إهداء
مقدمة الطبعة الثانية
نحن والأدب العالمي
جوته والأدب العربي
جوته
كتاب المغني
كتاب حافظ
كتاب العشق
كتاب التفكير
كتاب الضيق
كتاب الحكم
كتاب تيمور
كتاب زليخا
كتاب الساقي
كتاب الأمثال
كتاب البارسي أو المجوسي
كتاب الفردوس
قصائد نشرت بعد وفاة جوته وضمت للديوان
شروح وهوامش
كتاب المغني
كتاب حافظ
كتاب العشق
كتاب التفكير
كتاب الضيق
كتاب الحكم
كتاب تيمور
كتاب زليخا
كتاب الساقي
كتاب الأمثال
كتاب البارسي أو المجوسي
كتاب الفردوس
قصائد نشرت بعد وفاة جوته وضمت للديوان
أهم المصادر
إهداء
مقدمة الطبعة الثانية
نحن والأدب العالمي
جوته والأدب العربي
جوته
كتاب المغني
كتاب حافظ
كتاب العشق
كتاب التفكير
كتاب الضيق
كتاب الحكم
كتاب تيمور
كتاب زليخا
كتاب الساقي
كتاب الأمثال
كتاب البارسي أو المجوسي
كتاب الفردوس
قصائد نشرت بعد وفاة جوته وضمت للديوان
شروح وهوامش
كتاب المغني
كتاب حافظ
كتاب العشق
كتاب التفكير
كتاب الضيق
كتاب الحكم
كتاب تيمور
كتاب زليخا
كتاب الساقي
كتاب الأمثال
كتاب البارسي أو المجوسي
كتاب الفردوس
قصائد نشرت بعد وفاة جوته وضمت للديوان
أهم المصادر
النور والفراشة
النور والفراشة
رؤية جوته للإسلام وللأدبين العربي والفارسي مع النص الكامل للديوان الشرقي
دراسة وترجمة
عبد الغفار مكاوي
إهداء
إلى أستاذي الدكتور فريتس شتيبات، «معهد الدراسات الإسلامية، جامعة برلين الحرة»،
أحببت بلادي وأحببتني،
علمتني ووقفت دائما بجانبي،
هل تقبل زهرة حب ووفاء من غرس يديك؟
مقدمة الطبعة الثانية
تمهيد
يكاد هذا الكتاب الذي تجده بين يديك أن يكون شبيها بقطرة الماء الصغيرة التي يروي لنا شاعر الديوان الشرقي قصتها في إحدى قصائده (وهي القصيدة الأولى من كتاب الأمثال). فقد حكمت الأقدار وظروف الطقس الجوي وتقلباته بأن تنفصل هذه القطرة عن أمها السحابة، وأن تسقط وهي ترتعش من الخوف وسط الأنواء الثائرة، فتعصف بها أمواج البحر الهادرة. وصمدت القطرة الصغيرة في هذا الصراع غير المتكافئ، ولم تتخل عن إيمانها وثقتها بنفسها، وحرستها عين القدرة وباركتها، فكافأها الله على شجاعتها وتواضعها ووهبها القوة والبقاء، وكان أن ضمتها محارة ساكنة إلى حضنها في هدوء. وأوت القطرة الصابرة إلى مسكنها الجديد وأخذت تنمو فيه على مر السنين حتى تحولت إلى لؤلؤة تنعم بالتكريم والخلود، وتسطع - في تاج أحد الملوك - بنظرة ساحرة سنية البهاء.
ولست أقصد من قصة قطرة الماء التي أصبحت لؤلؤة طيبة سوى أن أقول إن هذا الكتاب قد تقلبت به الظروف والتحولات حتى وصل إلى حالته الراهنة، ولا أضمن بطبيعة الحال أن يحظى بأي نوع من التقدير، دع عنك التكريم والخلود اللذين كانا من حظ القطرة الصامدة.
ولا يخالجني الظن ولا الطموح ولا حتى الأمل بأن يسطع بأي ضوء، ناهيك أن يكون نورا بهي السناء، لذا يكفيني ويرضيني أن يتلقاه القراء بنفس الحب الذي كتبته به، وأن يعفوا عن جوانب القصور أو التقصير التي يمكن أن يجدوها فيه ولا يسلم منها أي جهد بشري. ولهذا أستأذنكم في عرض قصته والتحولات التي مر بها عرضا مختصرا.
ظهر هذا الكتاب في طبعته الأولى في شكل كتيب رقيق أنيق، وذلك بفضل دار المعارف التي تكرمت بإصداره في سلسلة اقرأ (عدد فبراير سنة 1979م)، وبفضل الغلاف الجميل الذي رسمه الفنان الكبير جودة خليفة بريشته المبدعة التي صورت وجه «جوته» الرزين الحكيم وهو يتطلع إلى الأفق بنظرته العميقة النافذة، وتشع منه نفس الطمأنينة والثقة والحب الذي كتب به أعماله الباقية، واحتضن به العالم والإنسان والآداب العالمية في وحدة واحدة. وما زلت أذكر كيف كانت الأيام والليالي التي قضيتها في تأليفه من أمتع الأوقات التي عشتها في حياتي، بحيث تبدو لي اليوم أشبه بلحظة طويلة ممتدة أحب أن أسميها باللحظة الخالدة أو لحظة الأبدية، وهي تلك التي يشعر فيها الإنسان بأنه وجد نفسه وارتفع فوقها في نفس الوقت إلى نوع من الحضور النادر الذي يكاد أن يكون نعمة إلهية أو قطعة من الجنة السماوية التي يتاح لنا في حياتنا الأرضية الشقية أن نعيش فيها لحظات خاطفة تعدل العمر كله.
كنت قد اكتفيت في ذلك الكتيب بتعريف القارئ «بالديوان الشرقي-الغربي» تعريفا قصيرا يجذبه إليه ويعينه على تذوق بعض قصائده التي فاجأت صاحبه وانهمرت عليه انهمار المطر المبارك في فترة عصيبة ومتأخرة من حياته، فترة تلبدت فيها سماء بلاده بدخان حروب التحرير من قبضة نابليون وجيوشه، وعصفت بقلبه الكهل تجربة حب رائع وفاجع لشاعرة رقيقة وفاتنة من عمر ابنه الوحيد، وهي «مريانة فون فيلمر» التي أطلق عليها في الديوان اسم زليخا، وقدمت للكتيب بفصل قصير عن استلهام التراث العالمي كما فعل جوته عندما استلهم بعض الأصول العربية والفارسية والتركية في عدد كبير من قصائد ديوانه، وبلغ بي الوهم أو بلغت بي النية الطيبة في ذلك الحين أن تصورت هذا الاستلهام في صورة المنقذ أو طوق النجاة للإبداع العربي الراكد المياه، وعلى الرغم من تأكيدي المستمر بأن روافد الاستلهام عديدة ومتنوعة، وأن الأمر فيه يرجع في البداية والنهاية لتقدير المبدع وذوقه واختياره وموهبته، فيبدو لي اليوم أنني كنت أحاول أن أشجع نفسي على العودة للكتابة القصصية والمسرحية التي كانت أوراق شجرتها قد بدأت تجف وتتساقط ورقة بعد ورقة في هجير حالة الحصار التي كانت تطوقني - وأظن أنها تطوق بأشكال مختلفة كل من يحاول في بلادنا العربية أن يعكف على التفكير الحر والبحث والكتابة الحقيقية - بمتاعب التعليم الجامعي المتخلف، وألوان الإحباط العام والخاص، وضجيج السوق الثقافية الكاسدة بالأصوات المرتفعة من حناجر السماسرة والحواة والثوريين المزيفين، كما يبدو لي أن الموضوع كله لا يخلو من السذاجة إذا قيس بما يقال ويكتب ويترجم في هذه الأيام عن نظريات «التلقي» التي أصبحت فرعا هاما من فروع النقد الأدبي الحديث.
وانتقلت بعد ذلك إلى فصلين قصيرين عن جوته والعالم العربي وجوته والإسلام، اقتصرت فيهما على عرض الحقائق والمعلومات الضرورية دون الدخول في تفصيلات تحتاج لبحوث مستقلة. وكنت قد رجعت في ذلك الحين إلى كتيبين جميلين أصدرتهما الباحثة الكبيرة «كاترينا مومزن» عن «جوته والمعلقات» و«جوته والإسلام»، وذلك قبل أن تصدر كتابها الضخم «جوته والعالم العربي» الذي ضمت فيه هذين الكتيبين وأضافت إليهما بحوثا أخرى وتفصيلات دقيقة تتبعت فيها تطور علاقة جوته بالإسلام وبالأدب العربي تتبعا مرهقا كما سنرى بعد قليل، وكان آخر فصول الكتيب المذكور فصل أطول قليلا عن قصة الديوان الشرقي وارتباطه بتجارب حياة جوته وحبه في المرحلة الخصبة النادرة التي استرد فيها ربيع شبابه البيولوجي والإبداعي، بعد أن كاد يخنق أنفاسه خريف اليأس والملل والضيق من صغار الخصوم، والخوف من الشيخوخة الزاحفة. ثم ألحقت بالفصول الأربعة مختارات من قصائد الديوان التي هزتني في ذلك الحين وجعلتني أصوغ عددا منها في أشكال إيقاعية منظومة مع توخي الحذر من التصرف في معانيها وصورها الأصلية إلا في أضيق الحدود.
هكذا نمت القطرة الصغيرة المتواضعة في محارتها الساكنة حتى خرجت للنور على هيئة «الخرزة» الصغيرة التي حكيت لك عن قصتها ومحتوياتها. ولكن القطرة لم تقتنع منذ ذلك الحين بذلك المصير المتواضع، وظل الشوق يشتعل في قلبها بأن تصبح لؤلؤة ناصعة أو على الأقل خرزة كبيرة يمكن أن تنظر للناس «نظرة ساحرة بهية السناء». ولبثت قصائد الديوان تعمل عملها في عالمي الباطن وتلح علي أن أظهرها إلى النور في ثوب عربي ملائم وخال من البقع والخروق التي أساءت إليه.
وتفسير ذلك معناه السير على طريق شائك يحفه الحرج والخجل من كل ناحية. ولكنني سأحاول أن أخطو عليه الخطوات الضرورية التي تحتمها الأمانة ويفرضها حب الحقيقة وعدم السكوت عن الحق.
وقد علمنا أرسطو أن نحب الحقيقة أكثر من حبنا لأفلاطون وأصحاب الأكاديمية، كما علمتنا الروح الإسلامية أن نعرف الرجال بالحق ولا نعرف الحق بالرجال. ولا بد إذن من وقفة عاجلة أقدم فيها باقات التقدير الواجب - مع كل الحب والعرفان - لأستاذ جليل ورائد عملاق، لولاه ما عرف جيلي شيئا يذكر عن جوته أو غيره من المفكرين والفلاسفة والشعراء الذين يصعب حصر أسمائهم، مع بعض الأشواك القليلة التي تلازم قول الحق وإبداء الرأي النقدي حتى ولو صدر عن تلميذ متواضع يعلم تمام العلم مدى ما يدين به لأستاذه، كما يشعر أيضا بأن ذلك لن يغضبه، بل ربما أسعده؛ لأن من تمام أستاذية المعلم أن يكون تلاميذه خطوة بعده ، وحتى إذا لم يستطيعوا ذلك فلا أقل من أن لا يكونوا نسخة منه؛ وبيان ذلك كله أنني قمت أثناء العمل في ذلك الكتيب بمراجعة الترجمة العربية للديوان الشرقي التي أصدرها الأستاذ الكبير عن دار النهضة العربية في عام 1967م. وقد أذهلني الجهد الجبار الذي بذله أستاذي «عبد الرحمن بدوي» في هذا العمل - شأنه شأن سائر أعماله التي أربى عددها على المائتين - كما أعجبت أشد الإعجاب بالشروح الدقيقة المستفيضة التي ألحقها بكل قصيدة من قصائد الديوان التي زادت بدورها على الثلاثمائة، ولكنني ذهلت أيضا وصدمت لكثرة الأخطاء الجسيمة والمعاظلات الشنيعة في الترجمات الشعرية لبعض القصائد، كما أحسست بأن معظمها يلفه ضباب الغموض ويعكر صفوه سحاب التعقيد غير الضروري، على الرغم من سهولة الأصل وبساطته إلا في حالات استثنائية نادرة. دع عنك عذوبة النص الأصلي وحلاوة إيقاعه وأنغام قوافيه التي يقف أمامها بطبيعة الحال أي مترجم في أية لغة موقف العاجز القليل الحيلة. وربما زاد من دهشتي وحزني أن شاعر الديوان نفسه قد جعل السهولة والبساطة والإفهام هي القاعدة التي سار عليها في كل إنتاجه، ولا يقلل من ذلك ولا ينفيه أن يتلبس شعره شيء من الغموض الشفاف أو «السر المكشوف» على حد تعبيره، وأن نشعر بذلك في الديوان نفسه وإن اقتصر الأمر على قصائد معدودة بحكم ارتفاعها إلى آفاق صوفية ودينية وكونية شاملة (كما سنلمس ذلك في قصائد مثل «حنين مبارك» و«لقاء من جديد» و«أعلى والأعلى» التي أرجو أن تقربك إليها الشروح المفصلة في هذا الكتاب).
مهما يكن الأمر، فقد صممت القطرة الصغيرة المتواضعة - حتى بعد صدور الطبعة الأولى لهذا الكتاب قبل ما يقرب من العشرين عاما - على الرجوع إلى محارتها الساكنة، لعلها أن تنمو وتكتمل في شكل جديد، ولا أقول في صورة لؤلؤة ناصعة البريق؛ لأن مرجع الحكم في ذلك إلى القراء والنقاد. وشجعني على هذا القرار - برغم حالة الحصار التي استمر اختناقي فيها كما أشرت من قبل حتى بلغ حد الغدر والتطاول والإهانة من بعض الزملاء والأبناء - سامحهم الله - أقول شجعني عليه أن بعض الأصدقاء باركوه واستحثوني عليه، ويطيب لي أن أذكر منهم صفوة أصدقاء العمر مثل الشاعر الكبير «عبد العزيز المقالح» الذي كان أول من بشرني بصدوره وإعلان فرحته به أثناء وجودي بصنعاء وعملي بجامعتها، والشاعر الكبير المرحوم «صلاح عبد الصبور»، والكاتب القصصي والمسرحي والإذاعي «عبد الرحمن فهمي». ولكن القطرة بقيت حبيسة محارتها القلقة المضطربة مع غيرها من القطرات المحرومة من نور الشمس، إلى أن اتخذت قراري الخطر بالتفرغ الكامل للقراءة والكتابة فيما بقي من العمر، واستطعت أن أنتزع نفسي من عالم المنغصات والتفاهات اليومية لأجذبها إلى عالم هذا الديوان وأعكف على ترجمته وشرحه خلال العام الأخير، أي بعد أن جاوزت الخامسة والستين، وأصبحت - مع الفارق الشاسع بطبيعة الحال - في نفس السن التي عكف فيها صاحب الديوان على تجربته الفريدة.
ومن أهم العوامل التي دفعتني للإقبال على هذا العمل أن سلسلة «عالم المعرفة» المرموقة عهدت إلي قبل حوالي ثلاثة أعوام بالقيام بمراجعة ترجمة كتاب «جوته والعالم العربي» للسيدة «كاترينا مومزن»، وهي الترجمة التي قام بها الزميل الدكتور «عدنان عباس علي» المقيم بمدينة فرانكفورت. وقد أتاحت لي المراجعة الدقيقة للكتاب والتعليق عليه أن أعايش قصائد الديوان الشرقي مرة أخرى، وأجدد في نفسي العزم على إخراج القطرة من محارتها مهما كان الأمر، ومع أن الكتاب الأخير يحتوي (كما قلت) على تفصيلات بلغت الغاية من الدقة والاستقصاء، فقد أبقيت على فصول الطبعة الأولى كما هي عليه، باستثناء بعض التصويبات والإضافات الطفيفة التي لم تغير منها تغييرا يذكر. ومن شاء أن يستزيد من الموضوعات التي عالجتها في فصول الطبعة السابقة - مثل علاقة جوته بالأدب العربي وبالإسلام وبالظروف التي نشأت في ظلها بعض قصائد الديوان - فليرجع مشكورا إلى هذا الكتاب (الذي ظهر في شهر رمضان سنة 1415ه/فبراير سنة 1995م، في العدد 194 من السلسلة المذكورة).
بقي أن أقول إنني اعتمدت في ترجمة النص الأصلي للديوان وفي الشروح المستفيضة التي ألحقتها به اعتمادا أساسيا على طبعة هامبورج المشهورة لأعمال جوته، المجلد الثاني بإشراف الأستاذ «إريش ترونس»،
1
مع الاستعانة بطبعتي أرنست بويتلر (بريمن، 1956م، العدد 125 من سلسلة ديتريش)،
2
وهانز فايتس (مجموعة كتب الجيب لدار النشر إنزل، طبعة 1988م، مع ثلاث مقالات قيمة ملحقة بها للشاعر النمسوي «هوجو فون هوفمنستال»، والشاعرين الألمانيين «أوسكار لوركه» و«كارل كرولوف»).
3
ثم رأيت أخيرا أن أضيف عددا من الفصول أو الفقرات القصيرة التي تناول بعض الموضوعات والأسماء التي لم يتح لي أن أوفيها حقها لا في فصول الطبعة الأولى ولا في الشروح الملحقة بالديوان، مثل «ابن عربشاه» مؤرخ العصر المملوكي، و«مجنون بني عامر» (قيس بن ذريح)، و«المتنبي» و«أبي إسماعيل الطغرائي»، وقد تناولتهم السيدة «مومزن» في فصل مستقل من كتابها السابق لم يتيسر ضمه إلى الترجمة التي صدرت كما سبق القول في سلسلة عالم المعرفة، ولذلك أوجه بالشكر والتقدير والعرفان للأخ الدكتور «عدنان» الذي تفضل بإهدائي نسخة مخطوطة من ترجمته لهذا الفصل الذي لم يبلغ إلى علمي أن ظروف النشر المستعصية في بلادنا العربية قد سمحت بظهوره حتى الآن، كما أضفت في النهاية ثلاث فقرات حاولت فيها أن ألقي شيئا من الضوء على عالم الديوان، وعلى «الشعار» الشعري الذي استهل به جوته ديوانه كله وشرحته السيدة «مومزن» شرحا مدهشا في أحد فصول كتابها عن جوته وألف ليلة وليلة، وأخيرا بعض الأضواء على الطريقة التي اتبعتها في ترجمة قصائد الديوان، لا سيما تلك القصائد التي فرضت علي أن أنظمها شعرا أو على الأقل أن أضعها في قالب إيقاعي حر دون الخروج عن الأصل أو التصرف فيه إلا في أضيق الحدود.
وأخيرا فهذه هي القطرة الصابرة بين يديك، والأمر متروك لك في الحكم عليها، وسواء رأيت مثلي أنها خرزة متواضعة الحال أو شاء كرم نفسك أن تعتبرها لؤلؤة متواضعة البريق أيضا، فإنني أتمنى أن تحبها كما أحببتها، وأن تصادق هذا الكتاب كما صادقته سنوات طويلة وتعايشه وتعيش معه. والحمد لله أولا وأخيرا، فمنه وحده ألتمس العفو عن التقصير، وإليه وحده ألجأ، وإليه المصير. (1) بعض الأدباء والشعراء العرب والإسلاميين في الديوان
عرضنا في الفصل الثاني من هذا الكتاب مدى تأثر جوته بالشعر الجاهلي وشعراء المعلقات بوجه خاص، ومن أهمهم «زهير بن أبي سلمى»، الذي استوحاه الشاعر الألماني بعض حكمه التي توصف بالحكم الأليفة أو المدجنة. كما وقفنا أيضا - في الفصل الخاص بجوته والإسلام - على مدى إعجاب الشاعر بالروح الإسلامية واستلهامه للعديد من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي انعكست على بعض قصائد الديوان «وجوه» الإسلامي بوجه عام، وقد ذكر الشاعر أسماء عدد من الشعراء العرب والمسلمين بشكل عابر في عدد من كتب الديوان، وتكرر بعض هذه الأسماء أكثر من مرة (مثل اسم مجنون بني عامر، واسم كثير عزة في سياق حديثه عن العشق والعشاق).
وعلينا الآن أن نقف وقفة أطول عند أصحاب هذه الأسماء، والمصادر التي تعرف منها الشاعر إليهم، ومدى علمه بهم، وانعكاس ذلك كله على القصائد التي ذكر فيها أسماءهم، أو على ملاحظاته وتعليقاته الملحقة بالديوان التي تطرقت للكلام عن نفر منهم. (1-1) ونبدأ بأبي العباس أحمد بن عربشاه (1389-1450م)
المؤرخ الذي عاش في العصر المملوكي، ووضع كتابه المعروف الذي استهزأ فيه بتيمورلنك استهزاء مرا وهو «عجائب المقدور في نوائب تيمور». وقد وقع جوته على فقرة مسجوعة من هذا الكتاب في ترجمة لاتينية قام بها مترجم المعلقات المشهور «وليم جونز» في كتابه «أشعار آسيوية» (1774م)، فألهمت شاعرنا قصيدته القصصية أو قصته الشعرية المطولة التي تشغل الحيز الأكبر من كتاب تيمور، وهي قصيدة «الشتاء وتيمور» التي لا تخلو من مسحة درامية؛ إذ يقوم فيها الشتاء بزجر «تيمور» على وحشيته وقسوته دون أن ينبس الطاغية المغولي بحرف واحد.
ونحن نعلم من مذكرات جوته اليومية أنه نظم هذه القصيدة في مدينة «يينا» في اليوم الحادي عشر من شهر ديسمبر سنة 1814م، كما أن ملاحظاته التالية التي دونها عن «ابن عربشاه» لا تزال موجودة بخط يده إلى الآن (توفي عام 1450م، ابن عربشاه، عربي، قصة تيمورلنك في جزأين، الأول يتناول قصة تيمورلنك، والثاني قصة ابن أخيه خليل سلطان، عجائب المقدور في أخبار تيمور، الأفعال الإلهية العجيبة في قصة أعمال تيمور ).
التزم جوته بالنص اللاتيني، واستقى منه البداية الملحمية والنهاية الدرامية لقصيدته المذكورة بصورة مباشرة. ولعل هذا النص أن يكون قد أثر أيضا بصورة غير مباشرة على مرونة الإيقاع وسيولته، والبعد عن المجاز والرموز، وطول النفس والجيشان الانفعالي «للخطاب». وإليك النص العربي الأصلي الذي رجع إليه الشاعر في ترجمته اللاتينية، وذلك لإمكان المقارنة بينه وبين القصيدة التي يمكنك الاطلاع عليها في كتاب تيمور، وهو الكتاب السابع في ترتيب كتب الديوان:
فجال بينهم الشتاء بجفاف عواصفه، وبث فيهم حواصب قواصفه، وأقام عليهم نايحات صراصره، وحاكم فيهم زعازع صنابره، وحل بناديه وطفق يناديه مهلا يا مشئوم، رويدا أيها الظلام الغشوم، فإلى متى تحرق القلب بنارك، وتلهب الأكباد بأوامك وأوارك، فإن كنت أحد نفسي جهنم فإني أنا ثاني النفسين، ونحن شبحان اقترنا في استيصال البلاد والعباد، فانحبس بقران النحسين، وإن كنت بردت النفوس وبردت الأنفاس فنفحات زمهريري منك أبرد، أو كان في جرايدك من جرد المسلمين بالعذاب فأصماهم وأصمهم ففي أيامي، بعون الله، ما هو أصم وأجرد، فوالله لا حابيتك، فخذ ما أتيتك، والله لا يحميك يا شيخ من برد المنون لواعج جمر محمرة ولا واهج لهيب في كانون.
والنظرة الخاطفة إلى هذا النص تبين للقارئ منذ سطوره الأولى مدى تأثر جوته به إلى حد الترجمة عنه. صحيح أن قول ابن عربشاه «وحل بناديه وطفق يناديه ...» قد حولته فطرة جوته القصصية والمسرحية إلى حوار ينذر فيه الشتاء المخاطب الذي لا تخرج من فمه كلمة واحدة، وهو تيمور الذي يبدو أنه تجمد من برده ومن زجره وتوعده، ولكن حتى هذا الحوار نفسه كامن على سبيل القوة أو الإمكان - إذا جاز هنا أن نستخدم لغة أرسطو! - في نص ابن عربشاه، ولم يكن على شاعر الديوان الشرقي إلى أن يحققه بالفعل ويبرزه إلى العلن، ولا بد أن التناظر العجيب بين «تيمور» و«نابليون» قد خطر على ذهن القارئ بعد قراءته لنص ابن عربشاه ولقصيدة جوته. فقد قضى الشتاء على تيمور أثناء إعداده لحملته على الصين، وجمد جيوش نابليون على أبواب موسكو. ولا بد أيضا أن تكون هزيمة نابليون قد هزت وجدان جوته وجعلته يفكر في المصير الفاجع الذي آل إليه طغيان البطل العبقري الذي طالما أعجب به. وأخيرا فلا بد أن نسأل أنفسنا لماذا لم يكتب هذه القصيدة إلا في وقت متأخر، أي في شهر ديسمبر سنة 1814م؟ لقد شهدت أوروبا كلها على هزيمة نابليون، وعرف جوته بغير شك أن المتجمد العظيم من البرد قد مرت عربته في خفية عن الأعين بمدينة «فيمار» بعد فشل حملته الروسية، كما عرف بالرسالة التي بعث بها أميره كارل أوجست إلى صديقتهما المشتركة الدوقة أدونيل (التي كانت وصيفة إمبراطورة النمسا ماريا لودفيكا التي عبدها في صمت!) وقال فيها: «لقد مر من هنا بعربة الخزي والعار ذلك المتجمد من البرد والذي لا أريد ذكر اسمه ها هنا.» ثم إنه قد قرأ تلك الدعوة التي وجهتها الصحيفة الأدبية العامة التي كانت تصدر في مدينة «يينا» إلى القراء والأدباء في شهر مارس عام 1814م، وأهابت بهم أن يأخذوا من الحدث الكبير مادة ملحمة تعبر عن المشاعر القومية الألمانية، وأن يلاحظوا أن الإرادة الإلهية قد مهدت في روسيا لهذه الملحمة. والجواب عن السؤال السابق هو أن جوته لم يكن على استعداد لتلبية هذه الدعوة «القومية»، إما بسبب إعجابه القديم بنابليون، وإما بسبب نفوره الطبيعي من الأعمال الأدبية ذات اللهجة الطنانة التي ظهر منها الكثير أثناء حروب التحرير، بجانب معالجته لمثل هذه الملاحم القومية بطريقته الخاصة (كما فعل في ملحمته الشعبية هرمان ودورثيا التي ترجمها للعربية المرحوم الدكتور محمد عوض محمد). لا يبقى إذن إلا القول بأن قراءته لنص ابن عربشاه في شهر ديسمبر عام 1814م هي التي حركته لكتابة قصيدته الملحمية عن الشتاء وتيمور، بعد اطلاعه على البيان الرائع عن حملة تيمور، ولا شك في أن هزيمة جيوش نابليون على أبواب موسكو سنة 1812م كانت تطوف في ذهن الشاعر وخياله عندما شخص الشتاء في صورة قاض صارم ينذر بإنزال العقاب الرادع على تيمور الذي عاجله الموت - كما سبق القول - أثناء إعداده لحملته الشتوية على الصين، بينما كان البرد القارص يداهم جيوشه ويفتك بها. وهكذا يكون الشاعر - كما قال عن كتاب تيمور ضمن إعلانه عن ظهور الديوان سنة 1816م - قد نظر إلى الأحداث العالمية التي كانت تدور حوله - وهي الهزائم التي لحقت بنابليون - كما نظر إلى كتاب تيمور في ديوانه كما لو كانا «مرآة نرى فيها، لعزائنا أو لبلائنا، انعكاس مصائرنا نحن.»
ويذكرنا هذا التناظر بين مصير نابليون (1769-1821م) ومصير تيمورلنك (1336-1405م) بشيء آخر ربما يكون قد طاف أيضا بذهن جوته وخياله أثناء كتابة قصيدته المطولة، ذلك هو التناظر بينه وبين توءم روحه حافظ الشيرازي الذي كان ديوان شعره - إلى جانب تجربة الحب العارم - هما أكبر حافز له على تأليف ديوانه الشرقي. فقد قرأ ما كتبه «فون همر» عن حافظ وكيف اقترنت حياته بالصراعات الصاخبة بين الأسر الحاكمة في بلاده، حتى هبت عاصفة تيمور المدمرة على بلاد فارس في أواخر حياته، وقدم هو نفسه إلى هذا الفاتح ونال بركته واستحسانه (والمعروف أن جوته نفسه قد قابل نابليون في سنة 1808م مقابلة قصيرة، وأن هذا الطاغية العبقري قد هتف عندما رآه قائلا لقواده المحيطين به: هاكم رجلا). ثم أخذ يتحدث معه بمودة وإعجاب عن روايته «آلام فيرتر»، ويبدي عليها بعض الملاحظات - فيا له من تناظر بين أقدار القائدين والشاعرين! وكم يزيد من إعجابنا بهذين الشاعرين أنهما لم ينتظرا حتى يحل السلام والهدوء لينشدا أغانيهما الشجية الألحان، بل راح كلاهما يشدو بشعره رغم قصف الرعود وتدفق أنهار الدماء والأحزان. وها هي أغانيهما تتردد حتى الآن بينما لا تذكر أسماء تيمور ونابليون وغيرهما من جبابرة الطغاة إلا وتصب على رءوسهم اللعنات، وربما يتذكر الذاكرون اسمي حافظ وجوته وغيرهما من عظام الشعراء فتنبض قلوبهم بالحب والعرفان، وتعرف أن الشعر لا يموت أبدا ولا يتخلى عن دوره في تحدي القهر والظلم بالنغم والغناء، وإنقاذ العالم والبشر من الموت والخراب والضلال بهمساته الحيية العذبة بلسان الحياة والحرية والحب والحق والجمال. (1-2) المتنبي
تدل جميع السياقات التي ورد فيها اسم شاعر العربية الأشهر في كتابات جوته على أنه أكبر شخصيته إكبارا عظيما، حتى لقد عبر في إحدى قصائد كتاب زليخا - كما سنرى بعد قليل - عن رغبته في تقمص روح المتنبي الذي قدم اسمه في نفس البيت على اسم أشهر شاعرين فارسيين، وهما حافظ وسعدي. ولم يمنعه من ذلك أن المتنبي كان في ذلك الوقت شبه مجهول في أوروبا، ولعل المستشرقين لم ينتبهوا بصورة جادة إلى مكانته في الأدب العربي إلا بعد أن عرفوا مدى تقدير جوته له في ديوانه الشرقي، إذ لم تكن المختارات القليلة التي قدمها «يوسف فون همر» في سنة 1816م - ولم تزد على تسع قصائد من شعر الصبا - كافية لتسليط الضوء عليه، ولهذا لا نعجب إذا رأينا هذا المترجم نفسه ينشر ترجمته الكاملة لديوان المتنبي بعد سنوات قليلة من صدور «الديوان الشرقي». وترجح الباحثة الكبيرة «كاترينا مومزن» أن يكون جوته قد سمع عن المتنبي وقرأ له وهو بعد طالب لا يتعدى السادسة عشرة من عمره في ليبزيج. ففي عام 1765م، كانت ليبزيج تحتفل بإقامة معرض الكتاب بها، وكان «يوهان يعقوب رايسكه» - وهو من أكبر المستعربين في ذلك الحين - قد نشر كتابه «مختارات غزلية وحزينة من ديوان المتنبي بالعربية والألمانية مع شروحها»، وربما تكون هذه المختارات قد أوحت «لهردر» ببعض الخواطر التي ضمنها كتابه عن الشعر الوجداني الذي لا يستبعد أيضا أن يكون جوته قد اطلع عليها.
وتتتبع السيدة مومزن آثار هذه المعلومات القليلة عن المتنبي عن إنتاج جوته اللاحق، سواء في القسم الثاني من فاوست (في كلام مفيستوفيلس عن نموذج الجمال الأنثوي في مشهد ليلة الفالبرج الكلاسيكية) أو في الديوان الشرقي. فقد رجع في مرحلة عكوفه على الديوان إلى كتاب رايسكه السابق الذكر، وأفاد منه في كتابة السطور القليلة في «تعليقاته وأبحاثه الملحقة بالديوان» عن صفات المتنبي وخصائصه، كما ألهمته القصائد الغزلية المنتخبة فيه بقصيدته الحوارية البديعة وهي «سماح» من كتاب الفردوس (وقد كتبها في أبريل سنة 1820م، أي بعد صدور الطبعة الأولى للديوان سنة 1819م، لكي تضم مع غيرها للطبعة اللاحقة في سنة 1827م) والقارئ الذي يطالع هذه القصيدة مع قصيدة سابقة لها، وهي «رجال موعودون» سيجد أن مضمونهما واحد مع شيء من الاختلاف؛ ألا وهي الصفات التي تؤهل أصحابها للإذن لهم بدخول جنة الفردوس. ففي القصيدة الأخيرة «رجال موعودون» كان البطل المسموح له بالدخول هو الذي «يحمل الجرح الذي أصيب به في سبيل الإيمان». أما في هذه القصيدة «سماح»، فإن الحورية تمنع «حاتم» من الدخول لأنه خال من الجراح التي أصابت شهداء العقيدة، ثم تقتنع بصدق كلامه عن «جراح الحياة والحب» التي عاناها وتعطيه الحق في الدخول، ولا بد أن الفكرة التي تقول إن قتيل الحب شهيد عند المسلمين، قد استوحاها شاعر الديوان من بيتين للمتنبي ترجمهما رايسكه فيما ترجم من قصائد في الغزل وأثرت على قصيدته. ويكفي أن نورد البيتين الأصليين لنعلم أن التأثر هنا غير مستبعد:
كم قتيل كما قتلت شهيد
لبياض الطلى وورد الخدود
وعيون المها ولا كعيون
فتكت بالمتيم المعمود
وسواء أكان شاعر الديوان قد تأثر أساسا بهذين البيتين أم عرف من قراءاته الواسعة عن الإسلام وعن حياة الرسول الكريم أن المحب الذي يعف في حبه يموت شهيدا، مصداقا للحديث النبوي المشهور، فإن دور المتنبي في تنبيهه إلى الاستشهاد في سبيل الحب لن يكون في الحالين دورا هامشيا ولا بعيدا عن التصور، أضف إلى هذا أن العشق الطاهر الصادق في إنتاجه السابق - كما تمثل في شخصيات فيرتر وتوركواتو تاسو وأتيليه في رواية الأنساب المختارة وفي جريتشن في القسم الأول من فاوست - قد انتهى بأصحابه إلى الموت أو الجنون أو الزهد الذي يقترب من القداسة.
وربما يكون جوته قد تأثر في قصائد أخرى في كتاب الفردوس أو غيره من كتب الديوان ببعض المعاني التي توحي بها بقية أبيات القصيدة السابقة للمتنبي، كصورة المحب المتأرجح بين السقم والعافية، أو كلامه عن المسك الذي تحمله الريح من غدائر المحبوبة، أو تحريم كل شيء من الدماء ما خلا ابنة العنقود، أو الشعور بالتعاظم والتفوق والفخر بالنفس:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي
وبنفسي فخرت لا بجدودي
الذي يتردد - كما بينا في الشروح - في كثير جدا من قصائد الديوان، ثم الإحساس بأن الشاعر العربي متجول مثله، وأنه غريب وعظيم كتب عليه أن يعيش وسط الصغار والأوساط، كل ذلك وغيره قد جعل من المرجح أن يكون شاعر الديوان قد أحس بمدى التعاطف الذي يجمعه بشخصية المتنبي وبشعره الذي لم يتح له الاطلاع إلا على القليل منه.
4 (1-3) مجنون بني عامر
ورد اسم المجنون - أي مجنون بني عامر والشاعر العذري قيس بن ذريح - بنطقه العربي ورسمه الأجنبي مقترنا بحبيبته ليلى أكثر من مرة في الديوان الشرقي. ويبدو أن اهتمام جوته بشخصية المجنون يرجع إلى فترة زمنية أسبق من فترة انشغاله بالديوان؛ إذ نجده يدون عبارة «المجنون وليلى» في دفتر مذكراته اليومية بتاريخ 26 / 5 / 1808م، كما يبدو أنه دونها أثناء إقامتها للاستشفاء في كارلزباد وسماعه عن قصة الشاعر الفارسي نور الدين عبد الرحمن جامي (1414-1492م) التي كانت ترجمتها الألمانية للمستشرق هارتمان قد ظهرت في ذلك الحين وهي «ليلى والمجنون»، والمؤكد أنه وجد في المجنون وليلاه، المثل الأعلى للحب الذي تغنى به من خلال نماذج المحبين الصادقين الذين يشيد بهم في أول قصائد كتاب العشق، يدل على هذا أن اهتمامه بهما تجدد مرة أخرى إبان مغامرة حبه السعيد اليائس ل «مريانة» وتدفق قصائد الديوان على قلبه وخياله، إذ رجع في اليوم الأول من شهر مارس لعام 1815م - وهو اليوم الذي قرأ فيه قصة جامي «ليلى والمجنون» - إلى مذكراته اليومية السابقة وخط فيها هذه العبارة الدالة: «استحوذ المجنون وليلى، كمثال لحب لا يعرف الحدود، على المشاعر ونالا العطف والود من جديد.»
والأمر المؤكد أيضا أن الشاعر والعاشق الكهل قد اقترب من المجنون اقترابا حميما منذ بدأت ترجمة «همر» لديوان حافظ الشيرازي (من حوالي 726ه/1326م إلى حوالي 972ه/1390م) تشد إليها بصره وقلبه وتأسر لبه، أي منذ شهور مايو عام 1814م. ولعل أكثر ما جذبه إلى المجنون وحببه فيه بعض رباعيات حافظ التي يتقمص فيها شخص المجنون ويقول فيها: «أنا المجنون الذي لم يستبدل بليلى كل بلاد العرب وفارس.» أو قوله في غزلية أخرى: «في درب ليلى المليء بالمخاطر، والمحفوف بالمشاق، أقسى ما تلقى هو أن تكون المجنون.»
ولا شك أن النموذج المثالي للحب الطاهر العنيف، وللمحب الذي يموت شهيدا في سبيله، هو الذي استأثر باهتمام جوته كلما وقع في ديوان حافظ على اسم المجنون، بل كلما أغفل ذكر اسمه كما نجد في هذه الرباعية: (أيا نسيم الصبا من ديار ليلى، أقسم عليك بالله أن تقول لي: إلى متى يتعين علي أن أروي الصحاري بالدموع؟)
مهما يكن الأمر، فقد ظلت صورة العاشق العذري - الذي ذكرت مقدمة هارتمان المستفيضة لترجمته لقصة جامي السابقة أنه كان كذلك شاعرا رقيقا ومرموقا - ظلت حية في عقل ووجدان شاعر الديوان الغارق في نعيم حبه عندما كتب في أحد أيام شهر مايو سنة 1815م القصيدة التي استهل بها كتاب العشق - كما ذكرنا من قبل - ووضع فيها ثنائي ليلى والمجنون بين الأزواج الستة من العشاق الذين رسموا في رأيه أمثلة خالدة للحب الطاهر الذي هوى بمعظمهم إلى الجحيم وسمح لبعضهم، وهم كثير وعزة وسليمان وبلقيس، بالدخول من أبواب النعيم: «أنصت واحفظ (في ذاكرتك) قصص العشاق الستة، الكلمة تطلق شررا يشعله الحب رستم مع روذابه، مجهولان لبعضهما، لكن أحدهما بجوار الآخر: يوسف وزليخا، والحب مع الحرمان، فرهاد مع شيرين، ما عرفا إلا الحب: ليلى والمجنون ... إلخ» (راجع القصيدة وشرحها ضمن كتاب العشق).
ومع أن جوته قد ذكر اسم المجنون في أكثر من موضع من قصائد الديوان،
5
فقد بقي عنده - على حد تعبير عالم النفس الشهير كارل جوستاف يونج - أشبه بنموذج أولي أو نمط أصلي للحب المثالي - تشهد على هذا الأبيات القليلة من قصيدة اتهام، ثانية قصائد كتاب حافظ، التي تصف بعض أطوار ونوادر الشاعر العاشق المشهور دون أن تذكر اسمه ولا وصفه:
وهل يعرف من يتصرف دائما تصرف المجانين من الذي يسير معه أو يرافقه التجوال؟ إن حبه العنيد الذي يجعله يتخطى الحدود، يدفعه إلى القفار (يهيم فيها كالشريد)، وقوافي شكاواه التي يسطرها على الرمال، تذروها على الفور الرياح، إنه لا يفهم ولا يعي ما يقول، وما يقوله لا يتمسك به (ولا يحافظ عليه)، ومع ذلك فإنهم يتركون أغنيته تسيطر على القلوب ... إلخ.
ومن الواضح أن هذا الذي يجعل حبه العنيد يتخطى كل الحدود، ويدفعه إلى الفيافي يهيم فيها كالشريد، ويسطر قوافي شكاواه على الرمال فتذروها الرياح - من الواضح أنه ليس شخصا ولا شاعرا آخر غير مجنون بني عامر الذي اضطروا رغم ما نسج حوله من أساطير، بل رغم إنكار بعض مؤرخي الأدب، مثل أبي الفرج الأصفهاني مثلا لوجوده التاريخي أصلا! - اضطروا لأن يتركوا أغنيته تسيطر على القلوب، وربما يعزي روح العاشق المسكين والشاعر العذري الرقيق عما أصابه في حياته على يد الأهل والسلطة، وربما على يد ليلى العامرية نفسها، أن يعلي شاعر الديوان من شأنه ويتخذه صاحبا ورفيقا في الدنيا وفي جنة الفردوس، بل وأن يتعرف فيه على ملامح شخصيته هو نفسه، سواء كما تجلت في الديوان، أو في بعض أعماله السابقة التي أود فيها العشق بأصحابه، إلى الموت أو الجنون أو الزهادة في الدنيا والناس. (1-4) أبو إسماعيل الطغرائي
في إحدى قصائد الديوان، وهي القصيدة الثالثة من كتاب زليخا، يختار الشاعر لنفسه اسم حاتم، ولكنه يسارع إلى القول بأنه لا يملك في فقره أن يكون حاتم الطائي أكرم الكرماء، ولا يطمح أن يكون «حاتم الطغرائي» أغنى شعراء عصره، وإن كان يضع كليهما «نصب عينيه» ولا يجد في ذلك عيبا ولا حرجا، وقد تحير الشراح طويلا أمام وضع اسم حاتم مع اسم الطغرائي، وأجمعت الطبعات المختلفة للديوان على أن ذلك كان مجرد سهو من جوته الذي سمى الطغرائي باسم حاتم بدلا من أبي إسماعيل صاحب «لامية العجم» الشهير. وبقي الشراح على هذا الرأي حتى تبين في عام 1951م لأحد الباحثين في أدب جوته (وهو الأستاذ فايتس) أن شاعر الديوان كان قد اطلع على ترجمة ألمانية كاملة عن اللاتينية لهذه القصيدة أرسلها إليه أحد أصدقائه الأعزاء (ونسختها محفوظة إلى اليوم في أرشيف جوته وشيلر بمدينة فيمار) فلنبدأ بقراءة القصيدة التي ذكرناها من كتاب زليخا قبل أن نحللها، لنرى مدى تأثرها بلامية الطغرائي، ونتحقق مما إذا كانت تسميته بحاتم مجرد سهو وقع فيه شاعر الديوان أم كانت مقصودة ولها أسبابها العميقة ومراميها البعيدة:
لما كنت تسمين زليخا،
فعلي كذلك أن أحمل اسما.
وعندما تتغنين بحبيبك،
فليكن حاتم هو اسمه،
كي يعرفني الناس به،
وليس في ذلك أي ادعاء:
فمن يدعو نفسه فارس القديس جرجس،
لا يتبادر إلى ذهنه أنه هو هذا القديس.
وأنا في فقري لا أملك أن أكون
حاتم الطائي أكرم الكرماء،
لا ولا أطمع أن أكون حاتم الطغرائي
أغنى الشعراء الأحياء في زمانه،
لكن وضع الاثنين نصب عيني
لن يكون بالأمر المعيب:
فأخذ هدايا السعادة وإعطاؤها
سيبقى على الدهر متعة عظيمة،
وإسعاد حبيب لحبيبه،
سيكون نعيم الفردوس.
ويرجع تاريخ نظم هذه القصيدة إلى اليوم الرابع والعشرين من شهر مايو سنة 1815م؛ إذ كتبها الشاعر في «أيزناخ» وهو في طريقة لزيارة أصدقائه وأسرة حبيبته في منطقة نهري الراين والماين. وقد أسعده الحظ قبل قيامه بهذه الرحلة بأسابيع قليلة بوصول رسالة من صديقه «كنيبل» (وهو كارل لودفيج من 1744م إلى 1834م الذي ترجم بعض الأعمال من الأدب الروماني، لبربيرز ولوكريس، وتبادل رسائل هامة مع جوته. وكان مثله مولعا بالآداب الشرقية) تحمل معها نسخة من ترجمته لقصيدة عربية طويلة عن اللاتينية سبق أن نشرها في عام 1800م في مجلة عطارد الألمانية.
6
وشدت القصيدة العربية الطويلة - وهي لامية العجم كما سبق القول - اهتمام جوته، وربما وجد في ذلك المزيج الغريب الذي تحتوي عليه أبياتها المعبرة بصدق وقوة وغضب عن شخصية صاحبها الممتحن في حياته، ما أشعره بقربه الحميم من شخصيته هو نفسه، ففيها الشكوى المرة من قسوة الزمن عليه، ومحاصرة معاصريه له بالكراهية والحسد والكيد والغدر، وفيها التحدي الرائع لقدره ولأعدائه والتصميم على تحقيق طموحه إلى المنصب (الوزارة) والمجد وملء حياته بالأعمال والإنجازات التي تخلد ذكره وتليق بهمته العالية، وفيها كذلك التفاخر بالنفس والتغني بالفضيلة والعظمة وسط العالم الصغير المحيط في دولة «الأوغاد والسفل»، وفيها حكمة اليائس العنيد الذي يتحسر على عمره الضائع ويصر مع ذلك على صدقه مع نفسه وترفعه عن أن «ترعى مع الهمل». وطلب جوته من مكتبة فيمار معجم هيبرلو «المكتبة الشرقية» - كما هي عادته في الرجوع إليه في الأمور المتعلقة بالشرق - ليعرف منه شيئا عن الطغرائي، فوجد في الجزء الثاني منه، ص488، عبارات شحيحة تقول إنه شاعر عربي من أصل فارسي، وأنه كان غنيا في الفضائل والخصال الحميدة التي يسمي الإيطاليون من يتحلى بها باسم المتميز أو المتفرد النابغة (الفيرتووزو).
7
ولعل من أهم ما لفت انتباه جوته إلى الطغرائي أنه شغل مثله الوزارة لدى أحد ملوك السلاجقة ولم ينج طوال حياته من خيانة الصغار المحيطين به وحسدهم وافترائهم عليه، وربما أعجبه أيضا أن قصيدته تصور مسيرة حياته بصورة مأخوذة من الحياة البدوية التي تنعكس أيضا على بنائها الذي يشبه بناء القصيدة الجاهلية التي طالما أعجب بها عندما عكف على قراءة المعلقات وترجم جزءا من معلقة امرئ القيس، فضلا عن ترجمته لقصيدة تأبط شرا كما ستعرف ذلك من الفصل الخاص بجوته والأدب العربي. وأخيرا، فإن تفاخر الشاعر بنفسه، واعتزازه بخلقه ومواهبه وحكمته وخبرته واطلاعه على أسرار الحياة والناس، جعله شديد القرب منه إلى الحد الذي حفزه على التوحد بشخصيته وتسمية نفسه حاتم الطغرائي ليجمع في هذا الاسم بين أكرم الكرماء، وهو حاتم الطائي، وبين أغنى الأحياء بين الشعراء، وهو الطغرائي الذي عاش بعد حاتم بخمسمائة عام، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يذكر اسم القديس جورج أو جرجس بينهما (وهو القديس المحلي لمدينة أيزناخ التي كتبت فيها القصيدة)؛ إذ يرمي من وراء ذلك إلى أن كليهما يتمتع بسجايا القديسين، سواء في السخاء والعطاء المادي غير المحدود أو في الغنى الباطني بالفضائل والقيم الرفيعة والعطاء الشعري والعملي بغير حدود أيضا.
ولا شك في أن جوته قد نظر إلى الوراء بمنظار الشيخوخة إلى مسيرة حياته كما فعل الطغرائي في لاميته، فرأى العوامل المشتركة التي تجمع بينهما، فكلاهما كان شاعرا ورجل دولة، وكلاهما وجد نفسه محاطا بالحقد والغدر والصغار، وشعر بالإحباط وخيبة الأمل والرغبة في الاعتزال والصمت، ولعل هذا هو الذي دفعه لاستنساخ بعض أبيات القصيدة وتوزيعها على بعض أصدقائه في فراكفورت، وهي أكثر أبيات اللامية تعبيرا عن الحياة الخصبة العريضة التي ملأها صاحبها بالعمل والنشاط والخبرة، وملأها الصغار من حوله بالإحباط والمرارة وخيبة الأمل التي لم تقلل أبدا من طموحه إلى المجد والشرف. ولا بد أن يكون قد رأى نفسه في مرآة أبيات كهذه من لامية الشاعر العربي الفارسي الأصل:
حب السلامة يثني هم صاحبه
عن المعالي ويغري المرء بالكسل
فإن جنحت إليه فاتخذ نفقا
في الأرض أو سلما في الجو فاعتزل
ودع غمار العلى للمقدمين على
ركوبها واقتنع منهن بالبلل
إن العلى حدثتني وهي صادقة
فيما تحدث أن العز في النقل
لو أن في شرف المأوى بلوغ منى
لم تبرح الشمس يوما دارة الحمل
وربما وجد نفسه أيضا ووجد حياته التي قضاها في التنقل والترحال طلبا للمعرفة والمزيد من الخبرة والتجربة، ما فعل بطلاه فاوست وفيلهلم ميستر، في أبيات كهذه التي تذكرنا بمغامرات جلجاميش أو برحلات أوديسيوس بين المدن والجزر والبحار:
يا واردا سؤر عيش كله كدر
أنفقت صفوك في أيامك الأول
فيم اقتحامك لج البحر تركبه
وأنت تكفيك منه مصة الوشل
لقد عرف كلاهما الكثير وجرب الكثير، وبقدر ما أوغلا في بحار المعرفة والتجربة، بقدر ما عانى كلاهما من قسوة خيبة الأمل ومن عيش كان حصاده هو الكدر والملل، وربما كانت الحكمة الأخيرة فيه هي الصمت:
ويا خبيرا على الأسرار مطلعا
اصمت ففي الصمت منجاة من الزلل
قد رشحوك لأمر إن فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
ومن الطبيعي أن ينتهي تأمل جوته للامية وإعجابه بثرائها النادر بالتجارب المتنوعة والصور القوية الحية إلى أن يصف صاحبها بأنه «أغنى الأحياء من الشعراء»، وأن يبلغ به الأمر أن يوحد شخصه به، فيقرن اسمه باسم حاتم الذي اختاره لنفسه، كأنما أراد أن يؤكد بذلك أن الثراء المادي والروحي مع البذل والعطاء بغير حدود قد اجتمعا في هذا الشاعر الذي لا يطمع أن يكون مثله ولا أن يقيس نفسه به، وإنما يكتفي بأن يضعه نصب عينيه دون أن يلومه أحد؛ لأن أخذ هدايا السعادة وإعطاءها - كما يوحي بذلك اسم الحاتمين وغناهما الظاهري والباطني - سيبقى على الدهر متعة عظيمة، كما أن إسعاده لحبيبته، التي نسخت منه قصيدة الطغرائي وأشارت لبعض أبياتها في رسائلها المتأخرة إليه بعد فراقهما بسنوات طويلة،
8
قد جعله يستحق في عينيها وفي عيوننا أن يسمى حاتم، وأن يضاف لهذا الاسم اسم الطغرائي. (2) ألف ليلة وليلة في الديوان
صحب جوته ألف ليلة وليلة وصحبته من صباه الباكر إلى شيخوخته المتأخرة، وأثرت حكاياتها الساحرة تأثيرا واضحا وصريحا على الكثير من أعماله، ومضمرا وغير مباشر على القليل منها. ومع أن هذا المجال ليس هو الموضع المناسب لتتبع ذلك التأثير، فيكفي على الأقل أن نذكر عناوين بعض أعماله التي تجلت فيها صوره المختلفة واتحدت بطبيعته «الشهرزادية» في الشغف بالحكي والقص: نزوة العاشق، أحاديث المهاجرين الألمان، الابنة الطبيعية، الأنساب المختارة وسنوات تجوال فيلهلم ميستر، مشاهد عديدة في القسم الثاني من فاوست والفصل المعروف عن استدعاء هلينا وزواج فاوست، منها الأقصوصة والحكاية وسيرة حياته
9 «شعر وحقيقة»، بالإضافة إلى مذكراته وأحاديثه العديدة التي عبر فيها لمحدثيه - وبالأخص المستشار فون مولر - عن مدى تأثره شكلا ومضمونا وروحا بقص شهرزاد وكنوز حكاياتها البديعة التي وجد فيها «الحق والجمال» والحكمة والمتعة، واعتبرها من أبرز الأعمال التي عززت إيمانه بوحدة الأدب العالمي، وأهم عمل شرقي بهر الغرب منذ أوائل القرن الثامن عشر (منذ ظهور الترجمة الفرنسية الشهيرة لأنطوان جالان بين عامي 1704م و1717م، والترجمات المختلفة اللاحقة لها وزحفها المنتصر
10
على الآداب الأوروبية وعلى أعمال كبار الكتاب والشعراء والمفكرين طوال القرن الثامن عشر حتى العقود الأولى من القرن التاسع عشر، أي طوال عصر جوته نفسه) والآن نسأل السؤال الذي يهمنا في هذا المقام: هل كان لألف ليلة وليلة تأثير على قصائد الديوان الشرقي أو على التعليقات والبحوث التي ألحقها به؟
والسؤال مشروع لأن المعروف أن ترجمة ديوان حافظ الشيرازي إلى الألمانية هي التي كانت - مع تجربة الحب بطبيعة الحال! - المنبع الحقيقي الذي استقى منه إلهامه. فهل كان لكنوز شهرزاد بعض التأثير عليه؟ ترجع آخر مرة استعار فيها جوته ترجمة جالان الفرنسية (طبعة 1747م)
11
من مكتبة فيمار إلى اليوم الخامس من شهر فبراير سنة 1813م، أي قبل عكوفه بصورة جادة على العمل في الديوان الشرقي والاطلاع على كل ما أمكنه التوصل إليه عن الشرق. ويحتمل أن يكون رجوعه لليالي في هذه الفترة بالذات مرتبطا بالكلمة التي كان يعدها «للذكرى الأخوية» لصديقه الأديب كريستوف مارتن فيلاند (1733-1813م) الذي كان قد توفي قبل ذلك بفترة تقل عن الشهر، والذي استلهم الليالي في كثير من حكاياته الخرافية وطالما تحدث عنها مع جوته. ويحتمل أن تكون هذه المناسبة الحزينة قد جددت فيه الشوق للتقليب في الحكايات التي لم تفارق نظره وقلبه أبدا؛ إذ تؤكد الباحثة الكبيرة السيدة كاترينا مومزن أنه أبقى الكتاب لديه - وذلك على غير عادته! - ما يقرب من تسعة شهور قبل أن يعيده إلى المكتبة،
12
كما أنه لم يفكر في استعارته مرة أخرى في الفترة الواقعة بين عامي 1814م و1819م، أي الفترة التي شغل فيها بالديوان حتى صدور طبعته الأولى سنة 1819م.
وليس من المستبعد أيضا أن يكون جوته قد أعاد قراءته لألف ليلة وليلة في غمرة انشغاله بدراسة الآداب الشرقية (لا سيما في مرحلة الذروة بين ربيع 1815م وربيع 1816م) تدل على ذلك إشارته الصريحة إلى شهرزاد في بعض رسائله إلى أصدقائه في تلك الفترة، وبالأخص إلى صديقه المقيم في منطقة الراين الحبيبة إلى قلبه وهو سولبيس ببواسريه، وإلى صديقه تسلتر وناشره كوتا. وقد كان من الطبيعي أيضا أن يتابع الجهود التي يبذلها كثير من المستشرقين والمترجمين لاستكمال طبعة جالان أو تصحيحها على أساس النسخ والمخطوطات التي تم الكشف عنها، فضلا عن الدراسات المتتابعة عن ترتيب الحكايات وأصولها الهندية والفارسية والعربية والعصور التي دونت فيها ومؤلفيها المجهولين، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بالكنز الشرقي الثمين والاختلافات الحادة التي اشتعلت حوله بين عدد من المستشرقين في تلك السنوات (مثل فون همر النمسوي ومترجم ديوان حافظ الشيرازي، وسيلفستر دي ساسي عميد المستشرقين في ذلك الحين - وسيدنا الأعز - كما سماه جوته الذي أهدى إليه ديوانه الشرقي عرفانا بفضله، وجوناثان سكوت الإنجليزي الذي أعلن اكتشافه لجزء من مخطوطة بنغالية لليالي تحتوي على حكاية الوزراء السبعة التي لم تظهر في طبعة كالكوتا المشهورة فيما بعد) ولا بأس من أن نذكر هنا أيضا أن الحكاية التي نشرها سكوت ضمن المجموعات الشرقية التي توضح تاريخ آسيا وآثارها القديمة من سنة 1797م إلى سنة 1799م واستعارها جوته من مكتبة فيمار في الفترة من يناير إلى أبريل سنة 1815م، قد ألهمته موضوع «أوبرا شرقية» ملكت عليه عقله وخياله في ذلك الوقت، ولكن «عوامل خارجية» حالت بينه وبين إنجازها، ومن أهمها كما قال جوته نفسه عدم التفاهم مع الملحن «فيبر» وعدم الاقتناع باستعداد الجمهور لتذوقها.
والغريب حقا أن جوته لم يشر إلى ألف ليلة وليلة في تعليقاته وأبحاثه المتأخرة عن الديوان إلا مرة واحدة، وأن هذه المرة الوحيدة لم تكن ضمن الفقرة التي خصصها فيها للكلام عن العرب.
ولعل السبب في ذلك أنه كان بصدد اكتشاف أشياء جديدة عن الشرق لم يتسن لقارئه الألماني أو الغربي أن يعرفها معرفة وثيقة، فانصرف إلى تقديم المعلقات السبع وقصيدة تأبط شرا، بالإضافة إلى عدد كبير من شعراء الفرس الكبار الذين يحمل توءم روحه «حافظ الشيرازي» المسئولية عن شغفه بمعرفتهم عن قرب والاطلاع على ما تيسر له الاطلاع عليه من أعمالهم (مثل سعدي وعبد الرحمن جامي وأنوري ونظامي الكنجوي وغيرهم) ومن ثم نجده يقول هذه العبارة الوحيدة عن الليالي التي اشتهر أمرها منذ زمن بعيد عند الجمهور في فقرة بعنوان «شكوك» لم يجد فيها ما يدعوه لذكر الليالي صراحة بالاسم: «لقد ألفنا منذ وقت طويل حكايات تلك المنطقة.»
بيد أنه يعود فيذكر «المجموعة العربية للحكايات الخرافية» في الفقرة التي تحمل عنوان «محمد»، وذلك لتوضيح الاختلاف بين طبيعة النبي وطبيعة الشاعر، وتفسير نهي القرآن الكريم عن تصديق أساطير الأولين والانسياق وراء الشعراء الذين يهيمون في كل واد، حتى يحتفظ المسلمون بقدرتهم على الجهاد في سبيل الله ولا يستسلموا للانبهار بالحكايات والأساطير كالفرس والهنود (راجع طبعة بدوي للديوان الشرقي، ص395، وص421 من التعليقات والأبحاث). وفي هذه الفقرة يذكر ألف ليلة وليلة في معرض حديثه العابر عن مفهوم الحكاية الخرافية، أو بالأحرى عن جوانبها السلبية التي تجعلها مجرد «ألعاب» نحيلة نزقة تتأرجح بين الواقع والمستحيل، وتقدم غير المحتمل وكأنه هو الأمر الواقع الذي لا ريب فيه، وبذلك تتلاءم مع النزعة الحسية الشرقية في ميلها للراحة والتسلية، بل إنه ليصفها من هذه الناحية بأنها بناءات مشيدة في الهواء، وأنها تكاثرت على عهد الساسانيين الذي قدمت فيه ألف ليلة وليلة على شكل أمثلة غير مترابطة في خيط واحد، بل يصل به الأمر في هذا النص إلى حد القول - بما يخالف اعتقاده العميق بغير شك! - بأنها تتميز «بخلوها من أي هدف أخلاقي، ولذلك لا تعيد الإنسان إلى ذاته، وإنما تبعده عنها وتلقي به في الفضاء المطلق، وقد كان محمد يريد العكس من ذلك تماما.» ويبدو أن جوته في غمرة انشغاله «العلمي والموضوعي» بكتابة تعليقاته، لم تتح له الفرصة الكافية لتناول مفهومه عن الحكاية بصورة أكثر دقة وتحديدا؛ إذ يصعب علينا تصور صدور العبارات السابقة عن شاعر طالما وصف نفسه بأنه حكاء أو راوي حكايات، كما أن «حكايته» - التي أشرنا إليها في هامش سابق - واستلهامه لحكايات ألف ليلة وليلة في العديد من أعماله كما سبق القول، كفيلان بتصحيح كلامه الأخير أو على أقل تقدير بمحاولة فهمه في سياقه المحدد لتبرير نهي القرآن الكريم والرسول العظيم عن الارتداد لأساطير الأولين والانشغال بها عن واجبات الدعوة ومسئوليات الجهاد.
مهما يكن الأمر، فإن ألف ليلة وليلة لم تكن من بين المصادر التي اعتمد عليها جوته في ديوانه الشرقي، وأقرب الأسباب لتبرير غيابها أنه أراد - كما سبق القول - أن يفتح لقرائه آفاقا شرقية لم يألفوها من قبل، ومع ذلك، فهناك حالة واحدة على الأقل ترجح أنه أشار فيها ضمنا إلى الليالي، ونقصد بها «الشعار» الذي استهل به الديوان كله و«كتاب المغني» بقصيدة من أربع أبيات قيل إنه أهداها إلى راعيه وصديقه كارل أوجست أمير فيمار:
أمضيت من عمري عشرين عاما
تمتعت فيها بما قسم لي،
تتابعت أيامها الحسان،
شبيهة بأيام البرامكة.
وقد حيرت القصيدة شراح الديوان
13
واختلفت اجتهاداتهم في تفسير المقصود بالعشرين عاما التي أمضاها أو بالأحرى تركها تمضي من عمره، هل كانت الأعوام التي ساد فيها السلام منذ انتهاء حرب السنوات السبع وحتى اندلاع نيران الثورة الفرنسية، مع أن تلك الفترة الزمنية كانت أطول من ذلك الرقم بكثير؟ أم هي الفترة التي توثقت فيها عرى الصداقة بينه وبين الشاعر شيلر (1759-1805م) واستمرت بعد رحيل هذا الشاعر الكبير حتى عام 1814م؟ أم هي أخيرا تلك الفترة (من 1786-1806م) التي تقع بين رحلته إلى إيطاليا ومعركة يينا المشهورة التي دارت رحاها بين نابليون والجيوش المتحالفة ضده، وكانت فترة ثرية بالسعادة في حياته الشخصية والنضج الفني في أعماله الأدبية والازدهار الثقافي في حياته الشخصية في إمارة فيمار الصغيرة - التي شبهها بالازدهار الحضاري والعلمي على عهد الرشيد والبرامكة - حتى هبت عاصفة نابليون على أوروبا مثلما وقعت محنة البرامكة في بغداد فاحترق الربيع الرائع في الحالين؟
ولكن هذه التفسيرات كلها غير مقنعة ولا صحيحة لأسباب تاريخية وموضوعية عديدة يمكن أن يستنتجها القارئ بنفسه، وقد قدمت السيدة «مومزن» حلا للغز العشرين عاما المذكورة في البيت الأول، واقترحت فيه أن يكون جوته قد كتب الأبيات الأربعة وفي ذهنه حكايات محددة من حكايات ألف ليلة وليلة (التي عرفت جمهور قرائها الغربيين تعريفا كافيا بالبرامكة وروت فيها شهرزاد عددا كبيرا من الحكايات عن جعفر وزير الرشيد وأمين سره ورفيق جولاته، لا سيما في ترجمة جالان وشروحه التي أشاد فيها بنبل البرامكة وسماحتهم ونزاهة حكمهم، وبوجه خاص في تعليقه على الحكاية رقم 91 في ترتيب جالان، وهي حكاية شاك باك والبرمكي).
والظاهر أن شاعر الديوان الشرقي قد أحس من هذه الحكاية بوجود تناظر بينها وبين قصة حياته وقدره الذي ساقه إلى العمل مع أمير فيمار والحياة في ظله. وقد كان من رأيه - كما روى ذلك على طريقة شهرزاد في فقرات طويلة من شعر وحقيقة - أن حياته العجيبة كانت نوعا من الحكاية الخرافية التي تداخل فيها الواقع مع مصادقات القدر التي تلاعبت بمصيره تلاعب القوى السحرية والشيطانية بأبطال الحكايات في ألف ليلة وليلة. كذلك بدت له السنوات العشر الأولى التي قضاها في فيمار في صحبة الأمير أشبه بحكاية خرافية، وذلك كما قال قبل وفاته بقليل للمستشار فون مولر.
والمهم أنه كتب الأبيات التي قدمناها وأطياف ذكريات شبابه الذي يشبه الحكاية الخرافية العجيبة تحوم حوله، والأهم من ذلك أن الحكاية السالفة الذكر تروي قصة بطلها شاك باك الذي ساقه القدر لدخول قصر البرمكي القوي - كما دخل هو في حياة البرمكي كارل أوجست! - فكسب عطفه إلى الحد الذي جعله يصفه بأنه أعز صديق له وأقرب الناس إلى قلبه، بل عهد إليه بإدارة أملاكه وتدبير شئون خدمه وخلع عليه ثوب رضاه، والأغرب من ذلك أن الشاكي الباكي قد تمتع بهذه الحظوة عشرين سنة كاملة تنعم فيها بكرم البرمكي ونبله وحبه.
14
فإذا رجعنا إلى الأبيات السابقة وقرأناها على ضوء الحكاية التي قدمنا فكرة سريعة عنها، وجدنا نوعا من التشابه بين البطل الشاكي (الذي أغدق عليه البرمكي عطاياه وقلده أرفع المناصب في الدولة بعد اجتيازه للامتحان الذي أوقعه فيه، وهو دعوته له على وليمة وهمية ختمها بخمر وهمية فصبر المسكين الجائع الظامئ على شطحته الخيالية وشخص الأكل والشرب كأنهما حقيقة، وبذلك أثبت نجاحه في الامتحان وصلاحيته للتمتع بالحظوة والجاه!) وبين جوته الذي أكرمه أمير فيمار وصادقه ووثق في مواهبه الفائقة وأشركه - أيام شبابهما الأول! - في نزوات مجونه وطيشه ونزقه التي طالما تحملها الشاعر على مضض، كما كلفه بعد ذلك بتسيير بعض أمور الدولة وإدارة مسرح فيمار والإشراف عليه، فنهض بالمسئوليات المرهقة بحكمة وحزم ونشاط لا نظير له. كل ذلك قد جعل شاعر الديوان يقول عن سنوات شبابه التي قضاها في ظل صديقه وراعيه إنها كانت «جميلة كعهد البرامكة.»
وترجح السيدة مومزن أن تكون الأبيات الأربعة العجيبة قد نظمت في النصف الثاني من شهر ديسمبر سنة 1816م، أي في الوقت الذي كان فيه جوته - إلى جانب انشغاله بالديوان وبعالم الشرق وشعرائه والاطلاع على كل المصادر المتاحة عنه - يطل بعيون الكهل الزاحف نحو الشيخوخة على أيام شبابه بحلوها ومرها، ويواصل العمل في كتابة سيرة حياته، وينظم أشعارا حكيمة قصيرة جمعها بعد ذلك فيما يعرف بالحكم الأليفة واستوحاها من شعراء المعلقات، ومن معلقة زهير بوجه خاص. ويعزز هذا الرأي أن القصيدة التي نحن بصددها تنتمي من ناحية الشكل والمضمون لتلك المجموعة من الحكم القصيرة التي أشرنا إليها، كما تمت بصلة وثيقة للقصائد التي يضمها كتاب الأمثال من الديوان، وربما فكر شاعر الديوان الشرقي أثناء كتابته لقصيدة الهجرة - وهي أولى قصائد كتاب المغني - التي كتبها في اليوم الرابع والعشرين من شهر ديسمبر عام 1814م، ربما فكر في ألف ليلة وليلة، وفي تلك الحكاية التي تسللت إلى أعماقه ورسخت فيها عن الشاكي الباكي والبرمكي، والمصير الفاجع الذي آل إليه هذا البطل المسكين بعد نكبة البرامكة وطرده من الوزارة وتجريده من كل شيء وفراره من بغداد، وربما توحي بعض أبيات قصيدة الهجرة التي تتحدث عن تصدع العروش وارتجاف الممالك، بأن المخاوف قد ساورت شاعر الديوان من جراء العاصفة النابوليونية التي كان من الممكن أن تصيبه بما أصاب الشاكي الباكي.
وأخيرا، فهل نوافق الباحثة الأمينة المجتهدة على هذا التفسير الذي يدور في دائرة الإمكان والاحتمال، أم نرفضه أو على الأقل نتردد في الاقتناع الكامل به؟ أحسب أننا يمكن أن نقبله ونرحب به بحكم كوننا ورثة ألف ليلة وليلة أو جزء كبير منها على الأقل، وإن كنت أشك في أن عقولنا قد اقتنعت به كل الاقتناع. (3) عالم الديوان الشرقي-الغربي وعالم الباطن (أ)
الشيء الرائع لا تسبر أغواره، فليفهمه كل منا كيف يشاء.
هذان البيتان لجوته يلخصان الخواطر التالية التي سنحاول فيها الاقتراب من الشيء الرائع الذي بين يديك، وهو الديوان الشرقي. فليس الديوان في حقيقته سوى طريق شعري إلى العالم الخفي الرحب الذي نسميه عالم الروح أو عالم الباطن، ولأنه طريق يتجه إلى الأعمق والأعلى في نفس الوقت، فقد حير القراء والشراح منذ ظهور طبعتيه الأوليين في حياة صاحبه (في عامي 1819م و1827م) ولم يزل يحيرهم إلى اليوم مع كل طبعة جديدة، بل ويواجه من أهله وفي بلاده نفسها بسوء الفهم أو الضيق أو حتى بالتجاهل، على الرغم من أن الكثير من حكمه وقصائده قد جرى هناك على كل لسان وانسكبت ألحانه في كل الآذان.
ولأنه كتاب من تلك الكتب التي لا تسبر أغوارها بسهولة، وكل واحد متكامل يزخر بالحياة وتنبثق فيه كل موجة من الموجة التي سبقتها كما تحرك اللاحقة لها،
15
فهو يتطلب منا أن نغوص فيه ونجربه تجربة باطنة كي يتسنى لنا السياحة في مياهه النقية (التي سنفتقد سماع خريرها الحلو بطبيعة الحال في هذه الترجمة أو أية ترجمة سواها في أي لغة). وليس أصعب علينا اليوم من هذه التجربة الباطنة، إن كان عالم الباطن نفسه قد تبقى له أثر بعد أن غمرتنا السطحية من كل ناحية، وأغرقتنا الضوضاء من كل الجهات، ولكن ما العمل إذا كانت تجربة أشعار هذا الكتاب مستحيلة بغير المشاركة، مستحيلة بغير الحب، الحب الذي تحرر من الشهوة، وتطهر من الأنانية، وتبرأ من التحيز والتسرع والغرور؟ وكيف نطمع في الاقتراب مما سميناه الباطن، والروح، إذا لم تستعد للرحلة الشاقة والمشوقة بالنظرة الصافية، والقلب السمح، والعقل اليقظ، والبصيرة النافذة المتعاطفة؟ ومن أين يتأتى لنا أن نعرف جوهره أو نلمس لمحة واحدة من نوره ونحن على ما نحن عليه من تشوش وتشتت واضطراب وتشذر لجوهر وجودنا نفسه، إن كان ثمة من يتذكر اليوم هذا الجوهر أو يسأل عنه؟!
