت زوجها وقتلته، ولا بفكرة العدل التي قصد إليها ووقف عندها جيرودو، ولكنه عني بالحرية الإنسانية التي وقفت أورست موقف الثائر على ذوس
Zeus
المعارض له، والتي تقف الإنسان الحديث موقف الثائر على كل شيء، المزدري لكل شيء إلا حريته التي تجعله إنسانا يوجد ليعمل ما يشاء أن يعمل، وليقول ما يشاء أن يقول، غير حافل إلا بنفسه، ولا واقف إلا عند نفسه.
إلى شيء من هذا التجديد الأساسي الخطير قصد أندريه جيد حين وضع قصته التمثيلية «أوديب» مجددا هذه القصة كما تركها سوفوكل، غير واقف عند ما انتهى إليه سوفوكل، ولا حافل بما بلغه كورني أو فولتير أو غيرهما من الشعراء والكتاب المحدثين.
وقد يحسن أن نتبين قبل كل شيء إلام أراد سوفوكل حين وضع قصته هذه التي صور فيها مأساة أوديب. وقد أضاعت الأيام ما ترك إيسكولوس وأوريبيد وغيرهما من الشعراء القدماء حول هذا الموضوع، بحيث أصبحت قصة سوفوكل هي النموذج القديم الوحيد الذي ألهم المحدثين من الأوروبيين.
وواضح أن سوفوكل إنما قصد في هذه القصة كما قصد في أكثر قصصه الأخرى إلى ما يصور لنا صرامة القضاء من جهة، وحرية الإنسان من جهة أخرى، وإلى أن يلائم بين هذين الضدين المختصمين على نحو ما. فالقضاء صارم قاس بالقياس إلى أوديب وإلى أبويه في هذه القصة، وهو صارم قاس بالقياس إلى أبنائه في قصة أخرى هي قصة أنتيجون.
القضاء صارم قاس؛ لأنه قد كتب في غير حكمة بينة للإنسان على لايوس أن يموت مقتولا بيد ابنه، وكتب على جوكاست أن تقتل نفسها بعد أن تتورط في إثمها ذاك البشع الشنيع، وكتب على أوديب أن يكون قاتلا لأبيه متزوجا لأمه، مسببا لموتها فاقئا عينيه بيده.
ومن البين أن أحدا من هؤلاء الأبطال لم يكن حاضرا حين كتب القضاء ما كتب، ولم يقترف قبل وجوده إثما يغري به القضاء، ويسلط عليه قسوة الأقدار. فهناك إذن علة خفية لا يدركها الإنسان، تدفع القضاء إلى أن يدبر أمر الناس والآلهة كما يشاء.
صفحه نامشخص
ومن يدري! لعل هذه العلة الخفية لا وجود لها، ولعل القضاء يمضي كما يريد لا يخضع لقانون، ولكنه على كل حال صارم قاس بالقياس إلى الآلهة والناس جميعا. غير أن الإنسان ليس خاضعا خضوعا كاملا شاملا مستسلما لهذا القضاء، وإنما هو مستمتع بشيء من الحرية قد يكون قليلا، وقد يكون ضئيل الأثر، وقد لا يكون له أثر ما، ولكنه موجود على كل حال. وآية ذلك أولا أن الإنسان يريد أن يعرف ما أضمر له القضاء، يعمل في ذلك عقله، ويستنبئ عن ذلك وحي الآلهة؛ فهو إذن لا يخضع لأحكام القضاء غير عالم بها، أو غير مفترض لوجودها كما يخضع لها الحيوان، وكما تخضع لها الكائنات الأخرى التي تأتلف منها الطبيعة. وليس قليلا أن يتلقى الإنسان ما كتب له من خير وما قضي عليه من شر وهو عالم به وعالم بالمصدر الذي يسوقه إليه أو يسلطه عليه.
