نور و پروانه
النور والفراشة: رؤية جوته للإسلام وللأدبين العربي والفارسي مع النص الكامل للديوان الشرقي
ژانرها
ويمكن أن نقدم مثلا آخر على هذا الاستلهام الأصيل لشعراء الفرس. فقد قرأ جوته في الجزء الثاني من كتاب المستشرق فون دييز «تذكارات آسيوية» هذه القصيدة للشاعر التركي نشاني:
15
عندما كنت مبتدئا في فن الحب قرأت بعناية عدة فصول، من كتاب مملوء بمتون الأحزان وفقرات الهجران، وقد أوجز فصول الوفاق، وأسهب في شرح هموم الفراق، آه يا نظامي! في النهاية هداك إلى الدرب الصحيح معلم الحب، والأسئلة التي لا حل لها لن يجيب عنها إلا حبيب القلب.
ولو قرأت قصيدة «كتاب مطالعة» - وهي من كتاب المغني - للاحظت القرب الشديد بينهما، ولما غاب عنك أيضا أن الأخيرة شيء جديد مختلف الروح والإيقاع (ولو شاء حظك أن تقرأهما في لغتهما الأصلية لكانت الملاحظة أدق، لكن لا حيلة لي أو لك في هذا!) ولسنا نقلل من تأثير النماذج العديدة التي اهتدى بها الشاعر، وإنما نقصد أنها نبهت مادة الإحساس التي كانت راقدة في وجدانه دون أن تعثر على الشكل الملائم، وكأنما أزاحت السدود فتدفق التيار وشق مجراه. وقد كانت اليد المباركة التي أزاحتها هي يد حافظ، فاندفع توءم روحه الغربي في طريقه دون حاجة إلى تقليد. •••
نشأ الديوان الشرقي أيام الكفاح في سبيل التحرر من قبضة نابليون وطغيانه. وكان جوته يعلم أن عددا كبيرا من قرائه سيكون من الشباب الذين تطوعوا تحت لواء «فون لتسوف» وفي صفوف «فرسان فيمار» لمطاردة جيوش نابليون الغازية (وقد انهزم أمام الجيوش الأوروبية المتحالفة في يونيو من 1815م في واترلو) وعندما كان الشاعر يجمع مادة تعليقاته وبحوثه عن الديوان - وكان ذلك سنة 1817م - كان هؤلاء الشبان يتظاهرون ويتصايحون حول قلعة فارتبورج المشهورة ويهتفون بسقوط الملوك والأمراء والنبلاء، هل يمكن في هذا الجو العاصف أن يحدثهم عن الساسانيين والخلفاء والبرامكة؟ وكيف يستقبلون كلامه عن استبداد الحكام والسلاطين في الشرق ونفاق المداحين من شعراء البلاط؟ وهل يتورع أحد عندئذ عن اتهامه بالبعد عن الشعب والتعالي عليه كما حدث له بالفعل قبل ذلك وبعده؟
إن هذا كله لم يمنعه من أن يفرد فقرة من «تعليقاته» عن استبداد الحكام في الشرق وعن شعر المديح الذي يلازمه ولا ينفصل عنه. وهو في هذه الفقرة يعرض الاتهام لكي يرد عليه بعد ذلك بدفاع مستفيض. فالحاكم الشرقي مدع مغرور، يضع نفسه على رأس الأدعياء. الجميع خاضعون له، وهو السيد الذي لا يقبل من أحد أمرا، بل إن إرادته لتخلق بقية العالم، بحيث يسعه أن يشبه نفسه بالشمس أو الكون كله، والغريب أنه يختار شريكا في الحكم يشد أزره ويدعم عرشه، وليس هذا الشريك إلا شاعره الذي يرفع شعره فوق جميع الفانين، وإذا اجتمع في البلاط عدد آخر من أصحاب المواهب الشعرية عين عليهم «أمير الشعراء» وقربه إليه. وقد يشتد الغرور بهذا الأمير الشاعر فيظن نفسه قرين الحاكم والسلطان، وربما أطبق عليه جنون الغضب أو اليأس والمرارة إذا خاب أمله وطموحه وأخفق رجاؤه في الحكام (كالفردوسي والمتنبي!) هذا الادعاء والتسلط يهبط به من أعلى درجات العرش حتى يبلغ الدرويش المسكين القابع في زاوية شارع حقير (وهي نفس ملاحظة الكواكبي في طبائع الاستبداد؛ إذ يجرف الطغيان كل شيء من المستبد الأعلى حتى الشرطي في الطريق!) ولعل هذا هو الذي جعل جوته يفضل لنفسه (في تقديمه لكتاب زليخا) أن يكون درويشا قانعا مكتفيا بنفسه؛ لأن الشحاذ الحقيقي ملك حر، ولأنه لا يملك شيء ومع ذلك يمكنه بالفكر والخيال أن يوزع الممالك والكنوز ويسخر ممن كان يملكها حقا ثم ضيعها! ولهذا نراه يتطوع بتقمص شخصية الدرويش الفقير في هذا الكتاب لكي يظهر في كبريائه أمام الحبيبة التي تبادله حبا بحب. ولا بد أن شاعرنا كتب هذه الفقرة عن الاستبداد الشرقي العريق وفي ضميره ذكرى رعب الإغريق من جيوش الفرس الجرارة التي كانت تدمر مدنهم ومعابدهم بلا رحمة، وسخريتهم من طغيان حكامهم الذين يضعون أنفسهم في مكان الآلهة، وعبودية محكوميهم الذين يسجدون لهم وينافقونهم نفاق الكلاب. ولهذا كان الإغريقي يعتز بحريته في وجه كل غريب غير إغريقي - أو بربري كما كانوا يسمونه! - مهما يكن شأنه (وقصة الحكماء اليونان السبعة وعلى رأسهم المشرع صولون مع كرويزوس ملك الليديين أشهر من أن تروى - فقد أبى صولون حتى أن يصفه بأنه سعيد على الرغم من كنوزه التي جعلته أغنى أغنياء زمانه؛ إذ كيف يمكن لغير الحر أن يكون سعيدا؟) ولعله أيضا كان يفكر فيما كتبه معاصره هيجل عن جدل السيد العبد في ظاهريات الروح أو في محاضراته عن فلسفة التاريخ.