وتبدأ الحيرة إزاء «الديوان الشرقي-الغربي» أو النفور منه والتحيز ضده من العنوان نفسه: ينظر فيه الغربي بامتعاض: ما لهذا الشيخ الذي بردت شعلة قلبه التي طالما تدفأنا على نارها وهو في شبابه ورجولته، ما لصوابه يطيش به فيندفع إلى الأجنبي البعيد والغريب عنا وعنه ويترك ما هو حميم وقريب منه؟ ويتساءل الشرقي متبرما خائب الأمل: أي شرق هذا الذي يتغنى به الشاعر العجوز، وما هذه الأقنعة الكثيرة التي يطرحها عليه وعلى نفسه؟ ألم يجد في الشرق الذي كان يعاني على عهده - ولم يزل يعاني إلى اليوم! - من التخلف والبؤس والقهر والتسلط والاستبداد والتجمد والركود، إلا المسك والعنبر، والوردة والبلبل، والندامى والساقي والحانات، والشعراء والحكماء والعشاق والصوفية والدراويش؟
والرد على الطرفين بسيط؛ فالديوان كله - لمن يعرف كيف يقرأ الشعر ويحس بالروح الكامنة وراء الكلمة والنغمة والحرف والصورة والتركيب - كشف عن الأقنعة لا تنكر وراءها، والأقنعة تشف - لمن يجيد الرؤية - عن وجه الحقيقة الواحدة أو الواحد الخالد الذي لا يعرض نفسه إلا خلال الأقنعة، لأننا لا نقوى على التحديق مباشرة في نوره الباهر الذي يعشى العيون، وكما نعرف الشمس عن طريق الدفء والألوان والأشياء التي تنعكس عليها، كذلك لن نعرف الواحد والحق والجمال إلا من خلال صورها وأقنعتها الأرضية، لأن مداركنا المحدودة تعجز عن إدراكها في ذاتها. ثم إن الشرق الذي يتغنى به الديوان ليس هو الشرق الجغرافي أو التاريخي، ولا السياسي أو الاجتماعي، ولا حتى الحضاري والثقافي. إنه الشرق الشعري الذي تحيا فيه الأحداث والوقائع والأشخاص والموضوعات والعادات والتقاليد والحكم والخرافات ... إلخ، ثم تصفى في النهاية لكي يبقى ما كان في البداية، ويظل القديم هو الجديد، ويصب كل ما مضى في لحظة الحضور الأبدي التي تحيا بالوحدة والنقاء، والحب والإيمان. صحيح أن هذا لا يتم إلا من خلال التضاد أو الاستقطاب الثنائي بين الشرق والغرب، وأن كليهما يحتفظ بطابعه المميز وخصوصيته الملازمة له، ولكن مصفاة الشعر ترتفع بهما إلى الأعلى والأعلى، وتجمع بينهما في وحدة الأصل أو الجذر الأول الذي تفرعا عنه، والوطن الأول الذي يلتقي فيه البدء والمنتهى بعد رحلة التغير والتحول، وملحمة الاختلاف والصراع، واللعب بكل الأقنعة، والاندماج في كل الكائنات، وتجربة الحياة والأحياء في جميع ظواهرها التي لا تخرج في النهاية عن أن تكون صورا وانعكاسات لما يسميه بالظواهر الأولية أو الأصلية.
ومع أن قصائد الديوان كلها أشبه باللآلئ التي تنتظم في سلك العقد الحي المنغم الذي يتخذ شكل الدائرة ويحيط بالكل، أو أشبه بالعذارى اللائي تأخذ كل منهن بيد الأخرى ليسترحن جميعا على صدر الأصل الأول أو في عمق المنبع الفوار بالحياة والإقبال على مباهج اللحظة الممتلئة، مع هذا يمكنك أن تهتدي بسهولة إلى أبرز القصائد التي تغزل بأناملها الرقيقة كل الخيوط لتنسج منها - إذا جاز التعبير - سجادة الوجود؛ هجرة، وتمائم، والماضي في الحاضر، وحنين مبارك (من كتاب المغني) والقصائد الموجهة إلى حافظ وبالأخص قصيدة «أنت تعرف ما يريده الجميع»، وقد فهمته بالفعل (من كتاب حافظ) ومن أين أتيت بهذا؟ كيف تيسر أن يصل إليك؟ (من كتاب الضيق) واللقاء من جديد (من كتاب زليخا) وليلة صيف (من كتاب الساقي) ووصية الديانة الفارسية (من كتاب البارسي) ورجال موعودون (من كتاب الفردوس). وإذا لم تكشف لك هذه القصائد عن سرها، فعسى أن تكشف عنه الشروح الأخيرة في هذا الكتاب، وأن يكون كلاهما كالمرآة التي تتأمل فيها زليخا جمالها الفاتن، حتى إذا أنذرها العشاق المحيطون بأن جمالها إلى زوال، ردت عليهم بقولها: «كل شيء خالد في عين ربي، فاعشقوه الآن فيا، هذه اللحظة حسبي!» (ب)
كيف استطاع شاعر الديوان أن يوحد بين الشرق والغرب وينسج منهما «العالم»، ثم يستوعب هذا العالم في عالمه الباطن ليزيده ثراء وعمقا، ويجدد له شبابه وإبداعه؟
لننظر في هذه الرباعية القصيرة من كتاب «الضيق» قبل أن نستطرد في الحديث:
من لم يستطع أن يقدم لنفسه الحساب «عما تم» في ثلاثة آلاف عام
فسيبقى جاهلا يتخبط في الظلام
ويعيش من يوم ليوم «يفترسه السراب».
16
إنه «الحساب» الذي ظل جوته يقدمه منذ صباه الباكر، ويتسلح به في كل يوم من أيام حياته الخصبة الجادة لكتابة هذا الديوان الشرقي-الغربي عندما آن أوانه وفرضته عليه الضرورات الخارجية والداخلية، بل لكتابة إنتاجه الضخم كله بمختلف أشكاله الأدبية والفكرية والعلمية. وقد أفضنا في الكلام عن جهوده الدائبة - منذ صباه الباكر حتى كهولته المتأخرة - في تحصيل المعرفة بالشرق من كل مظانها، وتجميع المواد التي ستنتظم فجأة وعلى غير توقع منه في بناء هذا الديوان، لا سيما بعد قراءته للترجمة الكاملة لديوان حافظ الشيرازي، ثم بعد ترجمته لنعمة الحب ل «مريانة» ومكابدته للوعة فراقه النهائي لها، بحيث كانت القصائد تنبثق منه كالمياه الصافية الدافئة من شلال لا يتوقف عن التدفق (وكان يصل عددها أحيانا في اليوم الواحد إلى ثلاثة أو أربعة!) وأخيرا كيف أقبل على التهام كل ما يصدر عن الشرق، والتقاط كل جديد والسؤال عن كل غريب لدى معارفه وأصدقائه من المستشرقين والمستعربين، وذلك عندما تفرغ للتجول في رحاب الشرق وكتابة تعليقاته وبحوثه التي ألحقها بالديوان دون أن يفقد نفسه أو يضيعها كما قال في القصيدة الأولى من كتاب الضيق وهي من أين أتيت بهذا؟ إن الشيء الرائع حقا هو أنه لم ينظر أبدا إلى أرقام هذا الحساب ولم يعتبر مادته الهائلة التي بدت كالبحر بغير شواطئ كأنها «معلومات» يزين بها شعره، أو زخارف يضفرها في مادته لتسحر القارئ وتدهشه أو «ليستعرضها» أمامه ويدل بها عليه (كما فعل بعض صغار الشعراء بعد ذلك في بلاده أو بعض الشعراء المجددين عندنا مع بداية حركة الشعر الحر أو شعر التفعيلة) لقد ظل موقفه من المأثورات الشرقية والغربية العديدة - التي انعكست عليه بظلالها وأسماء أصحابها والظروف التي أحاطت بها - هو موقف الإجلال والخشوع أمام كل ما انطوت عليه من حكمة وأصالة وتجارب واقعية أو متخيلة.
ولقد تقبلها كما هي عليه ولم يحاول أن يمسها أو «يغتصبها» لأغراضه الفنية، ولم يمارس عليها الفطنة والحيلة، ولم يهبط بها إلى مستوى الاستخدام الشخصي أو اليومي المعتاد، ولم يتلاعب بنيرانها وأنوارها ليطلق بها مهرجانا ملونا زائف البريق، ولم يختلق منها عملا فنيا مصطنعا لا يمكن في النهاية إلا أن يكون عملا متكلفا خاليا من نبض الحياة الصادقة. لقد استطاع بالخشوع المرح الصافي - إذا صح هذا القول! - أن يستوعبها في عالمه الباطني، شأنه في هذا شأن كل شاعر وفنان أصيل، فصارت حياة من حياته ونمت في داخله نموها الخاص ونضجت وأمكنه - حين دعته ضرورات الكتابة التي لا تنفصل عن ضرورات الحياة - أن يستدعيها ويستوحيها، أو يعبث بها ويداعبها، أو يرويها للمثل والاعتبار ومواجهة الأوغاد والحاقدين الصغار، أو يهيب بها لإثراء لحظته الحاضرة في السراء والضراء، دون أن يجد حرجا من اقتباس كلماتها الأصيلة اقتباسا حرفيا في كثير من الأحيان، ودون أن يؤثر ذلك في شيء على خصوصيته الفنية والأسلوبية، وخصائصه الشعورية والعقلية؛ لأنها قد صدرت عن شخصيته الموحدة الواثقة المتفوقة، بعد أن استوعبها كما قلت فأصبحت من مكونات عالمه الباطن لا مجرد «معلومات» أو «طرائف» وضع عليها يده أو وضعها في جرابه الثقافي (كما يفعل الصغار عندنا وعندهم كالحمير تحمل أسفارا تثقل على ظهورهم كما ترزح على ظهور تلاميذهم وقرائهم المظلومين).
علينا إذن ألا ننسى أن الديوان «شرقي-غربي» قبل كل شيء، مهما اكتشف القارئ الذكي المتعاطف بعد قراءته أو أثناءها أنه موجه «للإنسان» فيه أيا كان مكانه وزمانه - إن صاحبه يتجول فيه بأزياء مختلفة - كشاعر ألماني وتاجر شرقي، كمسيحي ومسلم، كتلميذ تعلم في مدارس الإغريق وفي معابد النار المقدسة للبارسيين من قدماء المجوس، كشقيق «لحافظ القرآن الكريم» ومريد لاسبينوزا ومذهبه في وحدة الوجود:
رائع هو الشرق
الذي تجاوز البحر المتوسط.
إن من يحب حافظا ويعرفه
هو وحده الذي يطرب لغناء كالديرون.
إنه يجوب الآن كل الأبعاد ولا يسير في اتجاه واحد كما كان يفعل من قبل، وهو يجدد شبابه بما يرى ويجرب فيتجدد معه العالم الذي استوعبه في عالمه الباطن، والعالم غني بوفرة هائلة من الأشكال المتعددة والثمار المتنوعة التي يحس نبضها في دمه ويراها بعينه ويسمعها بأذنيه ويلمسها - كشاعر دنيوي أو أرضي مطبوع - بكل حواسه، وهو ينتقل بينها وفيها وعلى فمه ابتسامة الشيخ وطيبته، وفي عقله ووعيه ذكاؤه ويقظته، وحتى إذا فرضت عليه الوحدة والتعاسة والصمت أن يبعد العالم عنه، فإنما يفعل ذلك لكي يجذبه إليه، لأنه خلق - كما يقول على لسان الحارس البرج لينكويس في فاوست الثانية - لكي يندهش من هذا العالم ويهتم بالحياة التي تنمو وتتشكل وتفور في كل شيء فيه من الحجر والنبات والحيوان إلى الإنسان.
ولكن كيف يقدم الحساب عن مئات السنين أو آلافها من حياة وتاريخ الإنسان والعالم والكائنات، ويبقى مع ذلك شابا؟ كيف يصور آلاف الأشياء الأرضية في الوقت الذي يعد فوقها قبة سمائه العقلية؟ إنه يبدو لنا - في كتاب الساقي مثلا - أكثر شيخوخة وأنضر شبابا مما هو عليه، وهو في كتب التفكير والحكم والأمثال يقدم من الحكم أكثر بكثير مما يمكن أن تتسع له أو تحصله تجربة إنسان واحد في حياة واحدة، وهو في كتب الحب - مثل كتابي العشق وزليخا بوجه خاص - يظهر أقل من سنه بكثير، ويشتعل بنيران الشوق والعذاب والنشوة والمتعة التي لا يتحملها كيان الكهل أو الشيخ.
وفي كتاب المغني وحده - وهو أول كتب الديوان في الترتيب الذي وضعه له - يبدو لنا التطابق الكامل بين التاجر الشرقي المتجول والشاعر الغربي المتجول، ولننظر في إحدى القصائد التي تركها بعد وفاته لنرى فيها مدى توحد العاطفة مع الصورة، بل مع الصور والأسماء التي تفوق الحصر:
دعوني أبكي، يحوطني الليل
في الصحراء الشاسعة،
الجمال راقدة، الرعاة كذلك راقدون،
والأرمني سهران يحسب في هدوء،
أما أنا فأرقد إلى جواره، وأعد الأميال
التي تفصلني عن زليخا، وأتفكر باستمرار
في الدروب الملتوية المزعجة التي تطيل الطريق،
دعوني أبكي، فليس هذا عارا،
إن الرجال الذين يبكون طيبون،
لقد بكى أخيل حبيبته بريزيس،
وأكسيركسيس بكى الجيش الغلاب،
والإسكندر بكى رفيق عمره الذي قتله بنفسه،
دعوني أبكي،
إن الدموع تحيي التراب،
وها هو ذا يخضر. (انظر شرح هذه القصيدة مع الشروح المخصصة للقصائد التي جمعت ونشرت بعد وفاة الشاعر.)
والقصيدة تزخر بمختلف الأسماء والشخصيات والأمكنة والاتجاهات، فالصحراء والجمال والرعاة العرب في جانب، وأخيل وبريزيس والإسكندر (الإغريق) وأكسيركسيس والأرمني
17 (الإيرانيان) في جانب آخر. والشاعر يستدعي هذه الأسماء والشخصيات والأماكن أمامه، وخياله المحلق وعقله الواضح - الشديد الاتزان والصفاء - يضمانها في وحدة واحدة، هي وحدة شخصيته وعالمه الظاهر والباطن، وهو يتأمل كل شيء على كل المستويات الممكنة، يصعد إليه بجناحي الخيال أو يسلط عليه أضواء العقل المتزن، وتبقى في كل حال هي أشياؤه ومكونات عالمه الشعوري والفكري والغني. وهو لا يصف الأشياء ولا ينتخب منها ما يلائم هذا العالم أو ما يزهو بتصويره ويخلق منه حلما شعريا، لأنه لا يغادر بخياله حدود عالم التجربة الواقعية والحسية أبدا، وإنما يمكن القول مع الشاعر أوسكار لوركه
18 (1884-1941م) إنه يجر معه الكرة الأرضية كلما كتب وحيثما اتجه، لكن عقله الناصع يرتفع دائما فوق هذه الكرة. وحين يمد قوسه الشعري الذي يصل الواقع الحسي والعملي بالمثال الأفلاطوني والفكرة الأفلوطينية، فهو يقيمه على الدوام فوق عمودين راسخين، هما التجربة الحسية الواقعية والمثال المطلق أو القيمة الكلية الشاملة، ثم ما قيمة الأزمان الكثيرة التي يجول فيها، كالفارس العربي فوق صهوة جواده لا يعلو عمامته إلا نجوم السماء كما يقول في قصيدة هجرة، ما قيمتها ما دام يضمها إلى بعضها في زمن واحد، أو بالأحرى في لحظة الحضور الأبدي الواحدة؟ وما قيمة الأسماء الكثيرة التي تتردد في الديوان من مختلف الشعوب والأجناس واللغات والحضارات ما دامت الأسماء - كما قال في فاوست - مجرد أصوات ودخان يحجب بالضباب وهج السماء؟ فليحشد إذن ما يشاء من أسماء في هذه القصيدة أو في غيرها، ولتنضم إلى الأسماء الشرقية والعربية العديدة أسماء آلهة وأبطال وأشخاص يونانيين أو مسيحيين: أورورا، وهليوس، وهسبيروس، وإريس، بجانب يسوع المسيح والقديسة فيرونيكا التي بللت منديلها بعرق وجهه وهو في طريقه إلى الصليب فانطبعت معالم الوجه المقدس على صفحة المنديل، ليغص في مياه الفرات أو في مياه الراين أو الماين، وليذكر اسم نابليون أو تيمورلنك، وليتغن بأشعار أجداده وآبائه وأمثالهم وحكمهم أو بأشعار حافظ وسعدي ونظامي، ليتغن باسم المتنبي أو المجنون أو كثير أو غيرهم وغيرهم. أليس الديوان هو الديوان الشرقي-الغربي؟ أليست الأزمان كلها زمنا واحدا، لا يحسب بالسنوات ولا الساعات والثواني، بل بالتجارب والرؤى والنبضات؟ وهل يحد الوجود الإنساني الحي بأصله الجغرافي، وهل تتقيد التجربة الواقعية الفريدة بالتاريخ المتسلسل؟ والشعراء الكثيرون من شرق وغرب، أليسوا في النهاية تجسيدات مختلفة «للشاعر » و«الشعر» على إطلاقه، دون أي مساس بخصوصية كل شاعر وخصائص كل شعر وما يتفرد به؟ أفلا يكون الكلام الكثير مما نتعارك حوله منذ سنوات عن صدام الحضارات وصراع الثقافات، واتهام الشرقي للغربي إلى حد التطاول الفج والإدانة الغوغائية العمياء في بعض الأحيان، وتحيز الغربي ضد الشرقي وتعاليه وغطرسته عليه انطلاقا من «مركزيته الأوروبية» الأنانية الضيقة الأفق ... إلخ. أفلا يكون هذا كله من منظور شاعر الديوان الشرقي-الغربي مجرد ثرثرة وفحيح غبي مسموم ومتخم بالأصوات والضوضاء والدخان؟ وهل كان سيتردد لحظة واحدة عن التأفف منه والترفع عنه واللجوء «لشرقه» الشعري الواحد النقي، والاعتصام من متعصبي وأغبياء زمانه وزماننا بعالمه الواحد الذي هو في النهاية عالم الإنسان في وحدته وشموله وصفاته؟ ألا ليتنا جميعا نتعلم من عقله الناصع المرح ومن نظرته الشامخة المترفعة كنظرة النسر. (4) أضواء على ترجمة الديوان
ونأتي أخيرا إلى ترجمة الديوان والطريقة التي اتبعتها فيها، مع التوقف قليلا عند ترجمة الشعر ومشكلاتها العسيرة التي لا تتسع لها هذه المقدمة المحدودة. وما دمنا نعيش في صحبة جوته ونحاول أن نقترب من عالمه، فلنبدأ حديثنا عن الترجمة بالنظر فيما قاله عنها في فقرة من تعليقاته وأبحاثه التي ألحقها بالديوان تحت عنوان «الترجمات»، ولنذكر في كل الأحوال أنها تنطوي على نظرات شاعر كبير (مارس الترجمة أحيانا عن ديدرو وبنفينيتو تشلليني وتأبط شرا وغيرهم، كما كادت بعض قصائده القصيرة في الديوان أن تكون ترجمات حرفية لأصول فارسية وعربية) وهي نظرات نافذة وهادية ومحيطة، وقد سبقت بما يزيد على قرن من الزمان الاهتمام الحديث بالترجمة التي أصبحت علما واسعا له أصوله وقواعده والمتخصصون فيه.
حدد جوته ثلاثة أنواع من الترجمة، تبدو أشبه بالسلالم المتدرجة من الأدنى إلى الأعلى:
فالنوع الأول يعرفنا بالأجنبي عنا بما يوافق إحساسنا الخاص (وينطبق عليه ما نسميه نحن بالتعريب الذي بدأ مع رفاعة رافع الطهطاوي في ترجمته لفنيلون، وازدهر في أواخر القرن الماضي والعقود الثلاثة الأولى من هذا القرن. وإذا كان جوته يقول إن أفضل أمثلة هذا النوع هي الترجمة النثرية الخالصة، فقد غلب النظم على معظم ما تم تعريبه عندنا مثل الإلياذة للبستاني وبعض مسرحيات شكسبير التي تم اقتباسها مع بداية النهضة المسرحية والغنائية). وتأتي بعد النوع الأول - الذي كان أشبه بتمهيد الطريق للدخول في العمل الأجنبي بكل خصوصياته المميزة - مرحلة أخرى تقوم فيها الترجمة بوضعنا في ظروف النص الأجنبي وأحواله، وإن بقي كل همها منحصرا في استيعاب الحس الأجنبي والتعبير عنه بعد ذلك تعبيرا يلائم الحس القومي. أما النوع الثالث، فهو ذلك الذي يسعى للتوحد بالأصل والتطابق أو التكافؤ معه بحيث يمكن أن يغني عنه. وقد كان جوته يعني بذلك الترجمات الشعرية للأصول الشعرية (كما فعل في عصره المترجم المشهور يوهان هينريش فوس (1751-1826م) لملحمتي هوميروس) بدليل أنه في سيرته الذاتية شعر وحقيقة (3-11) ينصح بتقديم الترجمات النثرية للشباب، ويرى أنها أيسر عليهم من الترجمات الشعرية وأنسب لتربية أذواقهم.
والواضح من كلام جوته أنه ينشد تحقيق المثل الأعلى لترجمة الشعر، وهو التطابق مع الأصل إلى حد التوحد معه.
19
يؤكد هذا ما يقوله في إحدى حكمه (وتحمل الرقم 1056 من مجموعة حكمه وتأملاته) من أن على المترجم أن يقترب مما يستعصي على الترجمة، عندئذ يمكننا أن نفهم الأمة الأجنبية واللغة الغريبة علينا، ولو سألناه عم يقصده بما يستعصي على الترجمة، وهل ندخل بذلك في منطقة صوفية تعجز فيها اللغة وتقف خرساء عند حدود ما لا يقال، لأجابنا بقوله: إن معناه ألا يدخل المترجم في عملية مبارزة مع اللغة الأجنبية؛ لأن في هذه اللغة صورا وصيغا وتعبيرات وتركيبات تتعثر اللغة المتلقية في أدائها وتعجز عن الوفاء بجوانبها الصوتية والتشكيلية والجمالية .
وعلى المترجم أن يحترم هذا الذي تتعذر ترجمته فيبتعد عن المعاظلة معه، وإرغامه على الدخول في قوالب مقحمة عليه وعلى إيقاعاته الأصلية؛ إذ ينبغي في هذه الحالة الاكتفاء بالاقتراب منه، وإشعارنا بأنه ينتمي إلى العبقرية الخاصة بلغة المصدر وعالم مشاعرها وأنماط التفكير فيها وإيماءاتها وظلالها وقيمها الموسيقية والمعنوية التي تنفرد بها عن غيرها من اللغات. وأحسب أنه سيفضل في هذه الحالات - التي تتعذر فيها الترجمة الموفقة التي تتوصل إلى نقل الأصل في نسق نغمي قريب من نسقه، أو التي لا تتوافر فيها للمترجم حساسية الشعر المبدع وأصالتها مع الالتزام الكامل بالدقة والأمانة الموضوعية، أقول إنه سيفضل في هذه الحالات ترجمة الشعر إلى نثر شاعري بسيط ينقل لنا روح القصيدة الأصلية وإن عجز عن نقل موسيقاها وإيقاعاتها (على نحو ما حدد ذلك في النوع الأول من أنواع الترجمة).
من هذا المفهوم للترجمة الشعرية الذي يصح أن نسميه المفهوم الرومانسي - على الرغم من زعم الرومانسيين مثل شيللي وغيره، ومن قبلهم الجاحظ في عبارته المشهورة في الحيوان بأن الشعر لا يترجم! - من هذا المفهوم يتحتم على المترجم أن يتغلغل في روح النص وروح صاحبه، وحبذا لو أمكنه أن يفنى فيه ويتقمصه تقمص الأرواح كما يقول شوبنهور، أو يتلبسه كما يقول طه حسين في مقدمته لترجمة المرحوم محمد عوض محمد للقسم الأول من فاوست. هنالك يمكنه أن يتجاوز المؤلف الأصلي فينجز ما كان يريده أو ما كان ينبغي عليه أن ينجزه. والغريب أن جوته قد صرح بأنه فعل هذا في الترجمات التي قام بها بنفسه، وإن كان قد تحفظ على عادته فلم يزعم أنه أمر جائز في كل الأحوال (غير أن الواقع والحقيقة يشهدان بأن ترجمته لرواية ديدرو «ابن أخت رامو» كانت ترجمته بطيئة الأسلوب ثقيلة الإيقاع ولم تنجح أبدا في إعادة إبداع الأصل، كما نقول اليوم، حتى بصورة تقريبية!) والمهم على أية حال أن شاعر الديوان قد استطاع بثاقب بصره أن يستبق ما يقوله اليوم بعض علماء الترجمة الأدبية وأصحاب فلسفة التأويل أو التفسير (الهيرمينويطيقا) من ضرورة الانصهار في النص الأصلي؛ أي التعاطف معه واستشعار روحه وقراءة ما بين سطوره أو ما تحتها لإبراز مكنونه الذي ربما يكون المؤلف قد أغفله أو اضطر إلى إغفاله والسكوت عنه لأسباب شخصية أو اجتماعية وسياسية مختلفة.
هكذا ترى أن ترجمة الشعر أشبه بالمخاطرة في أرض حرام، في منطقة غامضة تقع بين الإنشاء والإبداع الخالص (الذي يمكن أن «يخون » الأصل مهما تكن الخيانة خلاقة ومبدعة، كما حدث في المثل المشهور الذي يساق في هذا الصدد، وهي ترجمة فيتزجيرالد لرباعيات الخيام في شعر بديع أثرى به التراث الشعري الإنجليزي على حساب الدقة والوفاء بالأصل الفارسي!) وبين النقل الحرفي الدقيق والأمين مع القدر الواجب من الحساسية التي تتوقف في كل حالة على موهبة المترجم وذوقه ورهافة حسه، والسبب في ذلك كله بسيط: فالترجمة الأدبية، وترجمة الشعر بخاصة، تحاول إعادة إبداع عمل سبق إبداعه، ولا عجب أن تقع بدرجة متفاوتة في دائرة «الاستحالة» أو حتى «الخيانة» - كما سبقت الإشارة لذلك ولا بد من القول باختصار - ربما لتبرير محاولتي لترجمة الديوان الشرقي، ومحاولات أخرى سبقتها في ترجمة مئات القصائد من الشعر الشرقي والغربي القديم والحديث! لا بد من القول بإن التاريخ يشهد على حقيقة لا شك فيها، وهي أن جميع الشعوب في جميع الحضارات قد ترجمت عن بعضها البعض نثرا وشعرا. ويكفي أن نذكر في هذا الصدد تلك الألواح التي تعرف عند علماء الآثار والتاريخ القديم بألواح تل العمارنة - وهي مدينة أخناتون القديمة بالقرب من مدينة المنيا - التي تنطق بأن المصريين القدماء - على الأقل في الدولة الحديثة - كان لديهم ما يشبه أن يكون مركزا لترجمة الرسائل وغيرها من الوثائق البابلية والآشورية المكتوبة بالخط المسماري، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يعثر العلماء بين هذه الألواح على كسر أو شذرات من ملحمة جلجاميش البابلية الشهيرة.
لن أسترسل أكثر من هذا في الكلام عن مشكلة ترجمة الشعر التي يمكن أن يرجع القارئ إلى تفصيلاتها الدقيقة في مواضع أخرى أشرت إلى أحدها في هامش سابق، ولهذا سأنتقل للإجابة عن السؤالين اللذين يخطران على بال القارئ في هذا السياق: ما الطريقة التي التزمت بها في ترجمة قصائد الديوان؟ وما الداعي لإعادة ترجمتها بعد أن قام بهذا العمل رائد جليل وأستاذ عظيم قبل ثلاثين سنة؟
أما عن السؤال الأول:
فأقول باختصار إنني اتبعت الأسلوب الذي سرت عليه في ترجماتي السابقة للأعمال الشعرية، وهي الترجمة النثرية الدقيقة والأمينة بقدر الطاقة مع حروف النص وروحه، وقد احتشدت لها بكل ما استطعت وما تعلمت من خبرتي المتواضعة من حساسية للنص الأصلي، تبلغ حد احتضانه والفناء فيه والتخلي بقدر الإمكان عن إقحام الذات الشخصية والجماعية عليه بتركيباتها وصيغها الموروثة، وكأني أحاول في كثير من الأحوال أن أترجم بدءا من «حالة الصفر» التي طالب بها «رولان بارت» في الكتابة، ومع أنني لا أتردد عن الاعتراف بتشككي في مدى حظي من التوفيق، لا سيما في القصائد التي لجأت فيها إلى نوع من التقفية أو التسجيع لمحاولة الإيحاء بالنغم والجرس الأصلي في إيقاعاته وقوافيه الرائعة التي قد تبلغ حد الإعجاز في كثير من الأحيان، فقد وضعت كل زيادة أضفتها من جانبي بين قوسين - حتى أخفف من الجناية الحتمية على جمال الأصل! - كما لجأت أيضا في بعض الأحوال إلى إضافة كلمات أو سطور وضعتها كذلك بين قوسين، وذلك توخيا للوضوح والإفهام والسهولة التي راعاها جوته نفسه ووضعها في مصاف المبادئ التي طبقها على إنتاجه الضخم، ولم يستثن منها شعره أيضا كما سبق القول (على الرغم من أن الشعر دائما - بما في ذلك شعره - لا يخلو من قدر ضروري من الغموض الذي يشبه السحابة التي تلف الشمس أحيانا وإن كانت توحي دائما بوجودها) أما القصائد التي أعترف بأنها فرضت علي أن أنظمها شعرا (ولا أقول أن أبدعها)، فهي لا تزيد في عددها على حوالي الثلاثين قصيدة طويلة وقصيرة. وأعترف للقارئ بأنني توخيت الأمانة الكاملة في نقلها، ولم أخرج أحيانا عن الأصل إلا في أضيق الحدود، وعذري على كل حال أنها هزت في النفس جذور شاعرية قديمة، قطعت شجرتها بنفسي في أول الشباب عندما تأكدت في لحظة صدق أنني لا أملك أصالة الشاعر الحقيقي، ولذلك اتجهت للسير على طرق أخرى كالفلسفة والقصة والمسرح، وصحبتني فيها مع ذلك أو طاردتني روح الشعر التي ظلت تسكن العظم واللحم وتتحكم في أسلوب وجودي كله.
وأما عن السؤال الثاني:
فالرد عليه أبسط من سابقه، فالمعروف أن الأعمال الأدبية الكبرى تحتمل في كل اللغات أن تترجم ترجمات مختلفة. ولو فكرت في روائع عالمية مثل أوديب وهاملت وفاوست وغيرها، لوجدت لها في كل اللغات، وفي لغتنا أيضا، ترجمات عديدة، وطبيعي أن تتفاوت هذه الترجمات في حظوظها من الجودة والدقة والحساسية والوفاء بجماليات الأصل؛ لأن الوفاء الكامل بمستويات النص الأصلي المتعددة، أي التطابق أو التكافؤ معه إلى حد التوحد أمر مستحيل في أي لغة وفي أي ترجمة كما سبق القول مرارا. وإذا كان الديوان الشرقي-الغربي هو أحد الروائع التي أراد لها صاحبها أن تكون كتابا للبشرية، وتمنى على القارئ أن يحبه ويتعاطف معه ويجرب تجربته الرحبة في سماحتها وإنسانيتها وشمولها، فمن الطبيعي أن يكثر عدد مترجميه في كل اللغات، وأن يختلف فهم المترجمين وتفسيرهم للنص وتجربتهم له باختلاف شخصياتهم وخبراتهم وقدراتهم ومواهبهم. ومن هذا ترى أن ترجمتي لا تحل «محل» ترجمة أستاذي الجليل عبد الرحمن بدوي ولا تلغيها ولا تدعي لحظة واحدة أنها أفضل منها، كما أن أي ترجمة ممكنة في المستقبل لن تلغي أيضا هذه الترجمة أو تقوم مقامها، وإن كان من حقها أن تزعم أنها تلافت أخطاءها أو تفوقت عليها بشكل من الأشكال. والأمر متروك في كل الأحوال للقارئ الذي يمكنه - بطبيعة الناقد الكامنة فيه! - أن يقارن بين الترجمات ويتذوق منها ما يشاء ويدع ما يشاء، ولا بد من الاعتراف مرة أخرى بأن هذه الترجمة تدين بالفضل العميم لترجمة أستاذنا الجليل، وأنها أفادت من عدد ضخم من سطورها - إلى حد «النقل الحرفي» لها في بعض الأحيان - ومن شروحها القيمة المستفيضة وتتبعها للأصول العربية والفارسية والتركية التي نهل منها شاعر الديوان إلى حد الترجمة الحرفية في بعض الأحيان (عن ترجماتها المتيسرة له في لغات مختلفة) مع الحرص على الإحالة إليها بصفة مستمرة، وعدم الإسراف في ذلك التتبع؛ لاقتناعي بأن غيري من الإخوة المتخصصين في الآداب واللغات الشرقية أقدر مني على مراجعة تلك الأصول نفسها وتحديد مدى التأثر والتأثير في كل حالة على حدة، وهو الأمر الذي نتمنى أن يشاركوا فيه في المستقبل القريب بإذن الله.
وأخيرا:
فقد عدلت عن ترجمة التعليقات والأبحاث التي تعين على فهم الديوان الشرقي، واكتفيت منها بما قاله جوته نفسه فيها للتعريف بكتب الديوان. ومع أن هذه التعليقات هي أهم عمل تاريخي كتبه جوته بعد كتابه عن تاريخ نظرية الألوان، ومع أنه قدم فيه لوحة حضارية شائقة فتحت لمعاصريه الأبواب لدخول عالم الشرق الغريب عليهم في ذلك الحين، بجانب ما فيها من آراء نقدية هامة عن فن الشعر وعن الدين وطغيان الحاكم الشرقي وتصدي الشعراء لاستبداده بالاتزان والثقة بالنفس والصبر مقابل رعايته لهم (كما فعل هو نفسه في علاقته بأمير فيمار وبغيره من الأمراء والنبلاء!) فإن معظم المعلومات التفصيلية الواردة فيها قد تجاوزها البحث العلمي الحديث عن الشرق الفارسي والعربي وشعرائه، كما أنني أخذت منها (أي من تلك التعليقات والأبحاث) كل ما يساعد على تذوق قصائد الديوان نفسها في الشروح التي ألحقتها بترجمتي، وتعمدت فيها أن أضع أشعار الديوان في سياق علاقتها الوثيقة بأشعار جوته السابقة أو اللاحقة وبسائر أعماله الأخرى على قدر الطاقة.
وإذا كان الأوان قد حان لتقديم باقات الشكر والامتنان والعرفان لأصحابه، فليس أحب إلى نفس كاتب هذه السطور من تقديمها مع كل التقدير والوفاء لأستاذيه اللذين علماه وساعدا بأطيب وأوفى نصيب في تكوينه، وهما أستاذه العربي الجليل عبد الرحمن بدوي، وأستاذه الألماني العزيز فريتس شتيبات الذي رعاه وأسبغ عليه طوال العمر من أفضاله ما تضيق اللغة عن التعبير عنه، ولهذا يختم كتابه بما بدأه به من الشكر والولاء العميق له، مضيفا بعد مرور ما يقرب من عشرين سنة على الإهداء الأول، أصدق تمنياته القلبية بأن يتجاوز الأزمة الصحية الأخيرة، وأن يتلقى هذا الكتاب عن قريب، وهذا أوفر ما يكون صحة وعافية وسعادة.
أما أنت يا قارئي الكريم، فأتمنى أن تحب هذا الكتاب كما أحببته، وأن تصادقه وتستمتع بصحبته وتعايشه وتعيش معه.
عبد الغفار مكاوي
نحن والأدب العالمي
لعل قضية «العالمية» أن تكون من أهم القضايا التي شغلتنا في السنوات الأخيرة، فنحن نكثر من الحديث والكتابة عنها في كل مجال مقروء أو مسموع. نتساءل - إلى حد تعذيب النفس! - بأصوات تمتزج فيها الحسرة والأسى باللهفة والتمني: كيف يكون لنا أدب وفن وعلم وفكر يعترف به العالم؟ متى تصل أغانينا وموسيقانا إلى سمع الناس في كل مكان؟ ما السبيل إلى التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، والتقليد والتجديد، والمضمون المحلي والشكل العالمي؟ كيف نتيح لأمم العالم أن تلمس نبض قلوبنا ووجداننا، وتطل على حركة عقولنا وأفكارنا بنفس القوة التي تتابع بها كفاحنا العادل في سبيل التحرر والتقدم؟ هل سيقدر لنا أن نعيش حتى نرى العالم يهتم بطه حسين والحكيم ومحفوظ وحسن فتحي وسيد درويش وعبد الوهاب وغيرهم من الأسماء والمواهب العزيزة علينا، كما يهتم بأخناتون وتوت عنخ آمون ورمسيس الثاني؟ وكيف نصبح أمة تعطي بقدر ما تأخذ، وتشارك في حضارة العصر بقدر ما تتلقى منه؟
وربما كانت الترجمة هي أول ما يخطر على البال في هذا المقام، بشرط أن نفهمها بمعناها الحضاري الواسع الذي يقترب مما نسميه اليوم بالانفتاح. فهي الجسر التي تعبر عليه الأمم وتتلاقى، وتمتد منه دروب التعارف والتفاهم والاحترام المتبادل. فعل هذا أجدادنا العرب منذ عهد المأمون وخلفائه أو قبله بقليل، فاتصلوا بتراث اليونان والفرس والهند والأمم السامية وبعض الأمم المتأثرة بالثقافة اللاتينية في إسبانيا، ونتج عن هذا الاتصال «هذا الأدب العربي المختلف المعقد، الذي تجاوز الشعر والخطابة والرسائل إلى فنون من العلم والفلسفة، وألوان من المعرفة تشبه ما كان العالم يعيش عليه في القارات الثلاث، بين حروب الإسكندر وقيام الدولة العربية.»
1
ولم يكتف العرب بالنقل والتقليد، بل تمثلوا ما نقلوه، ولم يكتفوا بالإعجاب به والتحمس له، بل وقف بعضهم منه موقف النقد والرفض، أو أضافوا إليه بصمات من روحهم وشخصيتهم وحوارهم المستمر مع مشكلات عصرهم ومجتمعهم ودينهم. واستؤنف الاتصال بين العالم العربي والعالم الأوروبي في أواخر القرن الثامن عشر، وقوي واشتد في القرن التاسع عشر على يد أب التنوير ورائد الترجمة وراعيها الأكبر رفاعة رافع الطهطاوي ومئات من تلاميذه، واستمرت على يد الرواد المحدثين، وتجلت في مئات الكتب التي نقلت عن مختلف اللغات قديمها وحديثها، وكلها تؤكد حاجة عقولنا إلى الروافد التي تصب فيها وتغذيها، كما تؤكد ضرورة توحيد جهود الترجمة وإحكام مناهجها، وتحديد أهدافها، واختيار الملائم منها لظروف حياتنا وتطورنا، وتوجيهها قبل كل شيء إلى عيون التراث الإنساني وأمهاته التي تخصب العقل العربي وتزيده وعيا بذاته، وتعصمه من التقليد الأعمى والانبهار بكل جديد. وعلى الجانب الآخر نجد تأثير العرب على تكوين العقل الغربي منذ أواخر العصر الوسيط. وكتب تاريخ العلم والحضارة تشهد بتأثيرهم على النهضة الأوروبية الأولى والثانية وفضلهم على الغرب المسيحي في الاتصال بجذور العلم والفلسفة اليونانية قبل التعرف على أصولها ونقلها عن منابعها. فقد بدأ تأثير العلم العربي على الغرب منذ القرن العاشر الميلادي. وانطلق هذا التأثير من الأندلس بفضل ما نقله العرب من التراث الإغريقي في الفلسفة والعلوم الطبيعية والرياضيات والفلك والطب.
2
وفي الأندلس تعلم جربرت الذي رعى هذا العلم (وأصبح فيما بعد الباب سلفستر الثاني ومات سنة 1003م).
وازدادت حركة الترجمة اللاتينية عن الكتب العربية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، فترجمت معظم مؤلفات أرسطو وشروحها. وازدهرت هذه الحركة مع بداية تأسيس الجامعات الأوروبية في ساليرنو، وبولونيا، وأكسفورد، وباريس. ثم ارتفعت موجتها في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، مع الحروب الصليبية التي زادت من احتكاك الغرب بحضارة بيزنطة والحضارة العربية في آسيا الصغرى والشام. ويكفي أن تفتح أي كتاب عن فضل العرب على الغرب لتقرأ فيه عن العلماء الذين عاشوا في بلاط فردريك الثاني في باليرمو (صقلية) وعن أثر أرسطو «العربي» على يوحنا دنس سكوتس وألبرت الأكبر وتوماس الأكويني . وكم من مؤلفات علمية وفلسفية فقد أصلها اليوناني فنقلها الغربيون من العربية إلى اللاتينية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وقبل أن يرجعوا إلى هذه الأصول نفسها ابتداء من القرن الخامس عشر.
ولم يقصر الغربيون أيضا منذ مطلع العصر الحديث في نقل بعض آثار التراث العربي قديمه وحديثه. ويكفي أن نذكر - بعد القرآن الكريم وألف ليلة وليلة - بعض ما نقلوه عن العربية إلى اللاتينية أو إلى لغاتهم الحديثة، مثل كتب الفلاسفة العرب كالشفاء لابن سينا، ومقاصد الفلاسفة، والمنقذ من الضلال للغزالي، وتهافت التهافت لابن رشد، وحي بن يقظان لابن طفيل، وطوق الحمامة لابن حزم، وبعض مقامات الحريري، ومقدمة ابن خلدون، وبعض آثار الحلاج وابن عربي وغيرهما من المتصوفة، وألوان من الشعر العربي من المعلقات وحماسة أبي تمام حتى البارودي وشوقي ومطران وأدونيس والبياتي وعبد الصبور، وألوان أخرى من النثر الحديث من جبران وطه حسين وتيمور والحكيم ويحيى حقي ونجيب محفوظ حتى الشرقاوي ويوسف إدريس والسباعي وإحسان عبد القدوس والشاروني وغيرهم من مواهب الجيل الجديد.
بيد أن الترجمة ليست إلا الخطوة الأولى على الطريق إلى ما نسميه الأدب العالمي؛ إذ لا بد من تمثل لآثار الأجنبية واستيعابها حتى تصبح جزءا من تكوين الوجدان الثقافي، ثم الانتقال إلى مرحلة أرقى ما يمكن أن نصفها بأنها استلهام هذه الآثار وإعادة صياغتها في أعمال بعيدة عن الالتزام بتلك الأصول، بحيث تسهم الأعمال الجديدة التي ينتجها المبدعون في إيجاد الهوية الأصيلة. ولا بأس علينا من هذا التأثر والاستلهام والاتصال الحميم، فكل أديب خليق بهذا الاسم يأخذ ويعطي ويتلقى الثروة من كل وجه ويؤكد صدق مقولة «التناص» التي يكثر الكلام عنها هذه الأيام. والمهم أن يحتفظ الأدب بشخصيته ويحرص على مقوماته ويحسن الموازنة بين عناصر الثبات والاستقرار وعناصر التحول والتطور.
3
وربما كانت مرحلة الاستلهام الحر هذه - التي تتلوها بغير شك مرحلة الإبداع المستقل بغير تأثر مباشر بعناصر غريبة، وبغير شعور بالنقص نحو النماذج الراسخة - هي الجسر الآخر الذي عبرت عليه كل الآداب القومية إلى شاطئ العالمية ، فاستطاعت عن طريق المحاكاة الحرة أن تتعرف على ذاتها وطاقاتها الخاصة قبل أن تضيف ما أضافته من كنوز إلى الرصيد الإنساني. وفي ظني أن هذه المرحلة الوسطى هي التي نمر بها اليوم، وأنها وراء عدد كبير من محاولاتنا وتجاربنا الحديثة في الأدب والفن والفكر والعلم لتأصيل شجرة ذاتيتنا بحيث تتصل جذورها بتراثها القومي، وتشرئب فروعها نحو آفاق العالمية. وطبيعي أن يوفق أقل هذه الجهود وأن يتعثر معظمها، فليس أشق على الأفراد والشعوب من معرفة النفس، وليس أولى منها بالصبر والصدق والتضحية. وأخطر الأعباء التي تواجه هذه المحاولة هي أن يتعاون المخلصون في رعاية تلك الشجرة، ويحموها من حشرات التطفل والادعاء والتسرع والاستعراض، مهما اشتد طنينها وارتفع صياحها وضجيجها كما هي الحال للأسف اليوم على الأرض العربية. والمهم أن نعمل بكل وسيلة لكي نزداد قربا من كنوز التراث الإنساني، ونقبل عليها بنفس الحب والشغف والصبر الذي نقبل به كنوز تراثنا؛ لأنها في النهاية ملكنا نحن أيضا بوصفنا بشرا، كما أننا قد شاركنا في تكوين بعضها مشاركة فعالة. والمفارقة الغريبة في أمر الاتصال الحضاري والثقافي بين الشعوب هو أنه كلما استمر وازداد قوة، أصبح التقليد الخالص أمرا نادرا بل لا يليق إلا بالقرود، فكل ما استعاره الإغريق مثلا من حضارات الشرق الأدنى حولوه إلى شكل جديد أصيل. والنقاد العرب القدماء نصحونا بالحفظ ثم محو ما حفظناه بالنسيان؛ حتى لا نصبح كالمهرجين، ولا نزهو بثياب غيرنا وننسى مع الزمن أنها ليست ثيابنا، وهي نصيحة تقوم على خبرة عميقة بالنفس البشرية، وبصيرة نافذة إلى أسرار الخلق، ولأضرب الآن مثلا على استقبال الأدب العالمي من جانب الشعوب المختلفة على مر العصور، وليكن هذا الأدب هو الأدب اليوناني القديم الذي لا يختلف اثنان حول مكانته من الآداب الكبرى. هذه المكانة تحددها في المقام الأول حقيقة بسيطة تقول إن أهم الفنون والأنواع الأدبية (كالمأساة والملهاة إلى جانب الأشكال الرئيسية في الشعر الملحمي والغنائي) قد نشأت في بلاد اليونان قبل أن تنتشر في سائر أنحاء الأرض. وقد تم انتشارها في معظم الأحوال عن طريق الأدب الروماني، كما حفظتها مدارس الرهبان بعد سقوط الدولة الرومانية وانتشار المسيحية، وظلت تلهم الكتاب والأدباء (خصوصا في ألمانيا وإنجلترا وإيطاليا التي امتدت منها إلى إسبانيا وفرنسا) منذ العصر الوسيط وعصر النهضة والنزعة الإنسانية حتى يومنا الحاضر، بحيث لا تكفي القوائم الطويلة لإحصاء الأسماء التي تناولت موضوعات هذا الأدب ومواده وأشكاله في مختلف العصور والظروف وشتى الصور والأساليب، ولا تكفي الصفحات لبيان تأثير النماذج اليونانية، سواء على الأدب أو على تكوين الإنسان الجديد منذ عصر النهضة. صحيح أن الاقتداء بهذه النماذج كان يتراجع في بعض العصور - كما حدث في القرن التاسع عشر مع الحركة الرومانسية والواقعية - ولكنه لم يختف أبدا كل الاختفاء. ولم يزل الأدباء وكتاب المسرح - خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية - يحركون أوديب، وأورست، وأنتيجون، وأمفتريون، وألكترا، وميديا، وهرقل ... إلخ على خشبة المسرح ليروا مشكلات واقعهم الجديد بعيون جديدة. ويطول بنا الحديث لو تقصينا هذا التأثير في المسرح والشعر والرواية والنقد والتمثيلية الإذاعية والأوبرا والباليه ... إلخ، وحسبنا أن تأثير الفن والأدب القديم ما زال حيا، وأن دعوة طه حسين لدراسة هذا التراث وإحيائه لا تزال دعوة ملحة تهيب بنا للإقبال على قراءته واستلهامه ونقده والحوار معه ومع غيره من آداب الشرق والغرب (بشرط ألا ننسى الأرض التي تقف عليها لحظة واحدة؛ لأن الاتصال بالتراث الأجنبي يفترض قبل ذلك المعرفة بتراثنا الشعبي والفصيح، حتى «تتحاور» الروافد والأنهار، ولا يصب الماء الغريب في حفرة فارغة!) ولا شك أن هذا سيكون عونا لنا على تعميق قضايانا ومشكلات واقعنا الأدبي والاجتماعي، ومد طاقاتنا الإبداعية بدماء جديدة تحيي شبابها الذابل المكتئب.
الحديث كما قلت ذو شجون وشجون. وقد ظهرت عندنا مكتبة كاملة عنه، وأقلها يسجل الحقيقة العلمية، وأكثرها يميل إلى الزهو الكاذب وتعزية النفس بماض لا نعرفه ولا نستحقه عن حاضر لم نستوعبه ولا نريد أن نواجهه. ولكنني أردت أن أمهد به لتقديم مثل حي للاستلهام الحر الذي قصدته، وصاحبه هو شاعر الألمان الأكبر جوته (1749-1832م) ورابع القمم العليا في الأدب الغربي بجانب هوميروس ودانتي وشكسبير. لقد استطاع هذا الشاعر الغربي أن يستوحي عالم الشرق الإسلامي وشعراء من فرس وعرب، ويقدم إلى تراثه القومي والتراث الإنساني كنزا شعريا يتألق بين كنوزه، كما يسطع بين أعماله الأدبية المتنوعة، بحيث يعد - إلى جانب قصيدته الكبرى فاوست - أكثرها تعبيرا عن شخصيته وتجربة حياته في الحكمة والحب.
ونحب أن نتوقف قليلا لنسأل: ما المقصود بالأدب العالمي ؟
ويرجع الفضل لأديب الرومانسية وناقدها «أوجست فيلهلم شليجل» (1767-1845م) في صياغة هذا المصطلح الذي نشره جوته وروجه بين الناس بعد أن طبقه على نفسه، وهو يصدر عن الإيمان بأن الآثار الأدبية الكبرى تتخطى حدود الأمم والحضارات التي نشأت فيها وتكتسب دلالة عالمية. ولا يعني «الأدب العالمي» الاهتمام بالأجنبي أو الغريب عنا لغرابته، وليس معناه كذلك الالتفات إلى القيمة «الوثائقية» للإنتاج العالمي وكأنه شاهد على مجتمع معين في موقف تاريخي معين، كما أنه لا يستتبع بالضرورة إنكار الطابع القومي وطمسه في «عالمية» وهمية شاحبة مجردة، فالأهم من هذا كله هو الاعتراف بأن الأعمال الفنية العظيمة تخاطب الناس جميعا بصورة مباشرة عندما تصوغ التفكير والإحساس بالواقع الإنساني في أشكال عامة الصدق تعبر عن سر عظمتها، بهذا يكون الأدب العالمي أبرز وأسمى مظاهر الوعي بأن عالمنا الذي نعيش فيه أسرة بشرية متعددة الأفراد والملامح والصفات، هو في الحقيقة عالم واحد يبنيه جنس بشري واحد يتجه نحو مصير مشترك، وتعذبه هموم وآلام مشتركة، مهما تصور المتعصبون والمهيمنون والمستغلون اليوم غير ذلك.
وطبيعي أن تعمل الأمم المتحضرة على نقل هذا المفهوم من التجريد إلى التحقق الحي، فتحاول - عن طريق ترجمة روائع الأمم الأخرى نشرها وعرضها ومناقشتها وإذاعتها على الناس تمهيدا للتأثير بها واستلهامها - أن تتعرف على شخصية تلك الأمم وقيمها الثقافية لتفهمها فهما أفضل، وتدعم روابط التسامح والتفاهم بين البشر. صحيح أن كل شعب سيجد عند الشعب الآخر شيئا يقبله وشيئا يرفضه، شيئا يمكنه أن يحاكيه وشيئا ينفر منه. ولكن هذا سيؤدي في النهاية إلى نمو الاحترام والثقة المتبادلة، لأن وراء الخصائص الثقافية القومية في إنتاج الأدباء العظام عند كل الشعوب قيما إنسانية عامة، تسطع كالمنارات فوق بحار الاختلافات الناشئة عن تنوع البيئة واللغة والتراث واختلاف المصالح والاتجاهات والغايات. ورسالة الأدب العالمي هي رعاية هذه القيم والتنافس النبيل في إحيائها ونشرها، بحيث تصبح ملكا عاما للإنسانية كلها، دون أي مساس بخصوصيتها وهويتها الفريدة. وربما تسرب إلينا اليأس كلما فكرنا في أن الأدب والفن لم يمنعا حربا ولا عدوانا، ولكن القليل من التفكير يمكن أن يهدينا أيضا إلى أنه كان في فترات تاريخية معينة (كما حدث مثلا بعد الحرب العالمية الثانية) من أهم عوامل التقريب بين شعوب تأصلت العداوة في نفوس أبنائها زمانا طويلا بفعل الجهل والتعصب والأحكام المسبقة. ولا ننسى أن الأديب إنسان ومواطن في وقت واحد، ولكن وطن فنه وإبداعه وتأثيره هو الحق والخير والجمال الذي لا يتقيد بوطن، ولا يقتصر على شعب دون شعب. وقد حقق الأدب اليوناني القديم هذه الغاية، فكان الأساس الذي ارتفعت فوقه الحضارة الغربية في العصور الوسطى، ثم في عهد النزعة الإنسانية وعصر النهضة، وما زال حتى اليوم عماد كل ثقافة حقيقية. واستطاع الأدب العربي أن يحمل لواء الأدب الإنساني والعقل الإنساني طوال عشرة قرون، فلم يكد يتقدم القرن الثاني للهجرة حتى استطاعت اللغة العربية أن تسع آداب الهند وفلسفة اليونان وثقافة الفرس، وظلت حية مسيطرة على نحو ما رأينا حتى أحيت العقل الأوروبي فيما يسمى بنهضته الأولى في القرن الثاني عشر، نتيجة اتصاله بالعرب ونقل ما استطاع نقله عن الكتابة العربية.
وقد كان للحركة الرومانسية الألمانية أكبر الفضل في إحياء فكرة الأدب العالمي، فاهتمت بجمع الأدب الشعبي، كما اهتمت باللغات الشرقية ونقلت عنها وحاكت بعض نماذجها (كما فعل بعض شعرائها مثل «بلاتن» و«ركرت» عندما قلدا شكل القصيدة الغزلية عند الفرس والعرب، حتى لقد ذهب ركرت إلى ترجمة تسع مقامات للحريري بالسجع الألماني!) ولا شك أن النظر في مجموع المؤلفات الأدبية المترجمة إلى أية لغة (وهو ما لا نزال نفتقده بصورة دقيقة شاملة في لغتنا) يمكن أن يكشف عن تطور الأسلوب الأدبي في هذه اللغة، وعن وعيه بإمكاناته، ومدى استفادته من الاتصال بآداب الشعوب الأخرى والتأثر بها سلبا أو إيجابا، بل لعله أن يلقي الضوء على تطور العقول وتنوع الاتجاهات والميول وطبقات القراء وأذواقهم ... إلخ. فالأدب الأجنبي المترجم قد قام في كل العصور والآداب بدور الوسيط والملهم في آن واحد، وربما يرجع إليه الفضل في بعض الأحوال في تكوين الأدب المحلي نفسه أو النهوض به من سباته الطويل وهدايته إلى آفاق أرحب. ولهذا تتجاوز قضية تلقي أدب معين من جانب الآداب الأخرى حدود الأدب المقارن، وتتخطاه إلى تكوين الوجدان الثقافي وتزاوج الحضارات وتفاعل «أرواح الشعوب» (هذا إذا جازت مثل هذه التعميمات). ويكفي أن نفكر لحظة واحدة في الآثار المترتبة على استقبال أدب حي على أدب آخر، لنرى أن المسألة أكبر من أن تكون مسألة ترجمة أو تلق أو دراسة مقارنة أو تأثير وتأثر أو تعارف وتقارب بين الشعوب؛ لأنها في الحقيقة مسألة اكتشاف الذات الفردية والجماعية لنفسها من خلال الآخر، على نحو ما يؤكد الفكر المعاصر كله - والحس السليم أيضا! - أن «الأنا» لا تستطيع أن تعرف نفسها إلا في مرآة «الأنت»، بل إنها لتتضمن وجود «الأنت» في صميم تكوينها. ولهذا كان التقاء الآداب أصدق شاهد على وحدة الجنس البشري على الرغم من الخلافات التاريخية والسياسية والاجتماعية التي مزقته ولا تزال تمزقه وتدفعه إلى تدمير نفسه بنفسه، ويكفي أن نستعرض بعين الخيال هذه الصور السريعة عن تلقي الرومان للأدب الإغريقي، والجرمان للأدب اللاتيني- المسيحي، وتأثير الأنواع والأشكال الشعرية الرومانية (الفرنسية والإسبانية والإيطالية) على شعر الحب والفروسية (المينيزينجر) وملاحم البلاط في الشعر الألماني في العصر الوسيط بعد تأثرها جميعا بالموشح والزجل والشعر الأندلسي، واستقبال نماذج الأدب اليوناني والروماني القديم منذ النزعة الإنسانية وعصر النهضة - كما ذكرنا من قبل - حتى يومنا الحاضر، وتأثير النماذج الفرنسية والإيطالية على الأدب الألماني في عصر الباروك، وكذلك تأثير المأساة الفرنسية الكلاسيكية على هذا الأدب الأخير في عصر التنوير، ثم الأثر الضخم الذي تركته ترجمات الشعر الشرقي والشعر الشعبي من كل اللغات والشعوب - من عهد هردر - بالإضافة إلى ترجمات شكسبير والأدب الإسباني على الحركة الأدبية المعروفة في ألمانيا باسم حركة العصف والدفع وعلى الرومانسية. أما الرمزية الفرنسية، فقد تجاوزت الأدب الأوروبي إلى الأدب الشرقي والعربي الحديث، وأما المدارس الطبيعية والواقعية في الآداب الفرنسية والروسية والإسكندنافية، فقد زحف مدها القوي إلى شواطئنا في النصف الثاني من القرن العشرين قبل أن ينحسر عنها في السنوات الأخيرة.
لن يمكننا المضي في هذا التتبع إلى ما لا نهاية؛ إذ تغنينا عنه مئات البحوث المتخصصة والندوات واللقاءات الأدبية والثقافات التي تتقصى قضية تلقي أدب معين من جانب الآداب واللغات الأخرى.
4
والواقع أن الأمر في هذه اللقاءات الخصبة من خلال موضوع أدبي معين أكبر من أن نتعرض له في هذه السطور؛ إذ يكفي أن ننظر في موضوع واحد مثل أوديب لنرى تحولاته وصيغه الكثيرة من سوفوكليس إلى كوكتو وهينر مولر والحكيم وباكثير وكاتب هذه السطور،
5
وما أصابه في السنوات الأخيرة على خشبة المسرح المصري من كوارث يهون بجانبها قتل أبيه وزواج أمه وفقء عينيه! ويكفي أيضا أن ننظر في قصة ليلى والمجنون منذ الروايات العربية القديمة إلى (نظامي) الشاعر الفارسي (1140-1203م) وشوقي وصلاح عبد الصبور ومحمد إبراهيم أبو سنة، أو فاوست منذ الكتاب الشعبي الذي وضعه مؤلف ألماني مجهول من القرن السادس عشر (1587م) إلى مارلو وجوته الذي جعل منه قصيدة كونية كبرى، إلى عدد لا يحصى من الأدباء والشعراء والفنانين من مختلف الشعوب صوروه وما زالوا يصورونه في صور شعرية ومسرحية وقصصية مختلفة، بل لقد نفذت روح فاوست - وهي روح الفعل والمغامرة وإرادة التمرد على كل حد وإدراك المجهول وتعمق المبدأ والأصل - في قشرة الجمود العربي، فوجدنا لبعض أدبائنا محاولات قد تكون متواضعة حقا، ولكنها ذات دلالات هامة على تسرب مارد الثورة والحيرة إلى القمقم الشرقي العريق، وعلى الجهد الهائل الذي تبذله السلحفاة العربية لتشق الدرع الحصين الذي يطوقها ويخنقها. نذكر من هذه المحاولات مسرحية «عبد الشيطان » لفريد أبو حديد و«نحو حياة أفضل» لتوفيق الحكيم و«فاوست الجديد» للمرحوم على أحمد باكثير. هل كان من الممكن أن تتعدد هذه الصيغ والمحاولات لولا أن جهود الشهداء المجهولين - الذين نسميهم عادة بالمترجمين! - قد يسرت كنوز الثقافة العالمية للمواهب والطاقات المبدعة، وتركتها بين أيديها حتى تفتحت عبر الأجيال في أعمال استلهمت الأصل البعيد، وانطوت في نفس الوقت على نبض أصحابها وأنفاسهم؟
مهما يكن من شيء، فلم أقصد هنا تتبع اللقاء بين الآداب الغربية والشرقية، فلذلك مجال آخر يضيق عنه هذا المجال. لقد كان كل همي أن أثير قضية، وأقدم تجربة وليست الصفحات التالية إلا شهادة على هذه التجربة الفريدة، ومثلا على اهتمام شاعر الألمان الكبير - الذي يعرفه القارئ بغير شك من ترجمات بعض مؤلفاته إلى العربية
6 - بالآداب العالمية وبالأدبين الفارسي والعربي في المرحلة الأخيرة من حياته وإنتاجه. ولقد عبر عن هذا بنفسه قبل وفاته بسنوات قليلة في أحد أحاديثه الرائعة مع تلميذه وصديقه الأمين «أكرمان» في آخر أيام شهر يناير سنة 1827م عندما قال له:
إنني أزداد مع تقدم العمر إيمانا بأن الأدب ملك مشاع بين الناس جميعا، وأنه يظهر دائما وفي كل العصور لدى المئات والمئات منهم، كل ما هناك من فرق بينهم هو أن أحدهم قد يفضل غيره قليلا أو كثيرا، أو قد يسبح على السطح أكثر من صاحبه، ولهذا فإنني أحب دائما أن أقلب الطرف في آداب الأمم الأخرى، وأنصح كل إنسان أن يفعل نفس الشيء من جانبه. إن الأدب القومي لم يعد له اليوم من معنى. لقد آن أوان الأدب العالمي، وعلى كل امرئ أن يشارك بجهده في التعجيل به.
جوته والأدب العربي
لشاعر الألمان الأكبر كتاب يتضوع بعبير الشرق وأنفاسه، وتسري فيه روح الإسلام بسماحتها وحكمتها، وقناعتها واعتدالها. ويعد هذا الكتاب الذي سماه الديوان الشرقي- الغربي أو الديوان الشرقي للمؤلف الغربي من أجمل أعماله وأكثرها رقة وسخرية وعذوبة. ولقد شاء الشاعر الكبير أن يتقمص شخصية الباحث التاريخي والحضاري المتمكن، فعقب على ديوانه تعليقات وافية ، أضاف إليها عددا من البحوث والتعليقات التي تعين قارئه الغربي على تفهم عالم الشرق والإسلام، وتعرف شعرائه من عرب وعجم، بقدر ما أسعفته مذكرات الرحالة ودراسات المستشرقين وترجماتهم التي استطاع التوصل إليها في ذلك الحين.
ومع أن جوته قد اقتصر في كلامه عن العرب على الحديث عن المعلقات وشعرائها، وعلى ترجمة قصيدة مشهورة لشاعر جاهلي هو «تأبط شرا» وجد أنه لا يختلف في روحه اختلافا كبيرا عن أولئك الشعراء الكبار، فإن أوراقه ودراساته التي مهدت للديوان تشهد بأن معلوماته عن الأدب العربي تفوق ذلك بكثير، فهو مثلا قد عرف بعض المجموعات الشعرية العربية - منها حماسة أبي تمام - كما عرف مجموعة من الأمثال والحكم العربية، وقرأ جزءا كبيرا من ألف ليلة وليلة، إلى جانب أنه ذكر اسم المتنبي ذكرا عابرا في معرض كلامه عن الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وفي إحدى قصائد الديوان الشرقي، وإن لم يعرف في الحقيقة شيئا يذكر عن شاعر العربية الأكبر. ونستطيع أن نقول اليوم في شيء من الحسرة والأسف إنه لو قدر له أن يعرف شيئا عن الترجمات الألمانية المتأخرة لشعر المتنبي والمعري ومقامات الحريري وغيرها، فربما كان اهتمامه وحماسه للأدب العربي قد زاد أضعافا مضاعفة عما نعرف عنه في اليوم. مهما يكن من شيء فسوف أقصر حديثي هنا على تأثره بشعراء المعلقات، وبروح الإسلام من كتابه الكريم، محاولا أن أبين مدى تأثره بهما في إنتاجه.
والمعلقات هي أعلى كنوز الأدب العربي قبل الإسلام، وقد يختلف مؤرخو الأدب في عدد هذه القصائد المشهورة بالقصائد السبع الطوال وفي مدى أصالتها، وذلك منذ أثار طه حسين الشك حولها في كتابه المعروف عن الأدب الجاهلي، إلا أنهم سيتفقون بلا جدال عن الإعجاب بشاعر غربي اهتم بهذه القصائد أيما اهتمام، وراح يبحث عنها في ترجماتها المختلفة بكل الوسائل التي تيسرت له في عهده، بل بلغ إعجابه بها أن ترجم عددا من أبيات معلقة امرئ القيس ثم تأثر بها بعض التأثر في إنتاجه. ويبدو أن التفسير اللفظي لكلمة المعلقات من أنها قصائد تكتب بالذهب ويعتز بها العرب في الجاهلية فيعلقونها على الكعبة الشريفة، لعل هذا التفسير الخرافي الجميل كان من أقوى الأسباب التي جعلت الشاعر الألماني يعجب بها كل هذا الإعجاب.
عرف جوته سبع معلقات، وصلت إليه في ترجمة لاتينية قام بها المستشرق الإنجليزي وليم جونز وظهرت مع الأصل العربي في لندن سنة 1783م تحت هذا العنوان: «المعلقات أو القصائد العربية السبع التي كان معلقة على الكعبة». ولعل أوفى تعليق على هذه القصائد هو ما نجده في التعليقات والبحوث التي ألحقها جوته بالديوان الشرقي في الفصل الذي خصصه للعرب حيث يقول:
1
ونحن نجد لدى العرب كنوزا رائعة في المعلقات. وهي قصائد مديح فازت في المباريات الشعرية، ونظمت قبل عهد محمد، وكتبت بحروف من ذهب وعلقت على أبوب بيت الله الحرام في مكة. وهي تعبر عن أمة بدوية محاربة، تعذبها من الداخل المنازعات المستمرة بين القبائل المتعددة، وتصور التعلق الراسخ برفاق القبيلة، كما تصور حب الشرف والشجاعة، والشهوة العارمة للأخذ بالثأر التي يخفف منها الحزن في الحب والكرم والتضحية، وكل هذا بغير حدود. وهذه الأشعار تعطينا فكرة وافية عن الثقافة العالمية التي تميزت بها قبيلة قريش التي نشأ فيها محمد نفسه، وتزداد قيمة هذه القصائد البديعة وعددها سبع، بما يغلب عليها من تنوع شديد.
ثم يعزز قوله بما ذكره عنها وليم جونز عندما وصفها بقوله:
إن معلقة «امرئ القيس» لينة، مرحة، ناصعة، أنيقة، متنوعة الأغراض، رشيقة. أما معلقة «طرفة» فجريئة، جياشة بالعاطفة، متوثبة، ومع ذلك يشع فيها شيء من البهجة. ومعلقة «زهير» حادة، جادة، عفيفة، حافلة بالوصايا الأخلاقية والحكم المهيبة. ومعلقة «لبيد» خفيفة، غرامية، أنيقة، رقيقة، وهي تذكرنا بالرعوية الثانية لفرجيل؛ لأنه يشكو من كبرياء الحبيبة وتكبرها، ويتخذ من ذلك فرصة لتعداد فضائله والتفاخر بقبيلته. ومعلقة «عنترة» تبدو متكبرة، متوعدة، رصينة، فخمة، وإن كانت لا تخلو من جمال الأوصاف والصور. وعمرو (ابن كلثوم) عنيف، سام، ميال إلى الفخر. أما الحارث (ابن حلزة) فهو على العكس غني بالحكمة، والذكاء، والكرامة، كذلك تبدو هاتان القصيدتان الأخيرتان أشبه بخطبتين شعريتين سياسيتين مما كان يلقى في الأسواق أمام جمهور من العرب لتسكين الحقد والعداوة المدمرة بين قبيلتين.
هنا يعبر جوته عن مختلف العواطف التي تصورها المعلقات، وأهمها ما يسميه «الحزن في الحب»، وهو قريب من البكاء على الأطلال الذي اشتركت فيه كل المعلقات، واختلف الشراح وما زالوا مختلفين حول تفسيره. ويظهر أن جوته قد أحس بهذه العاطفة أشد الإحساس وأقواه في معلقة امرئ القيس، الأمر الذي دفعه إلى الاهتمام بها، بل ترجمة جزء لا بأس به منها، مما كان له تأثيره بعد ذلك على إحدى قصائد الديوان الشرقي.
2
يرجع اهتمام جوته بهذه المعلقة إلى فترة مبكرة من حياته، عندما كان يبلغ من العمر أربعا وثلاثين سنة. ويكفي أن نعلم أنه أرسل في نوفمبر سنة 1783م إلى صديقه كارل فون كنييل رسالة يخبره فيها أن جونز المشهور (وهو المستشرق وليم جونز الذي سبق ذكره) قد ترجم القصائد السبع للشعراء العظام. ثم يقول عن القصائد: «إنها في مجموعها عجيبة مدهشة، وتحتوي على أجزاء بالغة اللطف والروعة، ولقد صممنا (وهو بهذا يقصد نفسه وصديقه هردر) على الاشتراك في ترجمتها.»
ونفذ جوته بالفعل ما صمم عليه، فترجم من معلقة امرئ القيس ثمانية عشر بيتا مع تصرف قليل فيها. فلنرجع أولا لبعض منها لنرى بعد ذلك كيف تبدو في ترجمة جوته:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
لما نسجتها من نوب وشمأل
وقوفا بها صحبي علي مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجمل
وإن شفائي عبرة مهراقة
فهل عند رسم دارس من معول
وسنرى من ترجمة جوته لهذه الأبيات - أو بالأحرى من تعبيره عن معناها وانطباعها في نفسه! - التصرف الجميل فيها، وكيف أسقط أسماء الأماكن الكثيرة ليقتصر على إبراز العاطفة الأساسية:
قفا وخلنا نبكي هنا في مكان الذكرى
هناك كانت خيمتها على حافة الكثيب الرملي المتمايل
وما زالت الآثار قائمة لم تختف
وإن جعلت ريح الشمال وريح الجنوب
تنثر الرمال هنا وهناك
وبجانبي وقف الرفاق صامتين
وقالوا لا تهلك من الأسى وتجمل
فهتفت قائلا: إن الدموع هي عزائي الوحيد. (لا شك أن النتيجة محزنة ومضحكة معا، فترجمة الشعر في حد ذاتها مشكلة عسيرة قلما توفق في أية لغة، فكيف الحال إذا كانت هذه الترجمة عربية لنص بالألمانية مترجم عن اللاتينية؟!)
مهما يكن من شيء، فهي شاهد على اهتمام شاعرنا المبكر بالمعلقات. ونحن نعلم اليوم أنه عاد إلى الاهتمام بها عام 1815م، أي بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما، عندما قرأ بعضا منها للأميرة لويزة أميرة فيمار وغيرها من أصدقائه. ويبدو أن ما يقرؤه شاعر وينطبع على نفسه لا يمكن أن يمضي بغير أثر قريب أو بعيد. فها هي ذي الأيام والسنون تمر بعد ترجمته القديمة لبعض أبيات امرئ القيس، وها هو ذا نفس الإحساس يتردد صداه مرة أخرى عن وعي في واحدة من أجمل قصائده في الديوان الشرقي، يرجح معظم النقاد أنها كتبت بعد وداعه لماريانة فون فيلليمير، وهي المحبوبة التي هام بها قلبه بعد أن شاخ وتجاوز الستين، وهذه القصيدة التي نشرت بعد وفاته وضمها بعض ناشري الديوان الشرقي لكتاب العشق، يتردد فيها موضوع البكاء على الأحباب الذين فارقوه، والرغبة في ذرف الدموع التي لا ينفع معها عزاء. تقول القصيدة:
دعوني أبكي، يحوطني الليل
في الصحراء الشاسعة.
الجمال راقدة، الرعاة كذلك راقدون.
والأرمني سهران يحسب في هدوء.
أما أنا فأرقد إلى جواره، وأعد الأميال
التي تفصلني عن زليخا، وأتفكر باستمرار
في الدروب الملتوية المزعجة التي تطيل الطريق.
دعوني أبكي، فليس هذا عارا.
الرجال الذين يبكون طيبون.
لقد بكى أخيل حبيبته بريزيس
والإسكندر بكى رفيق عمره الذي قتله بنفسه
دعوني أبكي، إن الدموع تحيي التراب،
وها هو ذا يخضر.
فالموضوع هنا هو فراق الأحباب، والعاطفة الغالبة هي الرغبة في إطلاق الدموع دون حاجة إلى خجل أو تبرير. وغني عن الذكر أن هذا الموضوع الأساسي الذي تبدأ به المعلقات، ألا وهو البكاء على الأطلال، وسواء أكان جوته قد تنبه إليه بإحساسه كشاعر أم عرفه من ملاحظات المستشرق الألماني تيودور هارتمان ومن مقدمة ترجمته للمعلقات التي عكف عليها جوته في الفترة التي كان فيها مشغولا بتأليف ديوانه الشرقي، فإن تأثير معلقة امرئ القيس على قصيدة السالفة وكذلك مطلع معلقتي «طرفة بن العبد» و«الحارث بن حلزة» تأثير واضح لا شكل فيه. ولست أحب أن أحسب هذا التأثير بطريقة تشبه أن تكون رياضية كما فعلت الباحثة كاترينا مومزن التي أخذت توازن موازنة دقيقة بين أبيات قصيدة جوته وبين أبيات امرئ القيس وطرفة وغيرهما من شعراء المعلقات. ففي اعتقادي أن مثل هذه الطريقة المضنية ربما لا تؤتي الثمار التي توازي ما بذل فيها من جهد وعناء. إن الشاعر العظيم يتأثر من هنا ومن هناك، ومن العبث أن نحسب مقدار هذا التأثر بالقلم والمسطرة. ثم إن القصيدة الشعرية الجديرة بهذا الاسم تنطوي على شيء لا يمكن قياسه أو تحليله وتشريحه، شيء ينبعث من انطباعها الإنساني والجمالي في نفوسنا؛ لأنه كالحياة ذاتها لا سبيل إلى قياسه أو تحديده. والمهم على كل حال أن نعرف أن المعلقات كانت الأثر الأدبي الذي استطاع أكثر من أي أثر في الأدب العالمي أن يلفت انتباه شاعرنا إلى هذه التجربة الخالدة، تجربة فراق الأحباب والبكاء عليهم، وليس هذا بالشيء القليل.