وهناك آية ثانية على حرية الإنسان أمام القضاء؛ فهو لا يطمئن إلى العلم بما كتبت الأقدار عليه، وإنما يحاول أن يخلص مما قضي عليه من الشر. وليس المهم أن ينجح أو يخفق في هذه المحاولة، وإنما المهم أن يحاول. فلايوس وجوكاست يعلمان أن ابنهما سيقتل أباه ويتزوج أمه، فيحاولان التخلص من هذا الشر بقتل الصبي قبل أن ينمو ويقترف هذه الآثام، ولا عليهما بعد ذلك أن يفلت الصبي مما دبرا له من الموت.
وأوديب يعلم بما دبر القضاء له؛ فيفر من قصر الملك في كورنت محاولا أن يتجنب الإثم، ولا عليه بعد ذلك أن يقتل لايوس، فلو قد عرف أنه أبوه لما قتله، ولا عليه أن يتزوج جوكاست، فلو قد عرف أنها أمه لما اقترن بها.
وهناك آية أخرى على حرية الإنسان أمام القضاء، وهي أعظم من هاتين الآيتين خطرا، وهي التي يصورها لنا سوفوكل في قصة «أوديب ملكا»، ولكنه يصورها تصويرا أعظم روعة وأكثر جلاء في قصته الأخرى «أوديب في كولونا»، وهي أن الإنسان حين يعجز عن رد القضاء لا يرى نفسه منهزما، ولا يرى نفسه مسئولا عما تورط فيه من الإثم؛ فهو يؤمن بأن التبعة يجب أن تكون نتيجة للحرية، وأن يكون حظ الإنسان من هذه التبعة ملائما لحظه من الحرية، فأوديب تدفعه الغريزة الإنسانية الأولى كما تدفعه التقاليد الموروثة إلى أن يعاقب نفسه حين يستكشف الإثم المروع الذي تورط فيه. ولكنه بعد شيء من التفكير يستطيع أن يثبت للقضاء، وأن يقف من الآلهة موقف المدافع عن نفسه المحتج لها؛ لأنه لم يرد قتل أبيه، ولم يقتله وهو يعلم أنه أبوه، ولم يرد الزواج من أمه، ولم يتزوج منها وهو يعلم أنها أمه.
فإن كان في هذا كله إثم فليس هو المسئول عن هذا الإثم، وإنما يسأل عنه القضاء الذي دبره، والآلهة الذين ضللوا أوديب حتى تورط فيه على كثرة ما حاول تجنبه والتخلص منه. هو إذن بريء أمام نفسه، ولا عليه أن يراه الناس بريئا أو أن يتهموه ويحكموا عليه.
على أن أوديب لا يكتفي بذلك، وإنما يريد أن يقنع القضاء والآلهة أنفسهم ببراءته، وهو يبلغ من ذلك ما يريد؛ فقد رضي الآلهة عنه آخر الأمر فآووه إلى هذه الضاحية من ضواحي أثينا، وألقوا عليه السكينة، وأشاعوا في نفسه الطمأنينة والأمن، وجعلوا جثته مصدر بركة للبلد الذي تدفن فيه، وهم قد عاقبوا مدينة ثيبا فأثاروا فيها الفتنة بين الأخوين الملكين، وحرموها هذه البركة المتصلة بشخص أوديب حين قضوا أن يموت غريبا، وأن يدفن في بلد غريب.
وإذن فقد انتهت حرية الإنسان إلى شيء من الفوز، لم تستطع أن تجنب صاحبها المحنة، ولا أن تنقذه من الشر في هذه الحياة، ولكنها قد صفت نفسه، وطهرت قلبه، واستخلصته من الآثام كما يستخلص المعدن النقي مما يحيط به من الخبث. فليست هذه المحنة إذن إلا تجربة لحرية الإنسان، ووسيلة إلى تصفية نفسه، وتنقية جوهره إن استطاع أن يثبت للآلام وينفذ من الخطوب.
إلى هذا كله أراد سوفوكل حين كتب قصتيه اللتين صور في إحداهما محنة أوديب ملكا، وفي أخراهما نجاة أوديب منفيا بائسا طريدا. ويجب أن نعترف بأن الذين أرادوا أن يقلدوا سوفوكل لم يبلغوا مما أرادوا شيئا ذا خطر، لا أستثني منهم إلا المعاصرين من الكتاب الفرنسيين.