مهما يكن من شيء فإنه لا يلبث أن يرد على الاتهام بدفاع متسامح بليغ. وهو يقدم هذا الدفاع على لسان «رجلين متزنين»، أحدهما عالم إنجليزي والآخر ناقد ألماني. ولم يتوصل الباحثون إلى اليوم إلى معرفة شخصيتهما. ولعل الأرجح أن يكونا قناعين وضعهما الشاعر نفسه للدفاع عن نفسه وعن علاقته الحميمة بأمير فيمار كما يدل على ذلك أسلوبه وتفكيره. إنه يبتعد على كل حال عن التعميم الظالم ويحاول أن يلتمس العذر لبعض شعراء المديح الذين اضطرتهم الضرورات التاريخية والحياتية إلى الخضوع لمشيئة السلطان، واستطاعوا في الوقت نفسه أن يعبروا تعبيرا حرا عن مواهبهم، لم يكن جميع هؤلاء الشعراء منافقين، ولم يمدحوا المستبدين دائما عن خوف من جبروتهم أو عن جهل بقيمة الحرية، وإنما صدروا في ذلك عن تقدير لبعض هؤلاء الحكام الذين اعترفوا بالكرامة الإنسانية وتحمسوا للفن الذي سيخلد ذكرهم. ويقلب جوته الطرف في أشكال الحكم عبر التاريخ فيجد أن الحرية والعبودية تتمثل فيها جميعا في تعارض يشبه تعارض القطبين المتضادين. فإن كانت السلطة في يد شخص واحد، كان الجمهور ميالا للخضوع، وإن كانت في يد الجمهور، كان ذلك في غير صالح الفرد. ويسري هذا على كل المستويات حتى يتصادف أن يتم التوازن في مكان ما، وإن يكن ذلك لأمد قصير. ثم يورد أمثلة من حياة الطغاة ليثبت أن الطبيعة الإنسانية لا تقهر أبدا، وأنها على الدوام تواجه الاضطهاد وتصمد للضغط والإرهاب. فالإسكندر الأكبر أعمته نشوة الانتصار فتصور نفسه إلها وفرض على من حوله أن يعاملوه معاملة المعبود. وعندما يحتدم النقاش ذات يوم بينه وبين كليتوس صديق طفولته وأخيه في الرضاع، يندفع في غضبه كالمجنون فينزع حربة من على الجدار ويغرزها في صدره. وعندما يكتشف أنه لن يجد بعد ذلك من يقول له «لا» يهيم وحيدا باكيا في الصحراء كوحش يائس جريح، والسفاح الطاغية الأكبر تيمورلنك، ذو العين الواحدة والقدم العرجاء، ينظر إلى وجهه في المرآة ويكتشف قبحه الفظيع فيجهش بالبكاء! ويقدم المرآة لأنيسه وجليسه «جحا» فيشاركه البكاء. ولكن السفاح يكف بعد لحظات عن بكائه وجحا لا ينقطع عن النشيج والبكاء. وسأله السفاح لماذا يبكي والمرآة لم تره وجها قبيحا كوجهه، فيقول الساخر الأبدي: يا سيدي أنت رأيت وجهك مرة واحدة فبكيت، فكيف نحن المقضي علينا أن نرى وجهك كل صباح ومساء؟ ويرتفع صوت السفاح بالضحك دون أن يخطر بباله أن الدعابة من أقوى أسلحة التحدي والمقاومة.
16
هكذا تتمكن روح التحرر والعناد والثقة بالنفس والكبرياء عند الأفراد من إحداث التوازن مع السلطان المطلق للسيد الأوحد.
فهم عبيده، ولكنهم غير خاضعين له. كذلك كان شعراء المديح عند الفرس والعرب خاضعين للسلطة العليا التي تتدفق منها كل إساءة أو إحسان. ومع ذلك كانت لبعضهم على الأقل طبائع معتدلة، ثابتة، متماسكة، واستطاعوا أن يعيشوا ويعملوا في صدق معها، ويستخدموا مواهبهم في التعبير عنها بحرية، بقدر ما تسمح بذلك ضرورات البيئة والتاريخ وأكل العيش. (3) جاء الديوان في أوانه
صفحه نامشخص