وهناك قصيدتان أخريان من قصائد الديوان الشرقي، الأولى: هي قصيدة «هجرة» التي يفتتح بها الديوان، والثانية هي قصيدة «من أين لك هذا، وكيف جاء إليك» من كتاب الضيق أو كتاب السخط وسوء المزاج (رنج نامه) في نفس الديوان. والقصيدة الأولى توحي بجو الشرق عامة وبالحياة البدوية بوجه خاص بكل ما فيها من شهامة وكرم وشجاعة ونزوع إلى الحرب والأخذ بالثأر. وكلتا القصيدتين تشير إلى الجو العربي الذي عاش فيه الشاعر في أثناء تفكيره فيهما وكتابته لهما. وسأكتفي هنا بالقصيدة الأولى نظرا لضيق المقام. وأكرر ما ذكرته من أنني لا أحب أن أضل بالقراء في متاهات البحث والمقارنة والتحليل التفصيلي لهذه القصيدة، فأنا من المؤمنين بأن الخلق الفني - بعد كل تحليل ودراسة علمية مشروعة ! - ينبغي أن يحتفظ بسره المعجز، ولو جردناه من هذا السر لفقد أغلى ما فيه، ولذلك فسوف أكتفي بذكر الأثر العام الذي تركته الحياة البدوية والفطرية على هذه القصيدة؛ لأعفي القراء من تفصيلات مرهقة.
تقول قصيدة الهجرة (وهي من كتاب المغني):
الشمال والغرب والجنوب تتناثر وتنهار
العروش تثل، والممالك تضطرب،
فهاجر أنت إلى الشرق الطهور
لتستروح نسيم الآباء الأولين،
هنالك حيث الحب والشراب والغناء
سيرد عليك نبع الخضر ريعان صباك.
إلى هناك حيث النقاء والحق،
أريد أن أتغلغل بأجناس البشر
إلى أعماق الأصل البعيد
حيث كانوا يتلقون من الله
وحي السماء بلغات الأرض
ولم يحطموا رءوسهم بالتفكير،
وحيث كانوا يجلون الآباء
ويأبون الخضوع للغرباء،
هنالك أود أن أتملى من أفق الفطرة المحدود،
حيث الإيمان واسع، والفكر قانع محدود
وحيث الكلمة ذات شأن كبير
لأنها كلمة منزلة تنطق به الشفاه،
أريد أن أعاشر الرعاة
وأستروح ظلال الواحات
حين أرتحل مع القوافل
وأتاجر في البن والمسك والشيلان.
أريد أن أسلك كل سبيل
من البوادي والقفار إلى المدن والحواضر
وبينما أصعد النجاد وأهبط الوهاد
تبعث أغانيك، يا حافظ، السلوى والعزاء.
وحين يترنم الحادي
من فوق ظهر دابته بغنائه المسحور
ليوقظ النجوم ويفزع اللصوص والأشقياء
أريد أن أحيي ذكراك، يا حافظ المقدس
في الحمامات وفي الحانات
عندما ترفع المحبوبة الخمار
وتهزه فتفوح غدائلها برائحة العنبر.
أجل إن همسات الشاعر بنجوى الحب
لتدفع الحوريات أنفسهن إلى العشق
إن أردتم أن تحسدوه على هذا النعيم
أو شئتم أن تعكروا عليه صفوه
فاعلموا أن كلمات الشاعر
تحوم دائما حول أبواب الفردوس
تطرقها في همس وهدوء
وتطلب حياة الخلود.
والنظرة العاجلة تبين لنا كيف تعبر هذه القصيدة عن تجربة دينية شاملة كونها جوته على مدى عمره الطويل، وامتزجت فيها روح الديانات الكبرى مع حكمة الحياة التي قضاها في النشاط والعمل والإقبال على مباهج الدنيا وأسرار الكون. وعنوان القصيدة نفسه مكتوب بنطقه العربي ورسمه الفرنسي، وفيه إشارة واضحة إلى هجرة النبي
صلى الله عليه وسلم ، فضلا عن الحنين الظاهر إلى الشرق، وشوق الشاعر للارتحال مع القوافل إلى بلاد الآباء والرسل والهداة، والحياة بعيدا عن اضطرابات القارة الأوروبية وحروبها في تلك الفترة العصيبة بين سنتي 1812م و1814م؛ ليتملي من عادات الشرق وأحواله، ويتنسم عطره وطهره وصفاءه، ويرجع إلى المصدر الأصلي للوحدة والنقاء. وليس ما يمنع أيضا من أن يتاجر في نفائسه وبضائعه، ولو أدى الأمر إلى أن يصبح واحدا من الرعاة والأعراب! وتردد أسماء كالخضر صاحب موسى الكليم في الروايات الإسلامية (التي تقول إنه كان قائد جيش ذي القرنين ووزيره، والوحيد الذي أتيح له أن يشرب من عين الحياة فيكتب له الخلود) ثم تردد كلمات الفردوس والقوافل والعنبر والجمال وخمار الحبيبة، كل هذا يدل على تأثير الشرق بوجه عام. فهل توحي القصيدة مع هذا بتأثير الشعر الجاهلي؟ إن النظر السريع يشير إلى شوق الشاعر إلى بلاد تعيش على الفطرة والطبيعية والبساطة الأولى، وتسير فيها قوافل البدو منتقلة بين الحضر والبادية، أي يعيشون كما نقول اليوم في عصر الحضارة الشفاهية لا الكتابية، ويحيون حياة أبية ترفض الذل والخضوع للطغاة والغرباء. وهذا كله يوحي بتأثير الشاعر بما قرأه عن الحياة العربية في الجاهلية، وما عرفه من ترجمة المستشرق هارتمان للمعلقات ومن تعليقاته عليها ومقدمته الوافية لها، ثم مناقشته اليومية الطويلة مع المستشرق «باولوس» في أثناء زيارته لمدينة هيدلبرج (بين 24 سبتمبر و9 أكتوبر سنة 1814م) عن الحياة العربية والأدب العربي.
لا مجال هنا للوقوف عند الرسائل والمذكرات اليومية وسجلات المكتبات التي استعار منها الشاعر هذا الكتاب أو ذاك. فلا شك في تأثر جوته بعالم الشرق بوجه عام، سواء في ذلك شعر حافظ والجامي والسعدي أو قراءته في القرآن الكريم وسيرة الرسول
صلى الله عليه وسلم . والشيء الذي أحب أن ألفت الانتباه إليه هو أن قصيدة الهجرة بالذات بالغة الدلالة على الديوان الشرقي كله، بل إنها - على حد قول الشاعر نفسه - تعطينا على الفور فكرة كافية عن معنى الديوان وغايته. وهي إلى جانب هذا بالغة الدلالة على حنينه إلى حياة الفطرة والأصالة والطبيعة التي يتميز بها الشعر في نشأته الأولى، كما يتميز بها شعرنا العربي في الجاهلية. ولقد تكلم الشراح كثيرا عن أوجه الشبه بين قصيدة الهجرة وبين قصيدة «دعوني أبكي» التي ذكرناها من قبل، وبخاصة أن الموقف فيهما واحد، وهو موقف الشاعر الذي يرتحل مع القوافل، ويجد نفسه سعيدا بين الرعاة والحداة في الصحراء. ولعل المقطوعة الثالثة من القصيدة أن تكون أقرب أجزائها إلى جو الحياة البدوية التي تعد المعلقات أو في سجل لها، كما هي أوضحها في الثناء على حياة الفطرة المحدودة التي يتسع فيها الإيمان ويضيق الفكر، وإبراز فضل الكلمة المنطوقة التي هي من وحي السماء على الكلمة المكتوبة أو المطبوعة التي تزهو بها حضارتنا اليوم أكثر مما ينبغي.
أريد أن أبتهج بحدود الشباب
حيث الإيمان واسع والفكر ضيق قانع
وحيث الكلمة ذات خطر كبير
لأنها كانت كلمة تفوه بها الشفاه.
وقد يكون صحيحا ما أثبته البحث التاريخي الذي قامت به السيدة كاترينا مومزن من تأثر جوته تأثرا مباشرا بالمقدمة التي كتبها المستشرق هارتمان لترجمته للمعلقات وأشار فيها إلى اتساع الإيمان وضيق الفكر عند الشعوب التي تعيش على حال الفطرة والطفولة، ثم إشارته إلى أهمية الكلمة المنطوقة عند أصحاب هذه الحضارات الفطرية التي لم تتقدم تقدما ماديا ولا عقليا كبيرا.
قد يكون هذا صحيحا، فالعمل الفني الحق يحتمل تفسيرات كثيرة، وهذا دليل خصوبته وغناه.
ولكن لا مجال هنا للسير في هذا الطريق الطويل، ويكفي أن نعلم أن شاعرنا تأثر بجو الحياة العربية الجاهلية وبالمعلقات بوجه خاص. وإن أردنا مزيدا من الدقة فيما يتصل بهذه القصيدة، فإن البيتين الثالث عشر والرابع عشر اللذين يقول فيهما:
هناك حيث كانوا يجلون الآباء
ويأبون على أنفسهم طاعة الغرباء.
يتردد فيهما صدى موضوع من أحب الموضوعات إلى شعراء الجاهلية، وهو الإباء والكبرياء وعزة النفس التي ترفض الخضوع للطغاة والغرباء، وهو موضوع يتردد في المعلقات وبالأخص في معلقات «لبيد» و«عمرو بن كلثوم» و«الحارث بن حلزة»، ويكفينا أن نقرأ هذه الأبيات من معلقة عمرو بن كلثوم.
ألا يعلم الأقوام أنا
تضعضعنا وأنا وقد ونينا
بأي مشيئة عمرو بن هند
تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
تهددنا وأوعدنا رويدا
متى كنا لأمك مقتوينا
فإن قناتنا يا عمرو أعيت
على الأعداء قبلك أن تلينا
ومن العبث أن نسترسل وراء النصوص التي تشير بعزة العربي وإبائه وكرمه، فذلك شيء ليس له آخر، ويكفي أن نذكر هذا البيت المشهور الذي تنتهي به المعلقة السابقة:
إذا بلغ الفطام لنا رضيع
تخر له الجبابر ساجدينا
وحسبنا على كل حال أن الشاعر الكبير قد عبر عن حنينه إلى الشرق الطاهر الصافي، حيث يتنسم ريح الآباء والأجداد والمرسلين والهداة، ولا يكره أن يوصف بأنه مسلم يسافر مع القوافل إلى حيث تسافر، ويتاجر في الشيلان والبن والمسك والعنبر. فالمهم أن قصيدة «الهجرة» توحي بجو المعلقات، وأن ربطها بها ييسر لنا فهمها ويزيده عمقا.
ولا نستطيع أن نترك هذا الموضوع قبل أن نذكر قصيدة «تأبط شرا» التي أعجب بها جوته أيما إعجاب عندما قرأها في ترجمة لاتينية للمستشرق الألماني فرايتاج، ثم ترجمها بتصرف يليق بشاعر كبيره مثله، وضمها إلى تعليقاته وبحوثه التي ألحقها بالديوان الشرقي في الفصل القصير الذي تكلم فيه عن العرب، ومهد لها بكلمة موجزة عنها فوصفها بأنها قاتمة، بل مشبوبة نهمة إلى الأخذ بالثأر والانتشاء به. وقراءة النص الأصلي للقصيدة يحتاج إلى شرح كلماتها العسيرة، فلنكتف بذكر هذين البيتين اللذين تبدأ بهما:
إن بالشعب الذي دون سلع
لقتيلا دمه ما يطل
خلف العبء علي وولى
أنا بالعبء له مستقل
أقبل جوته على ترجمة القصيدة بحماس وحب لا نظير له، وقسم ترجمته لكل بيت منها إلى مقطعات تقع كل منها في أربعة أسطر، تؤلف في جملتها ثماني وعشرين مقطوعة.
والمدهش حقا أن الشاعر فهم القصيدة فهما تاما، واستطاع أن يتمثل معانيها الغريبة عليه، ويعبر عنها بشعر سلس بسيط، لا يكاد يترك معنى من معاني تأبط شرا دون أن يسجله. إنه يقول معبرا عن مدى إعجابه بالشاعر العربي وعن صدقه في الانفعال بقصيدته: «يكفي القليل لفهم هذه القصيدة ، فإن عظمة الخلق، والصرامة، والقسوة المشروعة للفعل هي عصب هذا الشعر.»
والمقطوعتان الأوليان تقدمان عرض الواضح، وفي الثالثة والرابعة يتكلم الميت ويلقي على قريبه عبء الثأر له. والخامسة والسادسة ترتبطان من حيث المعنى بالأولى، وتقفان من الناحية الشعرية الغنائية في غير موضعيهما. ومن السابعة حتى الثالثة عشرة نجد تمجيدا للميت يهدف إلى الإحساس بفداحة الخسارة، ومن الرابعة عشرة حتى السابعة عشرة نجد وصفا للغارة على الأعداء. والثامنة عشرة ترجع القهقري، والتاسعة عشرة والعشرون كان من الممكن أن توضعا مباشرة بعد المقطوعة الأولى، والحادية والعشرون والثانية والعشرون يمكن أن توضعا بعد المقطوعة السابعة عشرة، ثم تأتي نشوة الانتصار والمتعة في مأدبة الاحتفال، أما الخاتمة فنجد فيها اللذة المخيفة لرؤية الأعداء فرائس للضباع والنسور. وأروع ما في هذه القصيدة في رأينا هو أن النثر الخالص الذي يصور الفعل يصير شعريا بنقله مختلف الحوادث من مواضعها. ولهذا السبب، ولأنها تكاد تخلو خلوا تاما من كل تزويق خارجي، يزداد جلال القصيدة، ومن يقرؤها بإمعان لا بد أن يرى الأحداث من البداية حتى النهاية وهي تنمو وتتشكل أمام خياله.
3
وننتقل إلى ميدان آخر فنجد مجموعة من الحكم المنظومة التي كتبها جوته في أواخر حياته وسجل فيها حكمة شيخوخته وسخطه على معاصريه من شعراء وعلماء وأدعياء، في حكم لاذعة ساخرة. واسم هذه المجموعة هو
Zahme Xenien ، أي الحكم الساخرة الأليفة، تمييزا لها عن مجموعة أخرى نظمها قبل ذلك بسنوات طويلة بالاشتراك مع صديقه شيلر. وتاريخ نشأة هذه الأشعار القصيرة يحوطه الغموض من كل ناحية. وإذا كنا نعلم اليوم أنه بدأ في نشرها سنة 1820م، فإننا لا نعلم على وجه التحديد متى بدأ في كتابتها. ولكن الشواهد تدل على كل حال على أنه شغل بها ابتداء من سنة 1815م، فنحن نجد في مذكراته اليومية (بتاريخ 25 من ديسمبر سنة 1816م) هذه الملاحظة العجيبة «زهير»، وبهذا يسجل للمرة الأولى بوضوح اسم أحد شعراء المعلقات. وقد ثبت للباحثين أنه كان مشغولا في تلك الفترة - التي تدفقت عليه فيها أغاني الديوان! - بقراءة المعلقات . والظاهر أن زهيرا بالذات كان قريبا من فكره وإحساسه في ذلك الحين.
ومعلقة زهير تفيض بالأبيات التي تصور حكمته، كما تعبر عن سأم الشيخوخة وزهدها وصرامتها وتأملاتها في مصائر البشر والقدر والموت والحياة. وهذا الموضوع نفسه هو الذي يأتي في المقام الأول في حكم جوته اللاذعة. ولو قارنا بين بعض أبيات زهير وبين بعض هذه الحكم لوجدنا تقابلا مذهلا، يسمح لنا أن نفترض وجود تأثر مباشر لا شك فيه.
فحين يقول زهير:
وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده
وإن الفتى بعد السفاهة يحلم
فإن جوته يتحدث عن أخطاء الشيخوخة التي لا تغتفر ويقول:
إذا كان الشاب أحمق سفيها
عانى من ذلك أشد عناء
والشيخ لا ينبغي أن يكون سفيها
لأن الحياة عنده أقصر من ذاك.
وكلا الشاعرين يردد كلمة الشيخ والشاب، كما أنهما يوشكان أن يعبرا عن نفس الموضوع بنفس الكلمات. وجوته قد انشغل في هذه الحكم كما قلت بالشيخوخة وآلامها وأخطائها، وكيف أن هذه الأخطاء لا تحتمل من شيخ ولا تليق به، في حين أنها عند الشاب أمر يمكن تداركه في المستقبل.
ويكفي أن نقرأ هاتين الحكمتين لنتأكد من ذلك مرة أخرى:
كف عن التفاخر بالحكمة
فربما كان التواضع أخلق بالثناء
إنك لا تكاد تقترف أخطاء الشباب
حتى تراك مضطرا لاقتراف أخطاء الشيخوخة.
أو حين يقول:
إن الشباب يطول به العجب
إذا رأى أخطاء تتسبب في أذاه،
هنالك يثوب إلى نفسه، ويفكر في الندم
أما في الشيخوخة فلا يندهش المرء ولا يندم.
وإذا كان أحد أبيات معلقة طرفة يقول:
أرى الموت أعداء النفوس ولا أرى
بعيدا غدا ما أقرب اليوم من غد
وكان البيت الثاني عشر من معلقة عمرو بن كلثوم (في شرح الزوزني) يقول:
وإن غدا وإن اليوم رهن
وبعد غد بما لا تعلمينا
وإذا رأينا زهيرا يعبر عن هذه المعاني نفسها بصورة أوضح وأدل في البيت القائل (وإن سفاه الشيخ ...) ثم رأينا جوته يطرق هذه المعاني في مجموعة من حكمه السابقة، فلا يمكن أن يكون ذلك بمحض المصادفة بعد أن أثبت البحث أنه كان مشغولا بالمعلقات عندما نظم تلك الحكم الأليفة اللاذعة. ها هو ذا يقول في البيت الثاني والخمسين والأبيات التالية له من القسم الأول من حكمه ما يؤكد الشبه الشديد في اختيار الكلمات وفي الفكرة نفسها، بحيث لا يمكن كما قلت أن يكون هذا التشابه بينهما وبين أبيات زهير وليد الصدفة:
دائما ما يكون الشيخ هو الملك لير
فما تعاون يدا في يد، وما كافح
قد انقضى من زمن بعيد
وما أحب معك أو فيك وتعذب
قد تعلق بشيء آخر.
الشباب هنا موجود لذاته
ومن الحمق أن أسألك فأقول:
تعال، وشخ أنت معي.
وإذا كان زهير قد ضجر من طول العمر وسئم تكاليف الحياة بعد أن بلغ الثمانين:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
فيبدو أن هذا قد حفز جوته إلى معارضته، وتأكيد حبه واحترامه للحياة. ويكفي أن نقرأ معا هذه الأبيات لنجد أنها تعيش في جو زهير ولبيد:
يحب أبناؤك أن يسألوك
نود لو طال بنا العمر.
بأي درس تراك تنصحنا؟
ليس من الفن أن تشيخا
فالفن في الصبر والصمود.
أو حين يقول في موضع آخر:
تركت نفسي عن طيب خاطر
أتعلم من الصالحين والحكماء
ولكنني كنت أريد الاختصار
فلست أطيق الأحاديث الطوال.
ما الذي يتوق إليه المرء في آخر المطاف؟
أن يعرف العالم ولا يحتقره.
أو حين يقول أخيرا في هذا البيت:
إن كنت مثلي قد خبرت الحياة
حاول إذن مثلي حب الحياة.
ويتوج هذا كله الرباعية الأخيرة من القسم الرابع من الحكم اللاذعة وهي التي تقول:
كلما كان أمسك واضحا وصريحا
استطعت اليوم أن تقبل على العمل في قوة وحرية
كما استطعت أن تأمل في غد
لا يقل عنه سعادة وبهجة.
وهناك حكمة تكاد تلتقي التقاء تاما مع إحدى حكم زهير عن الشيخوخة، بحيث نستطيع أن نقول إن جوته لا بد أن يكون قد فكر فيها كثيرا وهو يكتب أبياته، وأعني بها الحكمة التي يعبر عنها البيت المشهور لزهير - لا في المضمون وحده بل كذلك في الكلمات - فقد عبر عن هذا التأثير تعبيرا يتفق مع أصالته وذاتيته. وإن جاز لنا أن نعجب للتقابل بين الحكمتين، فلا يصح أن نفاجأ بالتعارض بينهما في النهاية. تقول حكمة جوته، وهي الحكمة قبل الأخيرة من القسم الرابع من مجموعة الحكم اللاذعة:
إن أسوأ ما نلقاه
نتعلمه من اليوم الذي نحياه
من رأى في الأمس يومه
فلن يكون يومه شديد القرب منه
أما من رأى غده في يومه
فذلك الذي ينشط ولا يهتم.
وتكرار كلمات كالأمس واليوم والغد موجود لدى الشاعرين، بل إن الشاعر الألماني يتفق مع الشاعر العربي اتفاقا حرفيا في التعلم من اليوم أو العلم به، حتى لنستطيع أن نقول إن جوته قد كتب الأبيات الأولى وهو يفكر تفكيرا واضحا في أبيات زهير. ولكن الشاعرين لا يلبثان أن يختلفا وتتفرق بهما السبل، وهذا أمر طبيعي كما قلت. فكلاهما يتعلم من الأمس واليوم، وكلاهما يسأل عن الغد المجهول، وكيف ينبغي أن يقف الإنسان منه. والشاعر العربي يجهل كل شيء عن هذا الغد، ويؤكد في مرارة واستسلام أنه عن علم ما في غد عم، أما الشاعر الألماني الذي عاش حياته يؤكد قيمة اللحظة الحاضرة ويمجد من يملئونها بالنشاط والعمل المثمر (وفاوست كلها تدور حول هذا المعنى!) فلا يلبث أن يخالف صاحبه العربي، فنراه يعبر من جديد عن حبه واحترامه للحياة وإيمانه بأن من ينصف الحاضر ويؤدي واجبه فيه فلن يظلمه الغد أبدا ولن يخزيه. وهكذا ينتهي جوته نهاية تتفق مع تجربة حياته وروح أدبه، في حين انتهى زهير نهاية تتفق كذلك مع تجاربه وروح عصره المضطرب.
هنا أتوقف عن هذه الموازنة لأكرر ما سبق أن أكدته من إيماني بسر الخلق والإبداع، فالمقارنات والمقابلات قد تلقي الضوء على هذا الأثر الأدبي أو ذاك، ولكنها لن تستطيع أن تكشف النقاب عن سره الدفين. وربما كانت قوة هذا السر وغموضه في أنه يخاطبنا بوصفنا بشرا نتعذب نفس العذاب ونحس نفس المصير، أعني أن يعلو فوق اختلاف القوميات واللغات وأشكال التعبير. ولو سأل سائل: ما الفائدة من المقارنات السابقة لأجبته: ليس القصد منها أن نتباهى بفضل أجدادنا على غيرنا، فهذا شيء لا يلجأ إليه إلا المفلسون الذين ينقبون في ماضيهم الخصيب عن شيء يبرر حاضرهم الجديب، وأرجو ألا نكون قد وصلنا إلى هذه الحال! إنما القصد أن نجرب كيف تعيش الفكرة الواحدة في ضميرين وعند القصد أن شاعرين يختلف كل منهما في ثقافته ومزاجه ولغته وجنسه، فربما نتعلم من هذا كيف ننظر إلى لحظات الخلق والإبداع نظرة الاحترام والإجلال، كما نتعلم أن الفن الحقيقي هو الشيء الذي يستطيع أن يوحد بين البشر، ويجمعهم على التفاهم والمحبة والاحترام والإنصاف. (1) جوته والإسلام
وأخيرا نسأل: ما علاقة جوته بالإسلام؟
والسؤال بديهي، فلا يمكن أن يكون الشاعر الألماني الأكبر قد عرف شيئا عن الأدب العربي دون أن يعرف شيئا عن الإسلام أو يتخذ موقفا منه، أضف إلى هذا أن اللغة العربية قد شرفت بالإسلام الذي جعل منها لغة حضارية انتشرت في آفاق الأرض، ونسخت غيرها من اللغات القديمة، وفتحت لها ملايين العقول والأفئدة. ومستحيل أن يكون الشاعر قد اهتم بالأدب العربي دون أن يكون قد اهتم بالإسلام، وسوف أقصر كلامي هنا على جانب واحد هو مدى تأثير الدين الإسلامي على أدبه.
الحق إن صلة جوته بالإسلام ونبيه الكريم
صلى الله عليه وسلم
بدأت منذ شبابه المبكر وصاحبته في كهولته وشيخوخته، ونستطيع أن نقول بوجه عام إنه كان يشعر بتعاطف عميق مع الإسلام أكثر من غيره من الديانات غير المسيحية.
فهو في الرابعة والعشرين من عمره يؤلف أغنية تمجد الرسول
صلى الله عليه وسلم
وتصوره في صورة نهر رائع متدفق، وهو في السبعين من عمره يعترف صراحة بأنه يفكر منذ زمن طويل في أن يحتفي في خشوع بتلك الليلة المقدسة التي نزل فيها القرآن على النبي
صلى الله عليه وسلم ، وبين السنتين حياة طويلة خصبة أظهر فيها الشاعر احترامه وتقديره للإسلام بمختلف الطرق. وتجلى هذا كما قلت في كتاب يعد إلى جانب فاوست من أعذب وأنقى أعماله، وهو الديوان الشرقي، الذي لم يكن ممكنا أن يظهر إلى الوجود لولا صلته الحميمة بروح الإسلام التي تشيع فيه، ويكفي أن نتذكر العبارة التي كتبها في إعلانه عن ظهور هذا الكتاب وقال فيها إنه لا يكره أن يشاع عنه أنه مسلم.
وليس مرجع هذه العلاقة الحميمة بالإسلام ونبيه الكريم أنه درس القرآن منذ شبابه دراسة وافية في ترجماته اللاتينية والإنجليزية والألمانية، بل حاول أن يتعلم اللغة العربية ويجرب الكتابة العربية. وليس مرجعه أنه تأثر بأفكار عصر التنوير وما دعت إليه من تسامح ديني، بل لعل السبب الأكبر أنه وجد في الإسلام من الآراء والأفكار ما تصور أنه يتفق مع عقيدته وفكره ومذهبه في الحياة (الذي نعلم اليوم مدى تأثره بفلسفة اسبنيوزا).
وأول ما يخطر على البال في هذا الصدد أن اهتمامه في شبابه بدراسة القرآن الكريم قد أوحى إليه بمشروع كتابة مأساة أو تراجيديا عن النبي. ولا شك أننا نأسف اليوم لأن هذه المأساة ظلت شذرة لم تكتمل ولم يبق منها إلا أغنية محمد التي كانت فاتحة الفصل الأول.
ومع ذلك يتضح من الأجزاء التي لدينا مدى إعجاب الشاعر بشخصية الرسول الذي رأى فيه نموذجا للنبي الذي لم ينشر دعوته بالكلمة وحدها، بل عمد وجاهد وتحمل الأذى في سبيلها. ويتضح لنا هذا الحب والإعجاب بشخصية النبي الكريم في الأغنية المشهورة «أغنية محمد» التي كتبها وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وكان يقصد بها في البداية أن تكون حوارا بين علي وفاطمة. وهو يصور النبي في صورة النهر القوي المتدفق الذي يبدأ رقيقا هادئا ثم يصل إلى أقصى قوته وعنفوانه ويتسع حتى يصب في البحر المحيط (رمز الألوهية). ولعل هذه الصورة - وبخاصة عند جوته الشاب المعتز بعبقريته، المؤمن بأن له رسالة إلهية لا تقل شأنا عن رسالة الأنبياء! - لعلها أن تكون تعبيرا عن الشاعر نفسه، وهذه هي الأبيات التي تتمثل فيها هذه الصورة:
ها هو يجري في الوادي
متلألئا بهيا،
والأنهار الجارية في الوهاد
والجداول الهابطة من الجبال
تهتف به صائحة: يا أخانا،
يا أخانا، خذ إخوتك معك،
خذنا إلى أبيك الخالد
إلى المحيط الأزلي،
الذي ينتظرنا
بذراعين مفتوحتين.
ثم تقول الأغنية بعد قليل:
خذ إخوتك من الوادي،
خذ إخوتك من الجبال،
خذهم معك إلى أبيك.
إلى أن تنتهي بهذه الأبيات:
هكذا يضم إخوته،
كنوزه، أطفاله؛
إلى صدره الجياش بالفرح
ليسلمهم إلى الإله المنتظر.
هذه الصورة لا تعبر كما قلت عن شخصية النبي وحده، بل تعبر كذلك عن شخصية الشاعر نفسه. فهو أيضا قد عرف رسالته، وآمن بأنه يهدي الناس على طريقته، ويرقى بإخوته من البشر إلى حياة أسمى وأرفع. والحق أن جوته لم يتخل عن هذه العقيدة طوال حياته، فظلت شاعريته تحمل هذا الطابع الديني، أو إن شئت هذا الطابع التربوي والأخلاقي الذي لا ينفصل عن الرسالة النبوية، كما ظل الملايين من الناس حتى يومنا هذا يعتبرونه هاديا روحيا، أعني بالمعنى الأرحب بالكلمة.
ولا تكشف أغنية محمد عن إعجاب شاعرنا بشخصية النبي وحسب، بل تكشف كذلك عن إعجابه بركن أركان الإسلام، وهو التوحيد. ويظهر هذا في النشيد الذي يتغنى به محمد وحده في بداية المسرحية، تحت سماء ساجية متألقة بالكواكب والنجوم:
ليس في مقدوري أن أفضي إليكم بهذا الإحساس،
ليس في مقدوري أن أشعركم بهذا الشعور.
من يصيخ السمع لضراعتي؟
من ينظر للعين المبتهلة؟
انظروا! ها هو يسطع في السماء، المشتري النجم الصديق
كن أنت سيدي، كن إلهي! إنه يلوح لي في حنان.
انتظر، انتظر، أتحول عينيك؟
ماذا؟ أيمكن أن أحب من يتخفى عني؟
مبارك أنت أيها القمر، يا هادي النجوم،
كن أنت سيدي، كن إلهي أنت تضيء الطريق.
لا تتركني، لا تتركني في الظلام،
أيتها الشمس، أنت أيتها الشعلة المتوهجة التي يتبتل لها الفؤاد المشتعل
كوني أنت إلهي، قودي خطاي، يا من تطلعين على كل شيء.
أوتأفلين أنت أيضا، أيتها الرائعة؟
إن الظلام العميق يخيم علي.
ارتفع أيها القلب العامر بالحب لخالقك.
كن أنت مولاي، كن إلهي، أنت يا من تحب الخلق أجمعين ،
يا من خلقتني وخلقت الشمس والقمر
والنجوم والأرض والسماء.
هذه الأبيات تذكرنا بما جاء في القرآن الكريم في سورة الأنعام (74-79) في مناجاة إبراهيم لربه:
وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين * وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين .
والغريب أن هذه السورة وجدت ضمن السور التي ترجمها جوته نفسه عن ترجمة ماراتشي اللاتينية، وتظهر فيها دقة الفهم وجمال الأداء وشاعريته، كما تتجلى تقواه وإيمانه بالطبيعية كمظهر من مظاهر القدرة الإلهية. ولعل عقيدته التي صاحبته طوال حياته وتأثر فيها أبلغ التأثر بمذهب اسبينوزا في وحدة الوجود - وهو المذهب الذي يتلخص في هذه العبارة المشهورة «الله أو الطبيعة» - لعل هذه العقيدة هي التي قربته من الإسلام وجعلت له هذه المكانة في قلبه. ولا يصح أن نتهمه بعد هذا بأنه خلط في فهمه للإسلام بين وحدة الوجود - وهو شيء بعيد كل البعد عن روح الإسلام - وبين التوحيد. فربما يغفر له أنه وجد في قراءاته للقرآن الكريم آيات كثيرة تؤيد إيمانه بأن الله يتجلى في كل مخلوقاته على اختلاف مظاهرها. ويكفي أنه أنصف الإسلام وقدره في وقت كان فيه المستشرقون يكادون يجمعون على الافتراء عليه، ولم تكن الدراسات الإسلامية والعربية قد برئت بعد من التعصب، ولا وصلت - على الأقل عند عدد لا يستهان به من الدارسين الغربيين - إلى درجة كافية من الحياد والإنصاف. ويكفي كذلك أن نعلم أن هذه الشذرة من مسرحيته التي لم تتم تختلف تمام الاختلاف عن مسرحية أخرى عن محمد كتبها فولتير وهاجم فيها الرسول أشد الهجوم. وإذا كان جوته قد ترجم هذه المسرحية الأخيرة وعرضها على مسرح «فيمار» الذي كان يتولى الإشراف عليه، فقد أثبت البحث الحديث أنه اضطر إلى ذلك تنفيذا لرغبة كل من صديقه وراعيه كارل أوجوست أمير فيمار ووالدته وزوجته.
ولعل أكثر ما أعجب جوته في الإسلام وصادف هوى من نفسه هو هذا التسليم المطلق لمشيئة الله، كما لاحظه في القرآن الكريم وفي أخلاق المسلمين. والأغرب من هذا أنه عاش طوال حياته مؤمنا بهذه الروح الإسلامية التي أخطأ فهمها الغربيون والمسلمون أنفسهم في عصور التدهور، فكانت عزاءه في المحن والملمات. وما أكثر ما كان يقول حين تصيبه مصيبة فلا يجد أمامها سوى الصبر والإذعان والتسليم: «ليس لدي ما أقوله سوى أنني ألجأ هنا أيضا إلى الإسلام.» قال هذا عندما مرضت زوجة ابنه مرضا خطيرا، كما كتب أيضا في رسالة إلى إحدى صديقاته حين انتشر وباء الكوليرا من حوله في سنة 1831م:
لا يستطيع أحد أن يشير على أحد بشيء، فليقرر كل امرئ بنفسه ما يشاء، نحن جميعا نحيا في الإسلام أيا كانت وسيلتنا في التذرع بالصبر والشجاعة.
كان رأي جوته دائما أن الاطمئنان والتسليم بمشيئة عالية هما الأساس المكين الذي يقوم عليه التدين الصحيح، وهي مشيئة تدبر حياتنا وأقدارنا، ولا نستطيع أن ندرك كنهها لأنها تسمو على أفهامنا ومداركنا. وقد تمثلت له هذه العقيدة في الإسلام قبل أي دين آخر، فكان هذا هو سر احترامه له واهتمامه الطويل به. ويظهر أن اقتناعه بفلسفة اسبينوزا منذ شبابه، وإيمانه بمذهب الحتمية الذي قال به الفيلسوف الهولندي
4
ثم تصوره الخاطئ للتلاقي بين هذا المذهب وبين العقيدة الإسلامية في هذا الصدد، هو أحد الأسباب التي دفعته إلى دراسة الشرق بوجه عام والإسلام بوجه خاص. ومن الطريف أن نذكر أنه أقبل على العمل في ديوانه الشرقي على أثر مشاهدته لصلاة أقيمت في إحدى المدارس في مدينة فيمار. فقد مرت بالمدينة في أوائل سنة 1814م فرقة من فرسان البشكير من رعايا الروس المسلمين كانت تتعقب جيوش نابليون المهزومة، فأتيح له ولغيره من السكان أن يحيوهم ويشاهدوا صلاتهم عن كثب ويسمعوا آيات القرآن الكريم ترتل أمامهم. وتصادف قبل ذلك بشهور معدودة أن رجع جماعة من الجنود الألمان إلى وطنهم فيمار بعد اشتراكهم في الحرب الإسبانية، وكانوا يحملون معهم صفحة من مصحف مخطوط عليها سورة «الناس»، وهي آخر سورة في ترتيب سور المصحف (114). سر الشاعر أيما سرور بهذه الهدية، وطلب من المستشرق «لورزباخ» الذي كان أستاذا بجامعة فينا أن يترجمها له، بل ذهب إلى أبعد من هذا وحاول أن ينسخها بنفسه.
كان هذا كله، إلى جانب قراءاته المتصلة في القرآن الكريم وعنايته بالاطلاع على سيرة الرسول، مما أعانه على أن يعيش في جو الإسلام، ويألف عالمه الفكري والروحي. ونستطيع اليوم أن نقول إنه لولا هذه الصلة الحميمة بالإسلام ما قدر له أن يكتب ديوانه الشرقي، ولا قدر له كذلك أن يتحرك في هذا العالم الغريب عنه بحرية وصفاء فيجدد شاعريته وشبابه، ويخلط الجد بالدعابة، ويعبر عن إعجابه بحافظ الشيرازي وحنينه للشرق واحترامه للإسلام، دون أن نسمع في الديوان كله نغمة شاذة أو نقرأ كلمة واحدة تؤذي شعور المسلمين. ولا بد أن إمعانه في دراسة القرآن هو الذي ألهمه بعدد كبير من قصائده، ويكفي أن نقرأ هذه الأبيات الأربعة المعروفة:
لله المشرق
لله المغرب،
الأرض شمالا
والأرض جنوبا
تسكن آمنة
ما بين يديه.
يكفي أن نقرأها لنتذكر هذه الآية الكريمة من سورة البقرة (115):
ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم .
وثمة أبيات أخرى من كتاب «المغني» من الديوان الشرقي تقوم على سورة الفاتحة، ولعل الشاعر أن يكون قد كتبها وفي ذاكرته كذلك سورة «الناس» الذي ذكرت قصتها:
ينازعني الغي والضلال
لكنك تعرف كيف تهديني.
اهدني أنت في أعمالي
وفي أشعاري الصراط المستقيم.
وهناك أبيات أخرى من نفس الديوان يبدو أن الشاعر قد تأثر فيه تأثرا مباشرا بهذه الآية الكريمة من سورة الأنعام (97):
وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون :
جعل لكم الكواكب والنجوم
لتهتدوا بها في البر والبحر،
لكي تنعموا بزينتها
وتنظروا دائما إلى السماء.
كل هذه القصائد تردد صوتا واحدا، ألا وهو التسليم بالقدر الذي رسمته مشيئة الله. ولو أردنا أن نتتبع هذا الصوت في ثنايا الديوان لطال بنا القول، ويكفي أن نشير إلى هذه الأبيات من كتاب الأمثال:
رب الخلق قد دبر كل شيء
تحدد نصيبك، فاتبع السبيل،
بدأ الطريق، فأتم الرحلة.
أو إلى هذا البيت من كتاب التفكير على لسان جلال الدين الرومي:
إن أقمت في العالم فر كالحلم،
وإن رحلت حدد القدر طريقك.
فمشيئة الله هي التي تحدد طريقنا وترسم حياتنا، ولولا إيمان جوته بوجود قدرة عالية مدبرة للكون ولمصير الإنسان فيه، ولولا أنه وجد في العقيدة الإسلامية ما زاد من اطمئنانه إلى هذا الإيمان وقواه في نفسه، لما كان من الممكن أن تشيع هذه الروح السمحة التقية في قصائد الديوان الشرقي، ولا أن يسري فيها سمو التدين حتى حين يلجأ للمرح والدعابة الصافية. ويبدو أن الشاعر قد آمن أيضا بأنه ليس من سبيل للإنسان أمام المشيئة الإلهية إلا التسليم بالقدر والاطمئنان لما يصيبه على يديه، والتذرع بالتسامح في الفعل والقول والشعور. ولعل أروع ما قاله في هذا الموضوع هو الأبيات التي جاءت في كتاب الحكمة (والترجمة للشاعر الكبير المرحوم الأستاذ عبد الرحمن صدقي):
من حماقة الإنسان في دنياه
أن يتعصب كل منا لما يراه،
وإذا الإسلام كان معناه أن لله التسليم
فإننا أجمعين، نحيا ونموت مسلمين.
ولا يجوز أن نحمل البيتين أكثر مما يحتملان، فالواجب يدعونا أن نفهمها على ضوء ما سبق من الكلام عن إيمان الشاعر بمشيئة عالية ينبغي على الإنسان أن يسلم أمره إليها، وارتياحه إلى هذه العقيدة التي وافقت شخصيته وطبعه، كما أكدت ما سبق قوله أكثر من مرة عن اقتناعه بفلسفة اسبينوزا. والمهم أن الشاعر الكبير قد بدا في شيخوخته وكأنه يريد أن يغير حياته كلها ويستقبل شبابا جديدا ويتفتح على عالم جديد. فها هو ذا يقتبس من القرآن الكريم ما يوافق مزاجه وشاعريته، وها هو ذا يترك «هوميروس، وهيلينا، وإيفيجينيا» لينعم بصحبة «زليخا» و«حاتم» و«المجنون» والندامى و«الحور» و«الدراويش» والمغنين! وإذا كان من غير الجائز أن نبالغ في هذا التحول إلى الشرق أو نفهم منه أنه يدل على تحول تام عن الغرب، فمن الواجب في الوقت نفسه أن نقرر أنه لم يسبق في تاريخ الفكر الغربي أن وجدنا شاعرا مثله يتجه بكل روحه إلى الشرق ويطلق خياله فيه بكل حريته تاركا وراءه ميراث ألفي سنة من التراث القديم والوسيط والحديث.
ويزداد إعجابنا وإكبارنا لهذا الشاعر إذا عرفنا أنه لم يكن في سن الشباب الجريء المتهور، بل في سن الخامسة والستين عندما راح يتجول في رحاب الشرق كأنما ولد من جديد. وخليق بنا نحن العرب أن نتذكر هذا الشاعر الجليل كما صور نفسه في إحدى قصائد ديوانه وهو يقطع الصحاري الشاسعة على ظهر جواده وليس فوق رأسه إلا النجوم، ولا في قلبه غير الحب والتسامح، والاطمئنان والصفاء، والإيمان برسالة الدين والأدب والفن في توحيد بني الإنسان على التآخي والسلام. (2) قصة الديوان الشرقي
كثيرة هي الكتب التي نقرؤها ونادرة هي الكتب التي نعيش معها، والديوان الشرقي هو أحد هذه الكتب التي تصحبنا في رحلة العمر، نرجع إليها بين الحين والحين لنستمد منه العزاء والإيمان، وننهل منه الحكمة والحب، ونجد في أشعاره النقية وألحانه العذبة من الصفاء والمرح والجمال ما يرد إلينا الانسجام المفقود في عالمنا اليومي المزدحم بالقبح والفوضى والأنانية والضغائن.
5
ثم إنه - بجانب فاوست - أهم ما أبدع هذا الشاعر المطبوع القديم وأصدقه تعبيرا عن قلبه الرقيق وفكره العميق وتجربته الوجدانية بالحياة. وربما كنا - نحن القراء في الشرق - أحق بهذا الديوان من قرائه الغربيين وأقدر منهم على تذوقه وإنصافه والإحساس بصوره ورموزه وإشاراته. فكم من قصيدة تهب علينا منها أنفاس الصحراء العربية، أو تستوحي روح الإسلام وعالمه السمح. وكم من حكاية أو نادرة مستوحاة من حياة النبي الكريم
صلى الله عليه وسلم
وأولياء الله الصالحين أو الشهداء المجاهدين في سبيله. وكم من اسم يتلى من شعراء العرب والفرس الذين نعرفهم، أو على الأقل نسمع عنهم ونألف صورهم وأخيلتهم ولا نجد مشقة في التعاطف معهم والابتسام لدعابتهم ومشاركتهم حبهم ولهوهم وغنائهم.
لن نتصور هذا كله - كما قد يتصوره القارئ الغربي - مجرد تلاعب حركي بأقنعة شرقية يتوارى خلفها شاعر كهل ليعكس عليها لواعج حبه المشبوب لفتاة في عمر أبنائه. بل سيزداد عجبنا وإعجابنا بهذا الشاعر الذي يستقبل «النور الطالع من الشرق»، ويجدد شبابه وشاعريته ينطلق فوق جواده «ولا شيء فوق رأسه إلا النجوم» ليسافر مع القوافل ويحضر مجالس الشراب في الحانات، ويخالط الندامى والعشاق والدراويش، ويغني بلسان حافظ والمجنون وزليخا وهدهد سليمان وحوريات الفردوس، ويقيم جسورا من الحب والعرفان والتسامح بين الشرق والغرب الذي ظل شعراؤه قرونا طويلة يتغنون بآلهة الأوليمب ويلهثون في آثار هوميروس وبندار دون أن يحفلوا بروح الشرق أو يحاولوا طرق أبوابه الموصدة، حتى جاء هذا الشاعر فبدأ عهد جديدا للاهتمام بتراث الشرق واستلهامه ودراسته دراسة علمية جادة.
لم يسبق لشاعر غربي قبل جوته أن فتح هذه الأبواب لينفذ إلى عالم الشرق الفسيح، ويتجول بين شعوبه وحضاراته المختلفة على مر العصور، ويسافر في بحاره ومدنه وصحاريه، ويفتح قلبه وعينيه على كتبه وأسراره، ويدير في النهاية هذا الحوار الشائق بين القارات والقرون والآداب والأديان والعادات.
ومع ذلك - وهذه هي معجزة الاستلهام الأصيل! - لم يضيع الشاعر نفسه في الغربة، ولم ينس ذاته في الفيافي ومضارب الخيام. لقد سجل يوميات رحلته الشرقية شعرا في هذا الديوان، ولكنه بقي ديوان شاعر غربي تتغنى قصائده الخالدة بالمدن والحانات التي زارها، والخمور التي ذاقها، ونعمة الحب أو مرارة الهجرة والفراق التي جربها. وكما تدل كلمة الديوان الفارسية الأصل على الجمع أو المجموع، كذلك تؤلف أشعار الديوان بين الشرق والغرب، والعام والخاص، وأقدار الطغاة الجبابرة والشعوب والحضارات الغاربة، كأنها مرايا تعكس هذا الحوار العابث الجاد في اثني عشر كتابا أشبه باثني عشر وترا تتوافق لعزف لحن واحد ينبعث من آلة واحدة.
6
ولهذا لم يخطئ بعض النقاد عندما وصفوا الديوان بأنه سيمفونية شعرية ترتبط فيها البداية بالنهاية، ويظهر اللحن ليختفي ثم يتكرر ظهوره، أو عندما شبهه الشاعر نفسه بسجادة فارسية تتشابك فيها القصائد كما تتشابك الخيوط والزخارف، وتستغرق الأجزاء في الكل كما يشتمل الكل على الأجزاء. •••
ما قصة هذا الديوان؟ متى بدأ جوته في كتابته؟ ما الذي حرك قلبه ومد يده إلى أساطير الشرق وأغانيه وحكمه وأمثاله وصوره وحكاياته للتعبير عن أشواقه وآلامه؟ متى بدأت تجربة لقائه مع الشرق؟ وما البحوث التي اعتمد عليها والترجمات التي قرأها واستوحاها؟ ثم ما موضوعات هذا الديوان، وكيف استقبله الناس؟ لندر قليلا مع عجلة التاريخ قبل أن نتوقف معا عند القصائد التي يضمها الديوان الشرقي-الغربي.
أعلن جوته عن «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي» لأول مرة في أواخر شهر فبراير سنة 1816م في «صحيفة الصباح» التي كان يصدرها كوتا ناشر أعماله، وذلك لتعريف القراء بكتبه وموضوعاته. وكان العنوان الأصلي الذي وضعه له هو: «الديوان الغربي-الشرقي أو مجموعة قصائد ألمانية تتصل اتصالا مستمرا بالشرق»، وكان قد اطلع قبل ذلك بسنتين على ديوان حافظ الشيرازي في ترجمة المستشرق النمساوي «يوسف فون هامر بورجشتال». ولا شك أن الأمر لم يكن مجرد اطلاع على مجموعة من الشعر الفارسي، وإنما كان لقاء حقيقيا بدأت معه مرحلة حاسمة في حياته وإنتاجه تفتحت في ظلها زهرات هذه القصائد النادرة التي تعد أخلد تعبير عن تجربة اللقاء بين الغرب والشرق. ولعلها لو تمت قبل ذلك أو بعده لما أثرت عليه كل هذا التأثير. فقد صادفت فيه وجدانا متوهجا بالشباب والحب وبهجة الخلق والإبداع، وعقلا صافيا صقلته حكمة الشيخوخة وتجاربها، وكيانا مهيأ لتقبل المزيج من العاطفة والعقل الذي وجده في الشعر الشرقي.
ولم يكن عالم الشرق في يوم من الأيام غريبا عليه، صحيح أن منابع التراث الإغريقي والروماني ظلت دائما مصدر وحيه وثقافته، ولكن منابع الشرق لم تنقطع أبدا عن جذب عينيه إلى بريقها وغموضها. ونحن نعرف أن هردر
7
وجهه إلى قراءة الكتاب المقدس بوصفه تاريخا حضاريا للشرق القديم ، كما نبهه ونبه أمته بوجه عام إلى الآداب الشرقية وأغانيها الشعبية الأصلية، بفضل ترجماته العديدة عن الآداب الفارسية والهندية والصينية، ورؤيته الحضارية الشاملة التي تضم مختلف العصور والشعوب، وتصور تاريخ البشرية في وحدة عضوية حية نامية. وكان هردر يعرف حافظ الشيرازي، كما ترجم بعض قصائد سعدي، واهتم بالأغنية الشعبية و«أصوات الشعوب في أغانيها» وضم هذه العناصر كلها إلى الصورة الرحبة التي قدمها عن تاريخ البشرية في كتابه المشهور «أفكار عن فلسفة تاريخ البشرية». وعكف جوته في أثناء دراسته في ستراسبورج على ترجمة أجزاء من نشيد الإنشاد. واهتم منذ سنة 1773م بالحضارة العربية والاطلاع على ترجمات القرآن الكريم وسيرة الرسول
صلى الله عليه وسلم
لإعداد مسرحية عنه كانت تشغله في ذلك الوقت كما أسلفنا القول، ولم يتمكن من إتمامها، وقام سنة 1783م بترجمة أبيات من الشعر الجاهلي استعان فيها - كما ذكرنا - بترجمات المستشرق الإنجليزي وليم جونز، كما كتب في سنة 1797م بحثا عن «إسرائيل في الصحراء» ضمه بعد ذلك إلى تعليقاته على الديوان، وحاول أن يثبت فيه أن رحلة بني إسرائيل في الصحراء بعد خروجهم من مصر لم تستغرق أكثر من سنتين، وأن خرافة التيه لمدة أربعين سنة قد اخترعها اليهود في وقت متأخر. وظل منذ شبابه يضع الشرق نصب عينيه، فهو يقرأ مذكرات الرحالة بكل الشوق والإعجاب، ويتابع جهود المستشرقين الذين كان بعضهم من أعز أصدقائه، في اللغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية واللاتينية، حتى استحق في النهاية أن يستشار في شغل كرسي الآداب الشرقية في جامعة يينا، وقد كانت كعبة الأدب والفلسفة في ذلك الحين.
كان سعدي الشيرازي
8
مؤلف «جلستان» و«بستان» هو أول من عرفه الأدب الألماني من شعراء الفرس العظام الذين ازدهروا من القرن الحادي عشر إلى القرن الخامس عشر؛ فقد ترجم له آدم أولياروس،
9
كما نقل هردر بعض قصائده وأمثاله. ثم ظهرت ترجمة حافظة الشيرازي (من حوالي 726ه/1326م إلى حوالي 792ه/1390م) التي أشرنا إليها سنة 1812م واطلع عليها جوته فأخذته الدهشة والإعجاب «بتوءم روحه » ها هو ذا يجد نفسه في شاعر قديم نشأ في ظل حضارة أخرى، نفس البهجة بالحياة والحب لهذا العالم، واستغراق العين في صور الكون وألوانه وأشكاله، ورويه الأبدي الخالد منعكسا في كل ما هو أرضي، والشوق الديني الغامر، والحب الصوفي الذي ينبت أجنحة للمحدود فيسمو للا محدود، وقصائد الحب والخمر، والبلبل والوردة، تشتعل بنار العاطفة وفي الوقت نفسه تصفيها أنوار العقل، لا بل تلعب معها وتداعبها، لا مادة هنا ولا دوافع مظلمة، بل يتنفس عطر الروح، كما يشبهه هذا الصوفي المبتهج بأفراح العالم وأعاجيبه، وكم سبح مثله في تيار حضارة غنية سعيدة، وكم هاجمه المتشددون من رجال الدين فرد عليه في حدة وترفع. ثم جاء عصر العسف والطغيان - مع جراد تيمورلنك! - فغير العالم دون أن يغيره. أوجه شبه عدة: هنا الحياة الرخية في إمارة فيمار الصغيرة في ظل الأمير كارل أوجست الذي أحبه كصديق وتوج جبينه بإكليل أرباب الأوليمب، وهناك الحظوة والهناء في ظل أسرة مظفر، هنا المحنة القاسية تحت نير جيوش طاغية العصر الحديث نابليون، وهناك المحنة الرهيبة تحت سنابك خيول تيمور ونيرانه ودماره، ثم قبل كل شيء هذا التوافق في الرؤية والمضمون والمزج بين الموضوعية والرمز، وهنا وهناك قصائد تبدو في ظاهرها غزليات فاضحة تتعبد حسن زليخا «أو مريانة» في محراب الحب، لكنها قد تكون كذلك صورا للحب الإلهي. فالخمر هي الخمر، وهو نشوة المتصوف بالمحبوب الأسمى. أهي هذا أم ذاك؟ هي الأمران معا: حس وروح، أرض وسماء، كون وإله، جسد وتصوف. العالم ينكشف لنور الروح، ويعلن عن أعماقه، لكن عالمه يظل غريبا على الفريقين، على المتزمتين ذوي الأفق الضيق، وعلى الغائبين في المواجد والأشواق.
أولا يصدق هذا أيضا على شاعر الغرب؟ ألم يكن العالم عنده سرا مقدسا مكشوفا، فالأبدي الواحد يتكشف له في مختلف الأشكال، والشاعر الأرضي لم يوجد إلا لكي يندهش به؟ ألم يكن العالم عنده «انعكاس اللامتناهي» و«رمزا لله»؟ ألم يقل مرة (في بحثه عن نظرية الطقس والأنواء) إن الحق - وهو الألوهية نفسها - لا يمكننا من معرفته مباشرة، وإنما نعاينه نراه في الانعكاس، والمثل، والرمز، ألم يكن مثله يملك القدرة على الرؤية الصوفية التي ترى المحدود بعين اللامحدود، ويملك مع ذلك الوعي بحدوده البشرية التي تعبر عن نفسها في حرية الدعابة والتهكم؟ استمع إليه وهو يتحدث في تعليقاته على ديوانه الشرقي
10
فيقول عن قصائد حافظ:
11
لن نقول إلا القليل عن هذه الأشعار؛ إذ لا بد أن يتذوقها القارئ ويتناغم معها. إن الحيوية المتدفقة المعتدلة تنساب منها. كان (حافظ) يعيش قانعا راضيا مبتهج الطبع حكيما، يشارك بنصيبه في خيرات العالم الوفيرة، ويتطلع من بعيد إلى أسرار الألوهية، منصرفا في الوقت نفسه عن أداء الشعائر الدينية وعن لذات الحس. وإذا كان يبدو في الظاهر أن الفن الشعري يعظ ويعلم، إنه يحتفظ بالضرورة بنوع من مرونة التشكك وحريته.
وفي موضع آخر من تعليقاته يقول:
إن الطابع الأسمى للشعر الشرقي هو ما نسميه نحن الألمان بالروح، ذلك المبدأ الذي يوجه الإنسان ويهديه، وتنتمي الروح بوجه خاص للشيخوخة أو لعصر كوني تثقله أعباؤها. وأهم ما تتسم به هو النظرة المحيطة بالكون والدعابة والاستخدام الحر للمواهب، وكلها خصائص مشتركة بين شعراء الشرق.
ولا يصح أن نسيء فهم عبارة ما «نسميه نحن الألمان بالروح»، فالشاعر لا يقصد بها «الروح المطلق» بالمعنى الميتافزيقي الذي أشاعته الفلسفة المثالية الألمانية وبخاصة عند هيجل، وإنما يقصد ما يفهمه هو نفسه من الروح، فهي تعبر عن شخصيته أتم تعبير حتى تدل على الوعي الذي جعله لا يفزع من شيء مخيف، والمرح الذي يحركه للتعبير عن كل شيء في صورة مبهجة. ثم إن الروح تصور مهمة الشاعر في هذه العبارات الكلاسيكية (التي تعبر عن رؤيته الفنية أفضل تعبير): إن تفكير الشاعر يتعلق في الحقيقة بالشكل. أما المادة فيعطيها له العالم فيجزل العطاء، وأما المضمون فيصدر صدورا حرا عن ثروة وجدانه الباطن، ويلتقي الاثنان لقاء غير واع، بحيث لا يدري الإنسان في النهاية لمن يعود الفضل في هذه الثروة. غير أن الشكل، وإن كان يكمن في العبقرية بوجه خاص، يريد أن يعرف ويتأمل، وهنا تظهر الحاجة إلى التدبر والتفكير لكي يتلاءم الشكل والمادة والمضمون، وتتناغم مع بعضها، وتنفذ بعضها في بعض.
لا شك أن خصوبة شعراء الفرس وتنوعهم الذي يتدفق من رحابة العالم الخارجي وثروته التي لا حد لثراء ألوانها هو الذي جذبه إلى قراءتهم والإعجاب بهم. فهو يشيد بعنايتهم بالتفاصيل، ونظرتهم النافذة والمحبة التي تستخلص من كل شيء أهم خصائصه، وتصور الكائنات الطبيعية الساكنة في صور شعرية يمكن أن توضع بجانب الصور واللوحات التي أبدعها الرسامون الهولنديون، بل ربما تفوقت عليها بسموها المعنوي. إنهم لا يسأمون تكرار الموضوعات الأثيرة لديهم، ولا يعمل الواحد منهم تصوير نور المصباح الباهر وضوء الشمعة الساكن، حتى إن الأشياء الطبيعية تصبح عندهم بديلا للأساطير، كما تحتل الوردة والبلبل مكان أبوللو ودافني عند الإغريق. وإذا تذكرنا أنهم لم يعرفوا المسرح ولا فن النحت، فإن موهبتهم الشعرية لم تكن أقل من أية موهبة عرفها التاريخ، وكل من يأنس عالمهم الخاص لا بد أن يزداد إعجابا بهم.
لم يكن غريبا على «هوميروس العصر الحديث» أن تلتقط عينه المبصرة - كعين النسر الإلهي! - هذه السمات المميزة للشعر الشرقي. ولكن يبدو أن «المغناطيس» الحقيقي الذي جذبه إليهم وهو على أعتاب الشيخوخة، هو صوفيتهم التي وصفها بأنها صوفية أرضية أو دنيوية. لقد كانت جديرة بأن تلمس وجدانه، وأن يحس روحها الحادة العميقة، ويشعر بقربها من تفكيره وإنتاجه بعد أن بلغ الخامسة والستين من عمره. ووصفه للأسلوب الذي عبر به هؤلاء الشعراء عن روحهم الصوفية بحيث لا يضير الشاعر منهم أن يحلق بنا إلى السماء ثم يهوي بنا إلى الأرض أو العكس، وقيامه على التوحيد بالله والتسليم بمشيئته. كل هذا كان خليقا أن يحركه إلى كتابة قصائد أخرى تدور في فلكه الروحي، وها هو ذا يحدد في رسالة إلى صديقه تسلتر
12
أوجه التلاقي بينه وبين شعراء الشرق فيقول:
إن الدين الإسلامي بما فيه من أساطير وأخلاق يتيح لي أن أكتب شعرا يوافق سني. فالتسليم المطلق بإرادة الله الخافية علينا، والنظرة المرحة المحيطة بالحياة الأرضية التي تبدأ وتعود على الدوام في صورة دائرية يستخفها اللعب، والحب والميل اللذان يرفان بين عالمين، والواقع الذي يصفى وينحل في الرمز ما الذي يريده الجد العجوز أكثر من هذا؟! هذه العبارات التي يمتزج فيها الجد بالدعابة تذكرنا بأسلوب شعره في الديوان «بالبعد عن الانفعال»، بالجدية العميقة التي يتخللها المرح المكشوف، بالتهكم على النفس و«مرونة التشكك»، «بالروح» التي ذكرها بنفسه في أثناء حديثه السابق عن شعراء الشرق، أو التي عبر عنها في إحدى قصائد الديوان من كتبا زليخا «لأن الحياة هي الحب، وحياة الحياة هي الروح» في الحادي عشر من شهر مايو سنة 1820م.
لهذا أمكنه أن يقول عن قصائد ديوانه في تعريف القراء بها إن بعضها لا يتنكر للنزعة الحسية، ولكن بعضها الآخر يمكن أن يئول تأويلا روحيا، فالإنسان الغني بالروح يتأمل كل ما يقدم للحواس كنوع من التنكر الذي تختفي وراءه حياة روحية أسمى على نحو مضحك عجيب، وذلك لكي يجذبنا إلى مناطق أكثر نبلا. •••
كيف استطاع هذا الشاعر الغربي أن يتذوق الشعر الشرقي؟ ألم يجد فيه شيئا غريبا عليه أو منفرا له؟ هل أمكنه أن يوفق بين صوره الغريبة واعتماده إلى حد كبير على القافية والإيقاع في توليد هذه الصور وبين القيم المألوفة في شعره؟ هل افتقد فيه التجربة والوحدة والنظام الذي عرفه في تراثه؟ وما الذي أعجبه فيه أو صدمه منه؟
كان الشعر عند المصريين القدماء وعند أول شاعرة غنائية في التراث الغربي وهي «سافو» أو عند شاعر روماني مثل «كاتول»، بل عند الألمان أنفسهم منذ عهد جوته نفسه هو شعر التجربة. فالقلب يعترف للقلب. والشعر العربي والفارسي لا يخلوان بطبيعة الحال من التجربة، ولكن الإيقاع والقافية التي تستدعي قافية أخرى ظلت تحددهما إلى حد كبير حتى حاول المجددون في أيامنا أن يتحرروا من العمود ووحدة القافية بالإضافة إلى محاولات أقدم في الشعر الشعبي والزجل والموشح. والتصورات والأفكار التي تضمنها في عهوده الأولى نشأت في دائرة الوجود الذي لم تعقده الثقافة العقلية، ولهذا كان الإيمان رحبا واسعا - كما تقول قصيدة الهجرة التي يبدأ بها الديوان - وكانت للكلمة أهميتها القصوى لأنها كانت كلمة فاهت بها الشفاه. ولعل هذا هو الذي جعل جوته يقول إن اللغة العربية كانت في ذاتها ولذاتها لغة منتجة أو خلاقة، فهي خطابية بليغة بقدر ما تستجيب للفكرة، وهي شاعرية بقدر ما تلائم ملكة التخيل. ولا بد أنه كان يفكر عندما قال هذا في الصيغة السحرية التي نبع منها كل شعر، كما تصور أن هذا السحر كان لا يزال يؤثر على الشاعر الشرقي بحيث أصبح نطلق الكلمة نفسه فعلا من أفعال الخلق والإيجاد. ولهذا راح يؤكد أن لغته تعتمد على الجرس والإيقاع، مما يضعف علاقتهما بنظام الواقع أو يلغيها، كما أن القافية تقوم بدور كبير في بعث الصور وتسلسلها أو تضادها، مما يحير القارئ الغربي ويخالف ذوقه، وينفره في بعض الأحيان من الصنعة والتكلف.
غير أنه إذا كان من الطبيعي أن يجد جوته في الشعر الشرقي بعض الغرائب والمفارقات التي تخالف ذوقه وذوق قرائه، فإننا نراه يبذل كل جهده للاعتذار عنه ومحاولة تجربته في ظل الظروف والضرورات التاريخية التي نشأ فيها. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يضع هذه الأبيات في مقدمة تعليقاته على الديوان، وكأنها شعار ينبئ عن تسامحه ونزاهة حكمه وسعة أفقه وبعده عن التعالي والغرور:
من أراد أن يفهم الشعر
فليذهب إلى بلد الشعر
من أراد أن يفهم الشاعر
فليذهب إلى بلد الشاعر.
ولم يقدر لجوته أن يذهب إلى شعراء الشرق في بلادهم، ولا أن يقرأهم في لغتهم، ولكنه التقى بهم فيما تيسر له من ترجمات في لغته أو في لغات أوروبية أخرى (على الرغم من استحالة ترجمة الشعر التي تقضي على روحه وجسده جميعا ولا تبقي منه - مهما تكن موهبة المترجم! - إلا على ظل الظل وانعكاس الانعكاس) ها هو ذا يتحدث عن «أنوري» شاعر المديح الأكبر عند الفرس
13
فيقول:
إننا لن ننصفه إذا جعلنا من الظروف التي عاش في ظلها وعبر فيها عن موهبته جريمة تحسب عليه. وهل كان ينبغي أن نطلب منه أن يتولى وظيفة عامل رصف للشوارع، على ما في هذه الوظيفة من نفع كبير؟
كما يقول عن جلال الدين الرومي (توفي سنة 1262م) بعد عرض قصير لشعره الصوفي: «لا يصح أن نأخذ عن هذا الروح العظيم أنه اتجه إلى الإغراب والإلغاز.»
أما عن حافظ فهو يفسر التناقض بين وظيفته الدينية وبين شعره المفعم بالبهجة بأن الشاعر في الشرق كان يمكنه في الوقت نفسه أن يكون راوية للحكايات، ولم يكن من الضروري أن يفكر في كل ما يعبر عنه ولا أن يحياه بنفسه.
مهما يكن من نفور شاعرنا من الصنعة الشكلية، فقد انجذب إلى شكل القصيدة الغزلية التي أسرف الشاعر المستشرق ركرت (1788-1866م) في كتابه «أزهار شرقية» والشاعر الرومانسي فون بلاتن (1796-1835م) في كتابه «غزليات» في محاكاتها وتقليد أوزانها وقوافيها. فنحن نجد في الديوان الشرقي غزليتين جميلتين، تكرر إحداهما (وهي بعنوان: الرضا الأسمى من كتاب التفكير) كلمة توجد في آخر كل بيت وبيت، كما تكرر الأخرى (وهي من كتاب الساقي) كلمة السكر، ومن يقرأ القصيدتين يحس بنبض التجربة الصادقة التي تطبع شعره؛ إذ لم يكن مجرد مقلد لهذا الفن الشعري كما فعل مواطناه السابقان.
وإذا كانت مثل هذه المحاولات أقرب إلى اللعب والتسلي بإظهار البراعة في الشكل، فالمؤكد أن مضمون شعر حافظ الشيرازي هو الذي أثر عليه أكبر الأثر. لقد وجد لديه نفس الموضوعات التي كانت تشغله، واستوحى شعره على طريقة بعض شعراء العصر الوسيط الذين كان يحلو لهم أن يتناولوا قصائد الحب والقصائد الشعبية المعروفة فيبدلوا كلماتها «الدنيوية» بكلمات روحية أو صوفية مع الإبقاء على شكلها ووزنها. ولو قارنا بين بعض قصائد الديوان الشرقي وبين أشعار حافظ لوجدنا أوجه شبه مذهلة في المعنى والصورة والرمز، وإن لم يمنعه هذا التقارب الشديد من المحافظة على شخصيته وأصالته. فقصيدة «حنين مبارك»، التي تعد من أهم قصائد الديوان بل من أهم قصائده على الإطلاق، مستوحاة من قصيدة مشابهة وردت في ديوان حافظ (في حرف الصاد ، الغزلية الأولى) وتقول أبياتها التي أحاول أن أنقل إليك معناها:
روحي كالشمعة تحترق بنيران الحب، بالحس الطاهر ضحيت بجسمي، بنقاء القلب، وإذا لم تصبح كفراش يشتعل بنار الوجد، فمحال أن تنجو أبدا من وهم الحب، هل يدري العامة يا حافظ ما ثمن اللؤلؤ؟ حاذر يا حافظ من أن تعطي جوهرتك إلا لمريد.
14
ويكفي أن تقرأ قصيدة «الحنين المبارك» في كتاب المغني لترى أن القصيدتين متقاربتان ومتباعدتان في آن واحد، والواقع أن هذه القصيدة هي درة أشعار الديوان ومرآة مراياه، فهي توحد بين الطريق إلى الحب - بالتضحية والفداء - والطريق إلى الله بالفناء في ذاته العلية فناء الفراشة في نور الشمعة. وهي كذلك توجه أبصارنا - وكأنها واسطة العقد - إلى كتابي العشق وزليخا من ناحية، وكتابي البارسي والفردوس من ناحية أخرى، ففي الحب تدين، وفي التدين حب.
ويمكن أن نقدم مثلا آخر على هذا الاستلهام الأصيل لشعراء الفرس. فقد قرأ جوته في الجزء الثاني من كتاب المستشرق فون دييز «تذكارات آسيوية» هذه القصيدة للشاعر التركي نشاني:
15
عندما كنت مبتدئا في فن الحب قرأت بعناية عدة فصول، من كتاب مملوء بمتون الأحزان وفقرات الهجران، وقد أوجز فصول الوفاق، وأسهب في شرح هموم الفراق، آه يا نظامي! في النهاية هداك إلى الدرب الصحيح معلم الحب، والأسئلة التي لا حل لها لن يجيب عنها إلا حبيب القلب.
ولو قرأت قصيدة «كتاب مطالعة» - وهي من كتاب المغني - للاحظت القرب الشديد بينهما، ولما غاب عنك أيضا أن الأخيرة شيء جديد مختلف الروح والإيقاع (ولو شاء حظك أن تقرأهما في لغتهما الأصلية لكانت الملاحظة أدق، لكن لا حيلة لي أو لك في هذا!) ولسنا نقلل من تأثير النماذج العديدة التي اهتدى بها الشاعر، وإنما نقصد أنها نبهت مادة الإحساس التي كانت راقدة في وجدانه دون أن تعثر على الشكل الملائم، وكأنما أزاحت السدود فتدفق التيار وشق مجراه. وقد كانت اليد المباركة التي أزاحتها هي يد حافظ، فاندفع توءم روحه الغربي في طريقه دون حاجة إلى تقليد. •••
نشأ الديوان الشرقي أيام الكفاح في سبيل التحرر من قبضة نابليون وطغيانه. وكان جوته يعلم أن عددا كبيرا من قرائه سيكون من الشباب الذين تطوعوا تحت لواء «فون لتسوف» وفي صفوف «فرسان فيمار» لمطاردة جيوش نابليون الغازية (وقد انهزم أمام الجيوش الأوروبية المتحالفة في يونيو من 1815م في واترلو) وعندما كان الشاعر يجمع مادة تعليقاته وبحوثه عن الديوان - وكان ذلك سنة 1817م - كان هؤلاء الشبان يتظاهرون ويتصايحون حول قلعة فارتبورج المشهورة ويهتفون بسقوط الملوك والأمراء والنبلاء، هل يمكن في هذا الجو العاصف أن يحدثهم عن الساسانيين والخلفاء والبرامكة؟ وكيف يستقبلون كلامه عن استبداد الحكام والسلاطين في الشرق ونفاق المداحين من شعراء البلاط؟ وهل يتورع أحد عندئذ عن اتهامه بالبعد عن الشعب والتعالي عليه كما حدث له بالفعل قبل ذلك وبعده؟
إن هذا كله لم يمنعه من أن يفرد فقرة من «تعليقاته» عن استبداد الحكام في الشرق وعن شعر المديح الذي يلازمه ولا ينفصل عنه. وهو في هذه الفقرة يعرض الاتهام لكي يرد عليه بعد ذلك بدفاع مستفيض. فالحاكم الشرقي مدع مغرور، يضع نفسه على رأس الأدعياء. الجميع خاضعون له، وهو السيد الذي لا يقبل من أحد أمرا، بل إن إرادته لتخلق بقية العالم، بحيث يسعه أن يشبه نفسه بالشمس أو الكون كله، والغريب أنه يختار شريكا في الحكم يشد أزره ويدعم عرشه، وليس هذا الشريك إلا شاعره الذي يرفع شعره فوق جميع الفانين، وإذا اجتمع في البلاط عدد آخر من أصحاب المواهب الشعرية عين عليهم «أمير الشعراء» وقربه إليه. وقد يشتد الغرور بهذا الأمير الشاعر فيظن نفسه قرين الحاكم والسلطان، وربما أطبق عليه جنون الغضب أو اليأس والمرارة إذا خاب أمله وطموحه وأخفق رجاؤه في الحكام (كالفردوسي والمتنبي!) هذا الادعاء والتسلط يهبط به من أعلى درجات العرش حتى يبلغ الدرويش المسكين القابع في زاوية شارع حقير (وهي نفس ملاحظة الكواكبي في طبائع الاستبداد؛ إذ يجرف الطغيان كل شيء من المستبد الأعلى حتى الشرطي في الطريق!) ولعل هذا هو الذي جعل جوته يفضل لنفسه (في تقديمه لكتاب زليخا) أن يكون درويشا قانعا مكتفيا بنفسه؛ لأن الشحاذ الحقيقي ملك حر، ولأنه لا يملك شيء ومع ذلك يمكنه بالفكر والخيال أن يوزع الممالك والكنوز ويسخر ممن كان يملكها حقا ثم ضيعها! ولهذا نراه يتطوع بتقمص شخصية الدرويش الفقير في هذا الكتاب لكي يظهر في كبريائه أمام الحبيبة التي تبادله حبا بحب. ولا بد أن شاعرنا كتب هذه الفقرة عن الاستبداد الشرقي العريق وفي ضميره ذكرى رعب الإغريق من جيوش الفرس الجرارة التي كانت تدمر مدنهم ومعابدهم بلا رحمة، وسخريتهم من طغيان حكامهم الذين يضعون أنفسهم في مكان الآلهة، وعبودية محكوميهم الذين يسجدون لهم وينافقونهم نفاق الكلاب. ولهذا كان الإغريقي يعتز بحريته في وجه كل غريب غير إغريقي - أو بربري كما كانوا يسمونه! - مهما يكن شأنه (وقصة الحكماء اليونان السبعة وعلى رأسهم المشرع صولون مع كرويزوس ملك الليديين أشهر من أن تروى - فقد أبى صولون حتى أن يصفه بأنه سعيد على الرغم من كنوزه التي جعلته أغنى أغنياء زمانه؛ إذ كيف يمكن لغير الحر أن يكون سعيدا؟) ولعله أيضا كان يفكر فيما كتبه معاصره هيجل عن جدل السيد العبد في ظاهريات الروح أو في محاضراته عن فلسفة التاريخ.