فالكاتب الشاعر الفيلسوف سينيك لم يضف إلى ما ابتكر سوفوكل شيئا، ولعله أضاع منه أشياء. وإذا كان لقصته شيء من جمال فأكبر الظن أنه إنما يأتيها من روعة الفصاحة اللاتينية، ومن بعض الخواطر الفلسفية العابرة.
أما كورني فقد كان مفتونا بقصته، ويظهر أن معاصريه منحوا قصته هذه غير قليل من الرضا والإعجاب. ولكن كورني فيما أعتقد قد أفسد قصة أوديب إفسادا عظيما؛ رأى أن يلائم بين القصة وبين ذوق البيئة التي كان يكتب لها، وقد لاحظ أن تلك البيئة لم تكن تتصور قصة تمثيلية تخلو من الحب ، ومن الحب الذي يكون له في المأساة نفسها أثر خطير. وليس في قصة سوفوكل حب أو شيء يشبه الحب، فاضطر كورني إلى أن يحدث حبا ذا خطر، واضطر من أجل ذلك إلى أن ينشئ للايوس بنتا تكبر أوديب سنا، وأن ينشئ بين هذه الفتاة وبين ثيسيوس
صفحه نامشخص
Thésée - ملك أثينا - حبا، وأن ينشئ بين هذه الفتاة وبين أوديب خصومة حول هذا الحب من جهة وحول العرش من جهة أخرى.
فلم تكن الفتاة تعرف أن أوديب أخوها، وهي من أجل ذلك كانت تراه غاصبا لعرش أبيها، ولم يكن أوديب يعرف أن الفتاة أخته؛ فكان يؤثر أن يزوج ملك أثينا من إحدى ابنتيه. وكانت جوكاست حائرة بين بناتها الثلاث وبين زوجها.
والغريب أن كل هذه الخصومات حول الحب والغيرة كانت تشغل الملك والملكة والحاشية والقصر كله في نفس الوقت الذي كان الوباء يعصف فيه بالمدينة عصفا شديدا، ولا نشغل بالقصة نفسها إلا حين توشك الفصول أن تنتهي؛ هنالك تثار العقدة، ويعلم الملك ومن حوله أن الآلهة غضاب، وأن هناك مجرما يجب أن ينزل به العقاب، ثم يستبين للملك أنه هو المجرم؛ فلا يفقد صوابه ولا يأخذه الهول، وإنما يتحدث إلى أخته في حبها لملك أثينا، وفي زواجها من هذا الملك، ثم يعصف الندم بنفسه آخر الأمر حين تموت جوكاست فيفقأ عينيه.
وقد لاحظ كورني كذلك أن البيئة التي كان يكتب لها كانت من الترف ورقة الشعور بحيث كان يسوءها أن يظهر أمامها أوديب دامي الوجه بعد أن فقأ عينيه، فلم يظهر الملك أمام النظارة، وإنما قص آخرته وآخرة الملكة عليهم في شعر قد يكون جميلا رائعا، ولكنه لا يغني عن الصورة الماثلة أمام النظارة شيئا.
وقصة كورني بعد ذلك لا تضيف فكرة جديدة إلى القصة اليونانية. ولست أدري أمن الحق أن تسمى أوديب، أم من الحق أن تسمى درسيه
Dircée ، وهو اسم الفتاة التي اخترعها كورني، والتي تدور عليها القصة وعلى حبها أكثر مما تدور على أوديب وعلى محنته.
وقد نقد فولتير قصة سوفوكل نقدا مفصلا مسرف التفصيل، قاسه بمقياس العصر الذي كان يعيش فيه؛ فأظهر القصة اليوناينة منحلة متهالكة لا قوام لها من منطق ولا من دقة، ولا تكاد تظفر بحظ من إتقان. ثم عطف على قصة كورني، فلم يعفها من النقد اللاذع الشديد. ثم أذاع قصته هو؛ فإذا هي شر من قصة كورني، لم تضف إلى القصة اليونانية جديدا، ولم تظفر من الجمال اللفظي بما ظفرت به قصة كورني العظيم.