مهما يكن من شيء فإنه لا يلبث أن يرد على الاتهام بدفاع متسامح بليغ. وهو يقدم هذا الدفاع على لسان «رجلين متزنين»، أحدهما عالم إنجليزي والآخر ناقد ألماني. ولم يتوصل الباحثون إلى اليوم إلى معرفة شخصيتهما. ولعل الأرجح أن يكونا قناعين وضعهما الشاعر نفسه للدفاع عن نفسه وعن علاقته الحميمة بأمير فيمار كما يدل على ذلك أسلوبه وتفكيره. إنه يبتعد على كل حال عن التعميم الظالم ويحاول أن يلتمس العذر لبعض شعراء المديح الذين اضطرتهم الضرورات التاريخية والحياتية إلى الخضوع لمشيئة السلطان، واستطاعوا في الوقت نفسه أن يعبروا تعبيرا حرا عن مواهبهم، لم يكن جميع هؤلاء الشعراء منافقين، ولم يمدحوا المستبدين دائما عن خوف من جبروتهم أو عن جهل بقيمة الحرية، وإنما صدروا في ذلك عن تقدير لبعض هؤلاء الحكام الذين اعترفوا بالكرامة الإنسانية وتحمسوا للفن الذي سيخلد ذكرهم. ويقلب جوته الطرف في أشكال الحكم عبر التاريخ فيجد أن الحرية والعبودية تتمثل فيها جميعا في تعارض يشبه تعارض القطبين المتضادين. فإن كانت السلطة في يد شخص واحد، كان الجمهور ميالا للخضوع، وإن كانت في يد الجمهور، كان ذلك في غير صالح الفرد. ويسري هذا على كل المستويات حتى يتصادف أن يتم التوازن في مكان ما، وإن يكن ذلك لأمد قصير. ثم يورد أمثلة من حياة الطغاة ليثبت أن الطبيعة الإنسانية لا تقهر أبدا، وأنها على الدوام تواجه الاضطهاد وتصمد للضغط والإرهاب. فالإسكندر الأكبر أعمته نشوة الانتصار فتصور نفسه إلها وفرض على من حوله أن يعاملوه معاملة المعبود. وعندما يحتدم النقاش ذات يوم بينه وبين كليتوس صديق طفولته وأخيه في الرضاع، يندفع في غضبه كالمجنون فينزع حربة من على الجدار ويغرزها في صدره. وعندما يكتشف أنه لن يجد بعد ذلك من يقول له «لا» يهيم وحيدا باكيا في الصحراء كوحش يائس جريح، والسفاح الطاغية الأكبر تيمورلنك، ذو العين الواحدة والقدم العرجاء، ينظر إلى وجهه في المرآة ويكتشف قبحه الفظيع فيجهش بالبكاء! ويقدم المرآة لأنيسه وجليسه «جحا» فيشاركه البكاء. ولكن السفاح يكف بعد لحظات عن بكائه وجحا لا ينقطع عن النشيج والبكاء. وسأله السفاح لماذا يبكي والمرآة لم تره وجها قبيحا كوجهه، فيقول الساخر الأبدي: يا سيدي أنت رأيت وجهك مرة واحدة فبكيت، فكيف نحن المقضي علينا أن نرى وجهك كل صباح ومساء؟ ويرتفع صوت السفاح بالضحك دون أن يخطر بباله أن الدعابة من أقوى أسلحة التحدي والمقاومة.
16
هكذا تتمكن روح التحرر والعناد والثقة بالنفس والكبرياء عند الأفراد من إحداث التوازن مع السلطان المطلق للسيد الأوحد.
فهم عبيده، ولكنهم غير خاضعين له. كذلك كان شعراء المديح عند الفرس والعرب خاضعين للسلطة العليا التي تتدفق منها كل إساءة أو إحسان. ومع ذلك كانت لبعضهم على الأقل طبائع معتدلة، ثابتة، متماسكة، واستطاعوا أن يعيشوا ويعملوا في صدق معها، ويستخدموا مواهبهم في التعبير عنها بحرية، بقدر ما تسمح بذلك ضرورات البيئة والتاريخ وأكل العيش. (3) جاء الديوان في أوانه
ففي صيف 1814م، شعر جوته بأن ربيع الشباب يعود إليه، وأن وجدانه يحن للخلق حنين الأرض العطشى للأمطار، والنبع الفائض للفوران. وكانت سنوات الحرب بثقلها وسوادها قد مرت وضجيج السلاح قد سكت. وها هو ذا يفرغ من القسم الثالث من سيرة حياته «شعر وحقيقة»، كما يعيد ترتيب قصائده لطبعة جديدة لأعماله الكاملة توشك على الظهور. وضاقت به الحياة في «فيمار» المحدودة، وسئم الملل اليومي والمهام الرسمية ونظرات الناس المثبتة عليه وكيد الخصوم وحسد الصغار له. وغالبه الشوق القديم إلى السفر. ولمن يشتاق إلا إلى الوطن، إلى مهد الطفولة الذي لم يره منذ سنوات طويلة؟ شد الرحال وركب عربة السفر. وفي الطريق عرج على قرية «بيركا» الصغيرة بجوار فيمار للاستشفاء والاستجمام. ولبث فيها حتى أواخر يوليو. سكون الريف، وموسيقى باخ وموزارت في الأمسيات الهادئة، هل من شيء آخر يسمح للوجدان بأن يعتكف ويرتد إلى نفسه، قبل أن يطلق ويفيض؟ وأقبل لأول مرة على قراءة حافظ. همست أسرار الشعر بداخله، وامتلأ بأحلام الخلق كما يمتلئ كيان الأم بأسرار جنين. واجتذبه الراين: نسيمه ومروجه، خمائله وكرومه، خمره وخبزه، مجموعة الكنوز الفنية من الفن الجرماني القديم عند صديقيه الأخوين سوليس وملكيور بواساريه. ثم الترحال من بلد إلى بلد، حيث يحييه الناس ويكرمون فيه شاعرهم الأكبر، وحافظ رفيق سفره، وديوانه لا يترك مكانه بجانبه. وفجأة تتحرك المعجزة وتثب من الرحم المظلم والنبع الجياش بأغوار الباطن، فيكتب عدة قصائد في طريقه إلى بلدة «أيزيناخ» تصور التناقض بين سكون الطبيعة وضجيج الحرب، وترتد إلى الماضي ثم تستبشر بالمستقبل. فهو في إحداها - وهي قصيدة ظاهرة من كتاب المغني - يخاطب نفسه بقوله: «أبعد عنك الحزن، يا شيخي المرح الطيب، إن كان الشعر كساه الشيب، فقريبا سوف تحب.» وفي اليوم التالي في طريقه إلى مدينة فولدا، يعاوده طوفان الخلق فيصل عدد القصائد إلى تسعة، ويلتقي وهج الشباب ووعي الشيخوخة والحنين إلى اللعب والإحساس الطاغي بالتفوق. «تزدهر الوردة والزنبقة بأنداء الصبح، بينما كيوبيد يشدو فوق الناي على شط الجدول، يهزم رعد الحرب وينفخ مارس في بوقه» (وكلاهما من كتاب المغني).
ويستمر تدفق النبع في الأيام التالية. وعندما يبلغ مدينة فيسبادن في التاسع والعشرين من يوليو يكون قد دون قصيدة «الحياة الكلية»، وبعدها بيومين لؤلؤة أشعار الديوان: «حنين مبارك». وتأتي أيام الصيف والخريف التي أمضاها على ضفاف الراين بما كانت نفسه تتمناه. فهو يشارك في الاحتفال بعيد القديس روخوس في «بنجن»، ويملأ عينيه وقلبه بأفراح الشعب. ويسافر إلى ضيعة أسرة برنتانو في «فنكل» فيستمتع بالريف والخمر والأصدقاء، ويزور سوق الخريف في فرانكفورت فيستسلم لدوامة المهرجان، ويزور هيدلبرج زيارة قصيرة ويتحمس لمجموعة الرسوم الجرمانية والمسيحية القديمة عند صديقه القديم بواساريه. وتتوالى قصائد كتاب الساقي واحدة بعد الأخرى. ويرجع في أكتوبر إلى فرانكفورت فيلتقي بصاحبه القديم رجل المال والأعمال يوهان ياكوب فيليمر وزوجته الثالثة - التي لم تكد تتم الثلاثين ربيعا - «مريانة» الشاعرة الرقيقة التي خلد حبه لها في الديوان فسماها زليخا، وسمى نفسه «حاتم» الذي فتنته كما فتنت امرأة العزيز يوسف الصديق، وفي مساء الثامن عشر من الشهر نفسه، يجتمع معها في بيتهما الريفي «الجربرميلة» وسط خمائل الكروم على شاطئ نهر الماين في ضواحي فرانكفورت، ويشاهدان معا أنوار الاحتفال بذكرى مرور السنة الأولى على معركة ليبزج، ولا بد أن يكون رب الحب قد جمع بينهما في هذه الليلة بقيده الذهبي الساحر، فكم احتفلا به بعد ذلك كل مع نفسه وذكرياته. ولا بد أيضا أن تكون ربة اللحظة الأسطورية المواتية قد أسلمت لهما خصلة من شعرها الذهبي وشفتيها الحلوتين، ولكن اللقاء لم يطل، فلم يلبث أن رجع بعد يومين إلى فيمار.
وازداد عدد القصائد التي يناجي فيها حافظ على غير ما كان يتوقع. وشدد الشرق قبضته الساحرة عليه. وبدأ ينظم قراءاته لأعمال المستشرقين ومذكرات الرحالة إلى بلاد الشرق. فهو يطالع كتاب الأقدمين مثل أولياريوس، أو كتب المحدثين مثل جونزودييز، كما يعكف على المجلدات الستة التي نشرها النمسوي «هامر-بورجشتال» تحت عنوان «كنوز الشرق» ويعاوده الحنين إلى «بريق الغرب وإشراقه» فيستقل العربة في الرابع والعشرين من شهر مايو. وتنبثق نافورة الشعر من جديد، ويواصل الخيط الرقيق الذي كان قد انقطع في الأيام الأخيرة من زيارته السابقة لفرانكفورت فيكتب عددا من القصائد، منها قصيدتاه المشهورتان: «إن زليخا سحرتها فتنة يوسف، لم يك أمرا عجبا، لما كنت تسمين زليخا، فخليق بي أن أحمل اسما.» ثم يستجم عدة أسابيع في مدينة الحماماة «فيزبادن» ويكتمل «كتاب الساقي» ويرتب جميع القصائد - التي كان يحرص على كتابته التاريخ والمكان تحتها، في فهرس لا يزال محفوظا في مكتبته. ويدعو صديقه «بواساريه» ليكون أنيسه وجليسه فيلبي دعوته، ويحيا في جواره من أوائل شهر أغسطس حتى أوائل أكتوبر، ويسجل الصديق أحاديثه وذكرياته الغالية عن هذه الأسابيع القليلة في سطور تفيض بالتواضع والذكاء والحياة. ثم تأتيه الدعوة التي كان يتشوق إليها من فلليمر، فيستجيب لها من فوره ويقضي شهرا في بيته الريفي على ضفاف الماين
17 (وهو البيت الذي اشتهر في تاريخ الأدب كما سبق باسم الجربرميلة أو طاحونة الدباغين) لا تقطعه إلا سفرة أيام قليلة إلى بيت صاحبه في فرانكفورت. لم ينس بطبيعة الحال أن يأخذ معه ديوان رفيق سفره حافظ إلى «الجربرميلة». وكيف ينساه وهو الذي سيكون رسول الغرام بينه وبين «حوريته» الهاربة من الجنة؟ قدمه لها هدية وأقبلت عليه بعاطفة المحب وإحساس الفنان، واكتشفت ببصيرتها سحر العالم الذي أثر عليه، فلم تتوان عن مشاركة وحدته، واهتزت أوتار قلبها على أنغام حافظ وصوره ورموزه - أو بالأحرى على ما يبقى منها في ترجمة هامر الذي لم يرحم شيئا شرقيا من ترجمته! - وراح الحبيبان في هذه الأسابيع القليلة يقلبان في صفحات ديوان حافظ، ويختاران منه القصائد التي توافق حالهما النفسية. ويبدو أنهما اتفقا على هذه القصائد «الرياضية» في رسائلهما التي سيتبادلانها بعد ذلك، بحيث تتألف الرسالة من مجموعة من الأعداد التي تشير إلى رقم الصفحة والبيت المناسب فلا يستطيع «عذول» أن يحل أسرار الشفرة التي لا يعرف مفتاحها!
ولا بد أن تكون «مريانة » الجميلة قد بعثت إليه بعدد كبير من هذه الرسائل السرية التي كان لها فضل اكتشافها، مما جعله يكتب عنها في إحدى فقرات تعليقه على الديوان. فقد بعثت إليه على سبيل المثال برسالة تتألف من هذه الأعداد:
404، 20-19.
201، 24-23.
وحل هذه الشفرة العاطفية هو هذه المقطوعة التي وردت في ترجمة ديوان حافظ، وكان من السهل على الحبيب أن يجدها في لحظات بعد أن عرف رقم الصفحة والأبيات على الترتيب:
من زمن لم يكتب لي صاحبي رسالة،
من زمن لم يبعث لي بتحية،
لم يذكرني بسلام أو برسالة،
طوبى لمريض يبلغه نبأ من أحبابه.
هكذا أصبح جوته يجد نفسه وحبيبته في ديوان حافظ، كما أصبح هذا الديوان أشبه بلحن اشتركا في عزفه، فلا يكاد أحدهما يسمعه بعد ذلك بسنوات حتى تعيش «الأنا» مع «الأنت»، وتشعر أنها ليست وحدها في وحشة العالم، ولم تكتف الحبيبة بأن ترافق وحدته في عالم الشرق، بل وجدت نفسها - تحت لهيب أنفاسه - ترد على زفراته الشعرية بزفرات لا تقل عنها رقة ودفئا، بل ربما فاقتها في بعض الأحيان صدقا وعذوبة (ومنها قصيدتاها للريح الشرقية والريح الغربية اللتان ضمهما إلى ديوانه بعد أن أجرى عليهما بعض التعديلات الطفيفة التي ربما أغضبت الحبيبة والنقاد جميعا).
وسافر الشاعر في الثامن عشر من سبتمبر إلى هيدلبرج وتبعه فيللمر ومريانة بعدها بخمسة أيام، وتفتحت في أيام اللقاء الثلاثة قصائد ثلاث (على فروع الأغصان الممتلئة، لقاء الشعب والخدم والحكام، وتجد الأخيرة في كتاب زليخا) كما أوشك كتاب «زليخا» على التمام، وكل قصائده تعبر عن نعمة الحب الكبرى التي غمرت فؤاده بسعادة لا توصف، وفتحت فيه جراحا عميقة لن تندمل، ورجع إلى مستقره في فيمار فوصل إليها في الحادي عشر من أكتوبر، وبدأت سحب الشتاء ولياليه الطويلة وأمطاره فانهمرت معها ألحان الديوان الموجعة (صورة سامية، وصدى، وكتاب مطالعة، وتجدها في كتاب زليخا وكتاب العشق).
وفجأة يغيض النبع وتنطفئ الشرارة، فما أبعده الآن عن بريق عيني الحبيبة التي كانت تدفئه، عن أنفاسها التي كانت تحييه. لم يبق إلا أن يزيد من عدد الحكم والأمثال التي لن يعجز عنها العقل، وأن يفزع لجمع مادة التعليقات والملاحظات التي لا تحتاج لدفء القلب. ويرتب القصائد في اثني عشر كتابا، ولا تكاد عربة «هليوس» تبدأ سيرها في طريق العام الجديد حتى يبدأ الطبع. غير أن معجزات الشعر تأتي بغير أوان. فها هي ذي أطياف الذكرى تزوره فجأة، تحمل معها زاد الحب، وتقدم نعمة الأخذ والعطاء، وترتفع به على جناحي الدين والتصوف، ويدون القصائد الثلاث: تأخذ منك السنوات «من كتاب التفكير» بهرامجور - كما قيل - اخترع القافية «من كتاب زليخا» وأعلى والأعلى «من كتاب الفردوس». ولعل السطور التالية التي أحاول فيها أن أنقل إليك معنى القصيدة الأولى أن تعطيك فكرة عابرة عن حسرته على الحب الضائع، وحزنه الذي فاض وبلغ حد اليأس، وتمسكه بصخرة الفكرة والذكرى حتى لا يغرقه الموج: «أخذت منك السنوات، كما قلت، كثيرا:
متعة ألعاب الحس
وذكرى عبث الأمس،
وحرمت من التجوال طويلا
بين مغاني الأرض (ونور الشمس)،
من شرف كان يسر النفس
جف معين الخلق وغاض النبع،
فغامر «وانفض عنك غبار اليأس».
قل لي ماذا يبقى لك؟»
يبقى ما يكفيني، تبقى الفكرة والحب.
وظهر الديوان سنة 1819م. ولكن لحنه لم يكن قد توقف، وشكله لم يكن قد تم، فلم يلبث النبع أن فاض مرة أخرى بخمس قصائد جديدة من كتاب الفردوس، وهي: تذوق، وسماح، وحيوانات مرضي عنها، وهي في الحقيقة أصداء لألحان سابقة تعزف على وترى الحب والدين اللذين انبعثت منهما أغنيات الديوان كله. ولا بد أن الشاعر تفكر طويلا في السراب الذي فتن عينيه في صحراء الكهولة، فقرر أن يعيد بلبل القلب الطائش إلى قفصه. تشهد على ذلك الرسالة السابقة الذكر التي كتبها إلى صديقه تسلتر وتحدث فيها عن التسليم المطلق بإرادة الله الخافية.
قلت إن الديوان أشبه بمجموعة من المرايا، كل قصيدة فيها تعكس القصيدة الأخرى، وتتبادل معها الحوار بحيث تنمو نموا عضويا لتشكيل كل متكامل مدهش في تجانسه وجمعه بين الأضواء والأقطاب والعناصر المتقلبة. وهو كذلك الدائرة التي تستمد وحدتها من وحدة الشخصية المتزنة التي أبدعتها وسرت في كل نقطة فيها، ولهذا فهو يكاد يكون كونا صغيرا، دائرة روحية تمتد إلى كل مجالات العالم والنفس، منطلقة من مركز تشغله «الأنا» الشاعرة التي احتوت العالم في داخلها، وضمت تراث البشرية إلى صدرها، وعاشت حياة جادة غنية خصبة متنوعة. هو دائرة شعرية رسمته يد رجل مجرب حكيم، لا يد شاب مهتاج ثائر، بمداد تمتزج فيه نار القلب الذي نسي قانون الزمن (وكذلك قلب الفنان!) بنور العقل المتفوق الساخر. وقد سار الشاعر على هذا التكوين الدائري في ترتيب كتب الديوان، وإن يكن قد التزم فيه بالترتيب الموضوعي ، لا بالترتيب الذاتي الذي يعكس ظروف حياته وكتابته. يؤكد هذا ما قاله بنفسه لصديقه تسلتر:
18
إن كل جزء من أجزاء الديوان يتغلغل فيه معنى الكل، وهو في صميمه ذو طابع شرقي حميم، ولا بد أن يفهم معنى القصيدة عن طريق القصيدة المتقدمة عليها، إذا أريد له أن يحدث أثره على الخيال أو الشعور، إنني أنا نفسي لم أكن أعرف أي كل عجيب صنعته منه.
هذا التكوين الدائري للديوان هو نفس التكوين الذي يميز إنتاج الشاعر المتأخر. ولا نقصد بهذا طابع الاتزان والوعي الواضح الذي يسري فيه وحسب، بل نريد به كذلك طابع التضاد الذي ينتج عن تقابل قطبين أحدهما سالب والآخر موجب، إذ لا يمكن أن يخلو أي نظام أو نسق (كما كشفت أخيرا أبحاث البنيويين وأصحاب نظرية المنظومة) من صراع أو توتر جدلي - أو بالأحرى حواري - داخل هذا النسق. ولا أظن أحدا يختلف معنا في أن العمل الفني الخليق بهذا الاسم يمثل نسقا. ولا أظن أيضا أنه ينكر صراع القوى الدرامي الحي الذي لا بد أن يدور بداخله. وقد أكد الشاعر نفسه هذا التضاد القطبي في طبيعة الوجود نفسه، وفي كل شكل من أشكال الحياة والفكر. ولهذا كان القبض والبسط، والشهيق والزفير من التعبيرات التي يستخدمها باستمرار ويعبر عنها في العديد من أعماله.
19
ولكن هذا التضاد لم يمنعه من رؤية الكل السابق على صراع الأطراف والأجزاء. بل إن هذا الكل - كما أكد أرسطو ويؤكد المحدثون أيضا - شيء أسبق من أجزائه وأشمل، ولا يمكن أن يكون مجرد حصيلة ناتجة عنها مجموع مؤلف منها. ولهذا كان الديوان كما قلنا دائرة كبرى تشتمل على دوائر صغرى عديدة، وكان التضاد الذي يحركه ويبعث الحياة فيه هو التضاد بين قطبي الحب والدين، اللذين يجتذبان عناصر أخرى تدخل كلها في هذا المجال الشعري المفعم بالسحر والحياة. والكلمات التي يقولها الشاعر عن ديوان حافظ تصدق على أشعاره المتأخرة، وبخاصة مجموعة شعره الفلسفي، كما تصدق على ديوانه الشرقي، فهو يقول في قصيدة جميلة من كتاب حافظ بعنوان «بغير حدود»:
شعرك يا حافظ دار دورة السماء
البدء فيه دائما والمنتهى سواء.
20
في داخل هذه «الدورة الكونية» يتصارع القطبان الأزليان: الحب والدين. فالحنين الديني - أو الصوفي! - يغلب بوجه خاص على «كتاب المغني» والكتب الثلاثة الأخيرة من الديوان، وهي كتب: «الأمثال» و«البارسي» (أي الفرس القدماء من المجوس عبدة الشمس والنار) والفردوس، كما يسري في سائر الكتب. والحنين إلى الحب يغلب على كتب العشق وزليخا والساقي الفردوس (على غير ما كنا نتوقع!) كما تتكرر تنويعاته المختلفة في الديوان كله، سواء كان يعبر عن عاطفة شخصية، أو تاريخية، أو كونية، أو غزل بين الشاعر والحورية في الفردوس، ولهذا كانت قصيدتاه «عودة اللقاء»:
21
أمن الممكن يا نجم النجوم
أن ألاقيك وللقلب أضمك
آه منها ليلة الهجر الأليم
حفرت هاوية بيني وبينك
و«حنين مبارك» من أهم قصائد الديوان، بل لعلهما في رأي معظم النقاد من أروع شعره على الإطلاق وأكثره دلالة على شخصيته وفكره. ولا يقتصر موضوع الحب على هذه الكتب والقصائد وحدها، بل يتغلغل أيضا في قصائد الحكم والأمثال، فما يعبر مرة عن القلب بصورة طبيعية مباشرة يعبر مرة أخرى عن الأشياء عن طريق التأمل العقلي المتزن. وفي كل الأحوال تتفتح شخصية الشاعر وتمتد في كل اتجاه كأنها قد أصبحت دائرة كبرى تضم وجوده كشاعر كما تضم نظرته إلى الكون (وبخاصة في الكتب الثلاثة الأولى من الديوان، وهي: المغني وحافظ والعشق) وتصوره في علاقاته وصراعاته، مع غيره من الناس ومن صغار الشعراء (من الكتاب الرابع إلى السادس، أي كتب التفكير والضيق والحكم) سواء في صورتها السلبية وهو يقاوم ظواهر الطغيان (الكتاب السابع من تيمور والشتاء) أو في صورتها الإيجابية وهو يتحقق بنعمة الحب والرضا والسعادة (من الكتاب الثامن إلى التاسع، أي كتابي زليخا والساقي)، وتأتي الكتب الثلاثة الأخيرة فتكتمل الملامح الدينية التي تكسو الديوان كله. فالعالم يرمز لله، و«الله» حاضر في جميع العناصر، وعبادة الطبيعة عند الفرس الأقدمين وعقيدة التوحيد عند المسلمين وإيمانهم بالآخرة ينطقان بلغة رمزية واحدة تعبر عن وحدة التجربة الدينية الأولى، أو عن دين أصلي ينشر فروعه وأوراقه كتعريشة الكروم فوق بيت العالم، وهكذا تتلاقى الأرض مع السماء، والوثنية مع الرسالات السماوية، والإنسان مع العالم، والحب والشباب المتجدد مع الدين، والعقل والإحساس بالتفوق والتعاظم مع الميل إلى الدعابة الماكرة، تجد هذه الموضوعات المتفرقة في قصائد متفرقة، وقد تجدها مجتمعة في قصيدة بذاتها (مثل قصيدتي الهجرة والحنين المبارك اللتين ورد ذكرهما أكثر من مرة) ويصبح الديوان دائرة واحدة ووحدة دائرية، تعكس كل قصيدة منها سائر القصائد على صفحة مرآتها، وتكشف للمنتبه عن المعنى الكامن للأشياء
22
كأنها (مونادة) ليبنتز الوحيدة الحبيسة بين جدرانها، ومع ذلك فهي أشبه بمرآة تعكس العالم كله من وجهة نظرها وبقدر وضوح إدراكها. فلو عرفت مونادة واحدة - أي لو عرفت أي كائن فرد مستقل من بين جميع الكائنات الفردية المستقلة معرفة تامة - لأمكنك أن تصل منها إلى معرفة كل ماضيه وحاضره ومستقبله، ولو تذوقت قصيدة واحدة من قصائد الديوان لعرفت الديوان كله، ومن يدري؟ ربما أحسست بروح الكون كما جربه هذا الشاعر وحاول أن يكشف عن معناه وسره، وأن يملأ بالفعل والوعي والإبداع كل لحظة من لحظات الزمن الذي أتيح له فيه. •••
لا شك أن الديوان الشرقي تعبير ذاتي عن جوته في كهولته وشيخوخته، وهو يكشف بمضمونه ولغته عن شخصية صاحبه وينفذ إلى صميم جدرانه، ولكننا نخطئ خطأ كبيرا لو تصورنا بعد هذا التتبع التاريخي أنه مجرد سيرة شعرية ذاتية لحياته. فليس حاتم هو جوته، ولا مريانة هي زليخا. صحيح أنه يرتبط بمادته الشرقية ارتباطا يوشك أن يكون في بعض الأحيان حرفيا، ويتأثر بشعر حافظ الشيرازي - توءم الروح - في بعض المواضع إلى حد التقليد، ولكن الديوان عمل فني قبل كل شيء، يشكل عالمه الأسطوري بنفسه، ويستخدم الموضوعات الشرقية لتكون بمثابة أقنعة يخفي الشاعر فيها نفسه كما يكشف عنها في وقت واحد، ويأخذ المضمون لكي يتصرف فيه بحريته الفنية وقدرته على التشكيل.
إن العنصر الشرقي يعبر عن عنصر عام يجمع بين الشرق والغرب، والروح الشرقي يتجاوب مع منطقة روحية مماثلة في باطن الشاعر نفسه. لقد وجد في الشرق كنوزا رأى أن من حقه استغلالها فراح يستخدمها ببساطة كأنها شيء بديهي أو جزء حي لا يتجزأ من كيانه الشعري. ربما تعجب قارئه الغربي من الأسماء الشرقية، وربما سأل نفسه من هو المتنبي أو المجنون، ومن هي ليلى أو بثينة، ومن هو شهاب الدين (السهروردي) الذي خلع ثيابه في عرفات ليدخل الحرم،
23
وغيرها وغيرها من الأسماء التي ربما لا يعرفها غير المختصين بالآداب الشرقية، ولم يعرفها الشاعر نفسه إلا قبل العكوف على العمل في ديوانه بزمن قصير. ولكنه سيفطن أثناء قراءته إلى أنه أمام شاعر غربي يتجول في ربوع الشرق ويتقمص في الوقت نفسه شخصية شاعر شرقي. إنه يسهر في خيمته مع الساقي في ليلة صيف، ولكنه يتحدث عن هسبيروس (نجمة المساء) وأورورا (الفجر) ويذكر إجلال المسلمين للقرآن الكريم لكي ينحى باللائمة على صغار الأدباء في عصره ممن فقدوا كل إحساس بالاحترام والخشوع والتوقير. ويصف نعيم الفردوس وحوريات الجنة لكي يتمنى أن يحدثهن بلغته الألمانية ... إلخ. فالمادة الشرقية مجرد مناسبة لا قيمة لها في ذاتها، والمهم هو الشكل الفني الذي يعطيه لها، واللعب الحر الذي يجعله يتصرف فيها. إن الشاعر يعرف أنه يلعب وهو يريد أيضا أن يستمتع بهذا اللعب.
ومن هنا كان الوعي والوضوح اللذان يغمران قصائد الديوان، ويحدثان التوازن بين المادة والشكل، بين مرح الشيخوخة ونزواتها الفاضحة ولوعة الحب وجراحه التي لم تعد تليق بمن في سنه. وفي مقابل هذا الوعي الناصع نجد النشوة التي تسري في جميع كتب الديوان، فهي نشوة السكر، والعشق، والشعر، والإيمان العميق بالله. ولكنها نشوة لا تعمي الحس، بل تضيء الرؤية. أضف إلى هذا كله المرح السامي والدعابة الساحرة، التي لا تبلغ أبدا حد التهكم الجارح (حتى في الفردوس تغلبه النكتة! راجع قصيدة سماح ضمن كتاب الفردوس) والخفة التي يتناول بها أصعب مشكلات الحياة وأسمى أسرار الدين، فيسقط عليها نور العقل وبسمة الحكمة.
أما العاطفة الجريحة والشكوى المرة من قدره في الحب، فنجدها في القصائد قليلة (مثل عزاء سيئ و«صدى» بالإضافة إلى القصائد المنسوبة لحبيبته مريانة) تخلو تماما من المرح والتحرر الروحي اللذين يشيعان في الديوان، على نحو ما تخلو منها قصائد قليلة ترين عليها الجدية والقتامة (مثل «وصية الديانة الفارسية القديمة» و«حنين مبارك» و«عودة اللقاء») غير أن الرغبة في اللعب الحر، والميل إلى الخفة والمرح، هما اللذان يسيطران على الروح العامة للديوان، لأنه يكشف في كل قصائده عن «الاستقطاب» الكامن في كل حياة، عن جدل الحب الذي يقوم على الوجود وعدم الوجود، وجدل العقل الذي يقوم على المعرفة والعلم بحدود هذه المعرفة، وكأنما هي جميعا أبعاد من قوس الأنا الشاعرة التي تحيط بكل شيء إحاطة قبة الفلك بالأرض وما عليها، فالشاعر يتجلى في شعره، ولكنه في الوقت نفسه يرتفع فوقهن ليرى نفسه وقصيدته في الوقت نفسه. وقد كان من شأن هذا الوعي الواضح، العابث، المتفوق، العميق في آن واحد أن يحدد أسلوب الشعر وشكله وإيقاعه. فهو خفيف، متدفق، يكاد يقتصر على مقطوعات قصيرة من أربعة أبيات، تعرض لغة حافلة بالصور المتنوعة - كصندوق الدنيا! - مستمدة من عصور أدبية مختلفة، ومن لغة الشرق وتشبيهاته (حيات الشعر، وجه القمر، احتراق الشمعة ... إلخ) وفي قصائد متعددة متنوعة الأغراض، تجمع بين الحكم الموجزة والأنغام الفخمة، والصور الزاهية الألوان، والنوادر العجيبة، والروح الصوفية العميقة، ولهذا يحتاج الديوان، كما يحتاج الشعر عموما، إلى مشاركة القارئ وصبره، كما يتطلب تجربة روحية تعينه على الإحساس بتجربته.
إنه قبل كل شيء كتاب تعيش معه وتحياه، وتردد ألحانه وتتناغم معها، لأنه كتب للناضجين والمحبين.
24
ومن أسف أن أي ترجمة في أية لغة لن تعينك على هذا؛ لأن أقصى ما يمكنها أن تعطيه هو الظل العابر والطيف الزائل. ولو استطاعت ترجمتي لقصائد الديوان أن تنقل إليك شيئا من هذا الظل وهذا الطيف، فستشعر بالحرية التي كانت وراء خلقه، وستشعر أيضا بعذاب الحب ومتعته، وستجد حبيبك فيه-إن كنت تحب! قد تسألني الآن: لم تكتب عن هذا الديوان؟ لم لم تنقله كله ما دمت تؤكد ضرورة قراءته كله؟
ولماذا تقتصر على بعض القصائد القليلة (وقد بلغ مجموعها ثلاثمائة وخمسا وثلاثين لم تختر منها إلا نيفا وخمسين). ثم لماذا تنقل هذا الشعر بعد أن قلت أكثر من مرة إن الشعر لا يترجم؟!
25
وجوابي على هذا أنني وجدت نفسي أهيم في رحلة مع هذا الديوان، كما فعل صاحبه في رحاب الشرق. امتدت يدي إليه في أثناء البحث عن قارب النجاة وسط بحار الهموم التي تغرقنا ليل نهار، وفي لحظات البحث عن الذات وسط عالم لا ينجح إلا في إبعادنا عن أنفسنا. عشت معه ليالي وحدة طويلة. ودون أن أشعر وجدت بعض قصائده تفرض نفسها علي فأنظمها شعرا بجانب الأصل (مع أني طلقت الشعر وطلقني منذ سنين!) ومعظمها يلح علي أن أنقله نثرا سلسا بسيطا حتى يوحي بعبير الشرق وأنفاسه، وكنت منذ سنين - لا تقل عن عشر - قد شغلت باهتمام جوته بالأدب العربي وبالإسلام، فأعدت النظر فيما كتبت وأضفت إليه. أما في السنوات الأخيرة، فتشغلني حالة الركود التي أصابت الأدب وقوة الإبداع عندنا، كما تشغل كل المخلصين المشفقين عليه - بحيث خيل إلي في ساعات الاكتئاب أنه يرقد مسجى على فراش السأم والأدباء من حوله يرتلون أغنيات الرثاء لكي يعينوه على آلام الاحتضار، وفكرت - لنفسي دائما - ولكي أطرد عني الصورة الموحشة التي أرجو ألا تعدي أحدا غيري ! أنه قد يحتاج إليه إلى نبع ملهم. ورأيت أن الديوان الشرقي نموذج عالمي رائع على الاستلهام وتجديد شباب الخلق وربيع الإبداع. سألت نفسي - وما زلت أتابع هذه المناجاة التي لا تلزم أحدا! - ماذا لو قدمت هذا النموذج وأغريت البعض منا بالتجربة؟ ألا يمكن أن يكون الانفتاح الحقيقي على التراث العالمي علاجا لبعض همومنا الأدبية كما نرجو الآن للانفتاح الاقتصادي والثقافي والعلمي؟
صحيح أن المحاولات السابقة كما قلت كثيرة، وقد نجح أقلها وأخفق أكثرها. ولكن يبدو أن مبدأ الاستلهام نفسه لا عيب فيه، ما دامت كل الآداب والشعوب قد أخذت به في كل البلاد والعصور، وما دام الأثر الفني الخالد يستقبل في مختلف الآداب بل عند مختلف الأفراد بطرق مختلفة، تحكمها ظروف العصر وهموم الأديب وصدقه مع نفسه وواقعه. ماذا لو أقبلنا على استغلال هذه الكنوز كما استغل شاعر الألمان أكبر كنوز الشرق، ولم يجد ما يمنعه من أن «يركب براق محمد ويحلق في السموات الفسيحة، ويحتفل بتلك الليلة المقدسة التي أنزل فيها القرآن على النبي.»
26
صحيح أن لهذه التجربة شروطا تحتمها كل تجربة فنية: الضرورة التي تدفع الكاتب إلى تناول موضوع سبقه إلى غيره، والصدق الذي يجعله أصيلا في تناوله لا مقلدا، ومعبرا عن صميم ذاته لا مزيفا من هواة الاستعراض الذين ابتليت بهم حياتنا العربية في كل مجال. إنها ليست دعوة للآخرين، بقدر ما هي محاولة تقديم نموذج. ويبقى للأديب والفنان بعد ذلك حريته التي لا يكون بغيرها أدب ولا فن. فليس حتما أن يبعد في رحلة إلى الشرق كما فعل جوته، ولا أن يمد عينه إلى الغرب أو الشمال أو الجنوب. ربما تكون الكنوز تحت قدميه، في تراثه الشعبي أو «الرسمي»، في تاريخه القديم أو الحديث، وفي واقعه البائس حوله وتحت بصره وقدميه. ألا يمكن أن تحمل التجربة أملا في ري النبع الذي غاض، وبعث الدماء في الجسد المريض، أو تخليصه على أقل تقدير من المسكنات الرخيصة؟
ونأتي إلى سؤال عن نقل الديوان فأقول: وما الداعي إلى هذا ؟ إن القلب ليتمزق وهو يحاول نقل الشعر من جسده الذي ولد فيه - أي من نظام اللغة والصور والإيقاع والنغم الحي - إلى جسد آخر غريب عنه. ولا بد أن تكون لدى الإنسان قدرة شيطان ملهم أو براعة ساحر لينجح كل النجاح في هذا، وهو محال. ويكفي أن يقتصر الجهد على إظهار القارئ على معنى هذا الشعر - أو حتى ظل المعنى - وإيقاظ حنينه إلى لقاء الأصل الأول إذا استطاع. والأمر في النهاية لا يخرج عن أداء واجب ثقافي وإنساني تقوم به كل الآداب في كل العصور مهما تفاوتت حظوظها من التوفيق. أضف إلى هذا أن الديوان الشرقي قد نقل بالفعل إلى العربية. وقد تعهد بهذا العمل الشاق رائد كبير لا يخشى المحال. فقد ظهرت ترجمته منذ سنوات بقلم أستاذنا الكبير الدكتور عبد الرحمن بدوي. ومع أن حب الحقيقة يضطرني إلى القول بإنها مزدحمة بالأخطاء - التي لا شك في أنها جاءت نتيجة التسرع وعدم الرفق بالشعر! - فإن حب الحقيقة أيضا يدفعني إلى الإشادة بهذه المحاولة والإعجاب بما تنطوي عليه من جهد وصبر وطاقة فذة تجلت في التعليقات الوافية والشروح المستفيضة التي لا غنى عن الرجوع إليها. وبجانب هذه الترجمة التي أعترف بفضلها أود أن أسجل واجب الشكر والعرفان للكتاب الممتع الذي أحبه القراء وما برحوا يقبلون على قراءته منذ ظهوره قبل أكثر من عشر سنوات، وهو كتاب «الشرق والإسلام في أدب جوته» للمرحوم الشاعر عبد الرحمن صدقي الذي استحق عليه جائزة الدولة في الأدب. وهو يقدم لوحة بديعة عن حياة جوته وشعره و«هجرته» إلى الشرق. كما يتخلله عدد كبير من قصائد الديوان وغيرها من القصائد المعبرة عن الشاعر في تجارب حبة المختلفة، ترجمت جميعها ترجمة رصينة بليغة (وإن كانت هذه البلاغة قد كلفت صاحبها البعد عن الأصل).
لقد كانت محاولتي أكثر تواضعا؛ فهي لم تخرج عن تقديم نموذج للاستلهام الأصيل وإثارة القضية نفسها أمام القراء وأصحاب المواهب الشابة. ولهذا اكتفيت بتقديم كل ما هو ضروري للإلمام بهذه التجربة الفريدة التي عاشها جوته وفي لقائه مع أدب الشرق وروحه، كما رويت قصة الديوان الشرقي نفسه التي لم تكن مجرد نهم إلى المعرفة والاطلاع على عالم غريب، بل كانت بحثا عن الذات وتجديدا لمنابع الخلق والإبداع، وشهادة على معجزة الحب التي مكنته من هذه «الهجرة الشرقية» إلى الكنوز الدفينة في صدره. وقد توخيت أن يكون هذا كله في حدود كتاب صغير قصدت منه إلى الإمتاع وإثارة الفكر والخيال أكثر من سرد الحقائق والمعلومات. ولهذا عدلت عن التعليقات المستفيضة، التي يجدها القارئ في طبعات الديوان المختلفة في لغته الأصلية أو في ترجماته العديدة ومن بينها الترجمة العربية، واكتفيت ببعض الإشارات الموجزة التي أرجو أن تنجح في وضع القصائد المختارة في سياق تفكير الشاعر ورؤيته وسائر إنتاجه.
لو سألتني بعد قراءة ما قدمت إليك من المختارات (في حسرة لا أشك فيها): هل هذا هو جوته؟ لأجبتك على الفور: بالطبع لا! إنك لن تلقى هذا الشاعر أو أي شاعر آخر إلا في لغته، فالشعر لا يستطاع أن يترجم.
27
والشعر كما قلت وزن وموسيقى، وجرس وإيقاع، وصور ورموز مرتبطة بالألفاظ. إنما هو انفعال بالشعر الأصلي، وصور ورموز مرتبطة بالألفاظ، إنما هو انفعال بالشعر الأصلي، راعيت فيه الأمانة بقدر الإمكان، وكل زيادة من جانبي وضعتها بين قوسين، هو ظل شاحب من ظل ذلك الجسد الذهبي البراق، وهو - إن شئت - نوع من الاستلهام.
هل هذا عذر مقبول؟
الرأي أخيرا لك.
فلتمض الآن إلى الأشعار.
جوته
الديوان الشرقي للشاعر الغربي
كتاب المغني
«أمضيت من عمري عشرين عاما
تمتعت فيها بما قسم لي،
تتابعت أيامها الحسان،
شبيهة بأيام البرامكة.»
1
هجرة
الشمال والغرب والجنوب تتناثر،
العروش تتصدع، والممالك ترتجف،
فهاجر أنت إلى الشرق الطاهر،
لتستروح نسيم الآباء،
وبين الحب، والشرب، والغناء
يجدد فيك نبع الخضر الشباب. •••
إلى هناك، حيث الحق والطهر والنقاء،
أريد أن أقود أجناس البشر،
وأنفد معها إلى أعماق الأصل السحيق،
حيث كانت لا تزال تتلقى من الله
وحي السماء بلغات الأرض
دون أن تصدع رءوسها بالتفكير،
وحيث كان يجلون الآباء ويوقرون،
ومن طاعة الغريب (وخدمته) يأنفون،
أريد أن أسعد (بالحياة) في حدود الشباب:
فيتسع الإيمان، وتضيق الفكرة،
إذ كان للكلمة عندهم شأن أي شأن؛
لأنها كانت كلمة تنطق بها الشفاه. •••
وأود أن أختلط بالرعاة،
وأنعش نفسي في (ظلال) الواحات،
وعندما أرتحل مع القوافل،
أتاجر في الشيلان والبن والمسك،
وأود أن أسلك كل سبيل
ينقلني من الصحراء إلى المدن. •••
وكلما صعدنا الشعاب الصخرية أو هبطنا منها
كانت سلوانا، يا حافظ، هي أغانيك
حين يطلق الحادي وهو على ظهر ناقته،
صوته النشوان بساحر الغناء،
ليوقظ النجوم (في أعالي السماء)،
ويبث الرعب في قلوب قطاع الطرق (الأشقياء). •••
وهناك في الحمامات وفي الحانات
يطيب لي، يا حافظ، أن أشيد بذكرك،
عندما تكشف المحبوبة (عن وجهها) النقاب،
وتهز خصلات شعرها فتفوح برائحة العنبر
أجل إن همسات الشاعر (بنجوى) الحب
لتجعل حتى الحوريات يتقن إلى العشق.
وإن أبيتم إلا أن تحسدوه «على هذا النعيم»
أو شئتم أن تعكروا عليه صفوه،
فاعملوا أن كلمات الشاعر دائما تحوم
حول أبواب الفردوس،
وتظل تطرقها في هدوء
وهي تتوسل أن تحظى بالخلود.
2
ضمانات البركة
الطلسم (المنقوش) في العقيق،
يجلب للمؤمن الحظ والهناء،
فإن كان على أرضية من عقيق يماني
فالثمه بفم مبارك طهور!
وسوف يطرد عنك الشرور
ويحميك ويحمي المكان.
وإن كانت الكلمة المنقوشة عليه
تفصح عن اسم الله الكريم،
فستشعل فيك الحماس للحب والعمل (العظيم).
وإن النساء على وجه الخصوص
ليؤثرن التبرك بالطلمسات. •••
والتمائم كذلك
علامات على الورق مكتوبة،
لكن لا يشعر المرء بضيق الحيز
كشعوره حين ينقش على الحجر الكريم،
وفي وسع (أصحاب) النفوس التقية
أن يخطوا هنا الآيات الطوال،
كما يعلق الرجال (على أكتافهم) هذه الأوراق
في ورع كأنها بردة الأنبياء.
أما النقش فلا يخفي شيئا وراءه،
فالنقش هو النقش ولا يملك إلا أن يقول
كل ما ستقوله لنفسك بعد ذلك عن طيب خاطر:
هذا ما (أستطيع) قوله! ما أستطيعه أنا! •••
أما «الأبركساس» فيندر أن أجلبه معي!
فالأغلب هنا أن تقدر قيمته العالية
بما (نقش) عليه من أشكال بشعة مخيفة
تفتق عنها عقل مختل مريض.
فإن وجدتموني أحكي له الغرائب والعجائب،
فاعلموا أنني جلبت معي «الأبركساس». •••
والخاتم يصعب أن يرسم عليه
أسمى المعاني في أضيق حيز،
ولو تمكنت من الحصول على خاتم أصيل،
فستجد الكلمة محفورة عليه، ولن تصدق عينك ما تراه.
3
خاطر حر
دعوني فوق سرج جوادي!
وابقوا في أكواخكم وخيامكم!
وسأنطلق سعيدا في كل الأرجاء!
لا يعلو على قلنسوتي غير نجوم السماء. •••
هو الذي جعل لكم النجوم
لتهتدوا بها في البر والبحر،
وتتملوا آياتها الحسان،
وتتطلعوا دائما إلى السماء.
4
تمائم
لله المشرق
لله المغرب،
الأرض شمالا، والأرض جنوبا،
ترقد آمنة، ما بين يديه. •••
هو، لا أحد سواه، العدل
ويريد لكل الناس العدل.
من أسمائه المائة أجمعين
سبحوا بهذا الاسم المكين
آمين! •••
يريد الضلال أن يربكني ويغويني،
لكنك تعرف كيف تهديني،
فإن قمت بعمل أو نظمت الأشعار،
فاهدني أنت سواء السبيل. •••
ما فكرت في شأن من شئون دنياي،
إلا وخرجت منه بالنفع العظيم.
ومهما حدث فالروح لا تتناثر كالغبار
لأنها في أعمق أعماقها ترتفع إلى السماء. •••
في التنفس نعمتان:
نعمة الشهيق ونعمة الزفير،
تلك تضيق الصدر، وهذه تنعشه،
فما أعجب المزيج (الذي تتألف منه) الحياة.
اشكر ربك في الضراء (وعند العسر)،
واشكر ربك في السراء (وعند اليسر).
5
نعم أربع
أنعم الله على الأعراب،
بنعم أربع عجاب؛
كيما يجوبوا الفلوات فرحين،
ويعيشوا في رغد هانئين. •••
وهبهم العمامة التي تزين
خيرا من تيجان القياصرة أجمعين،
وخيمة إليها يأوون
في أي مكان يشاءون. •••
وسيفا يحميهم ويصون
أمنع من الصخور وأسوار الحصون،
وقصيدا يطرب ويفيد.
تتنصت عليه الحسان الغيد. •••
وها أنا ذا أتغنى بهدوء و«حبور»
بالزهور «المطلة علي» من شالها «الحرير»
وهي تعلم علم اليقين ما تتمتع به من خصال،
وتبقى على ما عهدته فيها من جمال ودلال.
وإني لأعرف كيف أزين موائدكم (بما تحبون) من أزهار وثمار.
فإذا أردتم معكم الحكم والعبر
فسوف أقدم ما نضج منها وما نضر.
6
اعتراف
ما الذي يصعب إخفاؤه؟ النار!
ففي النهار يشي بها الدخان،
وفي الليل يفضح اللهب ذلك الوحش الجبار.
كذلك يصعب إخفاء الحب (الدفين)،
فمهما طويته (في أعماقك) في سكون،
فما أيسر ما يطل من العيون!
لكن أصعب شيء يستعصي على الإخفاء قصيد؛
إذ لا يفلح أحد أبدا في كتمان نشيد،
وما إن ينطلق الشاعر في الغناء،
حتى تسري النشوة في كل الأعضاء.
وإذا دونه بخط منمق وبديع
تمنى (من صميم فؤاده) لو أحبه الجميع.
ويروح يتلوه وهو سعيد على كل إنسان بصوت عال،
سواء تسبب في تعذيبنا أو هذب منا الطباع والخلال.
7
عناصر
على أي عنصر من العناصر الكثيرة
ينبغي أن تتغذى الأغنية الأصيلة،
حتى يطرب لها عامة الناس
ويستمع إليها (الشعراء) المتمكنون بفرح (وحماس)؟ •••
ليكن الحب، حين نشرع في الغناء
هو الموضوع المقدم على سائر الموضوعات،
فبقدر ما تسري في الأغنية (حرارة) الحب
بقدر ما يعذب وقعها (على القلب). •••
ولا بد أن يسمع للكئوس رنين
ويسطع ياقوت الخمر الوضاء: (إذ جرى العرف) على التلويح بأجمل الأكاليل،
للعاشقين المتيمين وللشاربين. •••
والأمر كذلك يتطلب صليل السلاح
فضلا عن دوي الطبول (كالرعود)،
بحيث لو توهج كألسنة النار
فرح البطل الظافر كأنه إله (سعيد). •••
ولا غنى للشاعر في نهاية المطاف
عن أن تمقت نفسه بعض الأشياء،
فلا يسمح لشيء كريه وقبيح
أن يحيا بجوار شيء جميل (ومليح). •••
وإذا عرف المغني كيف يصنع المزيج (النادر)
من المادة الأولية العتيدة لهذه العناصر،
فسوف يكون في وسعه أن يسعد الشعوب،
كما فعل حافظ، سعادة أبدية تمتع (القلوب).
8
خلق وإحياء
آدم المضحك كان كتلة من طين
سواها في صورة إنسان رب العالمين،
غير أنه جلب من رحم الأم (المكنون)
أفانين من كل مرذول ولعين. •••
نفخ «الألوهيم» في أنفه
روحا هو أطيب الأرواح،
هناك بدا عليه تغير الأحوال
إذ شرع في العطس الشديد. •••
وبالرغم من العظام والأعضاء والرأس
بقي (آدم) كتلة صماء،
حتى توصل نوح إلى أنسب الأشياء
للأحمق المأفون، وهو الكأس. •••
وسرعان ما شعرت الكتلة الصماء،
بمجرد أن بللت نفسها، بدبيب الحياة
تماما كما يبدأ العجين
في الحركة حين يتخمر. •••
فلتهدنا أغنيتك العذبة الحنون
يا حافظ، وهو المثل القدوس،
إلى معبد خالقنا (الرحيم)
على رنين الكئوس.
9
ظاهرة
عندما يعانق «فيبوس» (زخات) المطر،
لا يلبث أن يظهر قوس
مظلل بأبدع الألوان. •••
وها أنا أرى في الضباب
دائرة مشابهة،
أجل إن القوس بيضاء
لكنها قوس من السماء. •••
فحذار أيها الشيخ النشيط
أن يبتئس فؤادك،
وإذا كان شعرك قد كساه الشيب
فقريبا سوف تحب.
10
منظر لطيف
هذه الألوان تتجلى لي هناك
وتصل السماء بأعالي الأفلاك؟
إن الضباب الذي يلف الصباح ويغشاه
ليغشى بصري الحاد ويمنعني من أن أراه. •••
أهي خيام أقامها الوزير
لزوجاته الغاليات،
أم أبسطة (فرشت) في الاحتفال
بزفافه لحبيبة الفؤاد؟ •••
والأحمر والأبيض اندمجا في مزيج
لم أر في حياتي أجمل منه بالمرة،
فكيف انتقلت، يا حافظ، (مسقط رأسك) شيراز
إلى أقاليم الشمال العكرة؟ •••
إن أشجار الخشخاش البهيجة الألوان
لتمتد متجاورة في صفوف،
وتكسو الحقول بمودة وحب
مستهزئة بإله الحرب،
فليكن من دأب الحيي الخجول
أن يتعهد الزهور بالرعاية والتنسيق
فيغمرني ضوءها على طول الطريق
كنور الشمس في هذا اليوم الجميل.
11
تباين
عندما يعزف كيوبيد على الناي
عند حافة الجدول عن يمين،
وفي البوق ينفخ «مارس»
في الحقل عن شمال،
تنجذب الأذن إلى هناك
مسرورة الأذن مسحورة،
غير أن الضجيج (الشديد)
يفسد عليها بهجة النشيد.
ها هو العزف يتردد لا يزال
بينما الحرب ترعد بالأهوال،
وأثور ويكاد عقلي يختل،
أتكون هذه معجزة؟
وتظل ألحان الناي تتوالى
وصخب الأبواق يتعالى
وأجن ويتملكني الغضب،
فهل في هذا من عجب؟
12
الماضي في الحاضر
الورد والزنبق (المبتل) بندى الصباح
يزدهر قريبا مني في البستان،
ومن الخلف يرتفع الصخر إلى السماء
مؤنس الطلعة كثيف الأشجار.
وتظل الذروة تميل بقوسها.
حتى تتصالح مع الوادي
وقد أحاطت بها الغابة العالية
وتوجتها قلعة الفرسان. •••
ويفوح العطر (كما فاح) على عهد الشباب
حين كنا نكابد (لوعة) العشق والغرام.
وكانت أوتار مزماري تدخل في عراك
مع الشعاع المشرق في شمس الصباح،
وأغاني الطراد تنبعث من الآجام
وتفيض بالألحان البديعة الأنغام
فتلهب فينا الحماس وتنعش الوجدان
كما يهوى الصدر (الخفاق) ويشاء.
ما دامت الغابات في ازدهار أبدي ونماء
فأقبلوا عليها (لتجديد الحب والعطاء)،
وكل ما استمتعتم به وحدكم (من أسباب النعيم)
دعوا غيركم يتمتعون به وينعمون.
عندئذ لن يصيح أحد في وجوهنا (بالاتهامات)
ويلومنا على الاستئثار بالمتع واللذات،
وعليكم الآن في كل ميادين الحياة
أن تتعلموا كيف تتمتعون (بشجاعة وثبات). •••
بهذه الأغنية وهذا (الأسلوب في) التعبير
نكون قد رجعنا لحافظ من جديد،
إذ يليق بالنهار وهو يؤذن بالاكتمال
أن نذوق المتع في صحبة المتمتعين.
13
أغنية وتكوين
ليجبل الإغريقي من الصلصال
ما يشاء من (النماذج) والأشكال،
وليفتتن ما وسعه الافتتان
بالمخلوق الذي سوته يداه. •••
أما نحن فلذتنا (التي تفوق كل اللذات)
هي الغوص في (مياه) الفرات،
والسباحة هنا وهناك
في (هذا) العنصر السيال. •••
لو استطعت بهذا أن أطفئ لهيب الروح
لتجاوبت ألحان أغنيتي بالرنين
وإذا الشاعر اغترفت كفه الطهور
من هذا الماء تكور فقاعات (كالبللور).
14
جرأة
ما السبب الذي يتوقف عليه في كل مكان
أن يسرع الشفاء إلى الإنسان؟
إن كل امرئ يلذ له سماع الأصوات
التي تكتمل في لحن من الألحان •••
ألا فلتطرح كل ما يعوق مسارك،
ولتكف عن هذا السعي الكئيب!
فقبل أن يغني الشاعر أو يتوقف عن الغناء
عليه أن يحيا ويجرب طعم الحياة. •••
فليتردد نغم الحياة الأصيل
ويتغلغل في الروح كصوت الرعود.
وكلما أحس الشاعر أن قلبه حزين
تولى بنفسه التصالح مع نفسه (من جديد).
15
خشن ونشيط
إن نظم الشعر زهو وانطلاق
فليكف الناس عن لومي واتهامي!
وليسر في عروقكم دم حار
ينبض (مثل دمي) بالتحرر والسرور. •••
وإذا شاء حظي أن أذوق طعم المرارة
من كل ساعة أليمة تمر بي،
فسوف أتحلى رغم تلك بالتواضع
بل وأبذكم فيه.
لأن التواضع جميل وحميد
حين تتفتح (زهور) الحسناء،
فهي تحب من يتودد إليها بحنان
وتهرب من كل فج غليظ الطباع. •••
والتواضع كذلك محمود،
كما يقول ذلك الرجل الحكيم،
الذي أتعلم منه (الكثير)
عن الزمان والخلود. •••
إن نظم الشعر زهو وانطلاق،
فاعكف عليه وحدك وأنت مسرور،
ولتسهموا فيه أيها الأصدقاء
وأنتن أيها الحسان (النابضات) بالدم الحار! •••
وأنت أيها الراهب الصغير بغير طاقية ولا زنار،
ارحمني من الثرثرة والهراء!
فأنت في الواقع تدمرني وتتلف أعصابي
ولا تجعلني متواضعا (على الإطلاق)! •••
إن عباراتك (السخيفة) الجوفاء
تدفعني بعيدا عنه،
وقد وضعتها تحت أقدامي
ودست عليها بالفعل!
عندما تدور طاحونة الشعراء،
فلا توقفوها أبدا؛
لأن من يفهمنا مرة واحدة،
سوف يسامحنا أيضا.
16
حياة كلية
التراب هو أحد العناصر،
التي تسيطر عليها ببراعة،
وذلك، يا حافظ، حين تمجد المحبوبة
بأغنيتك الصغيرة الرقيقة. •••
لأن التراب على عتبة (بابها)
أفضل عندك من السجاد
الذي تركع جواري محمود
فوق زهوره المطرزة بالذهب. •••
وإذا ذرت الريح من أبوابها
سحب التراب ومرت عليك
فعطورها الفواحة أحب إليك
من المسك ورحيق الورد. •••
التراب الذي حرمت طويلا منه
في الشمال الملتف دائما بالضباب،
لكنني عرفته بما فيه الكفاية
في (بلاد) الجنوب الحار. •••
ومع ذلك فطالما واجهتني
أبوابها الحبيبة لائذة بالصمت!
داوني أنت يا مطر الأنواء
ودعني أستنشق روائح الخضرة! •••
وعندما تدوي الآن كل الرعود
ويسري البرق في أنحاء السماء،
يسقط تراب الريح الوحشي
رطبا مبتلا فوق الأرض •••
وما أسرع ما تبزغ حياة،
وينبثق فعل قدسي تحوطه الأسرار،
ويخضر كل شيء وتكسو النضارة
أرجاء الأرض (في كل اتجاه).
17
حنين مبارك
لا تقل هذا لغير الحكماء،
ربما يسخر منك الجهلاء،
وأنا أثني على الحي الذي
حن للموت بأحضان اللهيب.
في ليالي الحب والشوق الرطيب،
يصبح الوالد والمولود أنت،
يحتوي قلبك إحساس غريب،
ومن الشمعة إطراق وصمت. •••
تترك الأسر الذي عشت به
غارقا في عتمة الليل الكئيب،
ينشر الشوق جناحيه إلى
وحدة أسمى وإنجاب عجيب. •••
سوف تعروك من السحر ارتعاشة
ثم لا تجفل من بعد الطريق،
وستأتي مثلما رفت فراشة
تعشق النور فتهوي في الحريق. •••
وإذا لم تصغ للصوت القديم
داعيا إياك: مت كيما تكون!
فستبقى دائما ضيفا يهيم
في ظلام الأرض كالطيف الحزين. •••
18
إن عود القصب
إن عود القصب لينمو ويبزغ للنور
ليحمل العذوبة للعالمين!
فليكن من حظ يراعى
أن ينسكب منه كل جميل!
كتاب حافظ
فلتسم الكلمة عروسا
وليطلق على الروح اسم العريس،
ولقد عرف هذا الزفاف
كل من مجد حافظا وأثنى عليه.
1
لقب
الشاعر :
قل لي يا محمد شمس الدين،
لم أطلق عليك شعبك المجيد
لقب «حافظ»؟
حافظ :
أحمد لك سؤالك،
وأجيبك عنه.
فلأني أحفظ في ذاكرتي الواعية
إرث القرآن الكريم
وأحافظ عليه - كما ينبغي على كل مؤمن أمين -
حتى لا تمسني بسوء عوادي السنين
أو تمس كل من يرعى ويصون
كنز التنزيل الحكيم،
لهذا خلعوا علي هذا اللقب (العظيم).
الشاعر :
ولهذا أود يا حافظ، كما يبدو لي ،
ألا أقل عنك (في هذا السبيل)،
فنحن حين نفكر كما يفكر الآخرون
نصبح معهم متشابهين.
هكذا أشبهك تمام الشبه،
أنا الذي طبعت نفسي
بالصورة الرائعة لكتبنا المقدسة.
كما انطبعت صورة السيد «المسيح»
على قماش ذلك الثوب «المشهور» بثوب الثياب،
وملأت صدري رضا وسكينة
بصورة الإيمان الخالصة
رغم (ما لقيت) من جحود، وتعطيل، واستهزاء. •••
2
اتهام
أتدرون من الذين تتربص بهم الشياطين
في الصحراء بين الصخور والأسوار؟
وكيف يتحينون الفرصة (السانحة)
لكي يسوقوهم إلى الجحيم؟
إنهم الكذابون والأوغاد. •••
ولكن لماذا يقبل الشاعر غير هياب،
على الاختلاط بهؤلاء الأشرار! •••
وهل يعرف من يتصرف دائما تصرف المجانين
من الذي يسير أو يرافقه التجوال؟
إن حبه العنيد الذي يجعله يتخطى الحدود
يدفعه إلى القفار (يهيم فيها كالشريد)،
وقوافي شكاواه التي يسطرها على الرمال
تذروها على الفور الرياح،
إنه لا يفهم أو يعي ما يقول،
وما يقوله لا يتمسك به (ولا يحافظ عليه).
ومع ذلك فإنهم يتركون أغنيته تسيطر على القلوب
رغم أنها قد تكون متعارضة (مع أحكام) القرآن.
أما أنتم يا فقهاء الشرع (الحكيم)،
أيها الراسخون في العلم والحكمة والإيمان،
فعلموا المسلمين الصالحين فروض الدين،
إن حافظا على وجه الخصوص يسبب المتاعب والمضايقات،
وميرزا يشتت العقل (في متاهة) الظنون،
فقولوا لنا ماذا نأخذ وماذا ندع (أيها الفقهاء العالمون)؟
3
فتوى
إن أذواق حافظ (في قصائده وأغانيه)
تعبر عن الحق الراسخ المتين،
ولكنه يقع هنا وهناك في هنات
تحيد به عن حدود الشرع (المبين).
لا بد أن تعرف، إن أردت السير المأمون،
كيف تميز سم الأفاعي من الترياق
بيد أنك لو وهبت نفسك بوجدان مرح طروب
للاستمتاع الخالص بالفعل النبيل،
وحميت نفسك عن طريق التدبر الحكيم
من تلك المتع التي لا تعقب غير الألم الدائم (الوبيل)
فسيكون ذلك هو أفضل سبيل لتوقي الزلل الوخيم.
هذا ما كتبه أبو السعود الفقير،
غفر الله ذنوبه أجمعين.
4
الألماني يقدم الشكر
أصبت (كبد) الحقيقة، أيها الولي الصالح أبو السعود!
والشاعر يتمنى (وجود) أمثالك من الأولياء؛
لأن تلك الهنات (الهينات)
التي تحيد عن حدود الشرع
هي بعينها التراث الذي ينطلق فيه أيما انطلاق
وهو يشعر بالبهجة حتى في غمرة الأحزان.
ولا بد أن يبدو له السم شبيها بالترياق
والترياق شبيها بسم الأفاعي
فلا هذا يقتله، ولا ذاك يداويه من الآلام،
لأن الحياة الحقة هي البراءة الخالدة للفعل
وهي تقدم الدليل على وجودها
بألا تصيب أحد سوى نفسها بالضرر والإيذاء.
وهكذا يأمل الشاعر الكهل،
أن تحسن الحور استقباله في جنة النعيم،
حين يبدو (لهن في صورة) شاب طاهر وسيم.
يا ولي الله الصالح أبا السعود، لقد أصبت (كبد) الحقيقة!
5
فتوى
قرأ المفتي قصائد «مصري»
واحدة بعد واحدة، قرأها أجمعين،
ثم ألقاها في النار وقد بدا عليه التدبر والتفكير،
فاستحال الكتاب المدون بخط جميل إلى رماد.
فليحرق كل من يتكلم أو يعتقد مثل مصري،
هكذا قال القاضي الجليل - وأما هو وحده،
فيستثنى من عذاب النار؛
لأن الله منح الموهبة لكل شاعر،
فإن أساء استخدامها في غمرة ذنوبه وخطاياه
فلينظر كيف يسوي أموره مع الله.
6
بغير حدود
إنك لا تستطيع أن تنتهي، هذا ما يجعلك عظيما،
وكونك لا تبدأ أبدا، هذا هو قدرك.
أغنيتكم تدور دورة النجوم في السماء،
البدء فيها دائما والمنتهى سواء،
وما يأتي به الوسط، من الواضح للعيان
أنه هو الذي يبقى في النهاية، وهو الذي في البداية كان. •••
أنت النبع الشعري الأصيل للأفراح،
تتدفق منه بلا حصر، موجة بعد موجة.
فم متأهب على الدوام للتقبيل،
وغناء منبعث تستثيره الرغبة في الشراب،
وقلب حنون يفيض بما فيه. •••
ولو يسقط العالم كله في الهاوية
فأنت يا حافظ، أنت وحدك الذي يلذ لي أن أنافسه!
فلنشترك معا، نحن التوءمين،
في الفرح والألم!
وليكن سبيلك في الحب كما في الشراب
هو موضع فخري ومناط حياتي.
ألا فلتنغم أغنيتك بلهيبك المستعر!
فأنت (الشيخ) الأقدم (والشاب) المتجدد (العمر).
7
محاكاة
أطمع أن أجد نفسي في (صنعة) قوافيك،
ولا بأس أيضا في أن يعجبني التكرار،
وسأجد المعنى أولا، ثم أعثر كذلك على الألفاظ،
ولن أسمح لنغمة أن ترد في سمعي للمرة الثانية
إلا أن تردد معها معنى جديد،
كما تفعل أنت أيها المقدم على الجميع. •••
فكما تقدر الشرارة على إحراق مدينة القيصر،
عندما تضطرم ألسنة اللهب الفظيع،
فتولد (من باطنها) الرياح، وتتوهج بهذه الرياح
حتى إذا انطفأت تلاشت في محيط النجوم:
كذلك راح يشتعل بنارك ويتوقد بالوهج الخالد
قلب ألماني بعثت (فيه الحياة) من جديد. •••
ألا إن في الإيقاعات الموزونة لسحرا،
والموهبة لتفرح بها غاية الفرح،
لكن ما أسرع ما تتقزز منها النفس (وتراها) أقنعة جوفاء بلا معنى أو دم.
حتى الروح لا تظهر عليها السعادة،
حتى تضع حدا لذلك الشكل الميت
وتفكر في شكل جديد.
8
سر مكشوف
لقد سموك، يا حافظ المقدس،
باللسان الصوفي،
ولم يفهم فقهاء الألفاظ (هؤلاء)
قيمة كلماتك. •••
إنهم ينعتونك بالصوفي.
لأنهم يتصورون (ألوان) الحمق في شعرك
ويتساقون خمرك العكرة
وهم يلهجون باسمك. •••
لكنك صوفي خالص،
لمجرد أنهم لا يفهمونك،
أنت أيها (المؤمن) المبارك، بغير أن تكون (ورعا) تقيا!
وذلك ما لا يريدون الاعتراف به لك.
9
تلميح
ومع ذلك فهم على حق، أولئك الذين أوجه إليهم اللوم،
فكون الكلمة لا تدل ببساطة على معناها الظاهر،
شيء لا بد أن يكون واضحا بذاته.
إن الكلمة مروحة! ومن خلال العصي
ترنو عينان فاتنتان
ما المروحة إلا نسيج بديع،
أجل إنه يحجب الوجه عني،
ولكنه لا يخفي الحسناء،
لأن أجمل ما تملكه، وهو عينها،
تبرق بريقا ناصعا في عيني.
10
إلى حافظ
إنك لتعلم ما يريده العباد،
وقد فهمته كل الفهم،
فالحنين يقيدنا أجمعين،
من التراب إلى العرش بقيوده الشداد. •••
إنه ليؤلم أشد الألم، ثم لا يلبث أن يسر،
ومن ذا الذي استطاع أن يتحداه؟
وإذا كان البعض قد كسرت رقبته،
فالبعض الآخر باق على (طبعه) المتهور. •••
اعذرني، يا معلم، فأنا كما عهدتني
كثيرا ما أجاوز الحدود،
كلما أسرتني عيناها (وشدتني) (شجرة) السرو المتقلبة المزاج،
إن قدمها لتخطر كشعيرات الجذور
على الأرض وتخطب ودها!
وكالغيوم الخفيفة تذوب تحيتها
وأنفاسها كنجوى العاشقين الشرقيين. •••
كل هذا يدفعنا، في غمرة الهواجس والأحاسيس ،
إلى حيث تشتبك الخصلة مع الخصلة،
وتنتفخ في حلقات موفورة السمرة
ثم يسمع لها في الريح حفيف. •••
عندها يتفتح الجبين ويشرق
بالنور الذي يضيء قلبك،
تسمع أغنية عامرة بالبهجة والصدق
تطوي فؤادك فيها وتغرق. •••
وعندما تنفرج وتتحرك الشفاه
بأعذب وأرق غناء،
فإنها تحررك على الفور
فتضع نفسك (من جديد) في الأغلال. •••
عندئذ يود النفس ألا يرجع،
وقد لاذت الروح بالروح،
وتموج الروائح العبقة بالسعادة (والمجون)
وهي تسري كالسحب لا تراها العيون. •••
فإذا احترق (الجوف) واشتعلت فيه النار،
مددت يدك لقدح الخمرة
والساقي يذهب والساقي يجيء
يسقيك المرة بعد المرة. •••
تبرق عيناه وتخفق نبضات قلبه،
ويمني النفس بسماع حديثك
عندما ترتفع روحك (على أجنحة) السكر
فيفيض بأسمى المعاني. •••
وينفتح أمامه فضاء العالم الرحيب
ويغمر أعماقه النور والنظام،
ينتفخ الصدر، ويبزغ على جلده الشعر
ويتحول حقا إلى غلام.
وحين لا يخفى عليك سر دفين
يطويه القلب والعالم،
تشير بحب وإخلاص للحكيم
ليفضي بما عنده من معنى مكنون.
كذلك لا تغيب عنك حاشية الأمير
حتى لا تفقد رضاهم
فتقول للشاه كلمة طيبة
ولا تضن بها على الوزير. •••
كل هذا تعرفه اليوم وتغنيه
كما ستغنيه غدا وبعد غد،
بهذا تأخذنا صحبتك بالمحبة والود
في أرجاء الحياة الخشنة والحياة التي تنعم بالهناء والرغد.
كتاب العشق
خبرني،
ماذا يبغيه القلب؟
قلبي ملك يديك،
فصنه بحب.
1
نماذج
أنصت واحفظ (في ذاكرتك)
قصص العشاق الستة •••
الكلمة تطلق شررا
يشعله الحب:
رستم من روذابه ... •••
مجهولان لبعضهما
لكن أحدهما بجوار الآخر:
يوسف وزليخا. •••
الحب مع الحرمان:
فرهاد مع شيرين. •••
ما عرفا إلا الحب:
ليلى والمجنون. •••
عشق جميل لبثينة
حتى وهي عجوز. •••
وعذوبة نزوات العشق
بين سليمان (وبلقيس) السمرا!
لو أنت وعيت حكايات القلب،
لتشجع قلبك وعرفت الحب.
2
زوج آخر
أجل، إن العشق من أكبر النعم!
من ذا الذي ينال (حظا) أجمل منه؟
لن تكون (بفضله) قويا، لن تصبح ثريا،
لكن ستكون شبيها بأعظم الأبطال.
سوف يتحدث الناس عن وامق وعذراء
كما يتحدثون عن الرسول.
هم بالأحرى لن يتحدثوا عنهما، بل سيذكرون اسمهما،
فالاسم (في الحقيقة) معلوم للجميع.
أما ماذا فعلا، ماذا أتيا،
فأمر لا يعلمه إنسان.
لقد أحبا، هذا هو (كل) ما نعرفه (عنهما)،
وهو يغني عن أي قول، حين يسألنا أحد عن وامق وعذراء.
3
كتاب مطالعة
إن كتاب الحب
لأعجب الكتب،
عليه قد عكفت،
نظرت عن كثب،
به من الأفراح
صحائف قليلة،
للحزن والأتراح
ملازم طويلة،
للهجر فيه باب،
وللقاء فضل
مشتت شحيح.
مجلدات الهم
مسهبة الشروح (بالسهد والجروح)
وما لها من حد.
أواه يا نشاني!
وجدت في النهاية
طريقك الصحيح،
واللغز من يحله؟
أن يلتقي العشاق (بعد عذاب القلب)
والهجر والفراق.
4
أجل كانت هي العيون
أجل، كانت هي العيون التي رنت إلي،
وكان هو الفم الذي قبلني.
فخذان ضيقان، وجسد ممتلئ بض
وكأني أتمتع بنعيم الفردوس.
أوكانت ها هنا، وإلى أين مضت؟
أجل هي التي كانت هنا، وهي التي أجزلت في العطاء،
أعطتني نفسها وهي تفر
وأسرتني (في أغلالها) طول العمر.
5
تحذير
كذلك كان يلذ لي عن طيب خاطر
أن أضع نفسي في شراك الغدائر،
ومن ثم جرى لصديقك، يا حافظ،
ما سبق أن جرى لك. •••
لكنهن يضفرن اليوم
خصلاتهن من الشعور الطويلة، (على هيئة) خوذات لشن غاراتهن،
كما عودتنا الخبرة على ذلك. •••
غير أن الذي يتروى (في الأمر) ويتدبر،
لا يسمح بأن يفرض عليه هذا القهر:
فقد يخاف المرء من الأغلال الثقيلة
ويندفع بنفسه (للوقوع) في الحبائل الخفيفة.
6
غريق
يا له من رأس مستدير غني بالخصل المجعدة!
وكلما سمح لي أن أتخلل بملء يدي
هذه الغدائر الثرية مرة بعد مرة،
شعرت من أعماق القلب بأنني معافى.
وكلما لثمت الجبين، والقوس، والعين، والفم،
أحسست بأني منتعش وعاودني (نزف) الجرح.
أين تراه سيتوقف، هذا المشط بأسنان خمس؟
إنه ليرجع من جديد إلى الغدائر.
والأذن لا تتمنع عن اللعب،
فليس ها هنا لحم ولا ها هنا جلد،
وما أرقها للملاطفة، ما أحبها!
ومع ذلك فكلما داعب المرء هذا الرأس الصغير،
شعر دائما بالرغبة في أن تجوس يداه
صاعدة هابطة في هذا الشعر الأثيل.
هذا ما فعلته أنت كذلك يا حافظ،
أما نحن فنبدأ فيه من جديد.
7
أمر محير
هل لي أن أتكلم عن الزمرد،
الذي يزين بنانك؟
أحيانا ما تدعو الحاجة للكلمة،
وكثيرا ما يغدو الصمت هو الأفضل. •••
لأقل إذن إن اللون
هو الأخضر والمنعش للعين!
ولا تقولي إنك تخشين
أن يكون الألم والندبة منه قريبين. •••
أيا كان الأمر ففي وسعك أن تقرئيه!
ما السر في هذه القوة، لماذا تؤثرين كل هذا التأثير! «إن جوهرك لجد خطير
بقدر ما الزمرد منعش ومثير.»
8
أيتها المحبوبة آه!
أيتها المحبوبة، آه! في القيد الصارم
تنحبس أغاني الحرة
وهي التي كانت تطير هنا وهناك
في آفاق السماء الصافية.
إن الزمن يفني كل شيء،
أما هي فستبقى أبدا.
وسيبقى كل سطر فيها
خالدا خلود الحب.
9
عزاء سيئ
في منتصف الليل بكيت، نشجت
لأني احتجت إليك، شعرت بحرماني منك.
عندئذ جاءت أشباح الليل، (فخفت)، خجلت.
ناديت عليها: يا أشباح الليل!
ها أنت ترين دموع العين
وكنت تمرين علي
غريقا في أحضان النوم،
إني أفتقد الخير كثيرا، كل الخير
بربك إلا أحسنت الظن (وأقللت اللوم)،
من أضفيت عليه قديما ثوب الحكمة
حل عليه الكرب ونزل الشؤم!
عبرت أشباح الليل
وذهبت كالحة الوجه
فلم تحفل بي
إن كنت حكيما أو أحمق (يعوزني الفهم).
10
قنوع
كم تخدع نفسك حين يصور لك الحب
أن فتاتك، قد صارت ملك يديك.
هذا شيء لا يمكن أن يسر خاطري أبدا،
فهي تعجب بألوان التملق (وتنتظرها منك).
الشاعر:
حسبي أن المحبوبة ملك يدي
وعذري الواضح
أن الحب عطاء حر
أما الملق فإني لا أنشد منه
إلا تمجيد حبيب العمر.
11
تحية
آه كم كانت سعادتي
وأنا أجوب تلك البلاد
التي يسير فيها الهدهد على الطريق.
رحت أبحث في الصخور
عن قواقع البحر المتحجرة،
وأتى الهدهد بالقرب مني
ناشرا أهداب تاجه
وأخذ يخطر في خيلاء - وهو الممتلئ بالحياة -
مبديا سخريته من كل ما هو ميت.
قلت له: «يا هدهد!
الحق أنك طائر جميل.
أسرع لتعلن للحبيبة
إنني أحبها
حبا أبديا
لقد سبق لك أيضا القيام
بدور رسول الغرام
بين سليمان (الحكيم)
وملكة سبأ!»
12
تسليم «أوتفنى وتظل ودودا وتحب،
تضوي وتغني بغناء عذب؟»
الشاعر:
الحب يعاملني بقسوة ويعاديني!
لهذا أود أن أعترف عن طيب خاطر،
بأنني أغني بقلب ثقيل محزون.
حاول أن تنظر مرة إلى الشموع، (تجدها) تسطع بالضوء بينما تذوي وتموت.
ألم الحب بحث عن مكان
شديد الوحشة ووحيد،
فلم يجد غير فؤادي المقفر
حيث أقام عشه في الفراغ.
13
أمر حتمي
من ذا يمكنه أن يأمر الطيور
بأن تلزم السكون في المروج؟
ومن ذا يستطيع أن يمنع الشياه
من الارتجاف تحت مقص الحلاق؟ •••
فهل أبدو متمردا وسيئ الأدب
إذا ما تلبد صوفي؟
كلا! فإن التمرد وسوء الأدب
يضطرني إليهما الحلاق الذي يجز لبدتي. •••
من ذا الذي يمنعني من الغناء
على هواي حتى أبلغ عنان السماء،
وأسر بنجواي إلى السحاب
وكيف فتنني فتنة تأخذ بالألباب؟
14
سر
وقف الخلق حيادى مشدوهين
من نظرات المحبوب إليا،
أما أنا فعليم، ولدي يقين
بالمعنى الكامن فيها (والمغزى)،
ذلك أنها تقول: أحب هذا الإنسان
لا ذلك الفلان أو العلان.
فتخلوا إذن، أيها الناس الطيبون
عما (يملأ نفوسكم) من تعجب وحنين،
أجل إنها تنظر بغضب رهيب
إلى الجموع المتحلقة من حولها،
بينما تريد أن تعلن له وحده
عن موعد اللقاء الحلو القريب.
15
سر أعمق «إننا مهتمون أعظم اهتمام - نحن صيادي النوادر والأخبار -
بأن نعرف من هو حبيبك
وهل لك كذلك كثير من الأصهار •••
أما أنك ولهان فهذا ما نراه،
ونغبطك عليه من طيب خاطر،
وأما أن حبيبك يبادلك الغرام،
فهذا شيء لا يمكننا تصديقه.» •••
هلموا أيها السادة الأعزاء،
بادروا بالبحث عنها، ولكن حذار،
ستصابون بالفزع إن هي وقفت هناك.
فإذا غابت قبلتم خيالها. •••
إنكم تعرفون كيف تجرد شهاب الدين
من ثيابه فوق (جبل) عرفات،
ولا تصفون أحدا بالحمق
لأنه يحاكيه فيما فعل.
وإذا ذكر اسمك في يوم من الأيام
أما عرش قيصرك
أو أمام حبيبة قلبك
فليكن لك في ذلك أعظم جزاء. •••
لذلك كان أفظع الفواجع والأحزان
أن يطلب المجنون ساعة احتضاره
ألا يذكر اسمه إنسان
أبدا أمام ليلى (العامرية).
كتاب التفكير
1
اسمع النصح
اسمع النصح الذي تردده القيثارة؛
بيد أنه لن يفيد حتى تثبت القدرة والمهارة.
إن أسعد الكلمات ليقابل بالسخرية والاستهزاء،
حين يكون السامع ذا أذن لا تحسن الإصغاء.
لكن ما الذي تردده القيثارة؟ إنها ترن بصوت عال:
بأن أجمل العرائس ليست هي أصلحهن،
ومع ذلك فلو كان علينا أن نجعلك واحدا منا
فإن الواجب يحتم عليك أن تريد الأجمل والأصلح.
2
خمسة أشياء
خمسة أشياء لا تنتج خمسا،
فافتح أذنيك لتستوعب هذا الدرسا:
لا تنبت في صدر المغرور مودة،
ورفاق الخسة والوضعاء عديمو الذوق،
والعظمة لا يدركها شرير وغد،
والحاسد لا يرحم عريا،
والكاذب يطمع عبثا في ثقة الناس،
فاحفظ هذا الدرس (وأمنه بالحراس)
كي لا يسرقه أحد «الأنجاس».
3
خمسة أخرى
ما الذي يقصر علي الزمن؟
الفعل!
وما الذي يجعله طويلا لا يحتمل؟
الفراغ!
ما الذي يوقع المرء في الديون؟
التجلد والصبر!
وما الذي يجلب الكسب (الوفير)؟
عدم إطالة التفكير!
ما الذي ينيل الشرف والكرامة؟
الإباء والمقاومة!
4
محببة هي نظرة الفتاة
محببة هي نظرة الفتاة التي ترنو (إليك)،
ونظرة الشارب محببة، من قبل أن يشرب،
وتحية السيد الذي استطاع أن يصدر الأمر،
وضوء الشمس الذي غمرك في الخريف.
وأحب من هذا كله أن تضع نصب عينيك على الدوام،
كيف تسعى نحوك في لطف يد فقيرة
لتتلقى ما تقدمه من هبات صغيرة
وهي تحمل أجمل مشاعر الامتنان والعرفان.
يا لها من نظرة! يا لها من تحية! ويا له من سعي قوي التعبير!
تأمله جيدا، وسوف تواصل العطاء دائما (بسرور).
5
وإن ما ورد في بند نامه
وإن ما ورد في «بند نامه»
لمنقوش في صدرك:
كل من تعطيه بنفسك
سوف تحبه كما تحب نفسك
فقدم المليم وأنت مسرور (على الفور)
ولا تكنز الذهب لينفق بعدك في الخير،
بل أسرع وأنت مغتبط راضي
إلى تفضيل الحاضر على ذكرى الماضي.
6
إن مررت بحداد
إن مررت على صهوة جوادك بحداد،
فلست تدري متى يصلح لك كعب الجواد،
وإن رأيت كوخا خاليا في العراء
فلست تدري إن كان يضم حبيبة الفؤاد،
وإن لقيت فتى جسورا ذا محيا جميل
فلست تعلم إن كان سيغلبك غدا أم سيكون المغلوب.
لكن يمكنك أن تقول عن الكرمة الخبر اليقين
وأنها ستحمل لك من الطيبات الكثير.
وهكذا تحيا في هذا العالم في أمان
وما عدا ذلك لا يحتاج مني إلى التكرار.
7
فلتحسن رد التحية
فلتحسن رد التحية من إنسان مجهول!
ولتكن عندك في مقام التحية من صديق قديم.
فبعد كلمات قليلة ستقولان لبعضكما الوداع!
وتذهب أنت إلى المشرق، وهو إلى المغرب، وتتفرق
بكل السبل والدروب - حتى إذا التقيتما على الطريق بعد سنين وسنين
على غير انتظار - نادى أحدكما الآخر في فرح وسرور:
حقا إنه هو! أجل كان هو نفسه!
كأن لم يفرق بينكما السفر والرحيل
في البر والبحر ولا دورة الشموس (والأفلاك).
عندئذ تبادلا البضائع وتقاسما المنافع!
فالثقة القديمة تعقد
عرى المودة من جديد.
إن أول تحية تعدل آلاف التحيات
فأحسن رد التحية لكل من حياك!
8
لقد طالما قالوا الكثير
لقد طالما تحدثوا عن عيوبك
ورووا الكثير عن أخطائك،
وطالما عذبوا أنفسهم أشد العذاب
ليثبتوا صدق ما يقولون ويحكون.
ليتهم بحب ومودة حدثوك
عن خير (أو فضل) تملكه
وأشاروا عليك بصدق ووفاء
كيف تختار ما هو أفضل منه،
والحق إن أفضل الأشياء
لم يبق محجوبا عني في الخفاء
وهو الذي لا يلتف حوله في خلوة الزاهدين
إلا أقل عدد من الضيوف المخلصين
وهكذا اخترت في نهاية المطاف
أن أكون التلميذ الذي يتعلم
كيف يقع المرء في الأخطاء
عن طريق التفكير والندم.
9
إن الأسواق تغريك بالشراء
إن الأسواق تغريك بالشراء،
غير أن العلم ينتفخ ويتورم.
ومن ينظر حوله في سكون
يتعلم كيف يهدي الحب ويقوم.
إن كنت تجهد نفسك بالليل والنهار
لتسمع الكثير وتعلم الكثير،
فعليك أن تتنصت على باب آخر
لتعرف كيف يجدر بك أن تعلم.
وإذا كان للحق أن يجد طريقه إليك
فاشعر من لدن الله بما هو حق:
من يحترق بنار الحب
فلا جرم سيعرفه الرب.
10
لما سعيت
لما سعيت (للتحلي) بالشرف والأمانة،
خاب مسعاي،
وأمضيت السنين الطوال
في عذاب (وضلال)،
أفلحت ولم أفلح أيضا،
كيف وما معنى هذا؟
ثم حاولت أن أكون وغدا
وبذلت في ذلك غاية جهدي،
لكنه لم يوافق طبعي
بل حطم كياني ومزقني.
عندئذ قلت لنفسي
إن الشرف لأفضل شيء،
حتى لو كان قليل الحظ،
فهو الأرسخ والأبقى.
11
لا تسل من أي باب
لا تسل من أي باب
دخلت مدينة الله،
بل ابق في الموضع الهادئ
حيث اتخذت مكانك.
ثم انظر حولك وفتش عن الحكماء
وعن الأقوياء الذين يأمرون (وينهون)،
أولئك سيعلمونك ويهدونك،
وهؤلاء سيشدون عزيمتك ويقوونك.
وما دمت قد عشت لتنفع (غيرك) ولزمت (العقل) والاتزان.
وبذلك حفظت للدولة عهد الوفاء،
فاعلم أنه لن يكرهك إنسان،
بل سيحبك الكثير من الناس. •••
والأمير يعرف (ويقدر) الإخلاص
الذي يصون الفعل ويجدد فيه الحياة،
بهذا ينجح الجديد في الاختبار
ويبقى ثابتا إلى جانب القديم.
12
من أين جئت؟
من أين جئت؟ إنه (في الواقع) لسؤال،
فلست أدري كيف ساقني إلى هنا الطريق،
هنا الآن في هذا النهار المشرق السماء
يتلاقى الألم والسرور لقاء الأصدقاء.
يا للحظ السعيد حين يتحدان!
والوحيد، كيف يطيب له أن يضحك، كيف يطيب
له البكاء؟
13
الواحد بعد الآخر
الواحد بعد الآخر يمضي ويزول،
وكذلك أحيانا يمضي قبله،
فدعنا إذن نقطع دروب الحياة
سراعا، شجعانا، وجسورين.
إن الأزهار تستوقفك، وهي تنظر إليك بإغراء،
لكي تقطف منها ما تشاء،
ولا شيء يمكنه أن يصدك ويرغمك على النكوص
إلا إن كنت قبل ذلك مزيف (الضمير).
14
عاملوا النساء
عاملوا النساء برفق وتسامح!
خلق الله المرأة من ضلع أعوج
لم يشأ له سبحانه أن يستقيم
إنك إن أردت أن تثنيه انكسر،
وإن تركته ازداد عوجا، (قل لي) يا آدم الطيب، أهنا لك ما هو أسوأ من ذلك؟
عاملوا النساء برفق وتسامح،
فليس من الخير أن ينكسر لكم ضلع.
15
إنما الحياة
إنما الحياة مزحة سخيفة:
هذا ينقصه شيء، وذلك يعوزه شيء آخر،
وما يطمع فيه هذا غير قليل، وما يطمح إليه ذلك بلا حدود.
والقدرة والحظ يدخلان أيضا في اللعبة.
فإذا تدخل سوء الحظ بينهما
حمله كل امرئ وهو كاره (محزون)،
حتى يأتي الورثة أخيرا فيحملون
ذلك السيد الذي لا يستطيع ولا يرى وهم مغتبطون.
16
إن الحياة لعبة
إن الحياة لعبة من لعب الإوز:
فكلما تقدم الإنسان في المسير،
سبق غيره إلى الهدف (المقصود)
الذي لا يود أحد أن يتوقف عنده. •••
يقال إن الإوز غبي،
فلا تصدقوا ما يقوله الناس؛
لأن إحداها تنظر حولها
ثم تلتف وراءها مشيرة إلي. •••
لكن الأمر في هذه الدنيا مختلف أشد الاختلاف
إذ يتدافع الجميع متقدمين للأمام،
وإذا تعثر أحدهم أو سقط (في الزحام)،
لم تتلفت نفس واحدة إلى الوراء.
17
أخذت منك السنوات
أخذت منك السنوات، كما قلت، كثيرا:
متعة ألعاب الحس
وذكرى عبث الأمس
المفعم بدلال الحب،
وحرمت من التجوال طويلا
بين مغاني الأرض
لأنك جاوزت السن (وشاب القلب)،
لم يسلم حتى الشرف،
وكان يزين الرأس
ولا (سلم) المدح وكان يسر النفس.
جف معين الخلق وغاض النبع
فما عدت تغامر (كي تنفض عنك غبار اليأس)
لا أدري ماذا يبقى (من كل كنوز العالم لك؟) - يبقى ما يكفي القلب!
وتبقى الفكرة والحب!
18
لو وضعت نفسك
لو وضعت نفسك أمام العارفين
لضمنت الأمان في كل الأحوال.
فإن كنت قد عذبت نفسك طويلا
عرفوا على الفور ما تفتقر إليه
كذلك يمكنك أن تطمع في الثناء
لأنهم يعرفون أين وكيف أحسن البلاء.
19
سوف يخدع الكريم
سوف يخدع الكريم،
ويستنزف البخيل،
اللبيب سيضلل،
والعاقل يفرغ (من عقله)،
الفظ سيجتنبه الناس
والأبله يوضع في القيد.
تمكن من هذه الكذبة
واخدع أيها المخدوع!
20
من يملك إصدار الأوامر
من يملك إصدار الأوامر سيزجي المدح والثناء،
وسيرجع مرة أخرى إلى اللوم والتقريع،
فعليك أيها الخادم الوفي الأمين،
أن ترضى بهذا كما ترضى بذاك. •••
ذلك أنه يثني على أهون الأشياء
كما يوجه اللوم، حيث كان ينبغي عليه الثناء،
لكنك لو تمسكت بالصبر والاتزان،
فسوف يتأكد في النهاية من معدنك الأصيل. •••
وهكذا يكون عليكم، أيها السادة الأعلون،
أن ترعوا الله كما يفعل الضعفاء،
فاعملوا وقاسوا بقدر ما تستطيعون،
ولكن حافظوا على الصبر والاتزان.
21
إلى الشاه شجاع وأمثاله
خلال الهدير كله والرنين
في بلاد ما وراء النهر
يتجرأ غناؤنا
ويسير على دروبك!
لا يتخوف من أي شيء (لأنه) يستمد الحياة منك،
فليطل عمرك
وليدم ملكك!
22
أسمى النعم
عندما كنت شرسا (صعب الانقياد)
وجدت سيدا،
وعندما رقت حاشيتي بعدها بسنوات
وجدت أيضا سيدة.
لم يدخرا الوسع في اختياري
ووجداني وفيا مخلصا،
وبالحفظ والرعاية شملاني
لأنني الكنز الذي وجداه.
لم يسبق لأحد أن خدم سيدين
ووجد في ذلك سعادته،
أما السيد والسيدة فيسرهما
أنهما معا وجداني،
وكوكب السعد يضيء حياتي
لأني وجدتهما معا.
23
الفردوس يقول «أيها العالم! قبحت وما أفظع شرك!
أنت تغذو وتربي، وبنفس الوقت تهلك!»
ومن يؤثره الله بفضله وكرمه، (فإنما) يغذو نفسه، ويربي نفسه، وينعم بالحياة والثراء. •••
لكن ما معنى الثروة؟ - إنها الشمس التي تدفئ
ويستمتع بها الشحاذ، كما نستمتع بها
فلا يتبرم أحد من الأثرياء
ولا ينفس على الشحاذ المتعة والهناء.
24
جلال الدين الرومي يقول
إن أقمت في العالم فر (منك) كالحلم،
وإن ترحلت، حدد (لك) القدر المكان،
لا الحرارة ولا البرد يمكنك أن تتحكم فيهما،
وما يزدهر أمام عينيك، سيشيخ (ويذبل) على الفور.
25
زليخا تقول
قالت المرآة إني فاتنة،
حزت آيات الجمال!
قلتمو إن الليالي خائنة
سوف تذوين (ويطويك الزوال)
كل شيء خالد في عين ربي،
فاعشقوه الآن فيا،
هذه اللحظة حسبي!
كتاب الضيق
1
من أين أتيت بهذا؟ «من أين أتيت بهذا؟»
كيف تيسر أن يصل إليك؟
وكيف حصلت من أسمال الحياة
على هذا الفتيل،
حتى تحيي من جديد
آخر ومضات الشرارة. •••
لا يقعن في ظنكم
أن هذه الشرارة خامدة،
في الآفاق الشاسعة بلا حدود،
وفي محيط النجوم،
لم أضيع نفسي
بل شعرت كأني ولدت من جديد. •••
هناك حيث أمواج الأغنام البيضاء
قد غمرت التلال ،
نعمت برعاية حداة جادين،
يرحبون بالضيف وبالقليل (من زادهم) يقرون،
وهم من الطيبة واللطف والهدوء
بحيث حببتهم وسعدت بهم أجمعين. •••
في الليالي المخيفة
وتحت تهديد الغارات
كان ثغاء الإبل
ينفذ في الأذن والنفس
ويملأ الحداة
بالخيالات والخيلاء. •••
ودائما تقدم المسير
واتسع المكان باستمرار
وبدا كل سعينا
أشبه بفرار أبدي.
ومن وراء البيد والحشود،
رف شريط أزرق لبحار خداعة.
2
لن تجد أي شويعر نظام
لن تجد أي (شويعر) نظام،
لا يحسب نفسه أفضل الشعراء،
ولن تجد عازفا متواضعا على الكمان
إلا ويؤثر عزف ألحانه الخاصة. •••
ولم يكن في وسعي أن ألومهم:
فنحن إذا مجدنا الآخرين
تحتم علينا أن نجرد أنفسنا من المجد،
وكيف يحيا الإنسان في الوقت الذي يحيا فيه الآخرون؟ •••
وهكذا وجدت من طبائع الأمور
في بعض غرف الانتظار
ألا يستطيع أحد التمييز
بين الكزبرة وزبل الفيران. •••
إن المكانس القديمة لتكره
هذه المكانس الجديدة المتينة،
وهذه الأخيرة لا تريد أن تعترف،
بفضل المكانس القديمة. •••
وحيثما دبت الفرقة بين الشعوب
وتبادلت الاحتقار (والازدراء)،
فلن يعترف شعب منها للآخر،
بأنهما يهدفان لنفس الغاية. •••
وهذه الأنانية الفظة (الغليظة)
قد لامها البعض أشد اللوم،
وهؤلاء قلما حققوا شيئا،
بينما استطاع غيرهم أن ينجز الكثير.
3
ما إن يشعر المرء
ما إن يشعر المرء بالرضا والصفاء
حتى يبادره الجار بالتنغيص والشقاء،
وما عاش ذو الفضل يجاهد جهاد العاملين،
إلا شغف الناس بأن يرجموه. •••
حتى إذا وافاه الأجل المحتوم،
طفقوا يجمعون التبرعات والهبات
ليقيموا له تمثالا يكرم ذكراه
ويشهد على ما لاقاه من نكد الحياة. •••
ولو أحسنت العامة التقدير
وتدبرت أصلح الأمور
لكان الأولى بهذا المسكين
أن ينسوه إلى أبد الآبدين.
4
لعلكم تلاحظون
لعلكم تلاحظون أن التعاظم
لا يمكن نفيه من العالم، (لهذا) يلذ لي تبادل الكلام
مع النجباء والحكام العظام. •••
ولما كان المحدودون الأغبياء
قد دأبوا على (العجرفة) والاستكبار
كما أن ضيقي الأفق والأوساط
قد أولعوا بوضعنا تحت نيرهم،
فقد أعلنت أنني حر (طليق)
من الحمقى والحكماء (على السواء)،
لأن هؤلاء يؤثرون البقاء بغير إزعاج
وأولئك يودون تمزيق أنفسهم (شر تمزيق). •••
وهم يتصورون أن علينا في نهاية المطاف
أن نتوحد في القوة والحب
فيعكرون علي ضياء الشمس
ويشيعون السخونة في الظل. •••
وقد اضطر كذلك حافظ وألريش هوتن
أن يصمما على حمل السلاح
لمواجهة أصحاب الثياب البنية والزرقاء، (أما) أعدائي فيسيرون مثل سائر المسيحيين. ••• «اذكر لنا إذن أسماء هؤلاء الأعداء.»
لست أبغي من أحد أن يدل عليهم
إذ يكفيني بين جماعة المؤمنين
أنني أعاني منهم أشد العناء.
5
إذا اطمأننت للخير والسلام
إذا اطمأننت للخير والسلام
فلن أجد في ذلك ما يلام،
وإن اتجهت إلى فعل الخير
فسيرفعك هذا إلى صفوف النبلاء!
أما إذا شئت أن تقيم السور (والسياج)
حول الخير الذي تصنعه
فسوف أحيا حرا وأحيا في هناء
ولن أحس بأن أحدا خدعني. •••
ذلك أن الناس بطبعهم أخيار،
ويمكن أن تكون أحوالهم أفضل،
لو لم يبادر الواحد منهم
بتقليد الآخر فيما يفعل.
وهناك مثل يقول - ولن يرفضه أحد -
إذا كنا نسير على طريق
ونقصد نفس المكان
فهلم بنا نسير معا. •••
هنا وهناك أثناء المسير
سيواجهنا الكثير،
وما من أحد في الحب يطيق
أن يكون له معين ورفيق،
إذ يود كل امرئ أن يجزل له وحده العطاء
من المال والشرف والتكريم.
ثم يأتي الخمر، هذا الصاحب الأمين،
فيورث الشقاق في نهاية المطاف. •••
وحافظ أيضا قد تكلم
عن مثل هذه التفاهات،
وحطم رأسه بالتفكير
في كثير من هذه السخافات،
ولست أرى من الخير
أن نهرب من هذا العالم
وأولى بك، حين تسوء الأمور لأقصى حد،
أن تهيئ نفسك لخوض المعارك.
6
وكأن ما يتفتح في ظل الصمت
وكأن ما يتفتح في (ظل) الصمت،
يعتمد على الأسماء!
إنني لأحب الخير الجميل
كما سوته (يد) الله. •••
أحب إنسانا، وهذا شيء لا غنى عنه،
ولا أكره أحدا، لكن إذا وجب علي أن أكره
فإني كذلك على أتم استعداد، (عندئذ) أكره بفظاعة وبغير حدود. •••
أما إذا أردت أن تعرفهم عن قرب،
فانظر إلى الحق، وانظر إلى الباطل، (وستجد) أن ما يصفونه بالعظمة والروعة
ربما لم يكن هو الحق. •••
لأن من يريد أن يهتدي للحق
يجب عليه أن يحيا بعمق،
أما الإغراق في الثرثرة والجدال
فهو في ظني ضحالة وسماجة (في كل الأحوال) •••
وبالطبع يستطيع السيد المرتق
أن ينضم إلى الممزق،
ومن ثم يتصور كذلك الملفق
أنه هو أفضل الناس! •••
وهكذا يسعى كل إنسان وراء التجديد
ويحرص كل يوم على سماع شيء جديد،
وفي الوقت نفسه يتكفل كذلك التشتيت
بتخريب كل إنسان من داخله. •••
هذا هو الذي يرغب فيه المواطن ويهواه،
سواء اعتبر نفسه ألمانيا بالمعنى القديم أو بالمعنى
الحديث، غير أن الأغنية الصغيرة تهمس في الخفاء: «هكذا كانت الأمور وهكذا سوف تكون.»
7
المجنون معناه «المجنون» معناه - لا أريد أن أقول
إنه هو الذي فقد عقله تمام الفقدان،
ومع ذلك لا يجوز أن توجهوا إلي الاتهام
بأنني أفتخر بأني «المجنون». •••
عندما يفيض الصدر الطيب الحنون
بما امتلأ به لينقذكم (من الضلال)
فلا تهتفوا: «هذا هو المجنون!
هاتوا الحبال، أحضروا الأغلال!» •••
وحين ترون في نهاية المطاف
أن الأفذاذ يحتضرون في السلاسل
فسوف يلسعكم لسع القراص
أن تتأملوهم بغير طائل.
8
هل سبق أن أشرت عليكم
هل سبق أن أشرت عليكم
كيف تشنون الحروب؟
وهل وجهت اللوم إليكم - بعد ما رأيت من أمجادكم -
عندما قررتم عقد (معاهدة) السلام؟ •••
وهكذا تركت الصياد
يطرح شباكه في هدوء،
ولم أحتج لتعليم النجار البارع
كيف يضبط زاويته. •••
لكنكم تريدون أن تعرفوا
أفضل مني ما أعرفه وتبين لي
أن الطبيعة حبتني به وآثرتني
بأن أختص به وأنبغ فيه. •••
هل تشعرون بمثل هذه القوة؟
إذن فهاتوا برهانكم!
فإذا نظرتم في أعمالي
فتعلموا أولا: هكذا أراد لها أن تكون.
9
طمأنينة المتجول
لا يرفعن أحد صوته بالشكاة
من الدناءة والوضاعة؛
لأنها هي المسيطرة الغلابة،
مهما زعم لك الزاعمون. •••
إنها تدبر أمورها في الشر
لتحصل على أكبر ربح،
كما تتصرف في الخير
حسب مزاجها وأهوائها. •••
أيها المتجول! - هل خطر ببالك
أن تثور على هذه المحنة؟
دعهم يديرون ويثيرون كالغبار
زوابع الرمل والبراز الجاف.
10
من ذا الذي يطلب من الدنيا
من ذا الذي يطلب من الدنيا
ما تفقده هي نفسها وتحلم به،
فيظل يتلفت وراءه وحواليه
وعلى الدوام يضيع نهار النهار (من يديه)؟
إن سعيهم (الحثيث)، وإرادتهم الطيبة
لا يلهثان إلا وراء الحياة المندفعة المتسرعة،
وما كنت تحتاج إليه قبل سنوات
تود هي اليوم أن تعطيك إياه.
11
إن ثناء المرء على نفسه
إن ثناء المرء على نفسه خطأ،
ومع ذلك (فهو خطأ) يرتكبه من يفعل خيرا،
وكلما كان صادقا وصريحا في كلامه
بقي الخير دائما هو الخير. •••
أيها الحمقى، دعوا إذن هذه الفرحة
للحكيم الذي يعتقد في نفسه الحكمة،
حتى يمكنه، وهو الأحمق مثلكم،
أن يبذر من هذا الشكر الممجوج من العالم.
12
أتعتقد إذن؟
أتعتقد إذن أن النقل من فم إلى أذن
هو مكسب حقيقي مأمون؟
إن النقل، أيها الأحمق المأفون،
هو أيضا تخريف ووهم! •••
الآن قد حان الوقت لإصدار الحكم
لن يخلصك من أغلال الاعتقاد
سوى العقل وحده
الذي سبق لك أن تخليت عنه.
13
ومن يحاكي الفرنسيس أو البريطان
من يحاكي الفرنسيس أو البريطان
أو يجاري الطليان أو الألمان
فإنما يريد كل واحد منهم،
ما تتطلبه منه (المصلحة) وحب الذات.
إذ ليس في ذلك أي اعتراف
لا بالكثيرين (منهم) ولا بالواحد،
طالما أنه لا يظهر في (ضوء) النهار،
ما يحب الإنسان نفسه أن يبدو عليه. •••
ولكن في غد يجد الحق
أعوانه المخلصين،
وإن كان الشر قد ساد اليوم
واكتسب المكانة والحظوة. •••
من لا يستطيع أن يقدم لنفسه الحساب (عما تم من التطور) خلال ثلاثة آلاف عام،
فليبق معدوم الخبر يتخبط في الظلام
وليعش من يوم ليوم (ويتنقل من باب لباب).
14
عندما كان المسلمون
عندما كان المسلمون يستشهدون بالقرآن الكريم،
كانوا يذكرون السورة والآية،
وكان كل مسلم، بما ينبغي عليه من توقير،
يشعر بالإجلال والطمأنينة في أعماق الضمير،
لكن الدراويش المحدثين لا يفضلونهم في شيء
فهم يثرثرون عن القديم، فضلا عن الجديد.
وفي كل يوم يزداد التشويش والاضطراب الشديد،
أيها القرآن الكريم! أيتها الطمأنينة الخالدة!
15
النبي يقول
لو شعر أحد بالغيظ لأن الله قد شاء
أن ينعم على محمد بالحفظ والفضل والهناء،
فليبادر إلى تثبيت الحبل الغليظ
في أقوى عارضة في قاع بيته،
وليعلق نفسه فيه،
وسوف يحس بأن غيظه قد ذهب واستعاد الهدوء.
16
تيمور يقول
ماذا؟ أتنكرون علي أيها الفقهاء المراءون
فورة الانطلاق العاتية كالإعصار الشديد!
لو أن الله قدر لي أن أكون دودة
لكان قد خلقني على هيئة الدود.
كتاب الحكم
1
سأنثر التمائم في هذا الكتاب،
وهذا يحقق التوازن.
ومن يخز بإبرة الإيمان
تسره الكلمة الطيبة في كل مكان.
2
لا تطلب من هذا اليوم ولا تسأل هذا الليل
إلا ما جلب إليك
نهار الأمس وليل الأمس.
3
من ولد في أسوأ أيام النحس،
ارتاحت نفسه حتى لأيام النحس.
4
لا يعرف أن الشيء سهل
إلا من اخترعه ومن حصل عليه.
5
البحر يفيض دائما
والأرض لا تحتفظ به أبدا.
6
لماذا تصيبني كل ساعة بالكمد والضيق؟
إن الحياة لقصيرة، وإن النهار لطويل.
ودائما ما يتوق القلب للانطلاق إلى البعيد،
هل يصبو للانطلاق إلى السماء - لا أدري على وجه التحديد،
لكنه يريد أن يمضي إلى هنا وهناك،
ويود أن يفر من نفسه لو استطاع.
وإذا طار إلى صدر الحبيب،
استقر في السماء وهو غائب عن الشعور،
وتشده دوامة الحياة من جديد،
ولكنه يثبت على الدوام بموضع واحد فريد،
ومهما أراد، ومهما أضاع
فإنه يظل في النهاية هو الأحمق المأفون.
7
إذا اختبرك القدر، فهو يعلم السبب في هذا تمام العلم:
لقد أراد منك الزهد والعزوف، فأطعه في صمت.
8
لا يزال النهار طالعا، والناس يتحركون بلا توان،
حتى إذا أقبل الليل، توقف عن النشاط كل إنسان.
9
ماذا تريد أن تصنع بالعالم، لقد تم صنعه،
ورب الخلق قد دبر كل شيء.
تحدد نصيبك، فاتبع السبيل،
بدأ الطريق، فأتم الرحلة،
لأن الهموم والأحزان لن تغير منه شيئا،
بل ستظل تطيح بك بعيدا عن الاتزان.
10
إن شكا المظلوم يوما للسماء،
قد حرمت العون منهم والرجاء،
فدواء الجرح إن عز الدواء
كلمة طيبة فيها الشفاء.
11 «كم أسأتم التصرف
حين زاركم الحظ في بيتكم.»
لكن الفتاة لم تستأ من ذلك
فعاودت الزيارة عدة مرات.
12
إن ميراثي لرائع،
وهو موفور وشاسع.
فملكي الزمان،
وحقلي الزمان.
13
افعل الخير لأجل الخير وحده!
ثم سلمه لنسل من دمك،
فإذا لم يجن أولادك منه،
فهو لن يخلف للأحفاد وعده.
14
يقولها «أنوري»، وهو من أعظم الناس،
وأعلمهم بخفايا القلوب وبأعلى الرءوس: (هناك ثلاثة أمور) ترفع قدرك في كل مكان وزمان:
الاستقامة، وسداد الرأي، و(القدرة على) الاحتمال.
15
لماذا تشكو من الأعداء؟
وهل يمكن أن يكون لك أصدقاء
من أولئك الذين يظل جوهرك الأصيل
مصدر اتهام صامت وأبدي لهم؟
16
ليس هناك أغبى ولا أشق على الاحتمال،
من أن يقول الأغبياء للحكماء:
ينبغي عليكم في الأيام العظيمة
أن تقدموا الدليل على تواضعكم.
17
لو كان الله جارا سيئا،
كما هو حالي وحالك،
لكان حظ كلينا من الشرف قليلا،
إنه (سبحانه) يترك كل إنسان لطبيعته.
18
اعترفوا بأن شعراء الشرق
أعظم منا نحن شعراء الغرب.
أما الشيء الذي نجاريهم فيه سواء بسواء
فهو حقدنا على أمثالنا من الشعراء.
19
في كل مكان يريد كل إنسان أن يكون في العالي،
كما هو الشأن في هذا العالم وواقع الحال.
ومن حق كل إنسان أن يكون فظا غليظ الإحساس،
على أن يقتصر ذلك على ما يحسن فهمه (من دون الناس).
20
ارفع مقتك يا رب وغضبك عنا !
فالصعو
1
الأخرس صار له صوت.
21
إذا صمم الحسد على أن يمزق نفسه،
فدعه يأكل جوعه.
22
إذا حرصت على الاحتفاظ باحترام النفس،
فيجب عليك أن تكون خشنا شديد البأس.
فكل شيء يمكنك أن تصيده بالصقر،
باستثناء الخنزير البري.
23
ماذا يفيد المتفقه في الدين،
أن يسد علي الطريق؟
إن ما لم يدرك الإدراك الصحيح المستقيم،
لن يعرف أيضا بشكل ملتو سقيم.
24
إن الثناء على البطل وتمجيده،
شيء يمكن أن يقوم به كل من حارب بجسارة.
إذ لا يعرف قيمة إنسان
إلا من عانى من البرودة والحرارة.
25
افعل الخير حبا في الخير،
فإن ما تفعله لا يبقى لك،
وحتى لو أمكن أن يبقى لك،
فهو لن يبقى لأولادك.
26
إن كنت تحاذر ألا ينهبك الناهب ويشينك،
فاكتم ذهبك وذهابك، واكتم دينك.
27
كيف تسنى أن يسمع المرء في كل مكان
كثيرا من الأقوال الطيبة وكثيرا من الحماقات؟
إن صغار الشباب يرددون كلمات العجائز
ويتصورون أنها من عندهم.
28
لا تترك أحدا يسوقك في أي وقت
إلى المناقضة والدحض؛
فالحكماء يقعون في الجهل،
إذا تجادلوا مع الجهلاء.
29
لماذا كانت الحقيقة نائية بعيدة؟ (ولماذا) تتخفى في أعمق الأعماق؟
لا أحد يفهم في الوقت المناسب!
ولو فهم المرء في الوقت المناسب،
لاقتربت الحقيقة وانتشرت (على نطاق واسع)
وصارت محببة لطيفة.
30
ما الذي يدعوك للبحث والسؤال،
عن الموضوع الذي يصب فيه الإحسان.
ألق كعكتك في الماء،
فمن يدري من الذي سيذوقها (من يدري أي إنسان)!
31
لما قتلت عنكبوتا ذات يوم
فكرت هل كان صوابا ما فعلت؟
لقد أراد الله أن يصيبه
من هذه الأيام مثل ما أصبت.
32
مظلم هو الليل، وعند الله النور،
لماذا لم يخلقنا الله أيضا كذلك؟
33
يا لها من جماعة (أفرادها) من كل لون!
على مائدة الرب يجلس الأصدقاء والأعداء.
34
إنكم تصفونني بالرجل البخيل،
فأعطوني ما أستطيع تبذيره.
35
إذا كان علي أن أريك الحي المحيط بنا،
فيتحتم عليك أولا أن تصعد إلى السطح.
36
من لزم الصمت قلت همومه.
يبقى المرء مخبوءا تحت لسانه.
37
السيد الذي له خادمان ،
لا يجد الرعاية الكافية،
والبيت الذي تعيش فيه امرأتان،
لا يكنس كنسا جيدا.
38
تريثوا، أيها الأعزاء،
واكتفوا بالقول: «المعلم نفسه قال هذا!»
لماذا تعيدون وتزيدون عن الرجل والمرأة؟
الأصح هو الكلام عن آدم وحواء.
39
علام أشكر الله جزيل الشكر؟
على أنه فصل بين المعرفة والألم.
فلا بد أن ييئس كل مريض
لو عرف علته كما يعرفها الطبيب.
40
من الحماقة أن يتحيز كل إنسان
لما يراه وأن يثني عليه!
وإذا الإسلام كان معناه أن لله التسليم،
فإننا أجمعين، نحيا ونموت مسلمين.
41
من يأتي إلى الدنيا يبني بيتا جديدا،
ثم يرحل ويتركه لشخص ثان.
يرتبه على نحو آخر
ولا أحد يتم البناء.
42
من دخل بيتي وأخذ (ينتقد) ويذم
ما ارتضيته سنوات طويلة،
فعليه أن يدرك وهو أمام الباب،
أنني لم أشأ أن أرضى عنه.
43
رب ارض
عن هذا البيت الصغير،
من الممكن بناء بيوت أكبر،
ولكن لن يتمخض عن ذلك الكثير.
44
إذا أردت حياة
بغير هم وفكر
فاجعل خليليك دوما
كأسا وديوان شعر.
45
أي شيء عجز عنه لقمان
الذي نعتوه بالقبيح.
ليست الحلاوة في العود
بل الحلاوة في السكر.
46
رائع هو الشرق
الذي جاوز البحر المتوسط
لن يفهم غناء كالديرون،
إلا من أحب حافظا وعرفه.
47 «لماذا تزين إحدى يديك
أكثر مما تستحق؟»
وماذا عسى أن تفعل اليسرى
إذ لم تزين اليمنى؟
48
حتى لو استطاع أحد أن يسوق
حمار المسيح إلى مكة،
فإن ذلك لن يصلح شأنه
إذ سيبقى على الدوام حمارا.
49
الطين الذي يداس (بالقدم)
يتسع عرضه ولا تزداد صلابته.
لكنك لو أدخلته بقوة (وعزم)
في قالب ثابت لصار له شكل.
مثل هذه الأحجار ستتعرف عليها،
والأوروبيون يسمونها «البيزيه».
50
لا تبتئسي أيتها النفوس الطيبة!
لأن من لا يخطئ يعرف جيدا متى يخطئ الآخرون،
بيد أن الذي يخطئ أفضل حالا (من غيره)،
لأنه يتبين بوضوح ما أحسنوا صنعه.
51
أنت لم توجه الشكر للكثيرين
الذين قدموا لك الخير العميم!
لم يسؤني هذا ولم يسبب لي المرض،
لأن عطاياهم إنما تحيا في القلب.
52
عليك أن تحرص على حسن السمعة،
وأن تميز تمييزا جيدا بين الأشياء،
ومن طمع في أكثر من ذلك يضل ويفسد.
53
طوفان العاطفة يعصف بلا طائل
مرتطما باليابسة التي لا تلين.
يقذف اللآلئ الشعرية إلى الشاطئ،
وفي هذا وحده مكسب للحياة.
54
التابع الأمين:
لقد طالما استجبت لطلبات عديدة،
حتى ولو كان فيها ما يؤذيك،
وهذا الرجل الطيب لم يطلب إلا القليل
وليس في ذلك أدنى خطر.
الوزير: (الحق أن) الرجل الطيب طلب القليل
ولو أنني أجبته على الفور
لكان (المسكين) قد ضاع في الحال.
55
من المؤسف، وهذا هو واقع الحال،
أن تسعى الحقيقة وراء الباطل، (صحيح) أنها تميل لهذا في بعض الأحيان،
ومن يسأل السيدة الجميلة (عما تفعل)؟ (أما) السيد «باطل» فإن أراد أن يتقرب من الحقيقة،
فينبغي أن يضايق ذلك السيدة الحقيقة.
56
أعلم أنه يسوئني أشد السوء،
أن يغني ويتكلم هذا العدد الكبير
من الذي يطرد الشعر من العالم؟
إنهم الشعراء!
كتاب تيمور
1
الشتاء وتيمور
هكذا أحاط بهم الشتاء
بغضبه المروع
وبينما أخذ يثير أنفاسه الثلجية بين الجميع،
هيج عليهم الرياح المختلفة.
أطلق عليهم عواصفه الجليدية المسنونة
لتضرهم بكل عنقها (وجبروتها)،
ثم هبط إلى مجلس تيمور،
وصرخ فيه متوعدا وهو يقول:
مهلا، وعلى رسلك أيها التعس،
أيها الطاغية الظالم،
إلى متى تنصهر القلوب
وتحترق بنيرانك؟
إن كنت (تتصور) أنك أحد الأرواح اللعينة
فاعلم أنني الروح الآخر.
أنت عجوز، وأنا أيضا،
وكلانا يجمد اليابسة والبشر.
أنت أنت المريخ! وأنا زحل،
كلانا كوكب نحس،
واتحادنا مقترن بأفظع الكوارث.
وإذا كنت تميت النفس وتبرد الهواء
فإن أهويتي أشد بردا مما تقدر أنت عليه.
وإذا كانت جيوشك الوحشية تسوم المؤمنين
بألوان التعذيب التي تعد بالآلاف،
فتأكد أنه ستحدث في أيامي،
بعون الله مصائب أشد.
وبحق الله! لن أترفق بك.
وليسمع سبحانه ما سأقدمه لك!
أجل وبحق الله! لن يحميك،
من برودة الموت، أيها العجوز،
لا اللهيب المستعر في المواقد،
ولا النيران المشتعلة في (شهر) كانون.
2
إلى زليخا
لكي ألاطفك بأطيب العطور،
وأضاعف فرحك وسرورك،
فلا بد لألف من براعم الورود
أن تفنى قبل ذلك في اللهيب.
للحصول على قارورة صغيرة، تحتفظ بالعطر إلى الأبد،
رشيقة كأطراف أناملك.
فالأمر يحتاج لعالم بأسره. •••
عالم من دوافع الحياة
جاشت في عنفوان
واستشعرت عشق البلبل وغناءه،
الذي يهز النفوس. •••
أكان من الضروري أن يعذبنا ذلك العذاب،
في الوقت الذي ضاعف فيه نشوتنا؟
ألم يلتهم طغيان تيمور
ألوف الألوف من أرواح الناس؟
كتاب زليخا
حلمت في الليل أني
أرى القمر في المنام،
فلما صحوت من نومي
طلعت الشمس فجأة (على غير انتظار).
1
دعوة
عليك ألا تهرب من اليوم؛
لأن اليوم الذي تتعجله،
ليس أفضل من اليوم (الحاضر)،
لكنك لو أقمت في سرور،
حيث أتفادى العالم
لأجذب العالم إلي،
فسوف تشعر معي بالأمان:
اليوم هو اليوم، وغدا هو الغد،
وما سوف يأتي وما قد مضى،
لا يأسر اللب ولا يدوم على حاله.
لتبق أنت، يا أعز حبيب،
فأنت الذي تأتي به، وأنت الذي تعطيه.
2
إن زليخا فتنت بجمال يوسف
إن زليخا فتنت بجمال يوسف،
فذلك شيء ليس عجيبا،
كان شابا، وللشباب حظوة،
كان جميلا، ويقال إلى حد الفتنة،
وكانت جميلة، فاستطاع كل منهما أن يسعد الآخر.
أما أنك، يا من قسمت لي من زمن طويل،
ترسلين إلي نظرات، شابة مشبوبة،
وتحبينني الآن، وستسعدينني فيما بعد،
فذلك ما يجدر بأغاني أن تشدو بالثناء عليه،
ويجعلك عندي جديرة بأن تسمي إلى الأبد زليخا.
3
لما كنت الآن تسمين زليخا
لما كنت الآن تسمين زليخا،
فعلي كذلك أن أحمل اسما.
وعندما تتغنين بحبيبك،
فليكن حاتم هو اسمه،
كي يعرفني الناس به،
وليس في ذلك أي ادعاء،
فمن يدعو نفسه فارس القديس جرجس،
لا يتبادر إلى ذهنه أنه هو هذا القديس.
وأنا في فقري لا أملك أن أكون
حاتم الطائي أكرم الكرماء،
لا، ولا أتمنى أن أكون حاتم الطغرائي،
أغنى الشعراء الأحياء في زمانه،
لكن وضع الاثنين نصب عيني
لن يكون بالأمر المعيب:
فأخذ هدايا السعادة وإعطاؤها
سيبقى على الدهر متعة عظيمة
وإسعاد حبيب لحبيبه،
سيكون نعيم الفردوس.
4
حاتم
ليست الفرصة
1
هي التي تخلق اللصوص،
فهي نفسها أكبر لص،
إذ سرقت ما تبقى
من الحب في قلبي.
لقد أسلمته إليك،
وهو أعظم ما فزت به من حياتي،
فصرت، بعد أن أخنى علي الفقر،
لا أتوقع الحياة إلا منك. •••
غير أني أشعر بالإشفاق
في ياقوت نظرتك،
كما أسعد بين ذراعيك
بقدري الجديد.
5
زليخا
في قمة الفرح بحبك،
لا أريد أن أذم الفرصة،
حتى لو كانت هي اللص الذي سرقك،
فكم تسعدني هذه السرقة! •••
ولماذا تتكلم عن سرقة؟
هبني نفسك باختيارك الحر!
كم يطيب لي أن أتصور،
أنني أنا التي سرقتك. •••
إن ما أعطيته عن طيب خاطر،
يعود عليك بكسب رائع،
طمأنينتي، حياتي الخصبة،
أهبها في فرح، فخذهما! •••
لا تمزح! لا تتحدث عن فقرك!
ألا يجعلنا الحب أغنياء؟
حين أضمك بين ذراعي،
لا تعدل سعادتي أي سعادة.
6
ما خاب لصب مسعاه
ما خاب لصب مسعاه،
مهما يشتد من الكرب،
لو تبعث ليلى والمجنون
هديتهما درب الحب.
7
أمن الممكن
أمن الممكن، يا حبيبي الصغير، أن ألاطفك،
وأستمع إلى رنين الصوت الإلهي؟
إن الوردة تبدو دائما مستحيلة
والبلبل يبدو عصيا على الفهم.
2
8
زليخا :
عندما أبحرت بي السفينة في الفرات
انزلق من إصبعي الخاتم الذهبي
الذي تلقيته منك أخيرا
في أغوار الماء.
هذا هو الحلم الذي رأيته.
وأومض الفجر في عيني خلال الشجرة،
قل يا شاعر، قل يا نبي
ما هو تفسير الحلم؟
حاتم :
أنا رهن إشارتك لتفسير الحلم!
ألم أحك لك أكثر من مرة،
كيف تزوج دوق البندقية
من البحر؟ •••
هكذا سقط الخاتم من أناملك
في مياه الفرات.
آه! كم تبعث في الشوق أيها الحلم العذب
للشدو بألف أغنية سماوية! •••
أنا الذي جبت أرجاء البلاد
من هندوستان إلى دمشق،
لأرحل مع القوافل الجديدة
حتى البحر الأحمر. •••
تزوجينني من نهرك،
من الشرفة، ومن هذه الرابية،
لتبقى روحي حتى القبلة الأخيرة
منذورة لك.
9
أعرف نظرات الرجال
أعرف نظرات الرجال معرفة وثيقة،
يقول الواحد منهم: «إنني أحب وأتعذب!
أشتهي وأعاني اليأس.»
وغير ذلك ما تعرف (أي) فتاة.
كل هذا لن يجديني نفعا،
كل هذا لن يؤثر علي،
أما نظراتك، يا حاتم،
فهي التي تمنح النهار ضياءه؛
لأنها تقول: هذه هي التي تعجبني،
أكثر من أي شيء آخر، (وعندما أراها) أشاهد الورود والزنابق،
وكل ما تزدان به الحدائق،
من سرو وريحان وبنفسج
احتشدت لتزين الأرض،
وعندما تتزين تكون معجزة،
تحوطنا بالدهشة،
تنعشنا وتشفينا وتباركنا،
فنشعر أننا أصحاء
ثم نعود فنتمنى أن نمرض،
هنالك لمحت زليخا،
فأحسست بالعافية وأنت مريض
وبالمرض وأنت معافى،
وابتسمت وتطلعت نحوها،
كما لم تبتسم للعالم من قبل.
وتشعر زليخا بحديث النظرة الأبدي: «وهذه هي التي تعجبني
أكثر من أي شيء آخر.»
10
جنجوبيلوبا
ورقة هذه الشجرة التي جاءت من الشرق
وأودعت في حديقتي،
توحي للنفس بمعنى غامض
يشرح صدر العارف. •••
أهي كائن حي واحد،
انشق على نفسه؟
أم اثنان اختار كل منهما الآخر
ليعرف الناس أنهما كائن واحد؟ •••
للإجابة عن هذا السؤال،
توصلت للمعنى الصحيح،
ألا تشعرين من أغنياتي
أنني واحد واثنان؟
11
زليخا :
قل لي، لقد نظمت قصائد كثيرة
وأرسلت أغانيك هنا وهناك،
وكتبت بخط يدك الجميل،
كتبا ساحرة الزينة،
فاخرة التجليد، مذهبة الحوافي،
لم ينقص منها النقطة والشرطة،
ألم تكن حيثما وجهتها
رهن غرام لا يحتمل الشك؟
حاتم :
أجل (كتبتها) عن النظرات الساحرة القوية،
والفتنة المبتسمة الآسرة،
عن الأسنان المبهرة الصفاء،
وسهام الأهداب، وثعابين الغدائر،
والجيد والصدر تجللهما هالة سحرية
وعن آلاف الأخطار!
انظري الآن كيف كانت زليخا
منذورة لي منذ عهد بعيد.
12
زليخا :
طلعت الشمس! يا له من منظر بديع!
والهلال يعانقها.
من الذي استطاع أن يوحد هذين الزوجين؟
وكيف يفسر هذا اللغز، كيف؟
حاتم :
السلطان هو الذي استطاع ذلك،
حينما زوج أعظم كوكبين في العالم،
ليكرم المصطفين (من رجاله)
وأشجع الشجعان - في ركابه الأمين.
لتكن هذه أيضا صورة لسعادتنا!
فها أنا ذا أراني وأراك من جديد،
أنت أيتها الحبيبة تسمينني شمسك،
فتعالي يا قمري الحلو، وعانقيني!
13
تعال أيها الحبيب تعال «تعال! تعال أيها الحبيب، طوق رأسي بالعمامة،
فمن يدك وحدها تكون جميلة،
إن «عباس» على عرش إيران الأسمى،
لم يشهد رأسه أفخم منها زينة!» •••
كانت عمامة تلك التي تدلت من رأس الإسكندر
على شكل شريط بأنشوطات بديعة،
وقد حازت إعجاب جميع خلفائه
بوصفها زينة تليق بالملوك. •••
والعمامة هي التي تزين (رأس) قيصرنا،
يسمونها التاج، ولا مشاحة في الأسماء!
لتكن اللآلئ والجواهر للعيون فتنة!
فسيبقى الموصلين هو أجمل زينة. •••
وهذا (الشال) الموصلين الوضاء المفوف بالفضة،
لفه، يا حبيب، حول جبيني.
ثم ما هو السمو وما هي العظمة؟ كلاهما ليس غريبا عني!
يكفي أن تنظري إلي فأصبح عظيما مثله.
14
قليل ما أطلبه
قليل ما أطلبه،
لأن كل شيء يعجبني،
وهذه القليل يعطينيه العالم،
عن طيب خاطر من عهد بعيد. •••
كثيرا ما أجلس مسرورا في الحانة
وصافي البال في بيتي الصغير،
لكن ما إن تخطري على بالي،
حتى تطمح روحي للغزو (والاقتحام). •••
كان ينبغي أن تدين لك ممالك تيمور،
ويخضع جيشه المهيب لأوامرك،
وتدفع لك بدخشان الجزية من الياقوت،
ويؤديها بحر هدقان من الفيروز. ••• (وترسل لك) الفواكه المجففة حلوة كالشهد
من بخارى، بلد الشمس،
وألف قصيدة شجية اللحن،
على ورق الحرير من سمرقند. •••
وكان حريا بك أن تقرئي بسرور،
كل ما أوصيت لك به من هرمز،
وكيف كانت حركة التجارة كلها
لا تنشط إلا حبا فيك. •••
وكيف اجتهدت آلاف الأصابع
في بلاد البرهمانيين،
لتنقش بذخ هندوستان
بأزهى صورة على الصوف والحرير. •••
أجل، وكيف فتش (العمال) إكراما للعشاق،
في جداول سملبور المتدفقة،
ليستخلصوا من الطين والفحم والحصى والرواسب،
جواهر الماس من أجلك. •••
وكيف انتزع الغواصون الجسورون
من الخليج كنوز اللؤلؤ،
ثم اجتهد ديوان المهرة العارفين
لينظموها لك. •••
وكيف ستساهم البصرة في النهاية
بما عندها من توابل وبخور،
وتأتي لك القافلة
بكل ما يبهج ويسر. •••
لكن كل هذه الخيرات السنية
قد تزيغ البصر في النهاية،
والقلوب التي تعشق بحق،
لا يسعدها سوى قربها بعضها من بعض.
15
هل كان من الممكن أن أتردد
هل كان من الممكن أن أتردد،
يا حبيبتي الحلوة في أن أهديك ،
بلخ وبخارى وسمرقند،
وبذخ هذه المدن وفتنتها؟ •••
لكن اسألي القيصر مرة،
هل يرضى أن يعطيك هذه المدن؟
إنه (أعظم) مني وأحكم،
غير أنه لا يعرف الحب. •••
أنت أيها الحاكم لن تقدر
أن تهب مثل هذه الهدايا!
فلا بد أن تكون لك مثل هذه الفتاة
وأن تكون شحاذا مثلي.
16
الصحائف المكتوبة بخط جميل
الصحائف المتباهية،
بالخط الجميل،
المذهبة بشكل رائع
دعتك للابتسام،
وصفحت عن تفاخري
بحبك ونجاحي
الذي كنت السبب فيه،
وغفرت مدحي لذاتي. •••
مدح الذات! إن رائحته لا يتقزز منها إلا الحساد،
لكنه ذكي العطر عند الأصدقاء
وفي ذوقي أنا الخاص! •••
الفرح بالوجود (شيء) عظيم،
وأعظم منه أن تفرح بوجودك،
فعندما تسعدينني يا زليخا،
وتجودين بسخاء،
وتلقين إلي بحبك المشبوب
وكأنه كرة
أتلقفها منك،
ثم أرد إليك
ذاتي الموهوبة لك،
فيا لها من لحظة!
ثم يأتي بعد ذلك الفرنجي،
وأحيانا يأتي الأرمني فينتزعني منك. •••
لكن الأيام تمر
وأستغرق الأعوام حتى أبدع من جديد
فيض سخائك في آلاف الأشكال،
وأفك خيط سعادتي الملون،
الذي عقدته يا زليخا
في ألف عقدة. •••
لكن ها هي ذي الآن
لآلئ شعرية،
ألقاها سيل عواطفك العارم
على شاطئ حياتي الموحش
التقطتها بأناقة
أنامل نحيلة
ونظمتها في حلية ذهبية مطعمة باللؤلؤ،
فخذيها على جيدك،
وضعيها على صدرك!
إنها قطرات من مطر إلهي
نضخك في محار متواضع.
17
حب بحب
حب بحب، ساعة بساعة،
كلمة بكلمة، ونظرة بنظرة،
قبلة بقبلة، من أوفى ثغر،
ونفس بنفس، وسعادة بسعادة.
هكذا في المساء، هكذا في الصباح!
لكنك تحسين دائما من أغاني
بهمومي الدفينة،
وبودي لو استعرت مفاتن يوسف
حتى أستجيب لحسنك (وجمالك).
18
زليخا
الشعب والخادم والحكام
يعترفون دائما وكل حين
بأن أسمى بهجة ينالها الإنسان
شخصية واحدة (واضحة الجبين). •••
وتستوي أي حياة تعاش،
إن أنت فيها النفس ما ضيعت،
فكل شيء ضائع يهون
إذا بقيت دائما من أنت.
19
حاتم
ربما صح ما تقولين! وهذا هو رأي الناس،
لكني أتبع أثرا آخر:
فكل ما في الأرض من سعادة،
لا ألقاه إلا عند زليخا .
كلما أعطتني فأجزلت في العطاء،
علت قيمة ذاتي في عيني،
ولو أشاحت بوجهها عني،
لفقدت في نفس اللحظة ذاتي. •••
وعندها يكون حاتم قد انتهى،
لكنني سأكون قد قررت تبديل نصيبي:
فأتقمص على وجه السرعة
ذلك الحبيب الذي تلاطفه. •••
وأحاول، لا أقول أن أكون فقيقا،
فذلك شيء لا يناسبني
بل أكون الفردوسي أو المتنبي،
أو - إذا اقتضت الضرورة - القيصر.
20
حاتم :
كما يزدان بازار الصائغ بالجواهر
ذات الألوان العديدة والأضواء الصقيلة،
كذلك تحيط الفتيات الجميلات
بالشاعر الذي كاد المشيب أن يعلو رأسه.
الفتيات :
أتغني لزليخا من جديد!
إننا لا نطيقها،
لا بسببك أنت - بل بسبب أغانيك
التي نود، بل لا بد أن نحسدها عليها. •••
فحتى لو كانت بشعة قبيحة،
فإنك تجعلها أجمل الكائنات
وهكذا قرأنا كثيرا
عن جميل وبثينة. •••
لكن لأننا في الحقيقة جميلات،
إننا نحب أيضا أن تصورنا،
وإذا نجحت في هذا وأحسنت البلاء،
فسوف نجزيك كذلك أجمل الجزاء.
حاتم :
تعالي يا سمراء! ستسير الأمور على ما يرام.
فالغدائر، والأمشاط كبيرها وصغيرها
تزين رأسك الصغير الوضاء
كما تزين القباب المساجد. •••
وأنت أيتها الشقراء الصغيرة، زينتك بديعة،
لطيفة ورقيقة بكل المقاييس،
ولا يلام المرء حين يراك،
إذا فكر على الفور في المئذنة. •••
وأنت في الخلف لك عينان
يمكنك أن تنظري بكل منهما
على حدة كما تشائين،
ومع ذلك علي أن أتفاداك. •••
والجفون المغمضة إغماضة خفيفة
التي تحجب الحدقة وتغطيها،
نظرة أحدهما باللؤم والخديعة،
بينما الآخر نظرته طيبة بريئة. •••
وإذا ألقى ذلك بصفارته الجارحة،
أومأ هذا بالوصل والنجاة
وليس في وسعي أن أعده سعيدا،
من تعوزه النظرة المزدوجة. •••
وهكذا يمكنني أن أمدحكن جميعا،
ويمكنني أن أحبكن على السواء:
لأني كما صورتكن في أسمى صورة
فقد صورت سيدتي معكن.
البنات :
يود الشاعر أن يصبح عبدا،
لأن ذلك يمكنه من السيطرة
ومع هذا سيرضيه قبل كل شيء
أن تغني حبيبته بنفسها. •••
فهل تستطيع إذن أن تغني،
كما يتحكم الغناء في شفاهنا؟
لأن تسترها في الخفاء
يثير حولها الريب (والظنون).
حاتم :
ومن ذا يعرف ما يملأ وجدانها!
وهل تعرفون قرار هذا العمق؟
إن الأغنية التي استشعرتها بنفسها تنبع من القلب،
والأغنية التي نظمتها بنفسها تنبعث من الفم.
لكن ليس فيكن جميعا أيتها الشاعرات،
من تشبهها:
لأنها تغني لكي تحوز إعجابي،
وأنتن تغنين ولا تحبين إلا أنفسكن.
البنات :
إننا نلاحظ أنك اختلقت أمامنا
صورة إحدى تلك الحوريات،
فليكن لك هذا! ما دامت لا تزعم
واحدة على الأرض أنها منهن.
حاتم :
أيتها الغدائر: ائسريني
في دائرة الوجه!
فأنا لا أملك شيئا أتقيكن به
أيتها الحيات المحبوبة السمراء •••
سوى هذا القلب، القلب الصامد،
الذي يفيض بازدهار الشباب،
وتحت الثلج وغبش الضباب
يفور أمامك بركان يشبه (بركان ) «آتنا». •••
إنك تخجلين كما يفعل الفجر
الجدار المتجهم لتلك القمم،
ومرة أخرى يشعر حاتم
بأنفاس الربيع ولهيب الصيف. •••
إلي أيها الساقي بزجاجة أخرى.
فهذه الكأس سأحملها إليها.
وإن وجدت فيها حفنة من رماد،
فسوف تقول: «لقد احترق في سبيلي.»
زليخا :
لا أريد أن أفقدك أبدا!
فالحب يهب الحب القوة.
ألا فلتزين شبابي
بعاطفتك القوية الجارفة. •••
آه! كم يتملق أحاسيسي
أن يمدح أحد شاعري:
لأن الحياة هي الحب،
والروح هي حياة الحياة.
22
لا تدعي فمك
لا تدعي فمك الياقوتي العذب،
يلعن التطفل والفضول،
أهناك مبرر لألم الحب،
إلا أن يلتمس لنفسه الشفاء؟
23
إن قدر الدهر يوما
إن قدر الدهر يوما
بالنأي عمن تحب،
وصار بعدك عنه
كبعد شرق وغرب،
يهيم عبر الفيافي
فؤادك المشتاق،
ما من رفيق سواه
إن عز فيها الرفاق،
بغداد ليست بمنأى
عن أعين العشاق.
24
ألا ليت عالمكم
ألا ليت عالمكم المكسور
يجبر نفسه دائما بنفسه!
إن لمعان هذه العيون الصافية
وخفق هذا القلب من أجلي!
25
آه من كثرة الحواس
آه من كثرة عدد الحواس!
إنها تسبب للسعادة الارتباك.
أود حين أراك لو كنت أصم،
وحين أسمعك لو كنت أعمى.
26
وحين أكون بعيدا عنك
وحين أكون بعيدا عنك فما أقربني منك!
يعروني الهم، يداهمني فيض عذاب
عندئذ أسمع صوتك يتردد بعد غياب
فأراك وقد عدت إلي (وعدت إليك).
27
من أين لي صفاء البال
من أين لي صفاء البال،
وأنا بعيد عن النهار والنور؟
ها أنا ذا أريد أن أكتب،
وليس بي رغبة في الشراب. •••
عندما أسرتني وجذبتني إليها،
لم يكن من عادتنا الكلام،
وكما تعثر اللسان،
كذلك تعثر القلم. •••
صب أيها الساقي الحبيب!
املأ الكأس في صمت!
يكفي أن أقول: تذكر!
لكي تعرف ما أريد.
28
عندما أتفكر فيك
عندما أتفكر فيك،
يسألني الساقي على الفور:
سيدي، لماذا تلزم الصمت؟
ألا تشعر بأن الساقي
يود عن طيب خاطر
أن يستمع لدروسك باستمرار؟ •••
حين أنسى نفسي
تحت شجرة السرو
لا يعبأ بذلك (ولا يهتم)،
وحين أجلس في الحلقة الهادئة،
أكون في منتهى الحكمة
والفطنة مثل سليمان.
29
كتاب زليخا
وددت لو جعلت هذا الكتاب موجزا
ليكون مركزا كسائر الكتب.
ولكن كيف يمكنك اختصار الكلمات والصفحات،
عندما يذهب بك جنون الحب كل مذهب؟
30
إلى الأغصان المتشابكة الكثيفة
إلى الأغصان المتشابكة الكثيفة،
ألقي نظرة أيتها الحبيبة!
وشاهدي الثمار التي تحوطها،
قشور شوكية خضراء. •••
إنها تتدلى متكورة من وقت طويل،
ساكنة، ذاهلة عن نفسها،
والغصن الذي يتأرجح ويهتز،
يهدهدها في صبر. •••
ولا تفتأ النواة السمراء
أن تتضح داخلها وتنتفخ،
تود أن تستنشق الهواء،
وتحن لرؤية الشمس. •••
وتنفجر القشرة فتهوى
إلى الأرض في حبور،
وكذلك تساقط أغنياتي
متراكمة في حجرك.
31
زليخا :
على حافة النبع المرح،
تتلاعب خيوط مياهه،
لم أدر ما الذي أوقفني،
لكن كانت منقوشة هناك
شفرتي السرية بخط يدك،
فنظرت في أعماقه مشتاقا إليك.
هنا، عند نهاية القناة
والميدان الرئيسي الذي تحفه الأشجار،
أرنو من جديد إلى أعلى،
وهناك ألمح مرة أخرى،
حروفي المرسومة بخط بديع:
ابق! ابق على عهدك لي.
حاتم :
ليت الماء الذي يتقافز ويتموج
وأشجار السرو تبوح لك
بأن غدوي ورواحي،
من زليخا إلى زليخا.
32
زليخا :
ما إن ألقاك من جديد،
وأنعشك بقبلي وأغنياتي،
حتى تنطوي على نفسك في سكون،
ما الذي يضايقك ويثقل عليك ويضنيك؟
حاتم :
آه يا زليخا، أيحق لي أن أتكلم؟
وأنا بدلا من أن أمدح، أتمنى أن أشكو!
كان دأبك من قبل أن تنشدي أغنياتي
فتكررينها على الدوام وتجددي فيها. •••
أينبغي علي أن أمتدح هذه أيضا
مع أنها ليست سوى أغان دخيلة،
فلا هي من حافظ ولا نظامي،
ولا سعدي ولا جامي؟ •••
إنني لأعرف الكثير من أغاني الآباء،
مقطعا بعد مقطع، ونغمة بعد نغمة
وأحفظها وأعيها في ذاكرتي،
أما هذه الأغاني فحديثة الولادة.
لقد نظمت بالأمس
قولي! هل ارتبطت بحب جديد؟
وهل تنفثين بفرح وجسارة
في وجهي نفسا غريبا،
يبعث كذلك فيك الحياة،
ويسبح بك (في سماء) الحب،
ويجذبك إليه ويدعوك للاتحاد
في انسجام كما فعلت أنفاسي؟
زليخا :
أمعن حاتم في البعاد وأطال،
وتعلمت الفتاة شيئا (جديدا)،
كان قد تغنى بها أجمل غناء،
وجربت الفراق فنجحت في الاختبار،
عسى ألا تبدو لك (هذه الأغاني) غريبة،
فهي أغاني زليخا، هي أغانيك.
33
بهرامجور، فيما يقال
بهرامجور، فيما يقال، هو الذي اخترع القافية،
وعبر مسحورا عن أعماق نفسه الصافية،
فأسرع ديلارام، رفيقة ساعاته،
وردت عليه بنفس الكلمة والنغمة. •••
وهكذا يا حبيبتي، جعلك القدر من نصيبي،
ليتيح لي اكتشاف الطريقة الحلوة الرقيقة لاستخدام القافية،
فلم يعد من حقي أن أحسد بهرامجور الساساني،
لأني توصلت لما توصل إليه. •••
أنت التي أيقظت هذا الديوان في قلبي، أنت التي منحته،
لأن ما نطقت به في فرح من صميم الفؤاد،
كان صدى حياتك الحلوة الصافية،
كاستجابة النظرة للنظرة، والقافية للقافية. •••
فلتتردد أنغامي ساعية إليك، ولو من بعيد،
فالكلمة تبلغ الهدف، ولا تمحو النغم والصوت.
أليست هي الكل المتجلي السامي للحب؟
34
كانت سعادتي بنظرتك
كانت سعادتي بنظرتك،
بفمك، وصدرك،
وسعادتي بسماع صوتك
هي لذتي الأولى والأخيرة. •••
بالأمس، آه ذقت آخر لذة،
ثم انطفأ سراجي وخبت ناري،
وكل مزاح سرني وأمتعني،
صار باهظ الثمن، ثقيل الذنب. •••
وقبل أن يشاء الله،
أن يوحد بيننا من جديد،
لن تمنحني الشمس، والقمر والعالم،
إلا فرصة البكاء.
35
زليخا
ما معنى هذه الحركة؟
هل تأتيني الريح الشرقية بنبأ مفرح؟
إن رفيف جناحيها المنعش
ليرطب القلب العميق. •••
إنها تلعب مع الغبار وتداعبه،
وتذروه إلى أعلى في غيوم خفيفة،
وتدفع نحو الكرمة الراسخة
بالأسراب المرحة للحشرات. •••
وتلطف بحنو وهج الشمس،
كما ترطب وجنتي الساخنتين،
وتقبل أثناء هروبها العناب،
المزهوة فوق الحقل والتل. •••
ويأتيني همسها الناعم
بألف تحية من الحبيب،
وقبل أن يلف الظلام هذه الروابي
تحييني ألف قبلة. •••
وهكذا يمكنك أن تواصلي السير!