ويكفي أن نلاحظ أن فولتير قد وقع في نفس التخليط الذي وقع فيه كورني؛ أراد أن ينشئ حبا في هذه المأساة؛ لأن البيئة الفرنسية التي كان الأدباء يكتبون لها كانت تريد الحب في التمثيل.
أراد أن ينشئ حبا إذن، فلم يجعل للايوس بنتا كما فعل كورني، ولكنه استكشف لجوكاست عاشقا قديما هو فيلوكتيت
، وقد عاد فيلوكتيت إلى ثيبا ليعيش قريبا من عشيقته، ولكنه يعلم أن زوجها قد قتل، فيستأنف حبه القديم ثورة جامحة، إلى آخر هذا العبث الذي لا يزن شيئا بالقياس إلى جد الشاعر اليوناني العظيم.
صفحه نامشخص
على أن من الحق أن نعتذر عن فولتير؛ فقد كان في التاسعة عشرة من عمره حين أنشأ هذه القصة. والشيء المحقق أن الشاعرين الفرنسيين قد عنيا بالبيئة أكثر مما عنيا بالموضوع؛ فأرضيا قوما كانوا يحبون أن يلهوا، ويكرهون أن يشقوا على أنفسهم بالتأمل والتفكير فضلا عن أن يشقوا على أنفسهم بالنظر إلى المناظر التي تؤذي شعور الغانيات المترفات.
ولأدع ما حاول الشعراء والكتاب بعد فولتير من تجديد قصة أوديب؛ لأصل إلى هذه المحاولة الأخيرة التي أقدم عليها أندريه جيد وجان كوكتو بين الحربين.
وهما قد أقدما على هذه المحاولة في وقت واحد، لم يسبق أحدهما صاحبه، ولم يعلم أحدهما بمحاولة صاحبه إلا بعد أن أظهر كل منهما قصته.
والفرق عظيم جدا بين القصتين؛ فأما جان كوكتو فيسرف في التجديد والابتكار إسرافا شديدا لا يدعوه إليه تعمق الفكرة التي تدور القصة حولها، وهي فكرة الصراع بين سلطان القضاء وحرية الإنسان، وإنما يدعوه إليه الفن نفسه، الفن الخالص الذي يروع النظارة ويبهرهم ويحرص على أن يسحر أعينهم وآذانهم وعقولهم أكثر مما يحرص على أن يدعوهم إلى التأمل والتعمق والتفكير.
فجان كوكتو ليس متهالكا على الجد ولا ممعنا فيه، ولعله يبغض التقيد بأصول الفن المقررة، فأحرى أن يبغض التقيد بقصة الشاعر اليوناني القديم، وهو من أجل ذلك يبتكر بطلا جديدا هو أوديب، ويحيطه بظروف توشك ألا تستبقي من اليونانية إلا الأسماء دون الحقائق، وهو يعقد قصته تعقيدا ويخالف فيها بين المناظر والفصول، لا يتقيد بوحدة في الزمان، ولا في المكان، ولا في الحركة، وإنما يكتفي بوحدة الموضوع.
فقصته تبدأ منذ قتل لايوس، وتنتهي بعد أن يفقأ أوديب عينيه؛ وإذن فهي تستغرق نحو عشرين سنة. تبدأ القصة حين تعرف المدينة مصرع الملك من جهة، وحين يمتحنها أبو الهول بلغزه من جهة أخرى. ونحن نرى في الفصل الأول ظل الملك القتيل يظهر لبعض الجند، يريد أن يرى الملكة والكاهن ليحذرهما من خطر عظيم. ونحن نرى الملكة والكاهن يصعدان إلى حيث كان يظهر ظل الملك القتيل؛ فنرى ملكة شابة حلوة الدعابة خفيفة الروح، خائفة من ظل زوجها، خائفة من الأحداث التي يمكن أن تلم بها، محبة مع هذا كله للحياة ولذاتها، لا تكره أن تداعب الكاهن الذي يداعبها أيضا، ولا تكره أن تلاعب الجندي الشاب الذي رأى ظل الملك القتيل، وتظهر ميلا شديدا إليه.