وتعيني الأصدقاء والمحزونين،
وهناك حيث تتوهج الأسوار العالية
لن ألبث أن أجد أعز الأحباب. •••
آه. إن النبأ الصادق من (صميم القلب)،
ونسمة الحب، والحياة النضرة
لن تأتيني إلا من فمه،
لن يمنحني إياها إلا نفسه.
36
صورة سامية
هليوس الإغريق، وهو الشمس،
يعبر في روعه طريق السماء،
ولثقته من السيطرة على الكون،
يتطلع حوله، وتحته، وفوقه. •••
يرى أجمل الإلهات باكية،
ابنة السحب، طفلة السماء،
ويبدو لها أنه لا يشرق إلا لأجلها،
ويعمى عن كل الفضاءات الصافية.
ويغوص في الألم والمطر،
ويزداد انهمار دموعها،
ويرسل الفرح لأحزانها
وقبلة بعد قبلة لكل لؤلؤة. •••
وتستشعر بعمق قوة نظرته،
وتتطلع إليه بغير توقف،
وتريد اللآلئ أن تتشكل،
إذ اتخذت كل منها صورته. •••
وهكذا يشرق وجهها في صفاء
وقد كلله اللون والقوس،
ويتقدم نحوها ليلتقي بها،
لكنه، وا أسفاه، لا يصل إليها. •••
هكذا تتخلين عني يا أعز حبيبة،
بعد ما قرر القدر قراره القاسي،
ولو أني كنت هليوس العظيم،
فهل كان يجديني العرش المنصوب فوق العربة؟
37
صدى
ما أروع الرنين حين يشبه الشاعر نفسه
مرة بالشمس ومرة أخرى بالقيصر،
إلا أنه يخفي قسمات وجهه الحزينة،
عندما يتسلل في الليالي المعتمة. •••
غاصت زرقة السماء الناصعة في (ظلام) الليل،
بعد أن دثرتها السحب بسيورها،
وخدودي ضامرة كساها الشحوب
ودموع القلب كابية. •••
لا تدعني هكذا لليل وحدي للألم،
يا أحب الناس عندي أنت يا وجه القمر
أنت يا حاملة الضوء إليا
شمعتي أنت وشمسي
آه يا نور البصر!
3
38
زليخا
آه أيتها الريح الغربية،
كم أحسدك على أجنحتك الرطبة الندية،
لأنك تستطيعين أن تنقلي إليه
ما أعانيه في بعدي عنه. •••
إن رفيف أجنحتك
يوقظ في مهجتي الحنين،
والزهور، والعيون، والغابات، والتلال
تهب عليها أنفاسك فتذرف الدموع. •••
لكن نسيمك الرقيق الرحيم
يرطب الجفون الجريحة،
آه! سيقضي علي الحزن بغير إبطاء،
إذا فقدت الأمل في لقائه من جديد. •••
أسرعي إذن إلى حبيبي
واهمسي في قلبه بحنان،
ولكن حاذري أن تكدريه
وأخفي عنه آلامي. •••
لكن قولي له، قولي بتواضع:
إن حبه هو حياتي،
والشعور البهيج بكليهما،
هو الذي سيمنحني القرب منه.
39
لقاء من جديد
أمن الممكن يا نجم النجوم،
أن أضمك إلى قلبي من جديد؟
أواه! يا لليلة البعاد
من هاوية، من ألم (حاد).
أجل، هو أنت! شريكي العذب المحبوب
في أفراحي،
وكلما تفكرت في أحزان الماضي
ارتجفت خوفا من الحاضر. •••
لما كان العالم في أعمق أعماقه
يرقد على الصدر الأبدي لله،
أمر (سبحانه أن توجد) الساعة الأولى
بفرحة الخلق الجليلة السامية،
ثم نطق بالكلمة: «ليكن عالم!»
هنالك رنت آهة أليمة.
عندما نفذ الكون بقوة هائلة
في حنايا الواقع.
فجأة انبثق النور!
فانفصل عنه الظلام في خجل،
وفرت العناصر في الحال
وهي تتفرق عن بعضها.
وفي أحلام وحشية مجدبة
اندفع كل منها بعيدا،
وتجمد في الفضاءات الشاسعة،
بغير شوق ولا نغم. •••
لف الصمت والسكون والخواء كل شيء،
وكان الله وحيدا لأول مرة!
عندئذ خلق الفجر
الذي أخذته الشفقة على هذا العذاب،
فصنع من (العماء) العكر
لعبة ألوان رنانة،
وعندها استطاع أن يحب من جديد،
كل ما تفرق عن بعضه. •••
وبسعي جاد حثيث،
أخذ كل يبحث عن قرينه،
واتجه الشعور والنظر
نحو الحياة غير المحدودة.
يستوي الاستيلاء بالقوة أو الاختطاف عنوة،
فالمهم أن يتماسك ويحافظ على وجوده،
لم يعد الله بحاجة لخلق المزيد،
فنحن الذي نخلق عالمه (من جديد). •••
هكذا انجذبت بأجنحة فجرية،
إلى ثغرك (الحبيب)،
والليل بأختامه الألف،
وثق (عرى) اتحادنا على ضوء النجوم.
كلانا على هذه الأرض،
أنموذج للفرح والعذاب،
ولن تستطيع كلمة ثانية: ليكن عالم!
أن تفرق بيننا للمرة الثانية.
40
ليلة البدر
سيدتي، قولي لي، ما معنى (هذا) الهمس؟
ما الذي يحرك شفتيك في هدوء؟
إنك تنبسين لنفسك
بأعذب من رشف الخمر!
أتفكرين في إضافة شفتين
إلى شفتيك التوءمين؟
أريد أن أقبل! أقبل! قلت لك هذا. •••
انظري! في الظلمة المريبة
تتوهج مزدهرة كل الأغصان،
ويلعب نجم يهوي في إثر نجم،
وتومض الأضواء الزمردية
آلاف الومضات خلال الأيك،
لكن روحك غائبة عن كل شيء. «أريد أن أقبل! أقبل! قلت لك هذا.»
إن حبيبك، وهو بعيد،
ممتحن مثلك بالحلو المر،
ويحس سعادته التعسة.
لقد تعاهدتما عهدا مقدسا
على أن يحييك في ليلة البدر،
وهذه هي اللحظة (الموعودة). «أريد أن أقبل! أقبل! قلت لك هذا.»
41
كتابة سرية
يا خبراء الوثائق
4
أعدوا العدة لكل الأمور،
وأشيروا على حكامكم
فأحسنوا المشورة!
ولتنشغل الدنيا كلها
برسائل الشفرة السرية،
حتى تتخذ كل مسألة
وضعها الصحيح. •••
ها هي ذي الشفرة الحلوة
من سيدتي بين يدي،
أستمتع بقراءتها.
لأنها هي التي ابتدعت هذا الفن،
إنه فيض الحب
في أحب مكان إلي،
والنية الطاهرة الوفية
التي تؤلف بينها وبيني. •••
إنها باقة بهيجة الألوان
من ألف زهرة وزهرة،
وبيت مأهول
بالمشاعر الملائكية،
وسماء مزينة
بالريش من كل الألوان،
وبح زاخر بأنغام الأغاني،
تهب منه النسائم العطرة. •••
هي كتابة سرية مزدوجة
تعبر عن طموح مطلق،
وتنفذ في عصب الحياة
كسهم بعد سهم.
إن هذا الذي كشفت لكم عنه
ظل عادة مرعية،
وإذا فهمتم معناه،
فاسكتوا واستخدموه.
42
انعكاس
لقد حصلت على مرآة،
أنظر فيها بشغف شديد،
كأنما علق على صدري وسام
من القيصر لامع الوجهين،
لا لأني أحب ذاتي،
وأبحث عنها في كل مكان،
فأنا أحب عشرة الناس،
وهو ما يصدق الآن على هذه الحالة. •••
عندما أقف أمام المرآة
في بيت الأرمل الذي يلفه السكون،
تظهر حبيبتي على الفور
وتنظر في دون أن أشعر
وإذا أدرت ظهري بسرعة،
اختفت من كنت أراها،
عندئذ أنظر في أغاني،
وسرعان ما تظهر من جديد. •••
وأنا حريص على تجويدها
وأنظمها دائما على هواي،
رغم حثالة النقاد والمستهزئين
ولمتعتي اليومية.
إن صورتها في القوالب الفخمة
تزيدها حسنا وروعة،
بين الزخارف الوردية المذهبة
والأطر اللازوردية الرشيقة.
43
بأي ارتياح عميق
بأي ارتياح عميق عميق ،
أحس معناك أيتها الأغنية!
كأنك تقولين بحب صادق،
إنني أعيش بجانبه.
وأنه سيفكر في للأبد،
ويهدي دائما نعيم حبه
للبعيدة النائية
التي نذرت حياتها له. •••
أجل، إن قلبي هو المرآة،
التي ترى نفسك فيها يا صديق،
وهذا الصدر هو الذي طبعت عليه
أختامك قبلة فقبلة.
الشعر العذب، والحقيقة الطاهرة
تكبلانني (في أسر) التعاطف معك!
وتجسدان صفاء الحب
في ثوب الشعر.
44
دع مرآة العالم للإسكندر
دع مرآة العالم للإسكندر
وماذا تبديه؟ هنا وهناك
شعوبا وديعة يريد بالقهر والإرهاب
أن يخضعها لسطوته مع غيرها من الشعوب. •••
أما أنت فكف عن السعي إلى الغرباء!
وغنني أنا التي آثرتها بالغناء.
تذكر أنني أحب، وأنني أحيا الحياة،
وتذكر أنك غلبتني على أمري.
45
العالم بأسره يخلب الأبصار
العالم بأسره يخلب بجماله الأبصار،
ولكن عالم الشعراء فائق الجمال،
ففي أجوائه الملونة، مشرقة كانت أو فضية كابية،
تسطع الأضواء ليل نهار.
اليوم يبدو كل شيء رائعا في عيني، ألا ليته يدوم!
فأنا أنظر اليوم بمنظار الحب.
46
في وسعك أن تتخفى في آلاف الأشكال
في وسعك أن تتخفى في آلاف الأشكال،
لكن يا أغلى الناس سأعرفك على الفور،
قد تخفين محياك وراء الأقنعة السحرية،
يا حاضرة في الكل، سأعرفك على الفور. •••
في شجرة سرو رائعة ناضرة القد،
يا فاتنة العود سأعرفك على الفور،
في وشوشة قناة صافية الموج،
أيتها العابثة سأعرفك على الفور.
وإذا ارتفعت نافورة ماء تتلوى،
يا من تهوين اللعب سأعرفك على الفور،
وإذا لمحت عيناي سحابا يتشكل.
يا من تتعدد أشكالك، أعرفك على الفور. •••
في سجاد المرج الأخضر تحت قناع الزهر،
أعرف حسنك، يا من زينتك ضياء الأنجم والبدر
وإذا اللبلابة مدت ألف ذراع نحو الأرض،
يا من عانقت الكل سأعرفك على الفور.
وإذا اشتعل الجبل بنيران الفجر،
يا من أسعدت الكل أحييك على الفور،
ولو الأفق ترامت قبته فوقي،
لتنفستك يا من أنت سماء القلب. •••
إن كنت عرفت بحسي الظاهر شيئا أو باللب،
يا نبع العلم، فعلمي منك.
أو سبحت بمائة من أسماء الله الحسنى ،
سيردد كل دعاء اسما لك.
كتاب الساقي
1
نعم في الحانة
نعم، في الحانة جلست أنا أيضا،
وقدر لي ما قدر لغيري،
راحوا يثرثرون، ويتصايحون، ويتشاجرون،
ويأخذون نصيب يومهم من الفرح والحزن،
أما أنا فجلست سعيدا من صميم قلبي،
وفكرت في حبيبتي - كيف تحب؟
هذا شيء، لا أعلمه، لكن الشيء الذي يعكر صفوي
هو أنني أحبها كما يأمر به القلب
الذي وهبها نفسه في إخلاص وتعلق بها كالعبد.
أين كان الرق، وأين القلم، أين
اللذان سجلا كل شيء؟ ومع هذا فقد جرت الأمور هكذا!
نعم هكذا!
2
لو جلست وحيدا
لو جلست وحيدا
أكون في حال أفضل؟
خمري
أشربها وحدي،
لا أحد يفرض علي قيودا،
وبهذا أستقل بأفكاري.
3
لقد وصل الحال
لقد وصل الحال بمولاي اللص،
أنه كتب حروفا جميلة وهو سكران.
4
هل القرآن قديم؟
هل القرآن قديم؟
شيء لا أسأل عنه!
هل هو مخلوق؟
شيء لا أدريه.
أما كون القرآن كتاب الكتب
فهذا ما أعتقد ويفرضه واجبي كمسلم.
أما أن الخمر قديم قدم الأزل
فذلك شيء لا أتشكك فيه.
ولعل القول بأن الخمرة خلقت قبل ملائكة الله،
ليس خيالا وحديث خرافة؛
فالشارب، مهما يكن الحال،
يعاين وجه الله بعين أكثر نضرة.
5
حق علينا أجمعين
حق علينا أجمعين السكر!
إن الصبا سكر بغير خمر،
إن جدد الشيخ صباه بالشراب،
فإن ذا فضيلة وغاية الصواب،
حياتنا تكفلت بالغم والهموم،
والهم لا تطرده، إلا يد الكروم!
6
الآن لا شك هناك
الآن لا شك هناك، لا سؤال،
حرمت الخمر علينا لا جدال.
فإن قضى بشربها المقدور،
فاشرب إذن من أجود الخمور!
ستسحق اللعن كالزنديق مرتين
إذا شربت ثم كان السكر بين بين!
7
ما دام المرء في حالة الصحو
كلما كان المرء في حالة الصحو،
أعجبه الشر،
فإذا شرب،
عرف الخير،
لكن الإفراط
أمر وارد،
أي حافظ، علمني
كيف تصرفت في الزمر.
ذلك أن رأيي
لا مبالغة فيه،
إذا عجز المرء عن الشرب
فينبغي عليه ألا يحب
لكن عليكم أيها الشاربون
ألا تحسبوا أنكم في حال أفضل،
إذا عجز المرء عن الحب،
فينبغي عليه ألا يشرب.
8
زليخا :
ما الذي يجعلك فظا سمجا في أكثر الأحيان؟
حاتم :
تعلمين أن الجسد سجن،
والنفس قد خدعت لتدخل فيه،
فهي لا تملك حرية تحريك مرفقيها.
وإذا نشدت خلاصها هنا وهناك،
أحكموا إغلاق السجن نفسه بالسلاسل والأغلال،
هكذا تتعرض النفس الحبيبة لخطر مضاعف،
ولهذا السبب تتصرف في الغالب تصرفات غريبة.
9
إذا كان الجسد سجنا
إذا كان الجسد سجنا،
فلماذا يعاني السجن من العطش الشديد؟
إن النفس تنعم فيه بالراحة
وتود لو بقيت مسرورة ومتزنة العقل راضية،
لكن ها هي ذي زجاجة خمر تتوق للدخول إليه،
تتبعها زجاجة في إثر أخرى.
والنفس لا تقوى على التحمل والصبر،
ولهذا تريد أن تحطمها على الباب وتحولها إلى شظايا.
10
الشاعر يقول للنادل:
لا تضع الإبريق أيها الجلف،
بهذه الفظاظة أمام أنفي!
من يقدم لي الخمر عليه أن يطالعني بوجه صبيح،
وإلا تعكر صفو «الألفر» في كأسي.
ويقول للساقي:
أنت أيها الصبي المتأنق، تعادل ادخل،
ما الذي يجعلك تقف هناك على عتبة الباب؟
عليك من الآن أن تكون ساقي،
فتصبح الخمر (من يدك) حلوة صافية.
11
الساقي يقول:
أنت بغدائر شعرك السمراء،
أغربي عن وجهي، أيتها البنت ذات البسمة الخبيثة!
إنني كلما سقيت سيدي أداء لحق العرفان والوفاء، (تفضل) فطبع قبلة على جبيني.
أما أنت فأراهن
أنك لهذا السبب غير راضية عني،
إن خديك ونهديك،
سيصيبان سيدي بالملل والسأم. •••
أتظنين أنك قادرة على أن تخدعيني،
حين تبتعدين الآن في خجل؟
سوف أنام على عتبة الباب،
ثم أستيقظ عندما تتسللين.
12
طالما لامونا
طالما لامونا
على السكر، (لكنهم) لم يقولوا بعد كل شيء
عن سكرنا.
عادة ما يسقط الإنسان
ضحية السكر حتى يطلع النهار،
غير أن نشوة سكري
جعلتني أهيم (على وجهي) في الليل.
إنها هي سكرة الحب
التي تعذبني وتجعلني أستحق الرثاء،
ومن النهار إلى الليل، ومن الليل إلى (طلوع) النهار،
تشيع في قلبي الخوف والاضطراب،
القلب الذي تستبد به نشوة السكر
بالأغنيات فيجيش ويشمخ،
حتى ليتهيب أي سكر معتدل،
أن يشب فيه ويشرئب.
إنها سكرة الحب والغناء والخمر،
سواء في الليل أو في النهار،
وهي أسمى سكرة إلهية،
تسحرني و(في نفس الوقت) تسقيني.
13
أنت أيها الوغد الصغير
أنت أيها الوغد الصغير أنت!
أن أظل صاحيا وفي وعيي،
هذا هو أهم شيء
بهذا أسعد أيضا
حتى بحضورك،
أنت يا أحب الناس
وإن كنت تترنح من السكر.
14
يا للضوضاء في الحانة
يا للضوضاء التي ثارت
فجر اليوم في الحانة!
صاحب الحانة والفتيات، والمشاعل والناس!
وكم من مشاجرات وشتائم!
كان الناي يرن، والطبلة تدوي!
وشاع الاضطراب وعم
مع ذلك كنت بنفسي هناك
ممتلئا بالبهجة والحب. •••
إني لن أتعلم شيئا عن الأخلاق،
هذا ما يلومني عليه كل إنسان،
غير أني حريص على البعد بحكمة وتدبر.
عن الخلاف بين المدارس والمنابر.
15
أي وضع هذا يا سيدي
الساقي :
أي وضع هذا يا سيدي! وكيف تتسلل اليوم
من غرفتك في هذا الوقت المتأخر،
إن الفرس يسمون هذا «بي دماغ بودن»
1
والألمان يدعونه «بلاء القطط».
2
الشاعر :
دعني الآن، أيها الصبي العزيز،
فالعالم لا يروق لي،
لا منظر الوردة ولا أريجها،
ولا غناء البلابل.
الساقي :
وهذا هو الذي أريد معالجته،
وأحسب أني سأنجح فيه،
هاك! تذوق هذا اللوز الطازج،
وسوف تلذ لك الخمر من جديد. •••
ثم أريد (أن أصحبك) إلى الشرفة
وأرويك بالأنسام المنعشة،
وكما أضعك في عيني
ستهب الساقي قبلة. •••
انظر! ليس العالم كهفا،
فهو يزدخر دائما بالأشرار والأوكار، (كما يزخر) بعطر وزيت الورد،
والبلبل يشدو أيضا كالأمس.
16
تلك العجوز القبيحة
تلك العجوز القبيحة!
تلك اللعوب،
يسمونها الدنيا
وقد خدعتني
كما خدعتني سائر النساء،
أخذت مني الإيمان،
ثم الأمل،
وها هي قد حاولت
أن تسلبني الحب،
فلذت بالفرار.
ولكي أحافظ للأبد
على الكنز الذي أنقذته،
قسمته بحكمة
بين زليخا والساقي.
وكل واحد منهما
ينافس الآخر
في تسديد فوائد أكبر.
وأنا الآن أغنى من أي وقت مضى،
فقد استرددت الإيمان!
الإيمان بحبها.
وهو مع الكأس
يضمن لي الإحساس الرائع بالحاضر!
وبماذا ينفع الأمل هنا!
17
اليوم أكلت بشهية
الساقي :
اليوم أكلت بشهية،
لكنك أفرطت في الشراب،
والذي نسيته أثناء الطعام
سقط في هذا الإناء. •••
انظر! إننا نسميه «البجعة الصغيرة»
التي تلذ للضيف الشبعان،
وهو ما سأحمله لبجعتي
التي تتبختر على الأمواج. •••
ومع ذلك يزعم الناس على البجع المغرد،
أنه ينعى نفسه وهو (على حافة) القبر، (ليتك) توفر علي سماع أي أغنية
يمكن أن تشير إلى نهايتك.
18
إنهم يسمونك الشاعر العظيم
الساقي :
إنهم يسمونك الشاعر العظيم،
عندما تظهر (لهم) في السوق،
وأنا يطيب لي أن أسمعك حين تغني،
وأن أنصت، حين تصمت! •••
بيد أنني أزداد حبا لك،
عندما تمنح قبلة للذكرى،
ذلك أن الكلمات تزول،
أما القبلة فتبقى في الأعماق. •••
إن (نظم) القافية في إثر القافية لا يخلو من معنى،
لكن الأفضل هو الإمعان في التفكير،
فغن أنت لسائر الناس
والزم الصمت مع الساقي.
19
تعال أيها الساقي
الشاعر :
تعال أيها الساقي! هات كأسا أخرى!
الساقي :
سيدي، لقد شربت بما فيه الكفاية،
وهم يسمونك الشريب المتوحش!
الشاعر :
هل رأيتني مرة واحدة أسقط من السكر؟
الساقي :
إن محمدا يحرمها.
الشاعر :
يا صغيري العزيز!
لن يسمع أحدا ما سأقوله لك.
الساقي :
عندما تتكلم على راحتك،
لا أجد في نفسي حاجة للسؤال.
الشاعر :
أنصت إلي! إننا نحن المسلمين
ينبغي علينا أن نبقى في حالة الصحو واعين،
أما الشاعر فيود في حماسه المقدس،
أن يبقى وحده في حالة الجنون.
20
تذكر يا سيدي
الساقي :
تذكر يا سيدي! أنك حين تشرب،
يفور من حولك اللهب!
وتئز ألف شرارة وتومض،
وأنك لا تدري أين ستستقر. •••
أرى الرهبان في الزوايا والأركان،
عندما تضرب (بيدك) على المائدة،
وهم يتخفون في رياء ونفاق،
بينما تفتح قلبك على اتساعه. •••
لكن قل لي، لماذا كان الشباب،
وهو بعد غير بريء من الأخطاء
وتعوزه كل الفضائل،
أحكم بكثير من الشيخوخة؟
إنك تعرف كل ما تطويه السماء،
وكل ما تحمله الأرض،
وأنت لا تخفي الاضطراب
الذي يجيش به صدرك.
حاتم :
لهذا السبب بعينه، يا فتاي العزيز،
عليك أن تبقى شابا وأن تظل حكيما،
صحيح أن الشعر هبة من السماء.
لكنه في الحياة الأرضية غش وخداع.
على المرء أن يشب أولا (في حضن) الأسرار،
ثم يأخذ في الثرثرة في الصباح والمساء!
عبثا يلجأ الشاعر للكتمان،
فقول الشعر نفسه خيانة.
21
ليلة صيف
الشاعر :
انحدرت الشمس للمغيب،
لكن (أشعتها) مازالت تلمع في الغرب،
وأود أن أعرف إلى متى
سيستمر هذا البريق اللامع كالذهب.
الساقي :
إن شئت، يا سيدي، بقيت
منتظرا خارج هذه الخيام،
فإذا تمكن الليل من البريق،
جئت على الفور وأخبرتك. •••
فأنا أعلم أنك تحب التطلع (للأفق) البعيد اللامتناهي،
عندما تتبادل المديح والثناء
تلك النيران المتوقدة في الزرقة. •••
وأنصعها ضوءا يريد وحسب أن يقول:
وأنا ألمع الآن في مكاني،
ولو شاء الله أن يمد في عمرك
لمعت أيضا مثل لمعاني. •••
لأن كل شيء في نظر الله رائع عظيم.
وعلة ذلك أنه هو الأعظم،
وهكذا تنام الآن جميع الطيور
كل في عشه الكبير والصغير. •••
ويتربع أحدها عاليا هناك
فوق أغصان السرو،
حيث تهدهده الريح الفاترة
حتى ترطب الهواء أنداء الفجر. •••
أنت الذي علمتني هذا
أو شيئا آخر يشبهه،
وكل ما سمعته في حياتي منك،
لن يفلت أبدا من القلب.
لأجلك أريد أن أكون بومة
تجثم هنا على الشرفة،
حتى أستطيع أن ألاحظ
الانقلاب الثاني للنجم القطبي. •••
عندها يحل منتصف الليل،
حيث تصحو مبكرا في أكثر الأحيان،
وعندها سيكون من أروع الأمور
أن تتأمل معي الكون في إعجاب.
الشاعر :
صحيح أن البلبل يشدو طول الليل
في هذا العطر وهذا البستان،
لكنك قد تضطر للانتظار طويلا
قبل أن يتمكن الليل (من تحقيق) ما تقول. •••
ففي هذا الوقت من أوقات «فلورا»
كان يسميها شعب الإغريق،
تهيم الأرملة «أورورا»
متيمة بحب «هسبيروس». •••
تلفت حولك! إنها آتية! يا للسرعة!
وخطاها تخطر فوق حقول الزهر!
وتسطع الأضواء هنا وهناك،
حتى تضيق على الليل الخناق. •••
وعلى أقدامها الوردية الخفيفة
تسرع كالمجنونة للحاق
بذلك الذي لاذ بالفرار مع الشمس،
ألا تشعر بلفحة الغرام؟ •••
اذهب الآن، يا أعز الأبناء،
وتوار داخل البيت وأغلق الأبواب ،
لأنها تريد أن تخطف جمالك
معتقدة أنك أنت هسبيروس.
22
الساقي (وهو نعسان)
الساقي :
هكذا تعلمت منك مع الصبر الطويل:
حضور الله في جميع العناصر.
كم كنت حنونا وحبيبا وأنت تمنحني هذا!
لكن أحب الأشياء جميعا أنك تحب.
حاتم :
إنه ينام بعذوبة ومن حقه أن ينام.
أنت أيها الصبي الطيب! لقد سقيتني، (ومن كأس) الصديق والمعلم، بغير قهر ولا عقاب،
تعلمت وأنت في ميعة الشباب كيف يفكر العجوز
والآن ينسكب فيض الصحة والعافية
في أعضائك فتتجدد قواك.
إنني ما زلت أواصل الشرب، لكنني ساكن أتم سكون،
حتى لا تضطر أن تصحو من نومك كي تسعدني برؤيتك.
كتاب الأمثال
1
تحدرت قطرة خائفة
تحدرت قطرة خائفة من السماء
وسط أنواع البحار فعصفت بها الأمواج،
لكن الله كافأ شجاعة الإيمان
ووهب القطرة القوة والبقاء،
ضمتها المحارة الساكنة في هدوء
وهي الآن لؤلؤة تنعم بالتكريم والخلود
وتتألق في تاج قيصرنا المجيد
بنظرة ساحرة سنية البهاء.
2
شدو البلبل في الليل
شدو البلبل في الليل تصاعد وسط الأنواء
نفذ الصوت لعرش الله الوضاء
كافأه الله على شدوه
في قفص ذهبي حبسه
والقفص ضلوع الإنسان
لم يزل الروح يحس بضيق السجن ولكن
لا ينفك يردد نغما حلو الأصداء
حين يفكر في محنته كالعقلاء!
3
إيمان عجيب
حطمت ذات مرة قدحا جميلا
وكاد اليأس ينتابني،
ورحت ألعن كل الشياطين
على نزقي وتهوري.
ثارت ثائرتي في مبدأ الأمر
ثم بكيت بكاء حارا
وغلبني الحزن وأنا أجمع الشظايا
رق الله لحالي فسوى القدح على الفور
ورده كاملا صحيحا كما كان من قبل.
4
تركت جوف محار لؤلؤة
تركت جوف محار لؤلؤة،
زينة اللؤلؤ، من أصل نبيل،
هتفت بالصائغ الطيب أن
يصنع المعروف فيها والجميل،
إن ثقبت الرأس مني فلقد
ضعت وانهد كياني وانحطم
سأذوق المر لو جمعني
ورفاق السوء عقد منتظم! •••
لست أبغي الآن إلا مكسبي،
فاعذريني واغفري ظلمي لك،
كيف للعقد إذن أن يزدهي
لو ترفقت ولم أقس عليك؟
5
رأيت بدهشة وابتهاج
رأيت بدهشة وابتهاج
ريشة طاووس بين صفحات القرآن،
مرحبا بك في هذا المكان المقدس،
أغلى كنز بين بدائع الأرض.
إن عظمة الله التي تتجلى في أصغر الكائنات،
نتعلمها منك، كما نتعلمها من نجوم السموات،
ونؤمن بأنه، وهو الذي يحيط الأكوان بنظرته،
قد طبع هنا آثار عينيه،
وبهذا زين هذه الريشة الخفيفة،
بحيث لم يفلح الملوك (في يوم من الأيام)
في محاكاة بهاء هذا الطائر (الفتان).
ابتهجي بتواضع بهذا المجد العظيم،
تكوني جديرة بالمكان المقدس الكريم.
6
كان عند أحد القياصرة
كان عند أحد القياصرة محاسبان،
اختص أحدهما بالتحصيل والآخر بالصرف والإنفاق،
هذا فاضت الأموال من يديه،
وذلك لم يدر من أين يجمعها.
ومات الصراف فاحتار الحاكم
لمن يعهد بأمر الصرف،
ولم يكد يمضي وقت يسمح للمرء بالالتفات،
حتى كان المحصل قد أثرى أفحش ثراء،
ولم يدر أحد - من كثرة الذهب - كيف يعيش،
لأنه لم يصرف يوما واحدا أي شيء منه،
عندئذ اتضح للقيصر كل الوضوح،
من الذي كان السبب في ذلك البلاء.
وعرف كيف ينتفع بتلك الصدفة،
حين قرر ألا يشغل أحد أبدا تلك الوظيفة.
7
قال القدر الجديد للمقلاة
قال القدر الجديد للمقلاة: - ما هذا البطن الأسود! - هذا هو الذي تعودنا عليه عند الطبخ.
تعال، تعال، أيها المغفل اللامع المصقول،
فسرعان ما يخف غرورك.
وإذا احتفظت يد القدر بوجه صاف،
فلا يحملك ذلك على التفاخر؛
إذ ليس عليك إلا أن تنظر إلى مؤخرتك.
8
الناس جميعا من كبيرهم إلى صغيرهم
الناس جميعا من كبيرهم إلى صغيرهم
يتفننون في نسج نسيج لأنفسهم،
ويتباهون بالجلوس في وسطه
وفي أيديهم مقصاتهم ذات الأطراف الحادة المدببة.
فإذا اجتاحته مكنسة وأزاحته (من الوجود)
هتفوا صائحين: هذا شيء فظيع.
لقد خربوا أعظم القصور.
9
لما نزل يسوع من السماء
لما نزل يسوع من السماء، أتى معه بالكتاب الخالد، وهو الإنجيل،
قرأه على حوارييه ليل نهار
وللكلمة الإلهية فعل وتأثير.
ثم صعد إلى السماء وأخذه معه،
ولكنهم كانوا قد أحسوا به غاية الإحساس.
ودنا كل واحد منهم خطوة فخطوة
ما شعر به واختلف فيه عن غيره.
ليس لهذا أهمية، فقد تفاوتت قدراتهم،
ومع ذلك فإن المسيحيين يمكنهم
أن يعيشوا عليه حتى يوم الحساب.
10
حسن
على ضوء القمر في جنة الفردوس
وجد «يهوا» آدم غارقا في نوم عميق
فوضع حواء صغيرة بجانبه في هدوء
وراحت هي الأخرى في سبات مديد.
وهكذا رقدت، في إهاب أرضي محدود
أجمل فكرتين من أفكار الله. «حسن!» هكذا قال راضيا عن صنعه البديع،
حتى لقد ابتعد عنهما وهو غير مستريح. •••
لا عجب إذن أن تهزنا النشوة
عندما تنظر العين في العين نظرة منتعشة،
وكأننا قد بلغنا من الأمر مداه
وأصبحنا قريبين ممن فكر فينا وبرأتنا يداه.
فإذا دعانا إليه رحبنا بدعوته
ولكن بشرط أن نصعد إليه معا لا كل واحد بمفرده.
فلتحطك الآن أغلال ذراعي بحب،
أنت يا أحلى ويا أجمل ما صور ربي!
كتاب البارسي أو المجوسي
1
وصية الديانة الفارسية القديمة
أية وصية، يا إخوتي، تتوقعون أن تأتيكم،
من الرجل التقي المسكين الذي سيفارقكم،
والذي أطعتموه في صبر أيها المريدون الشبان،
وأكرمتم أيامه الأخيرة برعايتكم؟ •••
عندما كنا نرى الملك في كثير من الأحوال على صهوة جواده،
والذهب يسطع منه ومن كل ما حوله،
وجواهر الأحجار الكريمة تلمع عليه وعلى عظماء رجاله
منشورة كحبات البرد الكثيفة المنهمرة،
فهل حسدتموه مرة واحدة على ذلك؟ •••
ألم تملئوا عيونكم بما هو أروع منه،
حين كانت الشمس، على أجنحة الفجر،
تشرق على ذرى درناوند
1
التي لا تحصى على هيئة قوس؟
من ذا الذي كان يسعه
أن يمنع نفسه من التطلع إليها؟ لقد كنت أحس
آلاف الإحساسات، فيما لا يعد من أيام حياتي،
بأن تلك القادمة تحملني معها
لأعاين الله على عرشه،
وأسميه الرب (الخالق) لعين الحياة،
وأراعي في عملي ذلك المشهد السامي
وأسير في حياتي مهتديا بنوره.
لكن حين كان القرص الناري يكتمل (في السماء)،
كنت أقف (أمامه) كأنما عشيت عيناي في عتمة الظلام،
فأضرب صدري، وأطوح أعضائي المنتعشة،
وجبيني محني للأمام، وأسجد على الأرض. •••
والآن إليكم وصية مقدسة،
أقدمها لإرادة الإخوة وذاكرتهم: «الحفاظ اليومي على (أداء) الواجبات الشاقة»
وعدا ذلك لا حاكم (بكم) لأي وحي. •••
إذا حرك وليد يديه التقيتين
طالبا أن تديروه نحو الشمس بغير إبطاء،
فليغمس الجسد والروح في حمام النار!
وسيشعر بنعمة كل صباح (يشرق عليه). •••
أسلموا الأموات للحي،
وغطوا حتى الحيوانات بالردم والتراب،
وبقدر ما يسع طاقاتكم،
لا تترددوا عن تغطية كل ما ترون أنه نجس. •••
احرثوا حقولكم حرثا فيه نظام وجمال،
حتى يطيب للشمس أن تضيء الجهد الذي بذلتموه،
وإذا زرعتم أشجارا فاجعلوها في صفوف،
لأنها
2
تساعد كل ما هو منظم على النمو والازدهار. •••
كذلك لا يجوز للماء الذي يجري في القنوات
أن يعوزه التدفق أبدا ولا الطهارة،
وكما ينبع سندرود
3
من المناطق الجبلية الطاهرة،
فينبغي كذلك أن ينتهي إلى مصب طاهر.
ولكيلا يضعف الانسكاب الناعم للماء،
راعوا تعميق الحفر بجد واجتهاد،
الغاب والبوص، والبرص، والسحالي،
هذه المخلوقات البشعة، اقضوا عليها جميعا. •••
حتى إذا تم لكم تطهير الأرض والماء،
راق للشمس أن تسطع وهي تنفذ في الهواء،
فهي إن أحسنتم استقبالها بما يليق،
تصنع الحياة وتمنحها البركة والسلام.
أنتم، يا من يشقيكم عناء بعد عناء،
تعزوا عن ذلك، فالكل قد تطهر الآن.
وأصبح في وسع الإنسان أن يتشجع كالكاهن (الفنان)،
فيبدع من الحجر الرمز المعبر عن الله. •••
وحيث تتوقد الشعلة تبينوا بسرور،
أن الليل يغمره الضوء وأن الأعضاء طيعة،
وعلى لهب النيران المتأججة في الموقد،
ينضج العصير الخام للحيوان والنبات. •••
وإذا احتطبتم فافعلوا ذلك مبتهجين،
لأنكم تحملون بذور الشمس الأرضية،
وإن قطعتم البامية،
4
فلتقولوا واثقين:
إنه هو الذبالة التي ستشعل بالنار المقدسة.
5
وإذا تبينتم بورع في شعلة كل مصباح،
انعكاس النور الأسمى،
فلن يمنعكم سوء الحظ أبدا من الشعور بالإجلال،
لعرش الله عند مطلع كل صباح. •••
هناك (ترون) الخاتم القيصري (المطبوع) على وجودنا
والمرآة الإلهية الصافية لنا وللملائكة،
وكل ما يتمتم مسبحا بحمد الكائن الأسمى،
هناك في دائرة تحوطها دوائر.
أريد أن أزهد في شواطئ سندرود
وأنشر جناحي محلقا إلى (قمة) درناوند،
فإذا أشرقت سعيت إليها لأسعد باللقاء.
ومن هناك أبارككم إلى الأبد.
2
كلما شعر الإنسان
كلما شعر الإنسان نحو الأرض بالتقدير والإعزاز،
لأن الشمس تشرق عليها بنورها الوضاء،
وكلما استمتع بالكرامة،
التي تبكي تحت السكين الحادة،
لأنها تحس أن عصيرها
سوف ينعش الدنيا إذا أجيد تخميره،
وسوف يثير طاقات كثيرة
ويخمد طاقات أكثر
عرف (عندئذ) كيف يرجع الفضل لوهج النار،
التي تتيح كل هذا النمو والازدهار،
وإذا ترنح السكران وراح يتلعثم،
انطلق المعتدل في الغناء وترنم.
كتاب الفردوس
1
تذوق
1
المسلم الحق يتحدث عن الفردوس،
وكأنه كان بنفسك هناك،
ويؤمن بالقرآن في كل الأحوال،
وعلى هذا (الأساس) تقوم العقيدة الطاهرة. •••
غير أن النبي الذي أنزل عليه هذا الكتاب،
يشفع لزلاتنا وعيوبنا هناك،
ويرى، على الرغم من رعود لعناته
أن الشكوك كثيرا ما تفسد علينا الإيمان.
لهذا يرسل إلينا من أعلى عليين
نموذجا للشباب
2
يجدد شباب كل شيء
ترف هابطة إلى هنا وتكبل بغير إبطاء،
رقبتي بألطف وأحب الحبال.
3 •••
أضعها على حجري، وأضمها للفؤاد،
هذه المخلوقة السماوية، ولا أطمع في المزيد،
ومن ثم أؤمن بالفردوس أقوى إيمان،
لأنني أحب أن أقبلها بحنان إلى أبد الآبدين.
2
رجال موعودون
بعد غزوة بدر، تحت سماء مرصعة بالنجوم،
محمد يقول:
ليبك العدو موتاه (كما يشاء)،
فهم صرعى (بلا أمل) في الرجوع،
أما إخوتنا فلا تحزنوا عليهم
لأنهم (أحياء) ينتقلون هناك فوق الأفلاك. •••
إن الكواكب السبعة أجمعين
قد فتحت بواباتها المعدنية على اتساعها،
وها هم الأحباب المجتبون يطرقون
أبواب الفردوس بجسارة. •••
ويلقون على غير توقع فرحين مستبشرين،
ألوانا من النعيم التي ذقتها في معراجي،
عندما حملني البراق في غمضة عين
واجتاز بي السموات جميعا. •••
أشجار الحكمة المتراصة السامقة كأشجار السرو
وهي تصوب تفاحاتها الذهبية نحو السماء،
وأشجار الحياة التي تنشر ظلالها الوارفة،
وتغطي الأرائك المبثوثة بالزهور وأبسطة السندس. •••
وتهب من الشرق ريح عذبة ذكية،
تسوق معها أسراب البنات السماويات،
وبعينيك تبدأ في التأمل والاستمتاع
لأن النظرة وحدها تشبع كل الإشباع.
هناك يقفن ويسألنك ماذا أنجزت؟
خططا كبرى؟ أم لعلك خضت معركة دامية؟
وهن يعلمن أنك بطل، لأنك إلى هذا المكان جئت،
لكن أي نوع من الأبطال؟ هذا هو الذي يتقصينه ويبحثن عنه. •••
وسرعان ما يكشفن ذلك من جراحك،
التي سجلت لنفسها آية مجد وفخار،
فالحظ والرفعة كلاهما قد تلاشى،
ولم يبق غير الجرح في سبيل العقيدة والإيمان. •••
ثم يقتدنك إلى الجواسق والخمائل،
الزاخرة بالأعمدة من الحجر الملون الوضاء،
ويدعينك بلطف والكئوس في الأيادي،
لارتشاف العصير النبيل من الأعناب الصافية. •••
مرحبا بك أيها الشاب اليافع، يا أكثر من شاب!
إنهن جميعا متشابهات في البهاء والصفاء،
فإذا ضممت إحداهن لقلبك،
صارت سيدة وجودك وانضمت لصفوف الخليلات. •••
بيد أن أروعهن جمالا وكمالا لا ترضيها
نعمة واحدة من هذه النعم العظيمة ،
فتظل تسامرك بإخلاص، في مرح وبلا حسد
وهي تعدد لك فضائل سائر الفتيات.
وتأخذك إحداهن لمأدبة حافلة
تفننت فيها الأخريات كل على حدة،
وتفوز بنساء كثيرات وبراحة البال في البيت،
وهو ما يجعل الإنسان يستحق أن يحظى بجنة الفردوس. •••
فلتنعم روحك إذن بهذا السلام،
لأنك لن تستطيع أن تبدله بغيره،
فأمثال هؤلاء الفتيات لن يصبنك بالسأم،
ومثل هذه الخمور لن تثير نشوة السكر. •••
وهكذا نكون قد ذكرنا ما تيسر ذكره،
مما يزهو به المسلم المبارك السعيد،
ويكون فردوس الرجال، أبطال العقيدة،
قد أعد بهذه الصورة بالعدة الكاملة.
3
صفوة النساء
لا يصح أن يضيع شيء على النساء،
فالإخلاص الطاهر خليق بالأمل والرجاء،
لكننا لا نعرف إلا أربعا منهن،
قد وصلن إلى جنة الفردوس. •••
أما الأولى فهي زليخا، شمس الأرض،
التي تيم فؤادها بيوسف حبا واشتهاء،
وها هي ذي الآن قد صارت بهجة الفردوس،
تسطع فيه زينة للزهد والعزوف والعفاف. •••
ثم تأتي المباركة من الجميع،
التي ولدت المخلص للكافرين،
ولما اكتشفت الغدر، رأت في حزن مرير
ابنها (الحبيب) ضائعا على الصليب. •••
وكذلك زوجة محمد التي أفاضت عليه الحنان
4
وأعانته على تحقيق أروع الأمجاد،
وأوصت في حياتها بألا يكون
إلا رب واحد وزوجة واحدة. •••
ثم تأتي فاطمة الزهراء،
الابنة الطاهرة والزوجة المصون،
ذات الروح النقية كملائكة السماء،
في جسم من عسل ذهبي مكنون. •••
هؤلاء هن اللواتي نجدهن هناك،
وكل من لهج بالحمد والثناء ورفع من ذكر النساء،
استحق هناك في خالد الجنان
أن يطوف مبتهجا بصحبة هؤلاء (النسوة المصطفيات).
4
سماح
الحورية :
أنا اليوم أتولى الحراسة
على باب الفردوس،
لا أدري ما أصنع،
فأنت تبدو لي مريبا. •••
هل تجمعك قرابة
بأصحابنا المسلمين
وهل أرسلك جهادك
أو فضلك للفردوس؟ •••
أتعد نفسك من أولئك الأبطال؟
إذن فأرني جراحك،
التي تشهد على أمجادك
وسوف أسمح لك بالدخول.
الشاعر :
كفي عن هذا السخف!
ودعيني أدخل:
فلقد عشت حياة إنسان؛
أي كنت واحدا من المجاهدين.
ثبتي في نظراتك الحداد!
وانفذي بها في هذا الصدر،
انظري الجراح (التي حفرها) اللؤم والخداع،
وانظري اللذة والبهجة (التي خلفتها) جراح الحب. •••
مع هذا غنيت بصدق وإيمان:
لتبقى حبيبتي على الإخلاص والوفاء،
ويبقى العالم، مهما يدر به المدار،
غنيا بالحب والحمد والعرفان. •••
عملت باجتهاد مع الصفوة النابهين،
حتى نلت الأمل المأمول،
فسطع اسمي كشعلات الحب
المتوقدة في أجمل القلوب. •••
لا! لن تختاري رجلا قليل الشان،
أعطني يدك! حتى أستطيع على مر الأيام
أن أحصي على أناملك الرقيقة
عدد الدهور والآباد.
5
رنين
الحورية :
هناك في الخارج،
حيث كلمتك لأول مرة،
كنت كثيرا ما أتولى الحراسة على الباب،
كما يقضي بذلك واجب الطاعة والامتثال.
عندها سمعت حفيفا غريبا،
وخليطا من أصوات ومقاطع متداخلة،
تطالب بالدخول،
لكن لم يرني أحد وجهه،
وأخذت الأصوات تخفت شيئا فشيئا،
بيد أنها كانت ترن رنين أغانيك،
هذا هو الذي أتذكره الآن.
الشاعر :
يا حبي الأبدي!
ما أرق مشاعرك وأنت تتذكرين حبيبك!
مهما اختلفت الأنغام التي تتردد.
في هواء الأرض وبالطريقة التي تلائمها،
فهي بأجمعها تنشد الصعود إلى أعلى،
أكثرها يخمد هناك في الأسفل ولا يكاد يحصى،
والباقي يطير بأجنحة الروح إلى السموات العلا
مثل البراق المجنح الذي ركبه النبي،
وهناك ترن كأنغام الناي
أمام الباب. •••
إذا تصادف وسمعت رفيقاتك شيئا كهذا،
فليتكرمن بالانتباه إليه،
ولتتفضلن بتقوية الصدى
ليتردد من جديد أثناء هبوطه إلى أسفل،
وليعلمن كذلك عن يقين
أنه في كل حال من الأحوال
حين يأتي الشاعر ويجود بعطاياه،
فإنها تعم بخيرها الجميع
كما تعود بالخير على كل العالمين. •••
ليتكرمن كذلك مشكورات بمكافأته،
وليحسن إليه وهن راضيات،
فيسمحن له بالإقامة معهن،
وكل الطيبين يرضون بالقليل. •••
أما أنت يا من كنت من نصيبي،
فلن أحرمك من السلام الأبدي،
عليك (الآن) أن تتخلي عن الحراسة
وتكلفي بها أختا (أخرى) خلية البال.
6
الشاعر :
إنك حبك وقبلتك يسحراني!
وأنا لا أميل للتطفل على الأسرار،
لكن خبريني، هل قدر لك من قبل أن تشاركي
في الحياة على الأرض؟
فلقد خيل إلي مرات عديدة،
أنك كنت فيما سبق تسمين زليخا.
الحورية :
نحن خلقنا مباشرة من العناصر،
من الماء، والنار، والتراب، والهواء،
وأي عطر أرضي،
مناف تمام لطبيعتنا.
ونحن لا نهبط أبدا إليكم،
ولكن عندما تأتون إلينا لتنعموا وتستريحوا،
نجد من الأعمال ما يكفي ليشغلنا. •••
فعندما حضر المؤمنون، - الذين أوصى النبي بهم خيرا -
واستقر بها المقام في الفردوس،
عاملناهم، كما أمرنا،
بمنتهى اللطف والحنو والرقة،
وبشكل لم تعهده الملائكة نفسها منا. •••
غير أن الأول والثاني، والثالث،
كان لكل منهم في الحياة الدنيا خليلة،
ومع أن أولئك الخليلات، بالقياس إلينا، مخلوقات بشعة،
إلا أننا كنا في نظرهم أقل شأنا،
كنا (في الواقع) جذابات، وذكيات مرحات،
لكن المسلمين أرادوا الهبوط (للأرض) مرة أخرى.
مثل هذا التصرف كان مجافيا لطبيعتنا،
نحن بنات السماء، وذوات الأصل الرفيع،
لذلك ثارت ثائرتنا وتمردنا
وقلبنا الأمر من جميع الجهات،
ولما كان النبي يطوف بالسموات
حرصنا أن نتتبع أثره،
وعند عودته لم يفته ذلك،
فتوقف البراق المجنح. •••
هنالك وجدناه في وسطنا!
وبصوت جاد ودود، كما هي عادة الأنبياء،
زودنا باختصار بتعليماته،
لكننا كنا في غاية السخط والضيق،
لأننا رأينا أن تحقيق أغراضه،
يقتضي منا أن نغير كل شيء،
ويفرض علينا أن نفكر كما تفكرون
وأن نكون شبيهات بحبيباتكم. •••
وفقدنا اغترارنا بأنفسنا.
وحكت الحوريات خلف آذانهن،
لكننا رأينا أن حياة الخلود
تفرض علينا التسليم بكل شيء
وهكذا يرى كل منا ما سبق أن رآه،
ويحدث له ما قد حدث من قبل.
نحن الشقراوات، ونحن السمراوات،
ولنا أهواء، ولن نزوات،
بل أحيانا لا يخلو الأمر من الشطحات،
ويتخيل كل واحد منهم أنه في بيته،
ونحن نقابل هذا بسرور وسعادة؛
إذ يحسب كل منهم أن الأمر كما يتصور. •••
أما أنت فيبدو أن مزاجك حر،
وأنا أبدو في نظرك من حوريات الجنة،
إنك تقدر شأن النظرة وتعرف قيمة القبلة،
حتى ولو لم أكن أنا زليخا،
ولأنها كانت ساحرة الفتنة والرقة،
فقد كانت تشبهني ولا تفترق عني شعرة.
الشاعر :
أنت تعشين بصري ببهاء نورك السماوي،
وسواء أكان ذلك وهما أم حقيقة،
فإن إعجابي بك يفوق إعجابي برفيقاتك.
ولحرصك على عدم التقصير في أداء واجبك،
واهتمامك بالفوز بإعجاب شاعر ألماني،
فإني أسمعك يا حورية تتكلمين بشعر موزون ومقفى.
الحورية :
أجل، انظم أنت أيضا وقف على هواك،
ودع روحك تتدفق بالشعر كما تشاء!
إننا نحن أهل الفردوس نميل
للكلمة والفعل النابع من إحساس طاهر.
والحيوانات، كما تعلم، لا تستثنى من هذا
إن هي أظهرت الطاعة وأثبتت الإخلاص.
والحورية لا تحتمل الكلمات الفظة،
فنحن نشعر بما يصدر عن القلب،
وكل ما ينبثق من نبع حي،
يحق له أن يجري في الفردوس.
7
الحورية :
ها أنت تلمس إصبعي من جديد.
أتعرف إذن، كم من الدهور والآباد
عشنا مع بعضنا متحابين؟
الشاعر :
كلا! ولا أريد كذلك أن أعرف.
هذه المتع المتنوعة المتجددة،
وهذه القبلات الطاهرة أبدا كقبلات العروس!
ما دامت كل لحظة تهز كياني تجعله يرتجف،
فلماذا أسأل كم دامت من الوقت؟
الحورية :
إنك تغيب عني مرة أخرى (وتنشغل بأفكارك)،
ألاحظ هذا جيدا، بغير حاجة إلى عد أو قياس.
لم تتردد عن التجوال في الكون
وخاطرت بنفسك في الأعماق الإلهية،
فلتكن الآن حاضرا بجوار حبيبتك الغالية.
ألم تفرغ من نظم أغنيتك؟
كيف كان رنينها هناك أمام الباب؟
كيف ترن الآن؟ لا أريد أن ألح عليك أكثر من هذا.
غنني أشعارك التي قلتها في زليخا:
لأنك لن تصنع خيرا من هذا في الفردوس.
8
حيوانات مرضي عنها
بشرت كذلك أربعة حيوانات،
بدخول جنات الفردوس،
هناك تعيش أبد السنين
مع الأولياء والصالحين. •••
يتقدمهم (في الترتيب) حمار،
يثب بخطوات نشطة،
فقد ركب على ظهره يسوع
وهو يدخل مدينة الأنبياء. •••
ثم يأتي ذئب متهيب،
أمره محمد رسول الله،
دع هذه الشاة للمسكين،
وابحث عن أخرى عند أحد الأغنياء. •••
ويهز ذيله في مرح لطيف،
كلب صغير مع صاحبه الأمين،
شارك أهل الكهف السبعة
نومهم (العميق) بحب وإخلاص. •••
وها هي ذي هرة أبي هريرة
تموء حول سيدها وتلاطفه؛
إذ سيبقى حيوانا مقدسا على الدوام
ذلك الذي مسح عليه (بيده) أفضل الأنام.
9
أعلى والأعلى
لأننا نعلم مثل هذه الأشياء،
فلا ينزل بنا أحد عقابه،
ولتفسير هذا كله،
عليكم أن تسائلوا أعمق أعماقكم. •••
بهذا يمكنكم أن تفهموا
أن الإنسان إذا عاش راضيا
سيطيب له أن يرى ذاته
وقد نجت هناك (في الأعالي) وهنا (في الدنيا). •••
وذاتي الحبيبة كانت بحاجة
إلى ألوان من الراحة والمتاع،
والأفراح التي ارتشفتها ها هنا،
سأظل أتمناها إلى الأبد. •••
هكذا تمتعنا الحدائق الجميلة،
والزهور والثمار والأطفال الحسان،
وكل ما أعجبنا ها هنا،
لن يكون إعجاب الروح المتجدد الشباب به أقل. •••
كذلك أتمنى أن أجمع كل الأصحاب،
شبابا وشيوخا في شخص واحد،
وكم سيطيب لي أن يتلعثموا
بكلمات الفردوس باللغة الألمانية. •••
بيد أننا نستمع الآن للهجات
يدور بها الغزل بين الإنسان والملاك، (كما نستمع) للنحو المضمر،
الذي يعرب به الخشخاش والورد. •••
وعسى أن يلذ للناس في المستقبل
أن يتحدثوا (بلغة) النظرات،
وأن يرتفعوا إلى النشوة السماوية
بغير أنغام ولا أصوات. •••
والحق أن الصوت والنغم يتحرران
بطبيعة الحال من الكلمات،
ويتأكد إحساس المنعمين،
بأن (وجودهم) بغير نهاية. •••
فإذا ما تهيأ للحواس الخمس (كل ما تشتهيه) في الفردوس،
فلا شك في أنني سأكتسب
حسا واحدا يغنيني عنها. ••• - وهكذا أراني أنفذ الآن،
أخف مما كنت، في الدوائر الأبدية
التي تسري فيها كلمة الله
بصورة خالصة حية. •••
وبشوق حار لا يعوقه عائق
نتابع الصعود بغير نهاية،
حتى نتملى بالحب الخالد
فنذوب فيه ونتلاشى.
10
أهل الكهف السبعة
ستة من أصحاب الحظوة في البلاط
يهربون من غضب الإمبراطور،
الذي جعل الناس تعبده كإله،
وإن لم يكن فيه شيء من طبيعة الإله،
ذلك أن ذبابة واحدة
تمنعه من أن يهنأ بطعامه. •••
وخدمه يهشون الذبابة
بمراوحهم دون فائدة
فهي تطن حول رأسه، تلسعه وتحوم،
وتطير وتثير الاضطراب (في الجالسين) إلى المأدبة،
ثم ترجع وتعاود الطنين
كأنما هي رسول من إله الذباب (المعروف) بسماجته وشماتته. ••• «ماذا؟» هكذا يقول الفتية لأنفسهم، «هل يعقل أن تنغص الإله ذبابة صغيرة؟
وهل يشرب الإله ويأكل
كما نفعل نحن؟
كلا، إن الواحد الذي خلق الشمس والقمر،
ورفع فوق رءوسنا قبة السماء المرصعة بالنجوم،
هو الإله القدير، فلنهرب !»
ويئوي أحد الرعاة الفتية
ذوي الأحذية الخفيفة والزينة اللطيفة •••
ويخفيهم ويخفي نفسه في كهف صخري
ويصر كلب الراعي على البقاء معهم،
طردوه، وانكسرت قدمه
لكنه ظل ملازما لسادته
وانضم لرفاقه الأعزاء
في المخبأ وفي النوم. •••
والحاكم الذي ولوا فرارا منه،
تملكه الغضب وفكر في عقابهم،
استبعد السيف كما استبعد النار،
وسد عليهم باب الكهف
بجدار من الحجارة والجير.
أما الفتية فيطول نومهم،
ويقف الملاك
5
الذي يرعاهم.
أما عرش الله ويصف حالهم
لقد حرصت على تقليبهم
ذات اليمين وذات الشمال،
لكيلا يؤذي بخار العفن
أعضاءهم الجميلة الشابة.
في الصخور فتحت شقوقا
لتنفذ منها الشمس في صعودها وهبوطها
وتجدد النضارة في الخدود الشابة.
وهكذا ينامون منعمين مباركين.
كذلك يرقد الكلب الصغير مستغرقا في نومه العذب
باسطا رأسه على قدميه اللتين تم شفاؤهما. •••
وتفر السنون وتأتي السنون،
ويستيقظ الفتية من نومهم،
ويسقط الجدار الذي تآكل
بفعل الزمن
ويقول يمليخا الجميل،
وهو أكثر الفتية علما وخبرة،
بعد أن وجد الراعي خائفا مترددا: «سأذهب بنفسي وآتيكم بالطعام،
وأخاطر بحياتي وبالعملة الذهبية.» •••
وكانت أفيسوس منذ سنوات عديدة
قد دخلت في ديانة عيسى (عليه السلام). •••
وانطلق سرعا في سيره فوجد أسوار البوابات
والبرج وكل شيء قد تغير
لكنه توجه لأقرب دكان خباز
ليحصل على الخبز بأقصى سرعة.
هتف الخباز: أيها الوغد!
هل عثرت يا فتى على كنز؟
العملة الذهبية تفضحك فأعطني
نصفها لكي يتم التفاهم.
وقع شجار بينهما، وأمام الملك
عرضت القضية، والملك بدوره
طالب بنصيبه كما فعل الخباز. •••
هنالك بدأت (خيوط) المعجزة
تتكشف بمائة علامة وعلامة.
ففي القصر الذي بناه بنفسه
عرف كيف يثبت حقه.
لأن عمودا عثر عليه
هدى لكنوز نقشت عليه أسماء معروفة.
وسرعان ما تجمعت حشود
من الناس لإثبات أنسابها.
وسطع اسم يمليخا في عنفوان شبابه
كأبعد جد وأول جد
وأخذ يسمعهم يتحدثون عن أجدادهم
فيذكرون ابنه وأحفاده.
أحاطت به جموع أحفاد أحفاده،
وهم عشيرته من الرجال الشجعان،
ليكرموه، وهو أصغرهم سنا، ويحتفوا به.
وتوالت العلامات، واحدة بعد أخرى
لتقيم الحجة وتؤكد الدليل ،
وهكذا أثبت لنفسه ولأهله
حقيقة شخصيته. •••
ثم رجع للكهف مرة أخرى
في صحبة الشعب والملك
لم يعد المختار في الحقيقة
لا إلى الملك ولا إلى الشعب
لأن السبعة الذين اعتكفوا
عن العالم من زمن طويل - وكانا في الواقع مع الكلب ثمانية -
نقلتهم قدرة جبريل الخفية،
بمشيئة الرحمن وعونه،
إلى جنة الفردوس،
وبدا الكهف مسدودا بالجدار.
11
طابت ليلتكم
نامي الآن،
يا أشعاري المحتشدة في الديوان،
على صدر الشعب،
ولينشر جبريل بفضل الله وفضله
سحابة مسك
فوق الجسد المكدود المتعب،
كي يمضي الشاعر وهو معافى،
مرح - كالعهد به - وودود،
فيشق الصخر
وينفذ منه إلى الفردوس ويصحب،
وهو سعيد منشرح القلب،
أبطال الموكب
من كل زمان
وهو يجوب الكون ويرعاه الرب،
هنالك يزكو الحسن المتجدد أبدا
في كل مكان،
وبه تسعد كل الناس وتطرب،
ويحق لقطمير، الكلب الطيب،
أن يتبوأ مع سادته
جنات الخلد (ويهنأ بنعيم الحب).
قصائد نشرت بعد وفاة جوته وضمت للديوان
1
من يعرف نفسه
من يعرف نفسه،
وكذلك غيره،
فسيعرف أيضا،
أن الشرق وأن الغرب
لن يفترقا عن بعضهما (أو يبتعدا أبدا أبدا). •••
سأظل أغني
وأردد لحني
وأهدهد نفسي
بين الشرق
وبين الغرب
وليصبح جهدي
هو غاية مجدي!
2
حافظ، أأساوي نفسك بك؟
حافظ، أأساوي نفسي بك،
يا للوهم!
إن تمخر أمواج البحر سفينة
بشراع تنفخه الريح،
تشق عباب الماء بفخر وجسارة،
وإذا حطمها موج محيط هادر
سبحت فيه
قطعة خشب متهرئ.
في أشعارك يا حافظ وأغانيك،
ينساب اللحن الحلو العذب،
يتدفق سيل رطب،
يغلي ويمور كأمواج حريق،
وأحس كأني
تبلغني النار
لكن أحيانا تنفخني ريح غروري
ويزين لي الوهم
بأني مقدام وجسور،
زرت بلاد الشمس
وعشت هنالك وعشقت!
3
يحاولون منذ خمسين سنة
إنهم يحاولون منذ خمسين سنة كاملة
أن يقلدوني، ويبدلوني، ويشوهوني،
فكرت بيني وبين نفسي، ربما استطعت
أن تعرف قدرك في رحاب وطنك. •••
لقد أطلقت في زمانك العنان لجنونك وحمقك
مع جماعات الشباب الوحشية التي مستها شياطين العبقرية،
ثم تقربت في رفق وهدوء سنة بعد سنة،
من الحكماء والعقلاء الوديعين وداعة إلهية.
4
ألا يحق لي أن أستخدم مثلا
كما يحلو لي،
والله نفسه قد ضرب مثلا للحياة
من البعوضة؟
ألا يحق لي أن أستخدم مثلا
كما يحلو لي؟
والله يتجلى لي في عيون حبيبي
على سبيل التشبيه؟
5
أيتها الطفلة الحلوة
أيتها الطفلة الحلوة، هذه الأسماط من اللآلئ،
أردت بقدر ما استطعت،
أن أهديها لك بمودة وحنو،
كذبالة لمصباح الحب. •••
وها أنت تأتين الآن وقد علقت عليها علامة،
هي من بين كل شبيهاتها
من تمائم «الأبراكساس»
أسوأها في نظري.
هذه البلاهة الحديثة غاية الحداثة
أتريدين أن تأتيني بها إلى شيراز!
أم ينبغي علي أن أتغنى
بخشبة جامدة متقاطعة مع خشبة؟ •••
إن إبراهيم قد اختار رب النجوم و«الكواكب»
ليكون ربه الأعلى،
وموسى في وحشة الصحراء،
صار عظيما بفضل الواحد الأحد. •••
وداود الذي تقلب بين الكثير من جوانب ضعفه،
بل وارتكب الكثير من المعاصي والجرائم،
عرف في النهاية كيف يتوب ويبرئ نفسه، «لقد اهتديت بفضل الواحد الأحد.»
ويسوع كان طاهر الشعور ولم يفكر
في (ظل) الهدوء والسكينة إلا في الله الواحد.
وكل من جعل منه إلها،
قد أساء إلى إرادته المقدسة. •••
وهكذا كان من الضروري أن يظهر الحق،
وهو ما نجح فيه محمد،
فبفكرة الواحد الأحد،
ساد العالم بأسره.
لكنك إذا طالبتني رغم هذا
بتمجيد هذا الشيء المزعج،
فليكن عذري عن ذلك،
أنك لست وحدك التي تتباهين بالتمجيد. •••
أجل لست فكثير من نساء سليمان
قد سقنه على الرغم منه،
إلى التطلع إليهن وهن يعبدن
آلهتهن كالمجنونات. •••
لقد قدمن قرن إيزيس وشدق أنوبيس
لهذا (النبي) مفخرة اليهود،
وتريدين أنت أيضا أن تقدمي إلي
هذه الصورة البائسة على الخشب على أنها هي الله!
لكنني لا أريد أن أبدو
خيرا مما أنا عليه،
فكما أنكر سليمان ربه
كذلك أنكرت أنا أيضا ربي.
واسمحي لي أن أتعزى
بهذه القبلة عن وزر الردة،
لأن كل شيء حتى الغول
يغدو طلسما على قلبك.
6
دعوني أبكي!
دعوني أبكي! محاطا بالليل
في الفلوات الشاسعة بغير حدود
الجمال راقدة، والحداة كذلك راقدون،
والأرمني سهران يحسب في هدوء،
وأنا بجواره أحسب الأميال
التي تفصلني عن زليخا،
وأستعيد «صورة» المنعرجات البغيضة التي تطيل الطريق.
دعوني أبكي، فليس في هذا عار؛
فالرجال الذين طيبون «أخيار».
ألم يبك أخيل على حبيبته بريسايس؟
وإكسركسيس بكى على الناجين من جيشه
وعلى رفيق عمره الذي قتله بيده؟
بكى الإسكندر.
دعوني أبكي؛ فإن الدموع تحيي التراب،
وها هو ذا يخضر.
7
ولماذا لا يرسل
ولماذا لا يرسل
قائد الفرسان
رسله
من يوم ليوم؟
إن لديه خيولا
كما يعرف الكتابة. •••
إنه يكتب بخط التعليق
كما يجيد النسخ
على أوراق من حرير
بخط أنيق.
فليقم خطه عندي
مقام شخصه. •••
إن المريضة لا تريد،
لا تريد أن تشفى
من عذابها العذب.
وهي حين تتلقى
نبأ من حبيبها
تمرض في الوقت الذي
تتماثل فيه للشفاء.
8
ما عدت أكتب أبياتا متجانسة
ما عدت أكتب أبياتا متجانسة القوافي،
على ورق الحرير،
ولا عدت أزينها
بزخارف (وأطر) مذهبة،
لقد نقشت في التراب الدائب الحركة وذرتها الريح،
لكن القوة الكامنة فيها باقية،
مقيدة بالتربة
حتى مركز الأرض،
وسيأتي المتجول الرحالة،
هذا العاشق.
فإذا وطئت قدماه هذا الموضع
سرت الرعشة في كل أعضائه.
ها هنا، أحب عاشق قبلي
هل كان هو المجنون الرقيق النحيل؟
أم فرهاد القوي؟ أم جميل الباقي على العهد؟
أم هو واحد
من آلاف السعداء - التعساء؟
لقد أحب ! وأنا مثله أحب،
وأحس به. •••
أما أنت يا زليخا فتستريحين
على الوسادة الناعمة
التي أعددتها وزينتها لك.
وأنت كذلك تحسين، عندما تصحين «فجأة»
بالرعشة تسري في أعضائك.
إنه هو الذي يناديني، هو حاتم.
أنا أيضا أناديك: حاتم! آه يا حاتم!
9
مبعوث الشاهنشاه
مبعوث الشاهنشاه،
طوفت بلاد الله،
فتشت بكل مكان،
وتأملت الأركان،
ما من سنبلة خضرا
إلا أعطتني الخيرا،
لكني لم أر بلدا
تفضل بلدتكم أبدا،
تحرسها عين الرب
وتفيض عليها الحب
فليهنأ شعب الروس
بملائكة الفردوس (وعروس بعد عروس!)
10
رائع كالمسك أنت
رائع كالمسك أنت،
حيثما كنت يفوح العطر منك
وتشي الأنفس بك.
11
قال الهدهد
قال الهدهد: «بنظرة واحدة،
باحت بكل شيء،
ولقد سعدت بسعدكم
كالعهد بي على الدوام
فأحبوا إذن!
انظروا في ليالي الفراق، (تروا) النقش المرسوم على النجوم،
حبكم يسطع مجده ويبقى
في صحبة القوى الأبدية.»
12
أسألكم هل تعرفون
أسألكم هل تعرفون يا ترى ما اسم الحبيب؟
وأي خمر أنتشي بمدحها وأستطيب؟
شروح وهوامش
كتاب المغني
يحاكي جوته في تسميته لهذا الكتاب اسم أحد الكتب في ديوان حافظ الشيرازي، وهو «مغني نامه»، لكن المغني هنا هو الشاعر نفسه الذي هاجر بروحه إلى الشرق، وأخذ ينظر في أحواله ويتبنى عاداته وتقاليده، ويتغنى بفرحته بالرجوع إلى الأصل والمنبع الذي سينهل منه لتجديد شباب إبداعه وحبه وإقباله على الحياة والفعل. ومما يؤكد هذا أن جوته - في تعليقاته وأبحاثه التي تعين على فهم الديوان الشرقي - يسميه كتاب الشاعر ويقول عنه: «في هذا الكتاب، كما يبدو في وضعه الحالي، تعبير متحمس عن الانطباعات الحية التي تركتها في حواسي ووجداني بعض الموضوعات والظواهر، وفيه كذلك تلميح للعلاقات الحميمة التي تربط الشاعر بالشرق. وإذا استمر الشاعر على هذه الصورة، أمكن تزيين البستان المبهج بأرق وأبدع زينة، ولكن رقعة البستان ستتسع على نحو مفرح غاية الفرح إذا لم يقتصر الشاعر على الكلام عن نفسه وعن انطباعاته الخاصة وحدها، بل عبر أيضا عن امتنانه لرعاته وأصدقائه، رغبة منه في إزجاء تحياته للأحباء، وفي تكريم ذكرى الراحلين .»
هنا ينبغي أن نتذكر أيضا أن التحليق والصعود الشرقي، أي ذلك الفن الشعري الذي يزخر ويفيض بالمديح، ربما لا يلائم ذوق القارئ الغربي وإحساسه. وقد آثرنا أن ننطلق إلى أعلى بملء حريتنا، بغير أن نلجأ إلى المبالغات. فالواقع أن الشعر الخالص، الذي يتم الشعور به شعورا صادقا، هو وحده القادر على التعبير عن مزايا الرجال الممتازين، الذين لا يبدأ الناس في الإحساس بمناقبهم الكاملة إلا بعد أن يرحلوا عن هذه الدنيا، وتكف طباعهم الغريبة عن إزعاجنا، وتتجلى أمام أعيننا مآثرهم الباقية كل يوم وكل ساعة (التعليقات والأبحاث، طبعة هامبورج، ص195-196، وترجمة بدوي، ص452-453).
أما الشعار الذي وضعه جوته للكتاب وتغنى فيه بأيام البرامكة، فقد ذكرهم في فقرة من تعليقاته وأبحاثه تحت عنوان «الخلفاء» بعد كلامه عن انهيار الدولة الساسانية أمام الفتح العربي الإسلامي، ثم تغلب ثقافة المهزوم شيئا فشيئا على بداوة الظافر، واستمتاع المسلمين بعد ذلك بالترف والعادات الأنيقة والآثار الأدبية والشعرية التي بقيت لدى المهزومين: «ولهذا لا يزال يعد العصر الذي كان للبرامكة فيه نفوذ في بغداد من أزهى العصور، وهؤلاء ينحدرون في الأصل من «بلخ»، ولم يكونوا من رجال الدين بقدر ما كانوا رعاة وحماة للمعاهد الدينية والمنشآت الثقافية، وقد حافظوا على الشعلة المقدسة للشعر والفصاحة، وتمكنوا كذلك بفضل حكمتهم العملية وعظمة شخصياتهم من تأكيد مكانتهم الرفيعة في مجال السياسة. لهذا يطلق عصر البرامكة على عصر النشاط الثقافي المحلي الحي الفعال، وهو عصر يأمل الإنسان بعد زواله لو بعث للحياة بعد انقضاء سنوات طويلة في أماكن أخرى وظروف مماثلة» (طبعة هامبورج، ص146-147، وترجمة بدوي، ص395-396).