ونحن نرى في فصل آخر ما يكون من الصراع بين أوديب الفتى المغامر وبين أبي الهول، ثم ما يكون من انتصار الفتى. ونحن نرى في فصل ثالث زفاف جوكاست إلى الملك الشاب ونشهد أول الشر؛ فالكاهن محنق على أوديب مشفق منه، وليس كريون أقل منه حنقا ولا إشفاقا.
ثم نرى نحن آخر الأمر ظهور الحقيقة ومصرع جوكاست، ونرى أوديب وقد فقأ عينيه، ونفى نفسه من الأرض، وهم أن يخرج من القصر تقوده ابنته أنتيجون، وإذا ظل أمه وزوجه جوكاست يظهر، فيراه أوديب الضرير ولا يراه المبصرون من حوله، ويتحدث فيسمعه أوديب ولا يسمعه الآخرون من حوله، وإذا جوكاست تنبئ ابنها بأن الموت قد طهرها من الزوجية الآثمة، ولم يبق لها إلا الأمومة البرة، وهي قد أقبلت لتقود ابنها إلى منفاه وتعينه على احتمال الغربة.
فالقصة كما ترى رائعة بما فيها من اختلاف المناظر وبراعة الاختراع وحسن التحدث إلى الحس والشعور. ويظهر أن هذا كله يرضي الجمهور الضخم من النظارة الباريسيين. فأما التحدث إلى العقل، وأما مواجهة المشكلات العليا، وأما الصراع بين الدين والحرية؛ فأشياء لم يكن يحفل بها جان كوكتو، ولم يكد يحفل بغيرها أندريه جيد؛ فأندريه جيد متتبع لسوفوكل في مجرى قصته، لا يخرج عن الخطة التي رسمها الشاعر القديم منذ خمسة وعشرين قرنا. ولكن أوديب الذي ينشئه أندريه جيد رجل قد تم نضجه الفلسفي بأرقى معاني هذه الكلمة في القرن العشرين؛ يظهر في أول القصة مستجمعا شخصيته كلها، مستكملا قوته كلها، متحديا للناس متحديا للآلهة، لا يؤمن إلا بنفسه، يعلن إلى النظارة أنه رجل سعيد، قد عمر أربعين سنة وملك عشرين عاما، واكتسب سعادته اكتسابا لم يرثها عن أحد؛ ويوشك هذا الاعتداد بالنفس أن يدفعه إلى الغرور، وهو من أجل ذلك يخادع نفسه ويزعم لها غير مخلص أن الآلهة قد أعانوه، لا يريد بهذا الخداع إلا أن يتجنب الغرور الذي كثيرا ما ورط الناس في الشقاء.
فالفكرة الأساسية في قصة أندريه جيد هي اعتداد الإنسان بنفسه، وثقته بحريته، واعتماده على قدرته التي تمكنه من اقتحام المصاعب وتذليل العقاب. وهذا الاعتداد بالنفس يسوء الناس جميعا؛ فالجوقة التي تمثل الشعب ضيقة بهذا الغرور مشفقة منه على مصير المدينة، ويدفعها إلى الإشفاق والخوف هذا الوباء الذي يصب على المدينة بلاء عظيما.
صفحه نامشخص
وقد أخذ الشعب الذي كان مفتونا بالملك يتطير به ويهم في أن يكيد له بعض الكيد ليصرف إليه وحده غضب الآلهة من دون المدينة. والكاهن ساخط على الملك؛ لأنه لا يخلص دينه للإله، بل لا يؤمن بالإله. وأبناء أوديب قد اختلفت أهواؤهم: فأما الشابان فقد تأثرا بأبيهما، فهما لا يؤمنان بشيء، ولا يرجوان لشيء وقارا، ولا يكرهان أن يصبوا إلى أختيهما، وأن يتحدثا إليهما كما يتحدثان فيما بينهما بهذه الصبوة الآثمة.
أما أنتيجون وجوكاست فمتأثرتان بالكاهن إلى أبعد حد، حتى إن الفتاة لتوشك أن تهب نفسها للإله. وأما كريون فناعم بالحياة في هذا القصر لا يحب أحدا ولا يكره أحدا، وإنما يحب نفسه، ويحب الحياة، ويستمتع بما يتاح له من لذاتها، ويحافظ على التقاليد ما وسعته المحافظة.
وعقدة القصة كلها هي الاختلاف بين أوديب الذي يعتد بنفسه حتى يبلغ الغرور وحتى يجحد الآلهة، والكاهن الذي يريد أن يبسط سلطان الدين، وأن يسيطر من طريق هذا السلطان على كل شيء، وعلى كل إنسان، وعلى نفس الملك خاصة. وليس الوباء الذي ألم بالمدينة، وليس البحث عن مصدر هذا الوباء، وليست استشارة الآلهة لتعرف هذا المصدر، وليس استكشاف المجرم الذي قتل أباه وتزوج أمه؛ ليس هذا كله إلا مظاهر لهذا الصراع بين حرية الإنسان واعتداده بنفسه حتى يبلغ الغرور، وبين سلطان الإله وتفوقه على غرور الإنسان.
فإذا تبينت الحقيقة وعرف أوديب أن سعادته لم تكن إلا غرورا، وأن انتصاره على أبي الهول لم يكن إلا سرابا، وأن ملكه الذي أسسه ونعم به لم يكن إلا امتحانا؛ إذا عرف أوديب هذا كله، ورأى امرأته وأمه قد قتلت نفسها، ورأى نفسه قد فقأ عينيه بيديه، ظن الكاهن تيرسياس
Tirésias
أن الإله قد انتصر على غرور الإنسان، وأن أوديب قد ثاب إلى رشده، وأذعن لسلطان الدين.
ولكن أوديب لم يخرج عن كبريائه، ولم يستسلم للمحنة، ولم يعترف بالهزيمة، وإنما ثبت للخطب، بل هو لم يفقأ عينيه إلا تحديا لنفسه وللناس وللألم، ومحاولة لبناء مجد جديد من طراز آخر معنوي غير هذا المجد الزائل الذي كسبه حين قهر أبا الهول وأسس الملك.
وهو حين ينفي نفسه من الأرض لا يفارق المدينة منهزما ولا مخذولا، وإنما يفارقها يائسا. لم يقهر اليأس نفسه وإنما رفعها فوق الناس وفوق أعراض الحياة، وهو ينصرف ساخرا من الشعب الذي أحبه، ثم كرهه، ثم أخذ يتملقه حين عرف أن بركة الآلهة متصلة بشخصه، وينصرف ساخرا من كريون المحافظ الذي يرى الملك كل شيء، وينصرف ساخرا من ابنيه اللذين لا يفكران في الحياة إلا على أنها وسيلة إلى المتاع، وينصرف ساخرا من الكاهن الذي يعظه ويريد أن يحمله على الندم؛ فهو لا يرى أنه قد فعل شيئا يمكن أن يندم عليه.
هذه هي القصة التي وضعها أندريه جيد، وهي كما ترى قريبة جدا من القصة اليونانية في موضوعها وفي غايتها، بعيدة جدا من القصة في صورتها من ناحية، وإن احتفظت بالجوقة، وفي إتقانها للتفكير، وتجنبها للتكلف الشعري الغنائي الذي قد يروق ويعجب، ولكنه لا يغني عن التفكير العقلي شيئا.
ولست أدري أمخطئ أنا أم مصيب، ولكني أعتقد أن هاتين القصتين: قصة سوفوكل وقصة أندريه جيد هما وحدهما اللتان تشهدان بأن محنة أوديب خليقة حقا بأن تكون موضوعا للتفكير الذي يغذو العقل، والفن الذي يغذو القلب، وبأن تكون من أجل ذلك صالحة لتفكير الفلاسفة وابتكار الأدباء على مر العصور واختلاف الأجيال.
صفحه نامشخص