وانظر كذلك تفسير الباحثة كاترينا مومزن لهذا الشعار، الذي ترى أن جوته قد تأثر فيه بإحدى حكايات ألف ليلة وليلة في المقدمة العامة لهذا الكتاب. (1) هجرة
راجع شرح هذه القصيدة في الفصل الخاص بجوته والأدب العربي. أما عن نبع الخضر في الروايات الإسلامية، فقد عرفه الشاعر من ترجمة يوسف فون همر لديوان حافظ، وربما عرفه كذلك من قراءته لسورة الكهف. وقد وصف همر «الخضر» بأنه هو الحارس الأبدي الشباب لنبع الحياة الذي يجدد شباب البشر والحيوانات والنباتات، كما يكسو الأرض في فصل الربيع بالخضرة اليانعة. (2) ضامنات البركة
تشير القصيدة لبعض العادات والمعتقدات الشرقية التي يختلط فيها إيمان العوام بالسحر والخرافة والرغبة في استجلاب البركة، بنقش اسم الجلالة أو أحد أسماء الله الحسنى على الحجر الكريم الذي يعتقدون في قوته السحرية، أو بكتابة بعض الحروف والأعداد والآيات القرآنية الكريمة على الورق على هيئة تمائم أو أحجبة. أما الأبراكساس، فهو نوع من الأحجار التي تنقش عليها صور ورسوم مختلطة ذات أصول يونانية ومصرية قديمة، وقد أضفت عليه المذاهب الغنوصية معاني سحرية شديدة الغموض، وزعم الغنوصي بازليديس - من القرن الثاني للميلاد - أن اسم الأبراكساس يعبر عن القوة العليا والأصل الأول لجميع الموجودات، وأن قيمته العددية حسب حروفه اليونانية تمثل العدد 365 وهو عدد أيام السنة وعدد الفضائل الإلهية، لاحظ تصرف جوته في هذه المادة الشرقية بنفس الحرية والدعابة التي تلون الديوان كله، وكذلك تفسيره الخاص لها للدلالة على عالم الحب والفعل الذي يؤكده باستمراره، كما في قوله في السطر التاسع، فستشعل فيك الحماس للحب والعمل (العظيم). (3) خاطر حر
من الواضح أن المقطوعة الثانية تقوم على الآية الكريمة من سورة الأنعام:
الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون (سورة الأنعام، الآية: 97). (4) تمائم
تعبر أبيات القصيدة عن رؤية جوته الدينية والكونية التي امتزجت بالرؤية الشرقية. وتقوم نواتها على التسليم بقدرة عالية «تفعل فعلها الأبدي على نول الزمان المدوي لنسج ثوب الألوهية الحي» (فاوست الأولى، الأبيات 508-509، وكذلك فاوست الثانية، الأبيات من 11862-11865: «حتى يطيح العدم، بكل ما هو زائل، ويسطع الكوكب الباقي، نواة الحب الأبدي.» والبيت 11955 على لسان الملائكة الأكمل: يبقى حمل بقية من الأرض (التراب)، شيئا مؤلما لنا، بجانب مواضع أخرى من كتاب الفردوس ومن التعليقات والأبحاث يذكر فيها - في الفقرة الخاصة بجلال الدين الرومي - اسم الله وأسماءه الحسنى)، كما تقوم على مبدأ الاستقطاب الجدلي الذي يتمثل في القبض والبسط الذي تعتمد عليه حياة الطبيعة والكون، وكذلك الحياة العقلية والروحية. والأبيات الأربعة الأولى مستوحاة من الآيتين الكريمتين من سورة البقرة:
ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ، و
قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (سورة البقرة، الآيات: 115، 142). (5) نعم أربع
يعرف الشاعر هنا كيف يفسر معنى الأزهار المنقوشة على شال الحبيبة، كما تفهم هي أيضا ما يقوله لها في القصيدة من خلال الأزهار، والمقطوعة الأخيرة تعمم القول، فقصائد الشاعر الجديدة أشبه بأزهار وثمار يقدمها للقارئ، وهي أزهار وثمار شعرية غنائية وتعليمية في وقت واحد، كما يسري فيها شعور باطني جديد، وكأن الزهور على شال الحبيبة قصائد صامتة، وقصائده زهور ناطقة بالمعنى التي تستطيع هي وحدها أن تفهمها، وربما تتضح دلالة الأبيات من الثالث عشر إلى العشرين على تبادل الأزهار والقصائد بين العشاق على طريقة أهل الشرق في الحب ونظم الشعر إذا قرأنا هذه الفقرة من التعليقات والأبحاث عن تبادل الأزهار والعلامات (طبعة هامبورج، ص190-191، وترجمة بدوي، 446-447)، وحتى لا نحسن الظن كثيرا بما يسمى باسم لغة الأزهار أو ننتظر منه نقل عاطفة رقيقة، فيجب علينا أن نسأل العارفين لنتعلم منهم. فلم يعط الناس لكل زهرة على حدة معنى معينا لكي يقدموها ككتابة سرية على شكل باقة، كما أن الأزهار ليست هي وحدها التي تكون الكلمات والحروف في مثل هذا الحوار الصامت، بل إن كل ما هو مرئي وقابل للنقل يستخدم بنفس الحق. أما كيف يتم هذا لإبلاغ خبر وتبادل المشاعر والأفكار، فذلك ما لا نستطيع أن نتصوره إلا إذا تمثلنا الخصائص الأساسية للشعر الشرقي: النظرة الشاملة المطلة على جميع موضوعات العالم، وسهولة النظم، ثم نوع من التلذذ والميل الفطري لدى الأمة لوضع الألغاز، بحيث تنشأ عنه كذلك البراعة في حلها. وهي صفات تتضح للأشخاص الذين تتجه بهم مواهبهم للاهتمام بالمعميات والأحاجي وما شابهها.
ولنلاحظ بهذه المناسبة أنه إذا أرسل محب إلى محبوبته بأي شيء، فيجب على المرسل إليها أن تنطق بالكلمة،
1
وأن تبحث عن القافية التي تتلاءم معها، ثم تمعن بعد ذلك في البحث بين القوافي الكثيرة الممكنة عن أنسب قافية للحالة الحاضرة. ومن الواضح أن هذا الموقف يتحكم فيه نوع من الميل الشديد للحدس أو التخمين. ويمكننا أن نبين هذا بمثال، نقدم فيه الحكاية القصيرة التالية التي توضح هذا النوع من المراسلات:
لقد تم تقييد الحراس
بالملاطفات الحلوة،
لكن طريقتنا نحن في التفاهم،
هي التي نريد أن نكشف عنها،
لأن ما جلب لنا السعادة يا حبيب،
يجب كذلك أن يفيد الآخرين،
لهذا نريد في ليلة الغرام
أن ننظف المصابيح المعتمة.
وكل من يقدر معنا
أن يرهف الأذن جيدا،
وأن يحب مثلنا،
سيسهل عليه أن يقفي المعنى الصحيح.
أرسلت إليك علامة، وكذلك أرسلت إلي،
وفهمنا المعنى المقصود على الفور.
ويورد جوته بعد ذلك قائمة طويلة من الكلمات الملغزة التي يتبادلها المحبون في رسائلهم مع تفسير كل كلمة منها بكلمة أو جملة مسجوعة على نفس القافية، وقد تفنن أستاذنا بدوي في ترجمة القائمتين ترجمة مقفاة كما تصرف - كالعادة! - في الأصل تصرفا شديدا. (6) خلق وإحياء
تعتبر أقدم وأول قصائد الديوان، وقد كتبها الشاعر يوم 21 / 6 / 1814م أثناء مروره بمدينة بيركا (على نهر الألم)، واستوحى فيها بعض خمريات حافظ (كما وردت في الجزء الأول من ترجمة فون همر لديوانه)، ويرجح بعض الشراح، ومنهم الدكتور بدوي (ص76)، أن يكون كذلك قد استوحى فيها سفر التكوين من التوراة وسورة الحجر، الآية 26:
ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون ، وبعض الروايات الإسلامية عن خلق الله لآدم كما اطلع عليها في كتاب جان شاردان، رحلة إلى فارس وبقاع أخرى من الشرق، أمستردام 1735م - ولكن الكلمة المحيرة في السطر الخامس، وهي الإلوهيم، هي التي اختلفت حولها آراء الشراح، وأكد بعضهم أنه ترجع لتأثر جوته في شبابه بقراءاته المبكرة لكتاب الصوفي جورج فيلنج عن سحر الكبالة (أو القبالة وهي الكتابات اليهودية الصوفية والرمزية السرية) الذي صدر في هامبورج سنة 1735م ثم أعيد طبعه في فرانكفورت وليبزيج سنة 1760م. والظاهر أن هذه الصورة قد بعثت حية في نفسه بعد ذلك بأكثر من نصف قرن، والإلوهيم الذين نفخوا أفضل روح في أنف آدم هي ذرية الإلوهيم الذين اعتبرهم فيلنج - متأثرا بالقبالة - قوى مبدعة وخلاقة على نحو خاص بجانب «يهوا» عند اليهود. وقد وصفها جوته في الفصل الثامن من سيرة حياته وهي «شعر وحقيقة»، بما يؤكد ما قاله عنها فيلنج من أنها مجموعة قوى إلهية، ولذلك يستبعد التأثر بقصة الخلق كما جاءت في سفر التكوين (7-2). (7) ظاهرة
تمثل أولى القصائد - بالمعنى المفهوم من الشعر الغنائي - التي كتبها جوته مع بداية انشغاله بالديوان (في اليوم الأول من أيام سفره من بيركا إلى فرانكفورت وهو 25 / 7 / 1814م) ولا شك أن قوس قزح هنا، فوق ما له من دلالة رمزية على النور الذي يؤدي دورا هاما في رؤية جوته الكونية المتأثرة بنظرية الفيض الأفلاطونية المحدثة، يعبر كذلك عن وعد رمزي للشاعر الكهل بحب جديد يمكن أن يجدد شبابه وإبداعه، وفيبوس في الأصل هو أبوللو إله الشمس نفسها. (8) منظر لطيف
شيراز هي مسقط رأس حافظ وموطنه، وكانت على أيامه عاصمة بلاد فارس واشتهرت بثروتها الكبيرة في البساتين الغنية بالزهور والفواكه. من السطر 13-16 وصف للتناقض الفاجع الذي ينشره الإنسان، وقد شعر به جوته عند مروره بالحقول المزهرة بالخشخاش في مدينة إيرفورت حيث كتب القصيدة في يوم 25 / 7 / 1814م. (9) تباين
تصوير أكثر حيوية للتناقض والصراع الدائر بين الحب والحرب (وكان هذا هو العنوان الذي وضعه الشاعر للقصيدة في البداية) ومارس (المريخ) هو اسم إله الحرب عند الرومان، أما كيوبيد فهو إله الحب المعروف. (10) الماضي في الحاضر
في المقطوعة الأولى نلمس جمال الطبيعة في الصباح وصورة قلعة فارتبورج يوم سفر جوته من أيزناخ إلى فولدا، التي وصل إليها مساء اليوم نفسه مع بداية رحلته في منطقة الراين، ودون فيها هذه القصيدة. والمقطوعة الثالثة تردد لحنا لا يمل الشاعر ترديده، وهي الدعوة للحياة الخصبة الممتلئة في الحاضر، والتوقف عن البكاء على الماضي، ومعرفة الأبدي الذي يتجلى في كل لحظة ويواصل فيها فعله وتأثيره (وربما يكون نيتشه في فكرته المشهورة عن عودة الشبيه الأبدية قد تأثر بهذه الفكرة الأساسية عند جوته، بجانب تأثره بطبيعة الحال بالأصول اليونانية في العصر «المأساوي» السابق لعصر سقراط). (11) أغنية وصورة
تصور هذه القصيدة أسلوب جوته الشعري في مرحلة الشيخوخة بعد تحرره من النزعة الكلاسيكية، فنجده يضع التجسيم - الذي يميل إليه الشعر اليوناني - في مواجهة العنصر السيال الذي يميز في رأيه الشعر الشرقي.
والمقطوعة الثالثة تعبر عن ماهية الشاعر بوجه عام، فالرمز المستمد من الأساطير الهندية عن الموجهة المتكورة مثل كرة البللور (قارن قصيدته القصصية بعنوان: الحكاية الخارقة ضمن ثلاثية باريا) يعبر عن الفن بوصفه إدراك ما لا يدرك، والتعبير عما لا سبيل للتعبير عنه، وتحقيق الحرية من خلال الضرورة والقيود، والارتفاع بالفاني إلى مستوى الخلود.
والسطر التاسع يكرر فكرة جوته الأساسية عن الخلاص عن طريق الفن «إن أعمالي كلها بمثابة شذرات من اعتراف كبير!» وهي الفكرة التي عبر عنها تعبيرا لا ينسى في ختام مسرحيته توركواتو تاسو: «وإذا ما أخرس الإنسان عذابه، وهبني الرب أن أعبر عن عذابي.» (الترجمة العربية لكاتب هذه السطور، الفصل الرابع، المشهد الرابع) وتشبه القصيدة كلها أن تكون وداعا لجوته الإغريقي الذي طالما تعبد الصورة العينية والشكل المكتمل والتمثال المجسم، وعلانا عن بعث الحياة وتجددها في جوته الشرقي الكهل الذي حنت روحه - في سنوات الحرب والاضطراب التي اجتاحت أوروبا وهي تقاوم نابليون! - إلى صفاء الشرق ووحدته حنين الفراشة إلى النور (كما سيأتي هذا في قصيدته حنين مبارك التي تعد درة عقد قصائد الديوان، ومن أروع شعر جوته على الإطلاق). (12) جرأة
الجرأة هنا لا تنطوي على معنى سلبي، وإنما تدل على التحمس للحياة، والثقة بالنفس - إلى حد الإحساس بالرفعة والتفوق! - التي تسود الديوان كله (راجع على سبيل المثال قصيدة لعلكم تلاحظون أن التعاظم، وهي رابع قصائد كتاب الضيق، وكذلك قصيدة تعال، تعال أيها الحبيب، طوق رأسي بالعمامة، والقصيدة التالية لها «قليل ما أطلبه» من كتاب زليخا)، ونلاحظ في السطرين الثالث والرابع، أن الصوت يقابل النغم مقابلة الضد للضد؛ لأن العمل الذي يصوغه التشكيل الفني هو وحده الذي يجلب الشفاء والنجاة للإنسان. ولا بد للشاعر من أن يحيا الحياة ويمتلئ بتجاربها القوية العميقة حتى يستطيع أن يبدع هذا العمل الفني (السطور من 7-10) والقافية المزدوجة في القصيدة الأصلية توحي «بالنغم الأصيل للحياة» الذي يردده السطر التاسع، مؤكدا قوة الفن وقدرته على التشكيل الجمالي والموسيقى. (13) خشن ونشيط
في العنوان تصوير لأصحاب الطبائع القوية الواثقة التي لا تستريح لفضيلة التواضع الاجتماعية. وهنا نجد نفس الثقة والوعي الذاتي لدى الشاعر بعظمته وتفوقه وعلو قدره عن (طريق الشعر بطبيعة الحال!) وبداية الهجوم على الأدعياء والمتفيهقين من الوعاظ وصغار الرهبان (كما في القصيدة الرابعة من كتاب الضيق: لعلكم تلاحظون أن التعاظم لا يمكن نفيه من العالم) وهو يتأثر هنا بحافظ الذي سبقه إلى السخرية من الفقهاء المتشددين والوعاظ الثرثارين، وربما يكون هو الحكيم الذي تذكره القصيدة في المقطع الرابع ويعلم الشاعر التواضع ويحدثه عن الزمان والأبدية. السطر السادس والعشرون: بعيدا عنه، أي بعيدا عن التواضع. (14) حياة كلية
السطر 8: ليس اسم محمود هنا اسم خليفة أو حاكم أو سلطان بعينه؛ إذ حمله سلاطين كثيرون من أشهرهم السلطان محمود الغزنوي. السطر 27-20: الاخضرار علامة الحياة ورمز النماء، وقد صاغ الشاعر الفعل على غير قاعدة معروفة، ووردت الكلمة في قصيدة دعوني أبكي، (وهي إحدى قصائد الديوان التي نشرت بعد وفاته) وكذلك في فاوست الثانية (البيت رقم 8266 الذي يقول فيه الهومونكلوس أو الإنسان العجيب الذي ولد لفاوست من هيلينا جميلة الجميلات عند الإغريق: «هنا يهب نسيم رخي، فيخضر (النبات) وأنعم بالعطر».) وهو يدل على كل حال على التحول نحو حياة جديدة مثمرة، مع التمهيد للقصيدة التالية وهي «حنين مبارك». (15) حنين مبارك
فضلت وصف الحنين في عنوان هذه القصيدة بالمبارك بدلا من السعيد، لأن الكلمة الأصلية
Selig
كانت في الاستخدام اللغوي على عهد جوته أقرب إلى مجال التقوى والإيمان الديني من استخدامها الحالي. راجع قصيدته الطويلة «مرثية» التي تنتمي لشعره المتأخرة، البيت رقم 83 الذي يقول فيه: «إنني أشعر بأنني جزء من هذه القمة المباركة، عندما أقف أمامها» (طبعة هامبورج لأعمال جوته، المجلد الأول، ص384) ويلاحظ على المقطوعة الأولى أن الشاعر يلتزم فيها الحذر؛ لأنه يكتم ما يريد الإفصاح عنه ويحجبه عن الجهلاء والسفهاء، على نحو ما فعل في القصيدة رقم 26 من كتاب الحكم: «إن كنت تحاذر أن ينهبك الناهب ويشينك، فاكتم ذهبك وذهابك واكتم دينك.» وكذلك في الحوار بين فاوست وتلميذه فاجنر (القسم الأول من فاوست، المنظر الأول)؛ حيث يقول فاجنر: «ولكن العالم! قلب الإنسان وروحه! إن جميع الناس يريدون أن يعرفوا شيئا عنهما.» ويرد عليه فاوست قائلا: «أجل، ويا لهذا الذي يوصف بأنه معرفة! من ذا الذي يجوز له أن يسمي الطفل باسمه الصحيح؟ إن القليلين الذين عرفوا شيئا عنه والذين كانوا من الحمق بحيث لم يحافظوا على أسرار قلوبهم، فكشفوا للعامة عن شعورهم وفكرهم، قد اعتاد الناس منذ القدم أن يصلبوهم ويحرقوهم.» هذه القصيدة التي توصف بأنها درة عقد الديوان الفريدة وجوهرته الثمينة، والتي وضعت عنها البحوث والدراسات المتخصصة لسبر أغوارها واكتناه أسرارها، تشبه الجذر الذي تتفرع عن أهم الموضوعات التي يعالجها الديوان، كموضوع الحب الذي يمتد إلى كتابي العشق وزليخا، وموضوع الدين الذي يتغلغل في كتابي البارسي (أو المجوسي) والفردوس (أو الخلد). وليس من قبيل الصدفة أن توضع هذه القصيدة في آخر الكتاب الأول؛ لأن موضوعه يمهد في الحقيقة لوحدة السياق أو البنية التي تربط بين الكتب التالية له، وهو موضوع قلما كشف عنه جوته إلا بمنتهى الحذر (كما فعل في مسرحيته المبكرة بروميثيوس التي لم يتمها، وفي المرثية المتأخرة السابقة الذكر، السطور 73-84)، وكيف يتسنى له ذلك وهو لا يقل عن الصعود إلى المحبوب والمجهول الأعظم شوقا للاتحاد به والفناء في نوره؟
2
والمعروف أن السطور الأولى للقصيدة (أي البيت الأول من الترجمة) يشير إلى أبيات لحافظ الشيرازي يقول فيها: «هل يدري العوام ما قيمة الدر الكريم - كلا! لا تلق الجواهر إلا للعالمين.» ومن المعروف أيضا أن تشبيه النفس أو الروح بالفراشة تشبيه يرد كثيرا في الشعر الشرقي (الفارسي والعربي) وأن عشقها لنور الشمعة الذي يجعلها تطير نحوه ملهوفة للاحتراق فيه، يفسر بمعان صوفية مختلفة، سواء في الشعر «الدنيوي» أو في شعر الحب الإلهي. وينظر جوته بعقلية الشاعر والعالم في ليلة من ليالي الصيف إلى الفراشة التي تلقي بنفسها في لهيب الشمعة، ويتتبع تحولاتها المختلفة فيعتبر أن موتها هو المرحلة العليا والأخيرة التي تسمو فيها إلى كمال وجودها في الوقت الذي يفنى فيه هذا الوجود، أي أنها تحافظ على هويتها وشخصيتها الحقيقية - إذا جاز هذا القول - عندما تتخلى عنها أو تبذلها حين تتجول أو تصير، وهو ما يعبر عنه الأمر الغامض الرهيب في النص الأصلي «وطالما أنك لم تبلغ هذا وهو مت وصر (أو وكن)، فستبقى ضيفا عكرا (أو معتما)، فوق الأرض المظلمة » (ومعذرة عن تصرف الترجمة الشعرية بعض التصرف في هذين البيتين اللذين نقلتهما لك الآن نقلا حرفيا). ولا يذكر الشاعر الفراشة إلا قرب نهاية القصيدة، أما قبل ذلك فهو يبدأ بالثناء على الحي بشكل مطلق، ويوجه إلينا كلامه بصيغة المخاطب المفرد، أي بأنت التي تنتمي إلى الحي الذي يمتدحه، وبهذا نتحد نحن أيضا مع «الأنت» التي يخاطبها، ثم مع الفراشة التي ترمز للوجود المبذول في العطاء الذي ليس بعده عطاء، أي للوجود الذي يتحول بالاحتراق فيكون أو يصير إلى حقيقته، أما المقطوعة الأخيرة فيصعب فهمها وتفسيرها، اللهم إلا أن يكون معناها أننا - نحن الذي يوجه إلينا الخطاب مباشرة - نستطيع أن نحقق هذا الوجود الأكمل في هذه الحياة نفسها، كأنما هي دعوة للوجود في أسمى صوره التي يتحول من خلالها الموجود إلى عين الوجود، من خلال الحب «الحقيقي» الذي توحي القصيدة بأن الذين جربوه على حقيقته هم الفراشة والعاشق والمتصوف. ولعلها أرادت أيضا أن تشير إلى «السر» الذي طلبت منا أن نضن به على الجهلاء والسفهاء، وهو الثلاثة الذين ذكرناهم هم «مثل» الحب المجسدة، أو هم في الحقيقة مثال واحد لمحب واحد أخلص في حبه حتى احترق (كالفراشة) أو فني في ذات الله (كالمتصوف) أو كابد الحب «الأرضي» الطاهر الذي هو في صميمه نوع من الحب الإلهي، وكلها كما ترى دوائر متداخلة مركزها الوحيد هو الحب، أي النواة أو البذرة الأولى التي ينم منها كل ما هو حقيقي وأصيل وفعال، والحديث عن أسرار هذه القصيدة وإيحاءاتها وصعوباته المختلفة لا يمكن أن ينتهي، فلتقرأها وتعايشها أنت بنفسك لتستخرج منها ما تشاء من التفسيرات. (16) إن عود القصب
لاحظ خفوت النغمة وصفاءها في هذه القصيدة بعد التوهج والعنفوان في القصيدة السابقة، وكذلك التلاعب الشرقي - على طريقة الأرابسك! - بعود القصب وعود القلم أو الريشة واليراع.
كتاب حافظ
يعبر هذا الكتاب تعبيرا يفيض بالصدق والحماس عن تقدير الشاعر «لتوءم روحه» الشرقي حافظ الشيرازي وعرفانه بفضله عليه، كما يعبر في الوقت نفسه عن مفهوم حافظ عن الشعر وتكريس حياته له والأدب بوجه عام. وقد وصف جوته هذا الكتاب في إعلانه عن الديوان الذي سماه «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي» في صحيفة الصباح لسنة 1816م التي كان يصدرها ناشر أعماله كوتا بقوله: «ويتبع هذا (أي كتاب المغني أو كتاب الشاعر) كتاب حافظ، وهو مكرس لوصف هذا الرجل العظيم وتقديره وإجلاله.» وفيه كذلك تعبير عن علاقة الشاعر الألماني بالشاعر الفارسي، وتعلقه الحماسي به، وتصويره في صورة الشاعر الذي لا يمكن منافسته أو اللحاق به (ص268 من طبعة هامبورج). كما يقول عنه في تعليقاته وبحوثه عن الديوان في فقرة تحت عنوان «كتاب حافظ»: «إذا كان كل الذين يتكلمون العربية واللغات التي من نفس الأسرة يولدون وينشئون شعراء، فيمكننا أن نتصور أن مثل هذه الأمة قد أنجبت شخصيات ممتازة لا حصر لها. ولكن إذا كان مثل هذا الشعب، على مدى خمسة قرون، لا يعترف بالصدارة إلا لسبعة شعراء، فعلينا أن نتقبل هذا الحكم باحترام، وإن جاز لنا مع ذلك أن نبحث عن الأسس التي يمكن أن يقوم عليها هذا الامتياز.»
وينبغي أن يحتفظ للديوان المقبل بمهمة حل هذه المعضلة بالقدر الذي يسمح بذلك؛ إذ إن قصر الكلام عن حافظ يجعل الإعجاب به والحب له يزدادان بقدر ما تزداد معرفتنا به. فنحن نجد لديه القريحة الممتازة النادرة، والثقافة الواسعة، وسهولة النظم، والاقتناع الخالص بأنه لا يمكن إرضاء الناس إلا إذا غنينا لهم ما يحبون سماعه ويجدونه سهلا وممتعا، كما يمكننا بعد ذلك أن نسمعهم من حين إلى حين شيئا ثقيلا وعسيرا ومؤلما ندسه بين أغانينا. وإذا شاء العارفون أن يروا في الأغنية التالية صورة حافظ ويتعرفوا عليه إلى حد ما، فإن هذه المحاولة ستسعد الشاعر الغربي سعادة خاصة (وهنا تورد الطبعة الأصلية نص قصيدة «إلى حافظ» وهي آخر قصائد هذا الكتاب المسمى باسمه).
الشعار: كان في نية جوته، عندما جمع قصائد الديوان في الثلاثين من شهر مايو سنة 1815م، أن يجعله شعارا للديوان كله، وربما يكون قد استوحاه من الشعار الذي وضعه مترجم ديوان حافظ، وهو فون همر، لترجمته للديوان، وأخذه بدوره من الغزل رقم 109 من حرف الدال وهو: «لم يكشف أحد القناع عن أفكار رائعة كما فعل حافظ، منذ عقصت غدائر الكلم العروس» (عن ترجمة الدكتور بدوي، 96). (1) لقب
يذكر جوته، في الفقرة التي يعرف فيها بحافظ ضمن تعليقاته وأبحاثه التي تعين على فهم الديوان، سبب تسمية الشاعر الفارسي بهذا الاسم، وهو حفظه للقرآن الكريم عن ظهر قلب، وإطلاق لقب «الحافظ» عند المسلمين كنوع من التشريف والتكريم لكل من استظهر القرآن الكريم، وهو لقب بقي لشاعرنا بمثابة اسم له، كما قال في ذلك عن نفسه: «لقد حققت كل ما حققته بفضل القرآن» (انظر التعليقات والأبحاث، ترجمة بدوي، ص409-410).
س21-22:
إشارة إلى ثوب القديسة فيرونيكا أو منديلها الذي مسحت به العرق عن وجه السيد المسيح أثناء صعوده الجبل الذي صلب عليه فانطبعت صورة وجهه عليه. وقد تذكر جوته هذه الحكاية أيضا في القسم الثالث من سيرة حياته «شعر وحقيقة» عندما كان يتكلم عن مشروعه القديم الذي خطط له في 1774م لكتابة مسرحية بعنوان اليهودي الأبدي، ولكن المشروع لم يتم.
س24:
الخالصة هنا بمعنى الصافية من أدران المادة، والمتعالية على الوجود الأرضي.
س25:
يؤكد الشاعر هنا وجه الشبه والقرابة الحميمة التي تجمعه بالشاعر الفارسي، فهو إذا لم يكن قد حفظ الكتب المقدسة (التوراة والإنجيل) عن ظهر قلب، فقد أحبها وقرأها بعناية وانطبعت في نفسه منذ صباه، واستشهد بالكثير من آياتهما كما جرت عادة البروتستنت الأتقياء، وذلك على الرغم مما لقيه من الجحود والاستهزاء من جانب المجدفين والمنكرين للعقيدة - كبعض أصحاب النزعات التنويرية والعقلانية المتطرفة في عصره أو بعض المتطرفين في الاعتقاد والإيمان - مثل صديقه لافاتر (1741-1801م) الذي دب الخلاف معه فيما بعد، أو بعض المتشددين والمتزمتين من رجال الكنيسة الذين كانوا يحلو لهم التشكك في صدق إيمانه وينكرون عليه إعجابه بالإسلام والمسلمين. (2) اتهام
تواصل هذه القصيدة طرح السؤال الذي طرحته القصيدة السابقة عن العلاقة بين الشعر والدين، كما ترتبط بالقصائد الثلاث التالية لها، وهي تعبر على العموم عن زعم المتشددين بأن الشعر لا يلتزم بمبادئ الشريعة وأصول الدين الصحيح.
س11:
القفار أو القفر هنا بمعنى الخواء أو العدم، وقد وردت الكلمة الأصلية أيضا
Öde
في إحدى القصائد المتأخرة التي جعل عنوانها «كلمات أصلية أورفية» وهي قصيدة الحب (إيروس) البيت الثامن عشر: إنه لا يتأخر! فهو يندفع هابطا من السماء، حيث حلق إليها فرارا من القفر القديم (طبعة هامبورج، المجلد الأول، ص360).
سطر 22:
ميرزا هو الاسم الذي يطلق على عدد من شعراء الفرس الذين لم يقصد جوته واحدا منهم بعينه، وكلمة ميرزا اختصار لكلمتي أميرزاده أي ابن أمير، وقد استوحى جوته مطلع القصيدة (من س15-1) وروحها العامة من الآيات الكريمة في سورة الشعراء:
هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون * والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون (الشعراء، الآيات من 221-226). وقد ذكر الآيات الكريمة مترجم حافظ، وهو يوسف فون همر، في الجزء الثالث من «كنوز الشرق»، ص255. (3) فتوى
أصدر هذه الفتوى أبو السعود أفندي (1490-1574م) المفتي الأكبر في عهد السلطان سليمان الأول بالآستانة، حين رفعت إليه شكوى في حق حافظ، بعدم قراءة شعره، فأفتى أبو السعود بضرورة تمييز الذوق الصحيح بين الأبيات الواردة في أشعار حافظ، لتبين كلمات الحق من حكم واثقة ونكت فائقة، والجزافات الخارجة عن نطاق الشريعة الشريفة، وعدم حسبان السم الزعاف ترياقا، وهذه الفتوى ترجمها فون همر إلى الألمانية في مقدمة ترجمته لديوان حافظ، ونقل جوته مضمونها نقلا شاعريا أمينا (انظر تفصيل ذلك في شرح بدوي للقصيدة، ص99-100 من ترجمته) ويبدو أن شاعرنا رحب بهذه الفتوى وتوقع منها الخير لديوانه؛ إذ إنها تنصح القراء بتحكيم حاستهم النقدية فيه، والتنبه إلى أن الكلمات ليست في ذاتها مصدر الضرر، بل أفعال الناس التي يتحملون وحدهم المسئولة عنها. (4) الألماني يقدم الشكر
تتصل هذه القصيدة بالقصيدة السابقة اتصالا وثيقا، وتؤكد ما جاء فيها من ضرورة النظر إلى العمل الشعري ككل والحكم عليه من زاوية المشاعر والأفعال التي ينطوي عليها، وكأن الشاعر يأمل - كما سبق القول - أن تطبق الفتوى على قصائد ديوانه، وأن يتوخى الناس العدل، والإنصاف في الحكم عليها ويعذروا الشاعر إذا حاد أحيانا عن جادة الصواب من وجهة نظر الشريعة وعلمائها، وذلك بسبب إقباله على الحياة الخصبة التي تتيح له التحليق والانطلاق، فالحياة الحقة هي «البراءة الخالدة للفعل.» (5) فتوى
هذه فتوى تركية - كما جاء في عنوانها الأصلي تمييزا لها من الفتوى الفارسية السابقة - وقد عرفها جوته من الترجمة الألمانية (التي قام بها هاوسلويتنر لكتاب توديريني «أدب الترك» وصدرت في مدينة كونجسبرج سنة 1790م، ج1، ص207) وهي تنطوي - إذا جاز هذا القول - على حكمة «سليمانية»؛ إذ تحرم على الرجل العادي أن يفكر أو يعبر كما يفعل الشاعر مصري، ولكنها تحلل ذلك للشاعر نفسه؛ لأن شعره هبة من الله، وهو حر ومسئول مباشرة أمامه سبحانه عن طريقة استخدامه لها. ومن ثم يرفض المفتي - بإشارته إلى عذاب النار - مضمون القصائد في ذاتها، سواء بالنسبة لنفسه أو للآخرين، ولكنه يسمح «لمصري» أن يكتب كما يشاء. وبهذا الاعتراف باستقلال الفن وكرامته وحريته تختتم القصائد الخمس الأولى التي دارت حول العلاقة بين الشعر والشاعر من الناحية، والتدين الصحيح ورجال الدين من ناحية أخرى، ومصري (الذي عاش من حوالي 1617م إلى 1699م هو مؤسس إحدى الطوائف الصوفية التي اتهمت بإثارة الفتن والضلال). (6) بغير حدود
تعد هذه القصيدة - بعد كل الأبيات السابقة التي وجهها الشاعر إلى حافظ - بداية اللقاء الحقيقي مع توءم روحه الفارسي. والموضوعات العديدة والألوان الزاهية التي تزخر بها تعبر عن شعر حافظ نفسه بما فيه من زخرفة وانسكاب وسيولة وتتابع دوري أو دائري (من س6-1) وتعدد للأغراض التي يتناولها (من 7-12) ثم تأتي الفرحة والتهليل للقاء بين الشاعرين «التوءم» (من س8-13) والوعود التي يبشر بها الشاعر الغربي نفسه من هذا اللقاء: فهو ينتقل الآن من أسلوبه الشعري الكلاسي المحدد كالخط صعودا وهبوطا إلى أسلوب آخر تتسم به أعماله المتأخرة في الكهولة والشيخوخة، وهو الانسياب في دوائر متداخلة بلا بداية ولا نهاية محددة (س4) والانعكاس المتبادل للموضوعات المختلفة أحدها على الآخر، كأنها مرايا متداخلة في حوار متواصل بين الصور والأشكال، بغير التزام بالتشكيل الصارم والتطور المنطقي للأفكار والوحدة المكتملة (راجع القصيدة رقم 13 من كتاب المغني وهي الغوص في مياه الفرات، والسباحة هنا وهناك، في هذا العنصر السيال) وهكذا تتولد أغنية «جديدة» من هذا اللقاء الفريد، ويتجدد معها شباب الشاعر الكهل وشباب شعره، لا سيما بعد أن يجرب تجربة الحب ل (مريانة فيلليمر) التي تخرجه من شتاء الحكمة الباردة إلى ربيع الأمل القصير العمر، هنا تصبح الأغنية الجديدة التي تردد أنغاما جديدة هي نفسها أغنية قديمة؛ لأن صاحبها «يستروح نسيم الآباء» (س4 من قصيدة هجرة أولى قصائد كتاب المغني) بعد «هجرته» الروحية إلى «الشرق الطاهر». (7) محاكاة
إن الإعجاب بحافظ والاقتراب منه ومنه شعره، لا يعني على الإطلاق أن يقلد الشاعر الغربي صنعته الشكلية المقيدة بالأوزان والقوافي، بل يعني أن يحاكيه محاكاة حرة يتأثر فيها بروحه كما تأثر بروح الشرق بوجه عام مع بقائه «هو نفسه» وحرصه على أن «يصبح ذاته»، والواقع أن جوته قد رفض تقليد ما سماه بالصنعة الميتة أو الشكل الميت (س17) ورأى أن تلك القيود الشكلية ليست إلا أقنعة جوفاء (س16) سرعان ما تتقزز منها النفس لأنها بلا معنى ولا دم (وإن كان ذلك - ربما على سبيل اللعب الذي نصادفه كثيرا في الديوان! - لم يمنعه من تقليد «الغزل» الفارسي وتكرار القافية في عدد قليل جدا من القصائد التي سنشير إليها في حينها) - والمهم أنه لم يسمح لشعر حافظ ولا غيره من شعراء الفرس والعرب أن يغريه بتقليده والتقيد به تقيدا يعصب عينيه عن حقيقته وحقيقة شعره - كما فعل الشاعر المستشرق ركرت والشاعر الرومانسي بلاتن اللذان سبق الحديث عنهما - وربما يكون جوته قد تعرض بعض الوقت للتأثير الطاغي للشعر الشرقي وشعر حافظ بوجه خاص، وربما أحس بأنه يفترسه ويضغط عليه إلى حد الاختناق، ولذلك لجأ (كما يقول الناقد الكبير ماكس كوميريل في كتابه أفكار عن قصائد، فرانكفورت، 1943م، ص256) - إلى الاستعارة المخيفة عن حريق موسكو في شهر سبتمبر 1812م للتعبير عن العاصفة التي كادت أن تجرفه والشرارة التي كادت أن تحرقه لو استسلم لتقليد الصنعة الشرقية، ومع ذلك، فإن هذه القصيدة نفسها لا تخلو هي والقصيدة السابقة من محاولة الشاعر الاقتراب من شكل «الغزل» الفارسي، كما أن عنوانها نفسه يكرر كلمة المحاكاة، ويبدو أن هذه الحيرة إلى حد التمزق بين ضرورة التقليد وحرية المحاكاة الخلاقة قد عذبت الشاعر أثناء استعداده للدخول في عالم الشرق، قبل أن يتخلص منها بالرجوع إلى ذاتيته الشعرية والوجودية الحقة. وليس مصادفة أن نجده يسجل في يومياته بتاريخ 7 / 12 / 1814م هذه الملاحظة: حافظ والتقليد. ولعل مرجع هذا - كما قلت - إلى أنه كان لا يزال في بداية تجربته الشرقية وتجربة اللقاء مع الشعر الشرقي، وليت المجددين عندنا - وأقصد الأصلاء والصادقين لا الأدعياء المقلدين تقليد العبيد والقرود للنماذج الغربية أو حتى المحلية في مختلف الأشكال الأدبية والفنية - ليتهم يفكرون قليلا في هذه التجربة التي مر بها شاعر عظيم وكادت أن تعصف به أو تحرقه على حد قوله، لولا أنه تمسك بذاتيته الفنية (الفردية والجماعية) قبل أن يفوت الأوان كما فات الكثيرين. (8) سر مكشوف
هذا تعبير أثير عند جوته، وهو يقصد به كل ما هو عجيب يبرز للنور ، ولكن العادة والتحيز يمنعان الناس من رؤيته، ولذلك بقي بالنسبة للعارفين سرا نقيا يبهج قلوبهم، وكأن سوء فهمه أو عدم فهمه من قبل الجهلاء والأغبياء يحميه من التطفل عليه، وكأن العنوان الذي وضعه جوته لهذه القصيدة في البداية هو «اللسان الصوفي» (متأثرا في ذلك بما قاله مترجم حافظ - فون همر - عن تلقيب الشراح الشرقيين لحافظ بلسان الغيب - بدوي، ص107 عن ترجمة همر، ص33)، فكأن اتجاه بعض شراح حافظ المتشددين من الناحية الدينية لتفسير شعره تفسيرا مجازيا من حيث المعنى الصوفي الباطن لا المعنى الحسي والدنيوي الظاهر قد أغضب جوته، فراح يدافع عن إيمان حافظ الذي لم يفهموه فهما صحيحا (راجع الأبيات، من 9-12)، كما دافع في مواضع أخرى من كتاباته - ومنها تعليقاته على الديوان الشرقي - عن نشيد الإنشاد الذي فسره بعض المتشددين المسيحيين تفسيرا دينيا باطنا، فالحب في رأيهم هو الحب الإلهي، والخمر هي معرفة الحقائق الإلهية، أما هو فيرى في هذا إساءة فهم لنشيد الأنشاد ولشعر حافظ على السواء، وأن ذلك الفهم المجازي والصوفي يرجع «لفقهاء الألفاظ» الذين لم يعرفوه على حقيقته، لأن ما هو إلهي موجود وجودا مباشرا في كل ما نجربه وندركه ونحياه ولا يحتاج لافتراض الثنائية العتيدة التي تقسم العالم إلى ظاهر وباطن وجسد وروح ودنيا وآخرة (وذلك تمشيا مع رؤيته الكونية والدينية الشاملة وإيمانه بوحدة الوجود) ومن هنا بقي مع حافظ في رأيه متدينا ومتصوفا تصوفا نقيا خالصا، ولكن بمعنى التصوف الطبيعي الذي تأثر فيه جوته بفلسفة اسبينوزا (انظر السطر التاسع الذي اختلف الشراح حوله اختلافا شديدا لا يتسع المجال لتفصيل القول فيه). (9) تلميح
يبدو من البيت الأول في هذه القصيدة أنها مناقضة للقصيدة السابقة، وكأن الشاعر يستدرك خطأ وقع فيه. غير أن الحقيقة غير ذلك، فهو يؤيد الشراح والمفسرين الذين أخذوا شعر حافظ مأخذا مجازيا باطنيا من جهة أنه - أي حافظ - ليس مجرد شاعر دنيوي وواقعي كما قد يفهم من القصيدة السابقة، لكنه يرجع فيقول إن أصحاب التفسير الباطني والمجازي قد أخطئوا عندما فهما الغادة الحسناء على أنها «شفرة» أو علامة لغوية دالة على الحب الإلهي، كما أخذوا الخمر على أنها هي الوجد الصوفي. والحقيقة أن الواقعية الخالصة والمجازية المحضة مخطئان، والأصح هو التفسير الرمزي: فالحب هو الحب الأرضي والواقعي، إلا أنه يشير كذلك إلى ما وراءه، وما فوقه، يحيل إلى الأبدي الذي يعلو عليه. فالخمر هي الخمر التي تملأ شاربها نشوة وحماسا، لكن النشوة والحماس يرتفع به إلى رؤية الحقيقة الدينية والإحساس بما هو باق وخالد. ولو لم يكن الأمر كذلك ما تحمس جوته لحافظ ولا تصور أنه قريب منه، ولا أستلهمه ديوانه الشرقي كله! أما التناقض أو التعارض فهو - في تقديري المتواضع - نوع من اللعب الذي سبق أن ذكرت أنه سمة غالبة على الديوان، ومن قبيل اللعب المرح أن يكون عنوان القصيدة هو «لمحة» أو «تلميح» كما كان عنوان القصيدة السابقة عن سر لكنه مكشوف، وهكذا لا يحل جوته المشكلة، وإنما يحولها على عادته إلى تشبيه أو صورة أو رمز. (10) إلى حافظ
في هذه القصيدة التي يختم بها كتاب حافظ تلخيص وتجميع للموضوعات أو «الموتيفات الأساسية التي يزخر بها عالم حافظ، وكان لها تأثير طاغ ومحبب على شاعرنا الذي وصفه بأنه توءم روحه ولم يستنكف أن يجعل نفسه تابعا له وتلميذا يتعلم منه، والقصيدة تلخص كذلك كل ما سوف تجده موزعا على كتب العشق والتفكير وزليخا والساقي ... إلخ. فنحن نجد فيها الحنين إلى الحب (س1-6) وقدر الحرب المؤلم السار (س7-8) وشخص الحبيبة ووجهها وعودها المتثني كغصن البان (س9-16) ووجهها الذي ينور القلب (س17-22) وغناءها العامر بالبهجة والصدق (س23-28) والخمر وما تفعل فيه نارها (س33-36) والغلام المحبوب أو الساقي (س37-40) والعلاقة الحميمة بينه وبين الشاعر، وهي علاقة أبوية وتعليمية مختلفة عما نجده كثيرا في الشعر الفارسي والعربي (س41-44)، ثم حضور الحكيم أو جماعة الحكماء والمفكرين لمجلس الشراب (س45-48) وتأثير الشاعر حتى على الأمراء والساسة والحكام مثل شاه شجاع بالنسبة لحافظ وكارل أوجست أمير فيمار بالنسبة لجوته (س49-52). وتتوالى الموضوعات والصور التي ينسكب أحدها في الآخر بخفة ولطف على طريقة الشعر الشرقي، بحيث يتولد أحدها عن الآخر أو يفيض منه. لاحظ الصور والاستعارات الشرقية التي ينضدها الشاعر الغربي صورة بعد صورة، فالحبيبة الفاتنة شجرة سرو متقلبة المزاج (س12) ولها رائحة طيبة تفوح منها (س31-32) إلى آخر هذه الصور التي يألفها الشرقي والغربي بوجه خاص من شعرائه من الجاهلية إلى اليوم، ويبقى الشاعر في النهاية هو توءم صاحبه ومعلمه الشرقي، على نحو ما أكد بوضوح في قصيدة سابقة من هذا الكتاب (بغير حدود، س15-16): فلنشترك معا، نحن التوءمين، في الفرح والألم ...» والجدير بالذكر أن القصيدة كتبت في كارلزباد في الحادي عشر من شهر سبتمبر سنة 1818م، بعد أن تم طبع كتاب حافظ، ولذلك أدمجها الشاعر في تعليقاته وأبحاثه الملحقة بالديوان.
كتاب العشق
يقدم هذا الكتاب أشكالا مختلفة للحب السعيد والحب الشقي، للوعة الحب وعذابه، ومداعبه المحبوب وملاطفته، وذلك في خلال شخصيات شرقية متنوعة تجسد معجزة الحب في عمومها. وهو يعد تمهيدا لكتاب زليخا، كما ترسم قصائده في الوقت نفسه نموذجا مضادا له ، إذ إن الكتاب الأخير يصور تجربة كونية شاملة. ويعرف جوته بهذا الكتاب في التعليقات والأبحاث فيقول: «كان من الممكن أن يتضخم هذا الكتاب لو ظهر فيه العشاق الستة بأفراحهم وآلامهم على نحو أكثر صراحة، وانضم إليهم عشاق آخرون من الماضي المظلم بصورة تزيد أو تقل عن ذلك وضوحا. فوامق وعذراء على سبيل المثال، اللذان لم يصل إلينا من أخبارهما غير اسميهما، كان من الممكن أن يقدما هكذا» (وهنا يورد جوته القصيدة الثانية في هذا الكتاب، وهي زوج آخر) والكتاب يصلح أيضا للاستطرادات الرمزية التي لا يستغني عنها في ربوع الشرق. واللبيب الذي يقنع بما يقدم إليه، ينظر إلى كل ما يقع تحت حواسه بوصفه نوعا من التخفي وراء الأقنعة تختبئ خلفه، بطريقة ماكرة وعنيدة، حياة روحية أرفع مستوى، وذلك لاجتذابنا وإغرائنا بالتحليق في مناطق أكثر نبلا. وإذا استطاع الشاعر هنا أن يسير بوعي واتزان، فإننا نتقبل منه ما يقدمه ونسعد به، ونصمم على التحليق معه بقدر ما تستطيع أجنحتنا (ص196-197 من طبعة هامبورج، وكذلك ترجمة بدوي ص454)، كما قال الشاعر عندما أعلن عنه في صحيفة الصباح سنة 1816م: «يعبر كتاب العشق عن وجد مشبوب بموضوع خفي مجهول، وكثير من قصائده لا ينكر الطابع الحسي، ولكن الكثير منها يمكن أن يفسر تفسيرا روحيا على طريقة الشرقيين.» (1) نماذج
تقدم القصيدة ستة أزواج من العشاق المشهورين في قصص الحب الشرقية (على نحو ما يرى الغربيون مثلا عن فيلمون وباوكيس، ترستان وإيزولده، وروميو وجوليت ... إلخ).
وزال وروذابه تحدث عنها الفردوسي في الشاهنامه، وروى كيف احترق قلب البطل وقلب الجميلة بالحب بعد سماع كل منهما بالأخبار التي تحكي عن الآخر، ثم زاد حبهما اشتعالا بعد لقائهما. وقد كان رستم البطل الفارسي الشهير هو ابنهما، وخلط جوته سهوا بين اسم الأب وابنه. والكلمة تطلق شررا يشعله الحب (في البيتين الثالث والرابع) تعبيرا عن إمكان التدله في الحب بمجرد سماع أخبار الحبيب أو معرفة أوصافه (كما يحدث اليوم من قصص العشاق بالمراسلة!) أما يوسف وزليخا (س6-8) وهما النبي يوسف وامرأة العزيز (فوطيفار)، فقصتهما معروفة من العهد القديم (39-1) والقرآن الكريم، وقد شاعت القصة في الشرق ومرت بتحولات كثيرة وكتبها عبد الرحمن جامي بالفارسية (يوسف وزليخا)، وأصبح حبهما رمزا للحب العذري الطاهر الذي ينتهي بالمحبوبة التي حرمت من إشباعه إلى حب الجمال في ذاته ثم إلى الحب الإلهي والزهد والإيمان.
وفرهاد وشيرين، واللذان عرفهما جوته من كتاب فون همر: («شيرين» قصيدة فارسية عاطفية مأخوذة عن المصادر الشرقية، 1809م) وهي قصة حب النحات والمعماري فرهاد للأميرة شيرين زوجة الشاه خسرو الثاني (590-628م) أحد الملوك الساسانيين وقد وعد الملك بأن يزوجها له، بشرط أن يشق بمجهوده وحده طريقا داخل جبل بيسيتون الوعر. ويحقق فرهاد الشرط الذي بدا للملك مستحيلا، ولكيلا يضطر الملك لتنفيذ وعده، يرسل أحد أفراد حاشيته إلى فرهاد المقيم بالجبل بنبأ كاذب عن وفاة شيرين، فيقتل المثال نفسه ببلطة أو بإلقاء نفسه من فوق الجبل، مما جعل شيرين أيضا تنتحر حزنا عليه، ولذلك صارا رمزا للحب مع الحرمان (س9).
وقصة ليلى والمجنون (قيس بن الملوح) أشهر من أن نعرف بها، ويبدو أن جوته قد اطلع عليها في ترجمة المستشرق هارتمان للقصة التي كتبها عنهما الشاعر الفارسي جامي (أمستردام 1808م). أما جميل وبثينة فقد قرأ جوته عن غرامهما الذي استمر حتى سن متقدمة في معجم هربوليه (المكتبة الشرقية، باريس 1781-1783م وترجمة ي. شولتس للألمانية 1785م). وقد ذكرهما جوته في قصائد أخرى مثل قصيدة سر أعمق من هذا الكتاب (س20-18) وفي كتاب الضيق وكتاب زليخا «لو تبعت ليلى والمجنون هديتهما درب الحب.» كما ذكر المجنون في إحدى القصائد التي ضمت بعد وفاة جوته إلى الديوان، وهي قصيدة «ما عدت أكتب أبياتا متجانسة على ورق الحرير».
وأخيرا نصل إلى قصة سليمان والسمراء التي عرفها من العهد القديم (نشيد الأنشاد الذي تذكر فيه باسم سولاميت، وكذلك من قصة شيرين التي سبق ذكرها وترجمها فون همر) وربما كانت هذه السمراء هي بلقيس ملكة سبأ التي ورد اسمها أيضا في قصيدة «تحية» من هذا الكتاب: «قلت له يا هدهد، الحق أنك طائر جميل، أسرع إذن يا هدهد، أسرع لتعلن للحبيبة أنني أحبها حبا أبديا، لقد سبق لك أيضا القيام بدور رسول الغرام، بين سليمان الحكيم وملكة سبأ» (س11-20). (2) زوج آخر
ترجع قصة هذين العاشقين - وامق والعذراء - إلى قصة فارسية قديمة من أصل فهلوي سبقت الفتح الإسلامي بعهد طويل، ويقال إنها قدمت في نيسابور إلى الأمير عبد الله بن طاهر - المتوفى سنة 330ه/844م - على هيئة كتاب قديم مهدى إلى خسرو الأول أنوشراون (531-579م) وأن الأمير عبد الله أمر بإحراقها لأن كاتبها زرادشتي (راجع قصتها وصيغها وترجماتها المختلفة إلى التركية في تعليق بدوي، ص119-120). ولعل أهم ما لفت انتباه جوته إلى قصة العاشقين أن أخبارهما اختفت تمام الاختفاء، وأن الناس ظلوا يذكرون اسمهما رمزا للحب الصادق. وقد ضاعت الروايات المختلفة لهذه القصة، وكانت إحداها لفريد الدين العطار، وقدمها فون همر في صياغة ألمانية بوصفها أقدم قصيدة فارسية رومانسية تحت عنوان : «المتوهج والمزدهرة». (3) كتاب مطالعة
يمكن القول عن هذه القصيدة إنها إعادة إبداع لقصيدة سبق أن أبدعها الشاعر التركي نيشاني (الذي عاش على عهد سليمان الأول سنة 1519-1566م) وقرأ جوته ترجمتها في كتاب هينريش فون دييتس (ذكريات من آسيا) ومع ذلك يمكن القول أيضا بأنها احتفظت بطابع شعر التجربة الشخصي عند جوته، وأن اعتماده على النموذج الأصلي لم يقلل من النغمة الحزينة الأسيانة التي تكسوها وتعبر عن نفسها بالإيقاعات الحرة (على البحر التروخايي من ثلاث وأربع أنغام صاعدة)، بحيث يمكن أن توضع بجوار قصيدة «عزاء سيئ» الواردة في هذا الكتاب ولا تقل عنها حزنا واكتئابا، وإذا كان دييتس قد فسر الحب والمحبوب بأنهما إلهيان، وأن كل سطر في القصيدة يتحدث عن الحب الإلهي، فإن جوته قد حولها إلى قصيدة حب دنيوي وإنساني خالص.
وجديد بالذكر أنه قد خلط سهوا وربما عن قصد في النص الأصلي بين نيشاني ونظامي الشاعر الفارسي الذي عاش قبل الشاعر التركي بأربعمائة سنة، وقد صححنا الاسم في الترجمة. (4) أجل كانت هي العيون
تفيض القصيدة بالحنين ولوعة التذكر «لنعيم الفردوس» الذي جربه مع حبيبته مريانة فون فيلليمر، ويرجع تاريخ كتابتها الذي أثبته جوته - بغير أن يثبت السنة - إلى 1 / 12 / 1818م ولكنها لم تنشر ضمن كتاب العشق إلا في طبعة 1827م. (5) تحذير
يبدو أن جوته قد استلهم القصيدة من (موتيفة) أو موضوعة متكررة في شعر حافظ الشيرازي: «في شباك غدائر أسر قلبي.» وقد اطلع عليها في بعض غزلياته التي قرأها في ترجمة فون همر. والقصيدة تشير إلى «المودة» المنتشرة بين نساء عصره اللائي يعقصن شعورهن على هيئة خوذة فوق الرأس (س7)، وذلك على العكس من نساء الشرق اللائي يرسلن شعورهن على ظهورهن، مما يجعل الشاعر يميل إلى حبائلهن المرسلة الخفيفة، وربما تشير كلمة الخوذة أيضا إلى الفتيات اللاتي شاركن في حروب التحرير من قبضة نابليون وهن متنكرات بلبس الخوذات على رءوسهن. (6) غريق
ربما صح القول بإن هذه «قصيدة لحظة» جاءت وحي لحظة غرق في لذة الحب والعناق والسعادة الحسية بملاطفة المحبوب، وقد اقترنت أيضا بصياغات لغوية جديدة، فالقوس (في السطر الخامس) كناية عن الحاجبين، والمشط بأسنانه الخمس هي اليد (السطر السابع). (7) أمر محير
كانت المعتقدات القديمة تنسب للزمرد القدرة على شفاء العيون ومداواة جراح القلوب (س11-12)، وكذلك العذاب من الحب يحمل في طواياه الخطر بقدر ما يحمل الفرح والانتعاش، ومن الواضح أن هذا التلاعب بالمعنى الظاهر الذي يخفي معنى باطنا مختلفا عنه إلى حد التضاد معه يدل على أسلوب الديوان بوجه عام، والألم والندبة (س7) يدلان في التصورات الشعبية في ذلك الحين على صفات الأحجار الكريمة. والقصيدة مهداة لابنة دبلوماسي هولندي كان صديقا لجوته، وهي بتي سترتك فان لنشوتين (1800-1846م). (8) أيتها المحبوبة آه
الظاهر أن جوته كتب هذه القصيدة في إهدائه لنسخة مجلدة من الديوان إلى مريانة. وعلى الرغم من الخفة التي تسود القصيدة، فهي تخفي وراءها أفكارا عميقة، تعبر عن التضاد بين لا نهائية الباطن التي تنبع منها أغنيات الحب، وبين ثبات الحروف المطبوعة وجمودها. أضف إلى ذلك الإحساس الذي يشبه الارتجاف أمام هذه التجربة التي تطمح للأبدية وتشعر كذلك أنها أبدية، ومع هذا فهي معرضة للفناء والزوال، ومن ثم هذا التقييم الجديد للكتاب (الديوان) أو بالأحرى للشعر الذي يفترض فيه أنه يلغي الزمان أو على الأقل يوقفه لكي يعود فيرتفع بنا إلى مملكة الحرية (السطران 2، 3) وآفاق السماء الصافية هنا تعبير شاعري عن جمال المنطقة الواقعة بين نهري الرين والنيكر. (9) عزاء سيئ
لو خلا الديوان من النغم اليائس الحزين ما استطاع أن يصور الإنسان والحب في وحدتهما الكلية، فلا عجب أن نجد هذه القصيدة في كتاب العشق كما وجدنا قبلها «كتاب مطالعة» في الكتاب نفسه، وسنجد قصيدتي «ترجيع» في كتاب زليخا و«دعوني أبكي» في القصائد المنشورة بعد وفاة الشاعر.
وكم تغنى جوته في شبابه بقصائد الألم والحسرة والعذاب، لكن الكهل الذي يغني اليوم غناءه الحزين وهو في الخامسة والستين من عمره لا يفعل هذا بغير قدر من الدعابة مع الذات أو من السخرية بها، وكأن عنصر التأمل في المرأة قد أضيف بحكم السن وإن لم يقلل من عمق الألم بحال من الأحوال.
ولعل ما يربط هذه القصيدة بالقصيدة التي سبقتها مباشرة هو أن ما وصفتاه «باللانهائية الباطنة» يصطدم هنا أيضا بقانون التناهي والفناء الذي يخرج منتصرا من كل معركة، وإذا كانت القصيدة السابقة تبقي على أمل البقاء والحرية والخلود للشعر، فربما غلبه الحزن الفاجع هنا على هذا الأمل وكاد أن يقضي عليه كما قضى على حكمة الشيخ الغارق في مواجع الحب (س11) فهوى به في قاع اليأس العدمي الذي يتجلى في نغم القصيدة: فهو ثقيل بطيء، مفعم بفجوات الصمت، وبالإيقاعات الحرة التي حاولت الترجمة أن تستعيدها محاولة أرجو ألا تكون بدورها يائسة، والجدير بالملاحظة أن القصيدة تستبق مرثية «مارينباد» التي كتبها الشاعر في أواخر حياته، وأشباح الليل أو أطيافه مألوفة في الشعر الفارسي والعربي، وكذلك في العهد القديم (قارن سفر أيوب، 17-13-4). (10) تحية
تتميز بالإيقاعات الحرة المتدفقة في حيوية عن الإيقاعات الخافتة الخامدة التي تناسب نغمة الحزن المظلم في القصيدة السابقة. كتبها جوته في اليوم التالي لوصوله إلى المنطقة المحيطة بموطنه ومسقط رأسه في مدينة فرانكفورت حيث كانت تعيش الحبيبة أيضا، ويبدو أنه رأى هدهدا على الطريق فحمله رسالة حبه إليها، متأثرا في ذلك بقصة الهدهد مع سليمان وملكة سبأ، وبموضوع الهدهد الذي يتردد كثيرا في الشعر الفارسي، وبخاصة في شعر حافظ الشيرازي وكذلك في القرآن الكريم، سورة النمل: 20-44.
والملاحظ أن جوته لم ينس الجيولوجي الكامن فيه أثناء تجواله، كما نرى في السطرين الرابع والخامس، إذ كان من عادته في كل أسفاره أن يجمع المعادن والرواسب المتحجرة. (11) تسليم
عودة إلى رمز الشمعة (س1-2، 6) الذي يعبر - في لغة جوته - عن ظاهرة أولية أو أصلية للحياة. راجع كذلك قصيدة «حنين مبارك» التي سبق الحديث عنها في التعليق على قصائد كتاب حافظ (رقم 17). (12) سر أعمق
تسخر القصيدة في البداية من صيادي النوادر والأخبار «الذين يفتشون في أعمال الشاعر عن الجوانب التي تتعلق بسيرة حياته بدلا من البحث في أسرار إبداعه وصنعته.» لهذا يقول لأمثال هؤلاء المتطفلين إنهم لن يعرفوا شيئا عن تلك الحبيبة، التي يتكتم اسمها ورسمها ويحيطهما بهالات الأسرار، وحتى لو عرفوها فسوف يصيبهم الفزع، سواء لعلو مقامها أو لفتنة جمالها، وقد بقي سر هذه القصيدة لغزا غامضا حتى كشف عنه ه. دونتسر في سنة 1885م؛ إذ بين أن المحبوبة - التي هام بها جوته حبا بلغ حد العبادة وكتم اسمها عن الجميع كما عاهدها بنفسه على ذلك - لم تكن إلا إمبراطورة النمسا الفاتنة ماريا لودوفيكا (1787-1816م) وهي الزوجة الثالثة لفرانز الأول قيصر النمسا. وقد التقى بها جوته أكثر من مرة في عامي 1810م، 1812م، أثناء إقامته في كارلزباد وتيبليتس للاستشفاء، وحافظ على العهد الذي قطعه لها - بناء على رغبتها عن طريق وصيفتها الدوقة «أودنيل» - فلم يذكرها في أعماله من قريب أو بعيد، ولما التقى راعيه وأميره كارل أوجست - أمير فيمار - بالإمبراطورة في مؤتمر فينا سنة 1815م، سألته عن الشاعر وحملته تحياتها الحارة إليه.
سعد جوته أيما سعادة بهذه الرسالة على لسان الأمير، ولكن هل استطاع أن يفي حقا بوعده؟ ألا تعلن القصيدة عن حبه السري العميق من خلال الحرص الشديد على كتمانه؟ وهنالك بعض التوازيات التي تتجاور في القصيدة على هيئة الأضداد المترابطة، فالسادة الأعزاء النهمون لكشف الحجاب عن سره سيتولاهم الفزع إذا رأوا الحبيبة أمامهم، وشهاب الدين عمر (بن عبد الله بن عمويه) السهروردي شيخ مشايخ الصوفية في عصره (539-632ه/1145-1234م) وصاحب الكتاب الشهير عوارف المعارف - الذي يروي جوته قصته عنه - من كنوز الشرق عن الترجمة التي قام بها أحد تلاميذ المستشرق الفرنسي سيلفستر دي ساسي وهو جرانجيريه دي لا جرنج، ج4، ص170، وهي أنه كان يصعد جبل عرفات في آخر حجة قام بها، فلما رأى خلقا كثيرا قد تبعه قال لنفسه: أوتحسبن أن مكانتك عند الله كما يتصورها هؤلاء الناس؟ هنالك ظهر أمامه عمر بن الفارض وقال له: إني أحمل إلى قلبك رسالة سعيدة. اخلع ثيابك (كي تظهر شكرك لله). لقد كنت موضوع تفكير من تهواه، على الرغم من كل ما فيك من عيوب ونقائص. فخلع الشيخ شهاب الدين ثيابه ودخل الحرم. هذه القصة كلها ترمز للمكانة العالية التي كانت تحتلها الإمبراطورة الشابة في قلبه، فقد سأل عنها أميره في لهفة، ورد عليه الأمير في رسالة بتاريخ 16 / 1 / 1885م ردا يشبه ما قاله عمر بن الفارض للسهروردي، فكتب إليه جوته في التاسع والعشرين من نفس الشهر قائلا إن أعظم سعادة ينالها الشرقي «هي أن تسمح محبوبته بأن يذكر اسمه أمامها» (س17-20). أما الموازاة مع قصة مجنون ليلى الذي أبى أن يذكر اسمه أمامها ربما بسبب العداوة الناشية بين قبيلته وقبيلتها، فهي موازاة أخرى ضدية، لأن الشاعر قد أعفى من هذا الحظ السيئ الذي يصفه بأنه أفظع الفواجع والأحزان (س21) عندما بلغه أن المحبوبة العالية قد سعدت بسماع اسمه، بل لقد سمته وبعثت تحياتها إليه. فهل يسعه أن يطلب أكثر من هذا من دنياه؟ وهل يطلب العاشق المتيم من سيدة القلب ومثال الجمال والكمال أكثر من هذا الذي لم يكن فرسان الحب والحرب في العصور الوسطى يطمعون في أكثر منه؟ وهكذا يلتقي الأرضي والبشري مع الحب المثالي والصوفي، ويتحول الحب الإلهي (في قصة شهاب الدين السهروردي) إلى حب إنساني، كما يجتمع الشرق (ممثلا في القصة السابقة) مع الغرب الذي يعبر عنه حب الفرسان والفروسية الذي تأثر بمثل الحب العربي وبخاصة في الأندلس، وليس هذا كله غريبا عن روح الديوان الشرقي وأسلوبه الذي جمع بين الأرضي والسماوي، والغربي والشرقي، والدنيوي والديني، والدعابة الخفيفة المرحة من الأعماق المتعددة الأبعاد؛ لذلك لا يفاجئنا وجود هذه القصيدة في آخر كتاب العشق، لأنها تمثل ذروة السعادة التي بلغها العاشق الذي ذكر اسمه في حضرة الحبيبة فجعلنا نطل منها على هاوية أحزانه وأسراره الدفينة.
كتاب التفكير
يضم هذا الكتاب مجموعة من الحكم والقصائد التعليمية الطويلة التي استلهم بعضها من أصول فارسية وعربية، بينما يشتمل كتاب الحكم على أمثال يتراوح كل منها ما بين أربعة أبيات أو بيتين، وكأن الكتابين يحصران بينهما كتاب الضيق - أو السخط - الذي لم يخل كذلك من شعر الحكمة.
والواقع أن إنتاج جوته لم يقتصر على الشعر الغنائي الذي يتدفق من نبعه الفطري غنيا بالتجربة المؤثرة؛ إذ كان بطبيعة «المربي» المتأصلة فيه يميل ميلا شديدا إلى الشعر التعليمي وشعر الحكمة والتأمل الذي غلب على إنتاجه المتأخر بوجه خاص، سواء في الديوان الشرقي أو في أشعاره الفلسفية أو في رواية سنوات التجوال لفيلهيلم ميستر أو مجموعة الحكم والتأملات أو الحكم الأليفة (أو المدجنة) التي نهل فيها - كما رأينا من قبل - من المعلقات - وبخاصة معلقة زهير - ومن الأمثال الألمانية القديمة للرد على «صغار» عصره والسخرية منهم. ويعرف الشاعر بهذا الكتاب في التعليقات على الديوان بقوله: «إن هذا الكتاب يزداد ويتم التوسع فيه كل يوم بالنسبة لمن يعيش في الشرق؛ ذلك أن كل شيء «ضرب من» التفكير الذي يتأرجح بين الحسي وما فوق الحسي، دون استقرار نهائي على الواحد أو الآخر. وهذا التأمل، الذي يطالب به «القارئ» ويدعى إليه، من نوع خاص جدا، فهو لا يكرس للحكمة العملية وحدها، وإن كانت هذه تفرض على الإنسان أقوى المطالب، وإنما يوجه كذلك إلى تلك النقط القصوى التي تواجهنا عندها أغرب مشكلات الحياة الأرضية على نحو مباشر قاس، وتضطرنا للركوع أمام الصدفة والعناية الإلهية وقراراتها التي تتجاوز قدرتنا على الفهم، والتعبير عن التسليم المطلق بوصفه القانون الأعلى الذي يتحكم في الأمور المتعلقة بالسياسة والأخلاق والدين» (بتصرف عن ترجمة بدوي، ص454 من التعليقات على الديوان). وكان جوته قد ذكر قبل ذلك هذا الكتاب في سياق إعلانه عن الديوان الشرقي-الغربي
الحياة، وذلك وفقا للعادات والطباع الشرقية.» (1) اسمع النصح
لا يتذوق نغم القيثار إلا من يحسن الإصغاء ويملك القدرة والموهبة والاستعداد؛ فالروح الشاعرية شرط لا غنى عنه لمقاربة الأعمال العشرية، ويؤكد الشاعر أنه هو وأمثاله لا يعيشون ويبدعون لأجل الجمال الخالص وحده، بل من أجل الإرادة الطيبة (التي فضلها الفيلسوف كانط على كل شيء في الوجود!) والجمال الأخلاقي الذي يسكن الباطن ويفيض عنه: «إن أجمل العرائس ليست هي أفضلهن أو أصلحهن» (س6). وربما يكون الشاعر قد استقى المعنى من ترجمة فون هامر لحافظ الشيرازي (حرف الياء، رقم 17، الترجمة، ج2، ص459: اسمع النصح من القيثارة، وليس يجدي النصح إلا إن كنت أهلا له. عن بدوي، ص138). (2) خمسة أشياء
تكاد هذه القصيدة - مع تصرف طفيف - أن تكون نظما لعدد من الأبيات التي قرأها الشاعر لفريد الدين العطار (في الترجمة الفرنسية لسلفستر دي ساسي عميد المستشرقين في ذلك الوقت، المنشورة في كنوز الشرق لفون همر، ج2، ص229) من كتاب الإرشاد، بند نامه، بدوي، ص138. وكان العنوان الأصلي للقصيدة هو «خمسة أشياء عقيمة». (3) خمسة أخرى
هذه القصيدة تعارض القصيدة السابقة بصورة واضحة، وهي بحيويتها ونضارتها تعبر عن أخص خصائص تفكير جوته ورؤيته التي تشيد بالفعل والإقبال على الحياة مع الثقة بالنفس والترفع والتحدي، ويكفي القول بأن العنوان الأصلي الذي وضعه لها في البداية هو «خمسة أشياء خصبة». (4) وإن ما ورد في بند نامه (أي كتاب الإرشاد لفريد الدين العطار)
ترتبط هذه الأبيات ارتباطا وثيقا بالقصيدة السابقة مباشرة «محبوبة هي نظرة الفتاة» ويبدو أنها قيلت على أثر قراءة جوته لعبارة وردت في كتاب الإرشاد (الفصل التاسع والستون) بما معناه: «الأفضل أن تتصدق على الفور وتهب بيدك عن طيب خاطر، من أن تجمع المال طول العمر وتخلفه بعد موتك لإنفاقه في وجوه الخير.» لاحظ إشادته - في السطرين السابع والثامن - بالحاضر وتفضيله على ذكرى الماضي، وذلك بما يتسق مع دعوته الدائمة للاستجابة لمطالب اليوم الحاضر وأداء واجب اللحظة، بدلا من الاختباء في ماض لم يعد له وجود، أو الاسترسال مع الأوهام والأحلام بمستقبل لم يأت بعد، ولا نضمن إن كان سيأتي أبدا! (5) فلتحسن رد التحية
إشادة بالفوائد المرجوة من لقاء ذوي الهمة والنشاط والذكاء حتى على غير معرفة سابقة، وتبادل الأفكار والآراء معهم في ظل المودة والتقدير والاحترام، وهي تحية للجنرال البروسي الكونت فون جنيسناو الذي خطط لحرب التحرير من قبضة نابليون، ولم يعرفه جوته معرفة شخصية، وإنما ظل كل منهما يبادل الآخر الاحترام عن بعد.
ويحتمل أن يكون الشاعر قد تأثر فيها بالآية الكريمة من سورة النساء، 86:
وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا . والواقع أن هذا الجنرال كان قد قابل الشاعر الذي يجله كل الإجلال مع عدد من الضباط الشبان في سنة 1790م، ثم تذكر هذه المقابلة أثناء زيارة ابن الشاعر، وهو أوجست، وزوجته أوتيليه، لبرلين - التي كان قد أصبح حاكما أو عمدة لها - فأوعزت إليه أوتيليه في تلك الزيارة في شهر مايو 1819م أن يكتب لجوته، وأرسل الشاعر الرد ومعه هذه القصيدة ليكون ذكرى واعتذارا وشكرا، وذلك في الثاني عشر من شهر يوليو 1819م (عن طبعة فايتس، ص310). (6) لقد طالما قالوا الكثير
رد مفحم مترفع على الهجمات الصغيرة والمطاعن الحقيرة التي دأب الجاحدون والمرجفون على توجيه سهامها السامة إلى صدر الشاعر الذي يقول لهم بترفع واختصار. إن الفهم والتقدير والنقد الإيجابي كان أولى بكثير من إساءة الفهم والتفتيش عن النقائض والأخطاء، ولو فعلوا هذا لساعدوه على تدارك عيوبه، وهدوه إلى اختيار «الأفضل» الذي يجذب إليه في العادة «أقل عدد من الضيوف المخلصين» (س11).
ولكن الشاعر استطاع على كل حال في نهاية المطاف أن يتعلم من أخطائه دون عون من أحد، بل لقد تعلم كيف يفكر عنها بالندم والإصرار على المزيد من التعلم والعمل؛ وبذلك خلد ذكره وسمي عصر أدبي وتاريخي كامل باسمه، بينما أصبح الحاقدون عليه ترابا في صحراء النسيان التي تليق دائما بأمثالهم. (7) إن الأسواق تغريك بالشراء
تعبير عن التضاد القائم بين المعرفة والحكمة، وبين طريق العلم وطريق الدين. ومن أقبل على العلم أو الدين بغير حب فلن يصيب منهما شيئا؛ فالحب وحده هو الذي يمكن أن يهدينا مصباحه على طريق العلم والدين معا، ومن يحترق بنار الحب فلا جرم سيعرفه الرب ويهديه (س11-12). أما الانسياق وراء إغراء «السوق» ووهمه (كما أكد بيكون في الباب الأول من كتابه الأورجانون الجديد الذي يتضمن تحذيره من أوهام العقل أو أخطائه المشهورة) فلم يؤد إلا إلى «التورم» و«التضخم» الذي يصيب أدعياء العلم والدين، ويحولهم إلى نمل وجراد يلتهم الأخضر واليابس في حقول المعرفة على اختلافها، وينتهي إلى تخريبها وتخريب نفسه. وليتنا نتعلم من تحذير بيكون ومن قصيدة جوته بعد أن غصت حقولنا وأسواقنا الثقافية بالجراد الانتهازي والحشرات الطفيلية المتورمة من التهام الخضرة والخضر الباقين في قيد الحياة. القصيدة مستوحاة بأكملها تقريبا من رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح الثامن، الآيات من 1-3. (8) لا تسل من أي باب
المقصود بمدينة الله (س2) هي الدنيا أو العالم. والقصيدة تقدم صورة طيبة وواضحة المعالم عن الإنسان الذي دأب على العمل والنشاط، والتزم بالقيم والمثل الأخلاقية والإنسانية العالية، وراح يشق طريقه في غمار الحياة الثقافية والأدبية في عصره (الذي سمي في تاريخ الأدب بعصر جوته!) والقصيدة تعبر بالإضافة إلى ما سبق عن حكمة الشاعر في الحياة التي تقول ببساطة إن الإنسان لا يمكنه أبدا أن يعرف نفسه وإمكاناته وطاقاته الكامنة فيه عن طريق التفكير والتأمل، بل عن طريق العمل وممارسة الفعل الدءوب؛ «حاول أن تؤدي واجبك، وسوف تعرف على الفور مدى قدراتك، ولكن ما واجبك؟ إنه الاستجابة لمطالب اليوم الحاضر» (راجع مجموعة حكمه وتأملاته). وربما تكون كذلك متأثرة بكتاب قابوس أو قاموس نامه الذي ترجمه فون دييز ونشره في برلين سنة 1811م، وهي مجموعة من الحكم التي يوجهها أمير آسيوي إلى ابنه في القرن الحادي عشر الميلادي. وقد أرسل جوته القصيدة من فيزبادن إلى فيمار لتكون تحية منه ومشاركة في الاحتفال بتكريم المستشارين كارول كيرمي وأرنست كونستانتين فون شارت بمناسبة مرور خمسين عاما على عملهما وخدمتها المخلصة للدولة والبلاد، وذلك في اليوم العاشر من شهر يونيو 1815م، وقد أرسلت إلى ابنه أوجست ليحملها إلى المحتفى بهما أو ليقرأها عليهما؛ ولذلك تنطوي على أمل الشاعر في أن يتعلم الابن من حكمتهما، ويرعوي عن تهوره ونزقه الذي عرف عنه! (9) من أين جئت؟
تناول غنائي وعاطفي صاف للسؤال الأزلي الأبدي المحير، ولكن في إطار الحكمة والشعر التعليمي الذي يخفف من حدته وألمه، ويربط بين حيرة اللحظة الراهنة وبين الحيرة على مستوى الوجود العام، وذلك حين يتلاقى الألم والسرور في ذكرى لقاء أصبح ينتمي إلى الماضي. وقد كتبها الشاعر أثناء إقامته في فرانسزياد في الثالث عشر من سبتمبر 1818م على أثر اللقاء على غير انتظار - في الخامس والعشرين من شهر يوليو - بالدوقة أودنيل وصيفة معبودته إمبراطورة النمسا ماريا لودفيكا التي كتم حبه العميق البائس لها حتى عن نفسه (كما سبق القول في التعليق على قصيدة سر أعمق من كتاب العشق). وفي القصيدة تعبير مقتصد وشديد التكثيف عن تلك التجربة وذكراها، التي امتزج فيها ألم الذكرى ولذة اللقاء غير المتوقع الذي رفت منه نفحة عطرة من طيف الحبيبة التي غيبها الموت المبكر ضحية التهاب رئوي غادر في سنة 1816م. (10) عاملوا النساء
يلاحظ التأثر الشديد بحديث نبوي شريف يروى عن أبي هريرة وغيره في صيغ مختلفة، منها: «إن المرأة من ضلع أعوج، وإنك إن ترد إقامة الضلع تكسرها، فدارها تعش بها.» أو في هذه الرواية: «استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خلقن من ضلع أعوج، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج.» وقد قرأ جوته هذا الحديث مترجما في «كنوز الشرق» (ج1، ص278؛ بدوي، ص151). راجع عن الضلع المعوج أيضا سفر التكوين، 2: 21 من العهد القديم. (11) إن الحياة لعبة من لعب الإوز
تقوم القصيدة على لعبة يستخدم فيها نوع من النرد أو الرمي بالزهر المرقوم، تدفع فيها أشكال الإوز إلى الخانات التي يبلغ عددها 63 تبعا للرقم الذي يكشف عنه الزهر، فإذا وصل اللاعب إلى الخانة التي رسم عليها إوزة تتلفت للخلف، وجب عليه التراجع أو الانتظار. أما إذا بلغ الخانة رقم 58 التي عليها إوزة ميتة فلا بد أن يخرج من اللعب. والمعنى أن الناس تتدافع على طريق الحياة، ومن يتعثر أو يسقط في الزحام لا يتلفت أحد وراءه ولا يحفل به (طبعة فايتس، ص315). (12) أخذت منك السنوات
من أهم قصائد الديوان التي نحس فيها بالصفاء الروحي والفكري الذي يتحرك ويتنفس فيه. والسطران الأخيران لهما دلالة خاصة على الطابع العام للديوان الذي يتجلى في الحرص على الربط بين الأعلى والأدنى، والروحي والجسدي، والمعنوي والتجريبي، والحسي وما فوق الحس ... إلخ. وقد لاحظ بعض النقاد أن كلمة «الفكرة» - ولها أهمية كبرى في عالم جوته ورؤيته الكونية والدينية والعلمية - لم تظهر في الديوان كله ولم ترد إلا في السطر الأخير من هذه القصيدة، وإذا كانت الفكرة تأتي مرتبطة بالحب، فإن هذا يدل من ناحية أخرى على الروح العامة للديوان؛ لأن الشاعر الكهل الذي يشارك بفكره وعقله في إدراك وحدة النظام الكوني، لا يقدر على تحقيق هذه المشاركة إلا عن طريق الحب. والفكر والحب كلاهما طريق إلى المطلق، وطوبى لمن يجمع بينهما ويحرص على وحدتهما حتى النهاية كما فعل جوته. ويضيق المقام عن شرح معاني الفكرة، كما تظهر عنده في عالم التجربة وعالم الأخلاق والحياة الباطنة، وكما تتحكم على هيئة القانون في علم الظواهر، وتكون مهمة العلم هي اكتشافها من خلال هذه الظواهر نفسها. وسواء سمينا هذه الفكرة بالظاهرة الأولى أو بالمثال الأفلاطوني أو بالواحد الأفلوطيني أو حتى بالأبدي الإلهي الخالد، فعالم الظواهر والمظاهر الذي نعيش ونضطرب فيه ليس إلا انعكاسا باهتا لها. (13) لو وضعت نفسك
كتبت في السادس عشر من نوفمبر سنة 1819م وأرسلت مع نسخة من الديوان الشرقي إلى المستشرق يوهان جوتفريد أيشهورن الذي طالما اتصل جوته به أثناء عمله بجامعة يينا، ثم أضيفت إلى طبعة سنة 1827م. وقد أثنى جوته على هذا المستشرق في تعليقاته على الديوان، واعترف بفضله في إهدائه له نسخة من ترجمة وليم جونز للمعلقات قبل ذلك باثنين وأربعين عاما، وحمد له وقوفه بجانبه مدى الحياة وإسداء النصح له في كل ما يتصل بأمور الشرق والاستشراق (طبعة هامبورج، ص246-247 من التعليقات). (14) سوف يخدع الكريم
لعلها أن تكون دعوة للاستبصار بقسوة العالم وشدة وطأته على الصالحين والطالحين جميعا، حتى يأخذ المرء أهبته ويواجهه وهو متجرد من الأوهام، ولا يكتفي بالتقية، بل يخدع بعد أن خدع. وما أحق الطيبين الأنقياء في هذا العالم بالانتباه إلى هذا التحذير؛ حتى لا ينصب لهم الأوغاد الغادرون شراك الكمائن، وربما يحبسونهم فيها مدى الحياة كالفيران المسكينة. (15) من يملك إصدار الأوامر
كان عنوانها الأصلي في المخطوطة هو «حق السادة وواجب الخدمة أو الطاعة»، وفيها إقرار بتقلب السادة الأعلين بين الرضا والغضب بلا سبب، ونصح للخدم الأوفياء بالتمسك بالصبر والاتزان. ويبدو أن القصيدة ثمرة مرة لخبرة أشد مرارة، وإن كان صاحبها يحافظ كعادته على ترفعه وإحساسه بالتفوق والثقة بالنفس مهما اضطرته ظروف الحياة والعمل إلى تحمل ما يكره وما لا يطيق. وفي القصيدة إشادة ضمنية بفضل أمير فيمار كارل أوجست ورعايته للشاعر، وفي السطرين الأخيرين منهما تأثر بكتاب قابوس الذي سبق ذكره. (16) إلى الشاه شجاع وأمثاله
كان كارل أوجست أمير فيمار بالنسبة لجوته مثل الشاه شجاع، وهو جلال الدين بن محمد المظفر الذي حكم شيراز وما حولها (من 759ه) ورعى الآداب والعلوم حتى وفاته (في سنة 786ه/1384م) بالنسبة لحافظ الذي عاش في عهده ومدحه في شعره. والقصيدة موجهة لأمير فيمار أثناء اشتراكه في مؤتمر فينا للسلام بعد هزيمة نابليون، وفيها محاكاة للمدح عند الشرقيين، لا سيما في السطرين الأخيرين. أما السطر الأول «خلال الهدير كله والرنين»، ففيه إشارة إلى حروب الشاه شجاع وصراعه مع أبيه ثم مع شقيقه شاه محمود على الحكم، ويقابل هذا الهدير والرنين غناء جوته وثناؤه على أميره الذي يستمد منه الحياة، ويتمنى له طول العمر ودوام الملك، على طريقة الشرقيين. وربما تنطوي القصيدة على إشارة خفية لبقاء أنغام الشعر بعد زوال هدير الحروب ورنينها الصاخب. (17) أسمى النعم
مرتبطة بالقصيدة السابقة وإن كانت أصرح منها في التغني بالدوق كارل أوجست والدوقة لويزة، وفيها التزم بالقافية «وجدت» في آخر الأبيات الزوجية محاكاة للشعر الفارسي. وقد حافظ أستاذنا الدكتور على القافية في نظمه للقصيدة (ص158 من ترجمته)، وعجزت عن ذلك لإيثاري للترجمة النثرية الدقيقة بوجه عام. (18) الفردوسي يقول
البيتان الأولان مأخوذان من الشاهنامه (عن الترجمة الألمانية التي قام بها النمسوي كارل جرافلودلف المتوفى سنة 1803م). أما الثاني والثالث فيقدمان رد الشاعر الغربي المؤمن بالمثل الإنسانية في التربية والثقافة وباستقلال الشخصية التي يعدها فضلا كبيرا من الله عليه، وبهذا المعنى توصف الثروة الحقيقية في الأبيات التالية، وهي التي ينعم بها الشحاذ أيضا إذا استطاع أن يستمتع بجمال العالم، ويهنأ بالقرب من الله والإحساس به إحساسا ورعا تقيا في نبض المخلوقات جميعا، من نبتة العشب إلى الإنسان الذي استخلفه على الأرض وسواه في أحسن صورة ليكون صورة له. (19) جلال الدين الرومي يقول
إذا كانت هذه الأبيات تضع الشكوى من فناء العالم وفراره كالحلم على لسان الشاعر الصوفي الكبير، فإن الأبيات التالية على لسان زليخا تحمل رد الشاعر عليه، ويتلخص في معاينة الأبدي الخالد في اللحظة العابرة. وما أكثر ما تغنى الشاعر باللحظة وضرورة التمسك بها وملئها بالفعل والوعي والإبداع؛ وبهذا يختم كتاب التفكير في مرآة زليخا التي يتجلى الجمال الإلهي في جمال وجهها الفتان، وكأن المرآة في اللحظة نفسها التي تكشف عن الخالد من خلال الفاني والعابر (أو هذا على الأقل هو تفسيري لها ولهذه الأبيات الحلوة التي أتمنى أن أكون قد وفقت إلى «إعادة إنتاجها» بما يفي بها).
كتاب الضيق
مع أن الانفعال الجارف المشتعل لا يصلح أن يكون مادة للأدب والفن؛ إذ يتحتم على المبدع أن يصوغه في أشكال موضوعية وفنية، فإن من الطبيعي ألا يخلو شعر جوته - المعبر عن إنسانيته المتكاملة - من مشاعر السخط والضيق وسوء المزاج التي أثارها في نفسه هجوم الحاقدين وتطاول السفلة والأوغاد ، الذين لا تنجو حياة ثقافية من عاهاتهم وأمراضهم المزمنة (وإن تفاوتت النسب والأبعاد بطبيعة الحال بين ثقافة متقدمة وأخرى متخلفة!) لذلك انعكست على شعره ونثره آثار المعارك التي كان يضطر أحيانا إلى خوضها ورد سهام الحقد إلى صدورهم، أو باللجوء للسخرية والدعابة المهذبة، ثم إدارة ظهره لهم والعكوف على عمله. ولا يستطيع قراء اليوم أن يتصوروا مقدار ما عاناه الشاعر والمفكر والعالم الكبير من حسد الحاسدين وصغار الصغار العاجزين الذين لا يعملون ولا يحبون لغيرهم أن يعملوا - كما تقول العبارة المشهورة لطه حسين - ويسوءهم على الدوام أن يتألق الكوكب في السماء وهم غارقون في أوحال فشلهم وتخبطهم. وكم اتهمه أصحاب النفوس الصغيرة والألسنة الطويلة بالغرور والتكبر والأنانية، والتهتك في حياته الخاصة، والخنوع للأمراء والنبلاء، والتعالي على عامة الشعب، وضعف الإحساس بالوطنية، وعقم البحوث العلمية في النبات والضوء والألوان والمعاد ... إلخ، بل وصل الأمر إلى حد اتهامه بركاكة شعره وسخف قصائده وأناشيده الطويلة المنظومة على البحر السكندري! كان يقابل هذه الاتهامات في معظم الأحوال بالصمت والعمل، ولكنه كان ينفجر أحيانا بالسخط والغضب في بعض أحاديثه وحكمه وتأملاته. وقد شجعه على ذلك وعزاه عنه أيضا أن توءم روحه الشرقي حافظ الشيرازي قد تعرض مثله لوشايات الوشاة وغدر الأقزام ولسع الحشرات الطفيلية التي لا يغيظها شيء كما يغيظها أن يعمل الناس في صمت وترفع وتفان. ولا شك أن إحساسه الذاتي بالثقة والتفوق، ويقينه الثابت بأن الدنيا لا تخلو أبدا من النفوس الصادقة التي تتلقى عمله بالحب والرضا والعرفان، قد أعاناه على «تشكيل» نيران غضبة وتحويلها إلى أضواء دافئة وأنغام عذبة (راجع على سبيل المثال القصيدتين رقم 8، 9 في هذا الكتاب: «هل سبق أن أشرت عليكم»، «لا يرفعن أحد صوته بالشكاة من الدناءة والوضاعة»). وقد قال الشاعر نفسه عن هذا الكتاب في إعلانه عن الديوان الشرقي في صحيفة الصباح سنة 1816م: «يتضمن كتاب الضيق قصائد ليست غريبة عن الشرق في أسلوبها ولهجتها؛ ذلك لأن شعراء الشرق، الذين يمدحون رعاتهم وحماتهم بأروع القصائد، يفقدون كل اعتدال عندما يحسون أنهم قد فقدوا الاهتمام وأزيحوا إلى الوراء، أو يتصورون أنهم لا يجازون جزاء وافيا، ثم إنهم يقعون على الدوام في خلاف مع الزهاد والمنافقين وأشباههم، كما يدخلون باستمرار في صراع مع العالم، أو مع المسار المضطرب لأحوال الدنيا كما يسمونه.» ثم يقول عنه في تعليقاته التي ألحقها بالديوان بعد ذلك بسنوات: «إذا كانت بقية كتب هذا الديوان تنمو وتزداد، فإن هذا الكتاب يسمح له أيضا بهذا الحق. ولا بد في البداية أن تتجمع الإضافات اللطيفة المتزنة قبل أن يستطاع تحمل انفجارات السخط والضيق. إن «عاطفة» الإحسان المشترك بين البشر، ومشاعر التسامح والتعاون بينهم، تربط بين السماء والأرض، وتهيئ للناس الفردوس الموعود. أما السخط (أو الضيق) فهو دائما أناني، ويصر على مطالبه التي عجز عن تحقيقها، وهو مدع وكريه ولا يسر أحدا، بل لا يكاد يسر أحدا ممن استولى عليهم نفس الشعور، ولكن الإنسان لا يستطيع على الرغم من ذلك أن يكظم مثل هذه الانفجارات، بل إنه ليحسن صنعا عندما يسعى للتنفيس بهذه الطريقة خصوصا عن سخطه على إعاقة نشاطه وتعطيله. وقد كان حريا بهذا الكتاب أن يكون الآن أقوى وأغنى مما هو عليه، ولكننا نحينا جانبا بعض قصائده منعا لإثارة الضيق في النفوس. ويكفي أن نلاحظ الآن أن أمثال هذه التعبيرات التي يمكن أن تبدو مثيرة للضيق، يمكن في وقت لاحق أن تعد بريئة «من الإساءة»، وأن تستقبل «من القراء» بمودة وترحيب عندما تدخر لنشرها في السنوات القادمة على هيئة ملحقات ل «الديوان»» (عن طبعة هامبورج، ص197-198، وبتصرف عن ترجمة بدوي، ص450). (1) من أين أتيت بهذا؟
ترد القصيدة على أسئلة الصغار الذين أدهشهم أو ساءهم أن يتجه الشاعر الغربي إلى الشرق، أو بالأحرى يهاجر إليه ويستلهمه قصائد الديوان، وجوابه عليهم يدل على ثقته بشخصيته التي لم يضيعها في رحاب الشرق، وإنما بعثها من جديد إلى الحياة كما بعث أنفاس الدفء والحرارة في آخر ومضات شرارة إلهامه ووحيه (س5-6)، ووسع آفاقه حين جاب الآفاق الشاسعة وحلق في محيط النجوم (س9-10)، وجذب الشرق إليه لكي يتجنب عالم الغرب المبتلى بالحقارة والصغار؛ ولهذا تتوالى الصور الفنية الحية التي تعزز تصميم الشاعر ويستقيها من الحياة البدوية الثرية بالكرم والمروءة والمغامرات وغارات اللصوص والصعاليك على القوافل، ومن الجري أيضا وراء السراب الخادع. (2) لن تجد أي شويعر نظام
تواصل الهجوم على الصغار ولكن من منظور آخر، فلا تقتصر الأنانية وضيق الأفق والنرجسية على الشعراء والفنانين (الذين يمكننا أن نتسامح معهم ونتفهم مواقفهم ما دامت تقترن بالإبداع)، وإنما تمتد بصورة أسوأ وأقبح إلى رجال السياسة والقواد العسكريين وأوساط الناس الذين لا يجلبون على العالم غير الخراب والضوضاء والشحناء والبغضاء (لاحظ نغمة التهكم والدعابة - التي تصدر عن الحب والتسامح! - في المقطوعتين الأوليين، وبوجه خاص في المقطوعة الرابعة). أما عن غرف الانتظار، فهي إشارة إلى ما يدور في دواوين الدولة وفي قصور الأمراء وبين رجال البلاط من التآمر والكيد والنفاق (س10). ولو تعلمت الشعوب أن تتعامل باحترام وقدر كل شعب ما قدمه الشعب الآخر للتراث البشري من جلائل الأعمال، لزالت أسباب الفرقة بينها، وتعلمت أن تعيش مع بعضها في سلام (س13-16). (3) لعلكم تلاحظون
عودة إلى موضوع التعاظم أو الترفع والتفوق الذي تشعر به الأنا في هذه القصيدة تجاه أعدائها الصغار الذين لا يستحقون منها إلا الاحتقار، وهو موضوع أساسي يتغلغل في عدد غير قليل من قصائد الديوان، ويتجلى في صور مختلفة، كالجرأة (القصيدة رقم 14 من كتاب المغني) والزهو والانطلاق (القصيدة رقم 15 من الكتاب نفسه بعنوان: خشن ونشيط) ومساواة القيصر نفسه في سموه بل التفوق عليه لكونه عاجزا عن الحب (في مواضع مختلفة من كتاب زليخا وكتاب الساقي) وتأكيد عظمة الأنا بقدر بذلها وعطائها للأنت المحبوبة وتوحدها معها إلى حد الفناء (في قصيدة حنين مبارك من كتاب المغني). والكلمة الأصلية في السطر الرابع تعني الطغاة، وقد فضلنا أن تكون الحكام العظام؛ لأن المعنى الأصلي للكلمة اليونانية يدل على الحاكم الفرد، وليس بالضرورة على المستبد الظالم. والمعروف أن جوته كان شديد الإعجاب بنابليون الذي لم يكن في نظره طاغية، بل واحد من «الحكام العظام». وألريش فون هوتن (1488-1524م) هو العالم الإنساني والثائر البروتستنتي في أوائل عصر الإصلاح الديني الذي اشتهر بحملاته الشديدة على الأمراء والرهبان من أصحاب الثياب البنية الذين قاسى الأمرين من ضيق أفقهم، على نحو ما قاسى حافظ من علماء الدين المحافظين أصحاب الملابس الزرقاء الذين كان هو نفسه واحدا منهم (راجع قصيدتي اتهام وفتوى من كتاب حافظ). أما أعداء جوته من رجال الدين المسيحي المتزمتين فيصعب التعرف عليهم؛ لأنهم يبدون في مظهرهم كسائر المسيحيين (س17-20). (4) وكان ما يتفتح في ظل الصمت
تعرض هذه القصيدة بلهاث مواطني جوته وراء البدع واقتناص الأخبار الجديدة والثرثرة والتشتت والتهالك على الظهور ولفت الأنظار، إلى آخر ما استحدثته الصحف اليومية من تخريب للإنسان في ذلك الحين - دع عنك ألوان الخراب والدمار التي تسببها وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء كل يوم في حياتنا الحاضرة! - والشاعر يقف على الطرف الآخر من هذه المشاغل المدمرة؛ أي يقف مع الخير والحق والحقيقة الشعرية والوجودية التي تتفتح في ظل الصمت، ولا تكترث بأن يكون لها اسم أو شعار، سواء كان مستمدا من اللغة القديمة أو الحديثة. وروح الشعر تفرض عليه أن يحيا بعمق، ويبتعد بنفسه عن اللغو والجدل العقيم وتصيد الأنباء وتلفيقها وتمزيقها ورتقها باسم التجديد الذي هو في حقيقته تبديد؛ ولهذا لا يلجأ الشاعر هنا إلى الشكوى ولا إلى الغضب، وإنما يتمسك بالدعابة المترفعة، ويقتنع بترديد أغنيته الهامسة كعصفور صغير في وجه الصخب والضوضاء (راجع السطور 3، 4، 10، 13، 14)، وهي أغنية تحيا بعمق، وتريد أن تهتدي للحق (س13-14)؛ لأنها تخاطب الأبدي وتتجه إليه من وراء العابر والزائل أو من خلاله، وذلك كما فعل الشعر دائما، وكما سيفعل على الدوام (س27-28). (5) المجنون معناه
المجنون هنا هو الذي أصابه مس من الشيطان وشيطان الشعر بوجه خاص، وليس المقصود بالضرورة هو مجنون ليلى الذي ورد ذكره أكثر من مرة في الديوان. وفي القصيدة نظرة عميقة إلى رسالة الشعر والشاعر كما آمن بها جوته طوال حياته؛ فالشعر لا يخلص الشاعر نفسه وحسب، وإنما يحمل الخلاص والإنقاذ للآخرين الذين يسارعون إلى وضعه في الأغلال وتقييده بالحبال (س5-6). وعندما ينتبهون أخيرا إلى خطئهم يكون الوقت قد فات، كما يحدث دائما للعباقرة والأفذاذ (س10). وفي هذه القصيدة تناول جديد لموضوع «التعاظم» أو التفوق الذي سبق الكلام عنه (راجع التعليق على القصائد رقم 1، 2، 4 من هذا الكتاب) والذي تتشبث به الأنا الشاعرة كلما حاول الخصوم والأعداء والحاقدون أن يغرقوا سفينتها المنطلقة في بحار الإبداع. ويبدو أنه (أي موضوع الأنا المتمركزة حول نفسها للدفاع عن وجودها!) هو أحد المداخل الأساسية لفهم كتاب الضيق بأكمله، وإن كنا نكتشف (في كتاب العشق وزليخا والساقي والفردوس) أن وحدتها مع الأنت وفناءها في حبه - كما سبقت الإشارة لذلك - هو العاصم الحقيقي لها من الغرق في تفاهات العصر وصغاره ومهاتراته. (6) هل سبق أن أشرت عليكم؟
عودة إلى الموضوع السابق من زاوية مختلفة. فالصغار يتهمونه بعدم الاكتراث بشئون السياسة وأحداث الساعة، وهو يرد عليهم بأنه لم يعن أبدا بالدخل فيها كما لم يدخل نفسه في شئون الحرفيين والعمال كالنجارين والصيادين، وكل ما يرجوه منهم هو أن يتركوه لممارسة عمله الذي يحسنه بدلا من حشر أنوفهم فيه باستمرار. وإذا كانوا يشعرون بأن لديهم مثل ما لديه من القدرة والموهبة، فليقدموا برهانهم ويشاركوا في حلبة الإبداع بدلا من الاكتفاء بالثرثرة الفارغة عنه (كما يحدث اليوم في حياتنا الثقافية والفنية إلى حد الملل والغثيان). (7) طمأنينة المتجول
استطراد آخر لنفس الموضوع كما ورد خصوصا في القصيدة رقم 4 «لعلكم تلاحظون أن التعاظم»، وفيه تواجه الأنا خصومها المرجفين، وعلى وجهها قناع العظمة والترفع والجلال، وفوق شفتيها ابتسامة السخرية الساحقة: دعهم يديرون ويثيرون كالغبار (س11-12). وراجع كذلك تعليق بدوي الذي يرى فيه أن الشاعر قد استلهم في المقطوعة الأخيرة أبياتا من الشاهنامه عن ترجمة دييز (ص202، برلين، 1811م) يقول فيها: «إنني أسعى إلى العزلة حين يدور العالم في دوامة، ودوران الحظ أسوأ من أسوأ غبار في العالم» (بدوي، ص175). ويرى شارح آخر (وهو فايتس في طبعته للديوان، ص313) أن السطرين الأخيرين متأثران بكتاب قابوس وجوه العام، ويلاحظ أن هذه القصيدة هي الوحيدة في هذا الكتاب التي وضع لها جوته عنوانا. أما سائر العناوين فقد أخذتها من السطر الأول للقصائد. وكلمة المتجول في العنوان تكرر صورة شائعة في شعر جوته عن الإنسان الذي يمضي في سبيله ويتمشى بلا هدف محدد. (8) من ذا الذي يطلب من الدنيا؟
يرى أحد الدارسين (وهو إرماتنجر) ضرورة استكمال السطر الثالث بحيث يكون على هذه الصورة: «فيظل يتلفت إليها.» أما إضاعة نهار النهار (س4) فالمقصود بها إضاعة الوقت الملائم للعمل. وفي القصيدة توضيح للمعنى الكامن في معظم قصائد هذا الكتاب، وهو الانصراف إلى العمل الصامت الجاد بدلا من التلفت إلى كل الجهات والانشغال بالتوافه العاجلة. ولا بد أن الحياة أو الدنيا ستجازي من لا يضيع اللحظة - أي العمر القصير الضئيل بالقياس إلى الزمن الكوني! - وستضع في يده ذات يوم من الأيام ثمرة جهده الذي قضى فيه السنوات. (9) إن ثناء المرء على نفسه
إذا كان لا يليق بالإنسان النشيط الفعال أن ينتظر الثناء من أحد، فلا يليق به أن يثني على نفسه بنفسه؛ فكلا الأمرين شيء فج ممجوج. والواجب على الحكيم أن يثق بنفسه وعمله، ولكنه إذا صرح بهذه الثقة خرج من دائرة الحكماء ودخل في دائرة الحمقى. ولعل الشاعر يحاول هنا أن يسوغ أمام الناس تلك الثقة بالنفس التي يأخذها عليه بعضهم إلى حد اتهامه بالغرور (التعاظم). وربما تلقى هذه الحكمة التي كتبها في مجموعة حكمه وتأملاته شيئا من الضوء على هذا الموقف الشائك الذي وجد نفسه فيه: «يقال إن الثناء الباطل على النفس تخرج منه روائح عفنة. قد يكون هذا صحيحا، ولكن الجمهور لا يشم الرائحة التي تفوح من الافتراء الغريب والاتهام الظالم.» والسطر الأول مأخوذ عن ترجمة دييز لكتاب السعداء لمؤلف تركي من القرن السادس وهو بوزري جمهور. (10) أتعتقد إذن؟
يتكلم الناس عادة ويتناقلون الكلام بعضهم عن بعض، ويصدقون ما يقولون ويسمعون، وهم يتصورون أن الأمر يمكن أن يقف عند هذا الحد، لكن الواقع أن هذه هي البداية التي ينبغي أن ينطلق منها الإنسان إلى النقد الحقيقي وإصدار الحكم المستقل في أمور السياسة والتاريخ وشئون الطبيعة والاجتماع والدين ... إلخ. لاحظ تأثير الروح العقلانية للعصر وفلسفة كانط النقدية على القصيدة، ولاحظ أيضا أن الكلمة الأصلية للنقل في السطر الثالث تعني التراث المنقول أو المتوارث بأوسع معانيه، وأخيرا يردد الشاعر - ربما دون قصد - كلمات كانطية معروفة، كالحكم والفهم من منظور نقدي لا يخفي تأثير مؤسس الفلسفة النقدية عليه، ولعل القصيدة تعبر أيضا عن رغبة الشاعر في تحكيم العقل في النقل. وترجح الباحثة كاترينا مومزن أن تكون القصيدة ردا على عبارات دينية متشددة صدرت من المستشرق فون دييتس. (11) ومن يحاكي الفرنسيين أو البريطانيين؟
عودة للهجوم السابق (في القصيدة رقم 6: وكأن ما يتفتح في ظل الصمت) على اللهاث وراء البدع وكل جديد لافت في الأدب والحياة. وليت المغالين عندنا - إلى حد التطرف والشذوذ والإلغاز والإظلام! - في التجديد دون معرفة حقيقية بالقديم الذي يصرخون بالقطعية معه لا مجرد تجاوزه كما يقول بذلك أي تجديد صحيح، ليتهم يقفون طويلا عند الفقرة الأخيرة من هذه القصيدة؛ فالذي لا يجدد ووراءه ثلاثة آلاف عام من الخبرة بتراثه وتراث الإنسانية سيظل يتخبط في الظلام ويحيا من يوم ليوم كالشحاذ المتنقل من باب إلى باب. لاحظ هنا أيضا المقابلة التي يقيمها الشاعر بين الحياة الإعلامية أو الصحفية المتسرعة اللاهثة وراء ما تتوهم أنه جديد أو تجديد، وبين الحياة بعمق والارتباط بالأصول والجذور. وكذلك هجوم الشاعر على النزعات القومية المتعصبة التي أخذت تطل برءوسها أيام جوته، ورأى من واجبه وبوازع أصيل من نزعته العالمية والإنسانية أن يتصدى لمزاعمها الضيقة الأفق، وهو يشهر في وجهها سيف القانون الأخلاقي، ويرفع راية الصالح العام للبشرية العاقلة. (12) عندما كان المسلمون
الدراويش المحدثون هم رجال الدين وعلماء اللاهوت المعاصرون لجوته. ويمكن ترجمة المصطلحات الإسلامية إلى مصطلحات غربية دون تغيير في جوهر القضية التي تدور حولها القصيدة؛ فما ينطبق على القرآن الكريم والدراويش يصدق على الإنجيل وعلماء اللاهوت المسيحيين، والقديم هو العقيدة المتشددة المحافظة، بينما الجديد هو النزعة الإنسانية والمثالية ونقد الكتاب المقدس. ولعلها أن تكون دعوة من الشاعر للذين كانوا يثرثرون في عهده عن الجديد - إلى حد إشاعة التشويش والاضطراب وإشعال نيران التعصب بدلا من العمل على إطفائها - لكي يتعلموا من المسلمين الذين يجلون كتابهم المقدس، وينعمون بذلك بالطمأنينة وراحة الضمير. (13) النبي يقول
كتبت في الثالث والعشرين من شهر فبراير سنة 1815م، ودون الشاعر معها هذه الآية الكريمة من سورة الحج (الآية 15) للرد على أعدائه:
من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ
ولعله لم يجد خيرا منها للرد على أولئك الصغار. (14) تيمور يقول
عودة ختامية لموضوع التعاظم، لا من وجهة نظر الأنا، بل من وجهة نظر شخصية مخيفة مشهورة (تيمورلنك) يعتبرها الشاعر رمزا لشخصية العبقري المؤمن بنفسه وبالله (ولست أدري كيف وصل جوته إلى هذا الحد من الخلط وسوء الفهم).
كتاب الحكم
عنوان هذا الكتاب في نطقه ورسمه الفارسي، وهو «حكمت نامه»، معناه: كتاب الحكمة، ولكن عنوانه الألماني بصيغة الجمع يسوغ لنا تسميته بكتاب الحكم، لا سيما أنه يضم مجموعة كبيرة من الحكم والأمثال التي استمد الشاعر معظمها - بصورة تكاد في كثير من الأحيان أن تكون حرفية - من أصول فارسية وعربية. ولا يخلو من الدلالة على هذه التسمية أنه يبادر بقوله في أول حكمة: «إن التمائم التي سينثرها في هذا الكتاب ستحقق التوازن.» ولا تختلف هذه الحكم من ناحية الشكل ولا من ناحية المضمون عن بقية حكمه وأمثاله الشعرية التي كتبها في شيخوخته (وتجدها في المجلد الأول من أعماله، طبعة هامبورج، من ص304-337)، أو التي نثرها في روايته «سنوات تجوال فيلهلم ميستر»، وهي مجموعة حكمه وتأملاته. ومعلوم أن أدب الحكم والأمثال متوافر لدى كل الشعوب وفي كل العصور، وهو في تعبيره عن خبرة الإنسان في الحياة وعن حصاد تجربته ورؤيته للعالم يدل على الملامح المشتركة بين البشر، بحيث تكاد فيه الفروق أن تختفي بينهم، كما تتلاشى الحدود والحواجز التي أقامها اختلاف الأزمنة واللغات والعادات ... إلخ.
يقول جوته عن هذا الكتاب في إعلانه القصير عن الديوان الشرقي في عام 1816م في صحيفة الصباح: «وكتاب الحكم أشد إبهاجا من كتاب تيمور (الذي ذكره قبله مباشرة)، وهو يتألف من قصائد قصيرة استلهمت في معظمها من أقوال شرقية حكيمة» (طبعة هامبورج، ص269). كما يصفه بشكل أكثر تفصيلا في تعليقاته على الديوان، حيث يقول: «كان الأجدر بكتاب الحكم أن يكون أكبر من غيره، وهو شديد القرب من كتابي التفكير والضيق، ولكن الحكم الشرقية تحافظ على الطابع الخاص بالشعر الشرقي كله، من حيث إنها تتعلق في الغالب بموضوعات حسية ومرئية، ونجد من بينها كثيرا من الحكم التي نستطيع بحق أن نصفها بأنها أمثال موجزة. ويظل هذا النوع هو أصعب أنواع الشعر بالنسبة للشاعر الغربي؛ لأن المحيط الذي نعيش فيه يبدو شديد الجفاف والتنظيم والرتابة (النثرية)، بيد أن الحكم والأمثال الألمانية القديمة، التي يتحول فيها المعنى إلى تشبيه، يمكن هنا أيضا أن تكون نماذج صالحة» (طبعة هامبورج ص200، وبتصرف عن ترجمة بدوي، ص458). (1) عن التمائم والطلسمات راجع القصيدتين رقم 2، 4 من كتاب المغني وشروحها. وقد سبق القول في التمهيد لهذا الكتاب إن الشاعر يؤكد معنى التوازن في أول حكمة، كما يشير كذلك إلى تقليد وخز الإبر بشكل عشوائي في صفحات أي كتاب، واعتبار الموضوع الذي وقعت عليه الإبرة أو الدبوس فألا يؤخذ به في مجرى الحياة وفي الملمات (راجع الفقرة الخاصة بنبوءة الكتاب في التعليقات على الديوان، حيث يصف الشاعر هذا التقليد الشائع في الشرق، ويتمنى أن يفيد منه القراء الذين سيطالعون ديوانه، ص189 من التعليقات في طبعة هامبورج، وطبعة بدوي، ص445). (2-4) هذه الحكم نظم لبعض الأمثال النثرية التي جمعها دييتس في كتابه «ذكريات من آسيا» (راجع بالتفصيل ترجمة بدوي وشروحه، ص182)، والحكمة الثانية «لا تطلب من هذا اليوم» كانت مكتوبة على باب أحد الخانات في أصفهان، وذكرها شاردان في كتابه «رحلة في بلاد فارس» طبعة 1735م، أمستردام. (5) يبدو من هذه الحكمة أن الشاعر كانت تضيق نفسه أشد الضيق بمراقبة حركة المد والجزر وإيقاعه المتكرر، كأنه جهد عشوائي للعناصر الطبيعية الجامحة. وقد عبر عن هذا بشيء من التفصيل في القسم الثاني من فاوست، حيث يقول على لسانه (من البيت 10198 إلى 10233): «انجذبت عيني إلى البحر العالي؛ كان قد ارتفع وانتفخ، يريد أن يشكل من نفسه برجا شامخا، ثم تراخى بالتدريج ونفض الأمواج؛ لكي ينقض على عرض الشاطئ المستوي. ضايقني هذا كما تضيق الروح الحرة، التي تقدر كل الحقوق حتى قدرها، بالزهو والغرور التي تسببه حميا الدم الجياش، ويصيبها بالنفور وسوء المزاج. تصورت أن ذلك مجرد صدفة، فأمعنت النظر بحدة، وإذا بالموجة تتوقف وتستدير متكورة، وتبتعد عن الهدف الذي اعتزت بالوصول إليه، وحانت اللحظة فراحت تكرر نفس اللعبة، ويتجه الشيطان مفيستوفيلس إلى النظارة قائلا: ليس هذا شيئا جديدا علي؛ فهذا ما أعرفه منذ مائة ألف سنة» (فاوست، القسم الثاني، الفصل الرابع). (6) قصيدة غنائية تفيض بالعاطفة وتنتهي نهاية مفعمة بالمعنى، وتكاد تشبهها في مغزاها حكمة أخرى من الحكم المنظومة التي كتبها الشاعر عن شيخوخته وقال فيها: «إذا كان أمسك واضحا مكشوفا، أقبلت في يومك على العمل بقوة وحرية، وأمكنك أيضا أن تتطلع لغد لا يقل عنه رضا وسعادة» (المجلد الأول من طبعة هامبورج، الأمثال، ص308، المقطوعة رقم 30). وغني عن الذكر أن هذه الحكمة تؤكد الفكرة التي لا يمل جوته من التعبير عنها في إنتاجه جله، وبالأخص في كتاب زليخا من هذا الديوان، وهي أن الإنسان لا يبلغ اللامتناهي إلا عبر المتناهي، ولا يتحقق هذا بأجلى وأكمل صورة إلا من خلال الحب الذي يكشف للحبيبين في لحظات الهناء والصفا والتوحد - المتناهية بطبيعتها - عن الحقيقة الأبدية اللانهائية؛ لأن الجزئي المحدود هو سبيلنا الوحيد للإحساس بالكلي غير المحدود.
كتبت هذه القصيدة (بمدينة يينا في 22 من يوليو 1818م) أثناء تفكير الشاعر في محبوبته البعيدة «مريانة» التي كان قد ودعها وداعا لم يلتقيا بعده إلا على صفحات الرسائل والتهاني بأعياد الميلاد. وينعكس قلق الشاعر على الشكل اللغوي للقصيدة في جمل قصيرة وكلمات أغلبها من مقطع واحد. وقد نشرت مع القصائد الثلاث التالية لها سنة 1821م، في بداية روايته «سنوات تجوال فيلهلم ميستر» في صياغتها الأولى. (7) هنا يظهر موضوع الزهد أو التخلي والعزوف بشكل هامشي، كما يندر أن نقع عليه في قصائد الديوان التي تعد في مجموعها دعوة للحياة والفعل واغتنام اللحظة المواتية. والمعروف أن هذا الموضوع - الذي يناسب خريف العمر وشتاءه! - يحتل مكان المركز والقلب من رواية جوته «سنوات التجوال لفيلهلم ميستر»، كما كان من أهم الموضوعات التي يدور حولها الحب اليائس الميئوس منه لأبطال روايته التي سبقت الرواية الأخيرة وهي «الأنساب المختارة». (8) في السطر الأول موضوع أثير لدى جوته، وهو يتكرر هنا في الحكمة رقم 12 التي سنقف عندها بعد قليل. وقد رجع في السطر الثاني إلى العبارة الواردة في إنجيل يوحنا (9: 4) بترجمة لوثر التي تقول في الترجمة العربية عن اليونانية (دار الكتاب المقدس، ص164): «ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار، يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل.» قارن كذلك ما يقوله الشاعر في روايته السابقة الذكر «سنوات تجوال فيلهلم ميستر» الكتاب السادس: «إن أول ما يحدد «طبيعة» الإنسان هو أن يكون فعالا.» كذلك ما يقوله في مسرحية باندورا، البيت رقم 1045: «إن العيد الحقيقي للإنسان هو الفعل.» والمقطوعة رقم 66 من حكمه وأمثاله التي كتبها في شيخوخته: «بين اليوم والأمس، مهلة طويلة، فتعلم كيف تهتم بها، ما دمت لا تزال نشيطا» (ص314 من المجلد الأول، طبعة هامبورج). والأبيات التي كتبها بنفسه في ألبوم حفيده فالتر فون جوته في شهر أبريل سنة 1828م: «في الساعة ستون «دقيقة»، وفي النهار أكثر من ألف، فلتحط علما يا ولدي الصغير، بنبأ الأعمال التي يمكن أن ينجزها فيها الإنسان!» ومن الطريف أن هذه الأبيات كتبت تحت سطور أخرى مأخوذة عن الأديب المدهش جان-بول رشتر (1763-1825م) الذي كان جوته ينفر من كتاباته ويعجب لها في الوقت نفسه: «يملك الإنسان هنا دقيقتين ونصف دقيقة؛ واحدة للابتسام، وواحدة للتنهد، ونصف واحدة للحب؛ لأنه يموت في منتصف هذه الدقيقة.»
وأخيرا ربما يكون الشاعر قد اقتبس المعنى من بستان سعدي في ترجمة أولياريوس (راجع شرح بدوي، 184). ولعل هذا كله أن يذكرنا ببيت شوقي المشهور الذي ورد في رثائه لمصطفى كامل:
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثواني (9) اقتباس مباشر وشبه حرفي من الشاهنامه للفردوسي (ترجمة بدوي، ص185). وإن كان الحث على الفعل والعمل، والتحذير من الاستسلام للهم والغم، من أحب وأهم الموضوعات الأثيرة إلى نفسه. والسطران الأخيران يعبران عن وجهة نظر جوته ، ويبعدان عن الأصل الفارسي الذي ينصح بالتسليم بالمكتوب والرزق المقسوم. (10) يرتبط الإعلاء من شأن الفعل بتقدير قيمة الزمن وملء كل لحظاته بالعمل الخلاق. وقد سبق التنويه بذلك في مواضع مختلفة من هذه الشروح، ونضيف إليها في هذا المقام الرسالة التي بعث بها جوته إلى فرتس فون أشتاين في السادس والعشرين من شهر أبريل سنة 1797م، وقال له فيها: «أعترف بأن الشعار القديم الذي اتخذته لنفسي يزداد على الدوام أهمية في نظري: إن الزمان ثروتي، والزمان هو حقلي.»
1
وكذلك قوله في روايته «سنوات تجوال فيلهلم ميستر»: «لا بد من عمل شيء في كل لحظة» (راجع كذلك التعليق السابق على الحكمة رقم 8). (11) السطران الأخيران مقتبسان بصورة شبه حرفية من أبيات للشاعر الفارسي أنوري (ذكر جوته سنة وفاته 1152م، وهناك آراء أخرى بأنه توفي سنة 1185م/581ه، أو بين سنتي 585 و587 للهجرة). وقد ذكر جوته في التعليقات طرفا عن حياته ودراسته في طوس، وكيف أصبح شاعرا للبلاط وأكبر شعراء المديح في عصره، وأفاض في الدفاع عنه وتبرير إغراقه في مدح الأمراء والوزراء والكبراء في عصره الذين «تعلق بهم تعلق الكرمة بشجرة الدردار، والعليق بالجدار؛ لكي يرتفع إلى أعلى ويسعد العيون والمشاعر.» ثم يتساءل قائلا، كأنه يرد اتهام خصومه له بالخضوع لأمير فيمار وبلاطه وعلية القوم في زمانه: «وهل يلام الصائغ الذي يقضي حياته في صوغ حلى رائعة لأناس ممتازين من أحجار كريمة مجلوبة من الهند والسند؟» (راجع ترجمة بدوي لهذه الفقرة في التعليقات، ص405 من ترجمته.) (12) هذه الحكمة والحكم الثماني التالية توحي بنفس الجو النفسي الذي يسود كتاب الضيق الذي سبق شرحه. (13) في هذه الحكمة إشارة إلى تجارب جوته الأليمة مع «الوطنيين» المتحمسين الذين تطاول بعضهم عليه أثناء حروب التحرير من نير نابليون. (14) مقتبسة عن بستان سعدي في ترجمة أولياريوس (من الطبعة المزيدة والمنقحة لوصف رحلته إلى الشرق التي ظهرت سنة 1696م في هامبورج). (15) قارن كتاب الضيق والقصيدة رقم 2 لن تجد أي شويعر نظام (س1-4). (16) هذه الحكمة والحكمتان التاليتان مقتبسة عن كتاب جان شاردان السابق الذكر. (17) مأخوذة عن مثل فارسي. (18) هذه الحكمة والسطران الثالث والرابع من الحكمتين التاليتين مقتبسة عن ترجمة فون دييتس لكتاب «مرآة البلدان» للمؤلف التركي كاتبي رومي من القرن السادس عشر. (19) راجع السطرين الأولين من قصيدة الحنين المبارك (رقم 17 من كتاب المغني): لا تقل هذا لغير الحكماء، ربما يسخر منك الجهلاء. وانظر كذلك الحكمة التالية رقم 28 التي يقول فيها إن الحكماء يقعون في الجهل إذا تجادلوا مع الجهلاء. وكذلك القسم الأول من فاوست، البيت رقم 590 وما بعده: «إن القليلين الذين عرفوا شيئا عنهما (أي عن العلم وعن قلب الإنسان وروحه كما يقول تلميذه فاجنر)، والذين كانوا من الحمق بحيث لم يكتموا أسرار قلوبهم، وكشفوا للعامة عن شعورهم ورأيهم، قد دأب الناس منذ القدم على صلبهم وإحراقهم. أرجوك، يا صديق، لقد أوغل الليل، ويجب علينا الآن أن نقطع الحديث» (الأبيات من 590-595، وهي نفس الفكرة التي تدور حولها مأساة الحلاج في مسرحية صلاح عبد الصبور رحمه الله). ويحتمل أن يكون السطر الثاني من هذه الحكمة مأخوذا عن كاتبي رومي الذي سبق ذكره. (20) عن مثل شرقي واسع الانتشار يقول ما معناه: «افعل الخير لأجل الخير؛ فهو يحمل قيمته في ذاته، ولا تنتظر نجاحا ولا شكرا عليه.» وهو شبيه بما يقوله أهل الريف عندنا: «اعمل الخير وارمه في البحر.» كما يذكرنا بفلسفة كانط في الواجب وضرورة أدائه دون انتظار لأي منفعة أو لذة أو جزاء. وقد قرأ جوته السطرين الأخيرين في رواية دييتس من كتاب قابوس: «افعل الخير، وألق بخبزك في الماء، فسيرد لك ذلك ذات يوم.» وقد تصرف الشاعر فيه كما ترى، وأشاد بالكرم والعطاء الخالص، بغض النظر عمن سيصل إليه هذا العطاء ويذوق كعكته. (21) وردت هذه الحكمة في إحدى النسخ التي دونها جوته بخط يده تحت هذا العنوان: «حكمة هندية»، ولا يعرف مصدرها الأصلي. (22) عن ترجمة أولياريوس لبستان سعدي. (23) مائدة الله كناية عن الأرض. والحكمة مأخوذة عن مقدمة بستان سعدي (في ترجمة أولياريوس): «الأرض سماطه (أي سماط الله) الممدود أمام كل الناس ، حيث لا فرق بين صديق وعدو» (بدوي ص193). (24) أي لا بد من الصعود إلى أعلى الدرجات قبل التمكن من إلقاء نظرة شاملة. وهي مأخوذة كذلك عن بستان سعدي. (25) تذكرنا هذه الحكمة بالمثل العربي المعروف: «المرء مخبوء تحت لسانه.» وهي مع الحكمة التالية لها مقتبستان من كتاب قابوس. (26) ورد القول المشهور في السطر الثاني عن تلاميذ فيثاغورس وأتباعه بنطقه اليوناني «أوتوس إفا
Autos epha »؛ أي هو نفسه قال هذا؛ وذلك احتراما منهم للمعلم، وإجلالا لشخصه الذي أحاطت به في عصره والعصور التالية هالة من الأسرار والأساطير. وفي هذه الحكمة سخرية مرة ممن يؤمنون بالسلطة إيمانا أعمى. (27) راجع الفصل الخاص عن جوته والإسلام في هذا الكتاب وأقواله في رسائله لبعض معارفه وأصداءه (مثل تسلتر) عن تقديره العظيم للإسلام بمعنى التسليم المطلق لإرادة الله ومشيئته. (28) المقصود بالبيت الصغير هو الديوان الشرقي. (29) يقال إن لقمان، صاحب الأمثال المشهورة، كان قبيح المنظر معوج الساقين. ولعل في السطرين الأخيرين إشادة بالعمل الأدبي أكثر من المؤلف، وتفضيلا للثمرة على العود والنبتة. والفكرة مأخوذة عن بستان سعدي في ترجمة أولياريوس. (30) عرف الألمان الكاتب المسرحي الإسباني كالديرون دي لاباركا (1600-1681م) بفضل ترجمات الرومانتيكيين، وبالأخص أوجست شليجل للأدب الإسباني، ثم زادت معرفتهم به بفضل ترجمات يوهان ديتريش جريس (1770-1842م). وقد أحبه جوته وأثنى عليه، وقال في رسالة إلى صديقه تسلتر (في 28 / 4 / 1829م): «إذا كانت الطبيعة والشعر يتحدان أوثق اتحاد عند شكسبير، فإن الشعر والثقافة الراقية يتصلان اتصالا حميما عند كالديرون.» ولعل تجربته مع الشرق الإسلامي والحضارة العربية التي ازدهرت في الأندلس، قد زادت من تقديره لكالديرون الذي لم ينكر ثقافته العربية. راجع كذلك فقرة تحت عنوان «مدخل» في التعليقات على الديوان، وهي الفقرة التي يدافع فيها دفاعا مجيدا عن شعر المديح عند الشعراء الشرقيين من الفرس والعرب، ويستنكر أن توصف القصائد التي مدح فيها كالديرون ملكه الإسباني، وحلق فيها بخياله تحليقا جسورا، بأنها قصائد مدفوعة الثمن. (31) هذه الحكمة مأخوذة عن حكاية أوردها سعدي في جلستان، ونسبها إلى جمشيد ردا على سؤال من سأله لماذا وضع كل الزينة في اليد اليسرى بينما اليمنى أحق بها؛ لعلها أن تكون ردا على الذين اتهموه - على الأقل في الفترة التي شغل فيها بتأليف الديوان الشرقي - بتفضيله لشعراء الشرق على شعراء الغرب، وقارن كذلك الحكمة رقم 18 من هذا الكتاب (انظر شرح بدوي، ص199 من ترجمته للديوان). (32) قارن عن حمار المسيح: إنجيل متى 21، 2-11؛ وإنجيل يوحنا 12، 14-15. (33) البيزة نوع من الحجارة الطينية المستعملة في البناء بعد ضربها أو حرقها (عن الفعل اللاتيني
؛ بمعنى: يدوس بقدميه). (34) لا تخفى هنا السخرية المرة التي تذكرنا بلهجة مفيستوفليس في حواره الذكي البارع مع فاوست، كما تذكرنا أيضا بحكمة أو مثل آخر من الأمثال التي كتبها الشاعر في شيخوخته: «لا يجوز أن يدخل أحد الدير، إلا إذا كان مزودا على أحسن وجه، بزاد مناسب من الخطايا والذنوب؛ حتى لا يفتقد في الصباح والمساء، متعة تعذيب نفسه بالندم» (المثل رقم 182، المجلد الأول من طبعة هامبورج، ص335). والحكمة مأخوذة عن كتاب الإرشاد (بند نامه) لفريد الدين العطار في ترجمة سيلفستر دي ساسي. (35) لا تخرج هذه الحكمة عن أن تكون نظما لقطعة ترجمها المستشرق الفرنسي السابق الذكر عن كتاب الإرشاد، وأوردها فون همر في الجزء الثاني من مجموعة «كنوز الشرق» (عن بدوي، ص201). (36) عن تأثير العواطف الملتهبة على الشعر، وربما كان المعنى أنه في عمومه تأثير ضار، وإن أسفر أحيانا عن بعض اللآلئ الثمينة (راجع كذلك القصيدة رقم 16 من كتاب زليخا، وهي قصيدة: «الصحائف المكتوبة بخط جميل»، من س20-س43). (37) يدور الحوار هنا عن أحد أصحاب الحاجات، ونلاحظ فيه أن التابع الأمين حريص على مصلحة الوزير، بينما الوزير أدرى منه بمصلحة صاحب الحاجة؛ ربما لأنه (أي الوزير) أقرب من تابعه إلى قلب الشعب، وأنفذ منه بصرا وبصيرة بشئون الناس. (38) تصلح هذه الحكمة لكل مكان يكثر فيه الشعراء، ويقل الشعر الحقيقي أو ينعدم، فاسمعي يا جارة.
كتاب تيمور
(1) يقول جوته في إعلانه عن هذا الكتاب سنة 1816م في «صحيفة الصباح»: «يعكس كتاب تيمور أحداثا عالمية كبرى في مرآة نرى فيها، لعزائنا أو لبلائنا، انعكاس مصائرنا نحن.»
وتيمورلنك - الذي فاجأه الشتاء وهو يعد لحملته على الصين - يجسد القوى الشيطانية التي طالما تحدث عنها جوته، وقال لسكرتيره ريمر ولصديقه بواسريه إنها تصطدم مع القانون الأخلاقي في العالم. وتيمور وأمثاله من الطغاة الجبابرة ليسوا بشرا عاديين، وإنما هم أشبه بالقوى الكونية المدمرة. وكما قال جوته في الكتاب العشرين من سيرة حياته شعر وحقيقة، فالطاغية كارثة، زلزال أو إعصار، أو بركان أو طوفان؛ ولهذا لا يقهره إنسان مثله، ولا تقوى على تحطيمه إلا كارثة أقوى منه، ولا تدمره إلا الطبيعة والكون نفسه. ووجه الشبه ظاهر مع نابليون وحملته الشتوية على روسيا (1812م) وهزيمته المروعة على أبواب موسكو. وقد أعجب به جوته، والتقى به لقاء لا ينسى، فيه قوله له: هاكم رجلا! ثم أذهلته نهايته الفاجعة التي لم يتوقع أن تتم بالسرعة التي تمت بها، لكن إعجابه به شيء ومسئولية الشعر شيء آخر. وقد عانى جوته ما عانى من احتلال جيوش نابليون لمدينة فيمار واستباحتهم لها، ومزاحمة الجنود الفرنسيين له في بيته، كما قاسى حافظ في شيخوخته من طغيان تيمورلنك (1336-1405م)، وخيمت ظلاله السوداء على حياته التي وهبها للشعر، وذلك قبل أن تموت الجرادة المغولية الكبرى ويموت حافظ نفسه سنة 1390م. وقد تأثر الشاعر هنا بقطعة أدبية وردت في كتاب «عجائب المقدور في نوائب تيمور» لابن عربشاه (المتوفى سنة 1450م)، وقرأ جوته ترجمتها اللاتينية في كتاب للمستشرق الإنجليزي المعروف ومترجم المعلقات وليم جونز، وفيها وصف على لسان الشتاء نفسه للمصائب التي حلت بجيش تيمور أثناء استعداده لحملته الشتوية على إمبراطورية الصين (راجع المقدمة العامة لهذا الكتاب). ويلاحظ أن المخاطب - وهو تيمور - لا ينطق في هذه القصيدة بكلمة واحدة، كأنما شله الفزع والرعب وجمده البرد والثلج! ويلاحظ أن الإيقاع الرباعي المتحرر من القافية يتدفق أشبه بقوة الطبيعة العاتية، وأن اللغة حادة الألفاظ ومحددة، وأن القصيدة كلها التي خلت من البداية والخاتمة أقرب إلى أن تكون شذرة من تاريخ أسود طويل، هو تاريخ الطغاة والطغيان على اختلاف صوره وأشكاله ومآسيه. (2) إلى زليخا: تبدو القصيدة قلقة في موضعها من هذا الكتاب، وإن كانت تمهد للكتاب التالي وهو كتاب زليخا، وقد أضاف جوته السطرين الأخيرين (15-16) لتسويغ ضمها إلى كتاب تيمور، دون أن ينجح تماما في ذلك كما يرى بعض الشراح. وغني عن الذكر أن حب البلبل للوردة (جلجل) موضوع واسع الانتشار في الشعر الفارسي. وقد شبه الشاعر طغيان تيمور الذي سحق الألوف المؤلفة من الناس، بما يفعله صانع العطور مع آلاف الورود، وإن كان الهدف في الحالين شديد الاختلاف؛ مما يجعل المقارنة غير مقنعة؛ لأن ملك تيمور بعيد عن ملكوت العطور بعد الأرض عن السماء، والجحيم عن النعيم! والقصيدة تنظر إلى موضوع العبقري والعبقرية نظرة مختلفة عن نظرتها إليه في القصيدة السابقة؛ ولهذا لم يجد الشاعر في نفسه أي ميل للاسترسال فيه، فكان كتاب تيمور أقصر كتب الديوان. والمهم أن وضع هذه القصيدة فيه يمكن أن يكون تمهيدا للانتقال إلى كتاب زليخا؛ ففي أنغامها اللطيفة إرهاص بأنغامه ومحاولة لتجاوز الجو المقبض الذي توحي به «الشتاء وتيمور».
كتاب زليخا
يقول جوته عن هذا الكتاب في إعلانه عن الديوان الشرقي في صحيفة الصباح (1816م) إنه يحتوي على قصائد عاطفية، ويتميز عن كتاب العشق بأن الحبيبة مذكورة بالاسم، وأنها تظهر فيه بطابع واضح صريح، بل تظهر من الناحية الشخصية كشاعرة تتمتع بشبابها وتنافس الشاعر، الذي لا يخفي كبر سنه، في حبها المشبوب بالعاطفة. والبيئة التي تجري فيها هذه الدراما الثنائية بيئة فارسية محضة. وهنا أيضا تفرض المعاني الروحية نفسها في بعض الأحيان، ويبدو وكأن حجاب الحب الأرضي يخفي وراءه علاقات أسمى.
ثم يقول عنه بعد ذلك في تعليقاته وأبحاثه التي وضعها بنفسه لتعين على فهم الديوان: «إن هذا الكتاب، وهو أوفر كتب الديوان (من حيث عدد قصائده) يمكن أن يعد مكتملا.» وإن نفس العاطفة المشبوبة وروحها التي تشيع في الكتاب كله، ليسا شيئا يمكن استعادته بسهولة ، أو على الأقل يجب أن تنتظر عودته كما تنتظر عودة موسم النبيذ الطيب، في أمل وتواضع، ولكن أرجو أن يسمح لنا بتقديم بعض الخواطر عن مسلك الشاعر الغربي في هذا الكتاب؛ فهو مثل بعض أسلافه الشرقيين ينأى بنفسه عن السلطان، بل إنه كدرويش قنوع، يجرؤ حتى على مقارنة نفسه بالأمير؛ لأن الشحاذ الحقيقي هو في الواقع أشبه ما يكون بالملك. إن الفقر يمنح الجرأة. وعدم اعترافه بالخيرات الأرضية وقيمتها، واستغناؤه عنها تماما أو احتياجه للقليل منها، هو قراره الذي يجعله خالي البال من كل هم، وبدلا من السعي إلى التملك المثير للقلق، فإنه يجود بفكره بالبلاد والكنوز، ويتهكم على كل من كان يملكها ثم فقدها. والواقع أن شاعرنا قد تبنى نوعا من الفقر الإرادي؛ وذلك ليكون أكثر اعتزازا بأن ثمة فتاة تحبه لهذا السبب وتميل إليه.
أضف إلى هذا أنه يفتخر بعيب أكبر؛ فقد تولى عنه الشباب، وهو يزين شيخوخته وشعره الأشيب بحب زليخا، لا عن غرور وإلحاح، كلا! بل عن يقين بأنها تبادله حبا بحب؛ فزليخا الذكية، تقدر الروح التي تنضج الشباب مبكرا كما تجدد شباب الشيخوخة (بتصرف عن ترجمة بدوي، ص209، ص459، وطبعة هامبورج ص201-202، ص269).
وإذا كان كتاب العشق قد عرض ظاهرة الحب بأشكالها المختلفة، كما قدم شخصيات متنوعة من العشاق الذين أخلصوا في الحب إلى حد الجنون أو الفناء، فإن كتاب زليخا يقتصر على عاشقين اثنين يؤلف بينهما الحب المشبوب. ومع ذلك، فإن ظاهرة الحب نفسها تصور من خلالهما، كما يتمثل الكل في هذا النموذج المثالي النادر. ومن هنا يسود الطابع الشخصي الحميم قصائد هذا الكتاب، كما تنفذ فيه وتشع منه - على حد تعبير جوته نفسه في النص السابق - معان روحية ودينية وكونية مختلفة. وتتكرر في الكتاب بعض الموضوعات المحورية في الديوان كله، كما تظهر فيه موضوعات أخرى يكاد ينفرد بها عن سائر الكتب؛ فهناك موضوع التفوق أو «التعاظم» الذي تناولناه في شروح سابقة، وفيه يقارن الشاعر نفسه بالقيصر ويؤكد أنه أعظم منه لأنه يحب ويحب. وفيه كذلك موضوع الارتباط الوثيق بين الحب والدين، بيد أن الجديد هنا - ومن الطبيعي أن يظهر في قصائد الحب الصادقة! - هو ما يمكن تسميته بجدلية الحب، أو بتعبير أبسط بتبادل الحب، كما يظهر بشكل رمزي في قصيدة جنجوبيلوبا (رقم 10) التي تؤكد أن كلا الحبيبين واحد واثنان، وبشكل كوني شامل في قصيدة «لقاء من جديد» (رقم 39)، كما يزداد عمقا في شعور الحبيبين بأن كلا منهما قد خلق للآخر ولا غنى له عنه - وهذا هو جوهر الحب! - مما يظهر في قصيدة «أن زليخا فتنت» (رقم 2، السطر 6)، وعلى لسان حاتم (في القصيدة رقم 11، س7-8)؛ ولهذا تكثر القصائد الحوارية في هذا الكتاب بين زليخا (التي أطلق الشاعر اسمها على حبيبته مريانة فون فيليمر) وبين حاتم (وهو الاسم الذي أطلقه الشاعر على نفسه؛ ربما لأنه لا يقل في جوده وعطائه للحب عن حاتم الطائي!) وتربط بهذا كله تلك الفكرة الصوفية العريقة التي تقول إنه لا يجد نفسه إلا من يفقدها ويتخلى عنها؛ أي من يهبها للمحبوب، وإن كنوز الأرض جميعا لا تساوي شيئا لأن الحب هو الغنى الحقيقي (راجع القصيدة رقم 4، السطر 7-8؛ والقصيدة رقم 15، س7-8، س11-12؛ والقصيدة رقم 19، س5-8)؛ ومن ثم يأتي أهم موضوعات هذا الكتاب، وهو تأكيد ال «نحن» في ثنائية الحب، سواء في «عودة اللقاء» بعد فراق طويل، أو في الفراق المأسوي الذي ليس بعده لقاء، وكل هذا في رموز كبرى تتجلى في صور متنوعة، مثل صورة الكرة التي يتلقفها الحبيب ويلقيها لحبيبه (في القصيدة رقم 16، من السطر 16-20؛ وفي القصيدة رقم 33 بهرامجور فيما يقال، هو الذي اخترع القافية؛ والقصيدة رقم 12 عن ورقة الشجرة العجيبة «جنجوبيلوبا») التي تجسد الحب كلقاء يضم اثنين في واحد، كما تمثل ما نسميه نحن بالمكتوب والنصيب الذي قسم كل واحد منهما للآخر، وفي القصيدتين اللتين ترمزان بالشمس مرة لاستحالة اللقاء بعد الفراق والهجران، ومرة أخرى لتجربة الحب التي يشع منها الحضور الإلهي، وهما صورة سامية (رقم 36) وصدى (رقم 37)، وكأنما تسبح القصائد كلها في الوجود الكلي قبل أن تنتهي دورتها إلى الأنا والأنت المتحابين. وقد ضم جوته إلى هذا الكتاب بعض القصائد التي أرسلتها إليه حبيبته مريانة، وذلك بعد تغيير طفيف جدا لم يمس سوى كلمات قليلة، ولولا معرفتنا بهذه القصائد التي كتبتها الشاعرة، وتأثرت فيها بطبيعة الحال بلغة جوته وتجربته وإيقاعاته! لقلنا إنها من شعره، وإن كان النظر المدقق سيميزها عنه بخصائص «أنثوية» رقيقة بينها بعض الدارسين، ولا يتسع هذا المجال لذكرها.
الشعار في مستهل الكتاب: مأخوذ عن ترجمة المستشرق دييز (في كتابه ذكريات من آسيا، ج1، ص254-1520). ورمز الشمس هنا له دلالة عميقة - كما سبق القول - على ظهور مريانة في حياته على غير انتظار، وعلى تجربة الحب التي غمرتها بالنعمة الإلهية كما تغمر الشمس الوجود بنورها، وربما كان هذا المعنى المتضمن في السطور الأربعة من أقوى الأسباب التي جعلت الشاعر يختارها شعارا لكتاب زليخا. (1) دعوة: تتناول القصيدة - التي لا تخلو من الغموض الموحي! - موضوعا من أجل الموضوعات، لعله أن يكون هو الحاضر الذي يبلغ ذروة حضوره في لحظة الحب! وذلك بنوع من اللعب أو التلاعب بالألفاظ، شأنها في هذا شأن العديد من قصائد الديوان، وربما يكون أهم ما فيها هو الانصراف عن العالم الصاخب المضطرب الذي نشقى به ويشقى بنا كل يوم، لاستعادة العالم الحقيقي أو الجوهري في الحب مع «أعز حبيب». (2، 3) عرف جوته، بغير شك، قصة سيدنا يوسف مع امرأة العزيز فرعون مصر عن مصدريها الأساسيين، وهما الكتاب المقدس والقرآن الكريم، وتأثر كذلك بتصوير نور الدين عبد الرحمن جامي (1414-1492م) - في قصيدته الكبرى «يوسف وزليخا» - للحب بينهما في صورة حب عذري طاهر أفضى إلى إيمان زليخا بالله. فهل يمكن القول إن حب الشاعر لمريانة فيليمر كان من هذان النوع كما يقول بعض الشراح (ومنهم الدكتور بدوي في شرحه على هذه القصيدة وتفسيره لتسمية جوته لنفسه باسم حاتم علامة على الحب الروحي الذي يتجلى في العطاء بغير حدود)؟ لا أظن أن جميع قصائد هذا الكتاب توحي بهذا الحب الروحي أو العذري الخالص، وإن كان هذا لا يمنع أنها تؤكد وحدة الحبيبين وتفانيهما في العطاء الروحي وغير الروحي. أما عن حاتم الطغرائي الذي تذكره القصيدة رقم 3 «لما كنت الآن تسمين زليخا»، فقد تصور شراح الديوان أنه سهو وقع فيه جوته بدلا من إسماعيل الطغرائي صاحب لامية العجم، الذي قرأ جوته وصف هيربوليه له في المكتبة الشرقية بأنه رجل غني بالفضائل والصفات الحميدة، وهو قريب مما يسميه الإيطاليون بالفيرتووزو - أي المنفرد البارع في فنه - إلى أن أثبتت الباحثة السيدة كاترينا مومزن - كما ذكرنا بالتفصيل في مقدمة هذا الكتاب - أن ذلك لم يكن سهوا على الإطلاق. والمهم أن الحاتمين اللذين تذكرهما القصيدة رجلان ناضجان مثله في العمر والتجربة، وأن كليهما اشتهر بالعطاء السخي ووعد نفسه بأن يلقاه من المحبوبة وأن يقدمه لها. والقديس جورج المذكور في السطرين السابع والثامن من القصيدة رقم 3 هو القديس المحلي لمدينة أيزناخ، حيث كتبت القصيدة في يوم 24 من مايو سنة 1815م. (4) حاتم: يتردد هنا (لا سيما في السطرين السابع والثامن) موضوع فقد النفس والعثور عليها في المحبوب، وهو الموضوع الذي يتكرر في قصائد أخرى، من أهمها القصيدة رقم 18 على لسان زليخا «الشعب والخادم والحكام»، على نحو ما تتردد سائر الموضوعات في قصائد هذا الكتاب، كأنها جمل أساسية متداخلة في سيمفونية طويلة. (5) زليخا في قمة الفرح بحبك: رد على القصيدة السابقة، وهي من نظم مريانة، وبها يبدأ تبادل الحوار بين العاشقين، أو تبدأ الدراما الثنائية التي ذكرها جوته وأشرنا إليها في التمهيد لهذا الكتاب. وأهم ما يميز هذا الحب هو الاختيار الحر والعطاء السخي الذي يصدر عن الفرح والابتهاج بالعطاء نفسه (راجع البيت الأول: في قمة الفرح بحبك). (6) ما خاب لصب مسعاه: استوحى جوته هذه الأبيات من ترجمة أولياريوس (1654م) لبستان سعدي: «لو أحببت إنسانا حبا صادقا لوجهت قلبك إليه، وأغمضت عينيك عن كل شيء في العالم، ولو بعثت ليلى والمجنون مرة أخرى إلى الحياة وقد نسيا الحب تماما لتعلما من جديد فن الحب من كتابي» (ص115). (7) أمن الممكن: الكلام على لسان حاتم، ويصدق عليه ما قاله جوته في تعريفه بكتاب زليخا في صحيفة الصباح: «إن حجاب الحب الأرضي يبدو أنه يخفي علامات أسمى.» فالوردة شيء واقعي ملموس، ولكنها مع ذلك شيء مستحيل وغير قابل للفهم؛ لأنها هي الجمال والكمال الذي يحس معه الإنسان بما هو مستحيل وعصي على الإدراك؛ أي بالاقتراب مما هو إلهي. وفي هذا المعنى يقول الشاعر في إحدى قصائده المتأخرة بعنوان «أبيريما»: «عليكم، وأنتم تتأملون الطبيعة، أن تنتبهوا دائما للواحد وللكل، فلا شيء في الداخل ولا شيء في الخارج، وهكذا تمسكون، بلا تردد، بالسر المقدس المكشوف» (طبعة هامبورج، المجلد الأول، ص358). والمعنى ببساطة أن المعطي المباشر المحدود يكشف عن اللامحدود واللانهائي، وأن الوردة والبلبل والحبيب تعكس للعين العاشقة قبسا من الألوهية، فتشعر حيالها بأنها واقع ولا واقع في وقت واحد، كما تحس بالسعادة والفرحة الممتزجة بالرهبة والقلق حين ترى الوردة (الجمال) وتسمع البلبل (الصوت الإلهي). وتأتي أهمية القصيدة من أنها توحي لأول مرة في كتاب زليخا بالبعد الكوني والبعد الإلهي اللذين سنجدهما بصورة أعمق في قصيدتي «لقاء من جديد» (رقم 36) و«في وسعك أن تتخفى في آلاف الأشكال» (رقم 46). (8) رأت زليخا في الحلم أن الخاتم الذي أهداه حاتم إليها قد سقط في مياه الفرات (وهو هنا البديل في الحلم عن نهر الماين!) وهو يفسر الحلم بأنه - وهو التاجر الذي يجوب أنحاء الأرض - قد أصبح بفضل هذا الخاتم مشدودا إلى عالمها، غارقا إلى أذنيه في نهر حبها، وهو يذكرها على سبيل المقارنة بأن حاله تشبه حال دوق البندقية الذي كان يستقل سفينة في يوم الاحتفال بقيامة المسيح من كل عام، ويلقي بخاتم في الماء رمزا لارتباط مدينة البندقية بالبحر، أو بزواجها منه لضمان سيطرتها البحرية والتجارية عليه. (9) شجرة الجنج كو: (وليس جنجو كما يكتبها جوته!) شجرة عريقة من شرق آسيا، يقال إنها شجرة مقدسة في الصين، وقد عرفت طريقها منذ القرن الثامن عشر إلى حدائق النباتات في القارة الأوروبية. يقال أيضا إن ورقتها تبدو كالمروحة المفرودة التي يشقها من المنتصف قطع عميق غائر، فتظهر كأنها ورقتان نمتا معا (وقد رأيت بعيني كيف استغلها التجار في مدينة فيمار الصغيرة لجذب السياح، وصنعوها على أشكال مختلفة من الحلوى والشوكولاتة التي تلف معها قصيدة جوته بخط يده المنسق الجميل!) ومع أن كتاب زليخا قصائد عديدة تعبر عن وحدة العاشقين (مثل قصيدة بهرامجور فيما يقال رقم 32، وقصيدة لقاء من جديد رقم 39)، إلا أن هذه القصيدة تمثل الوحدة الثنائية - إذا صح هذا التعبير - في صورة حية أو رمز عياني عجيب يقول كل شيء، وإن كان لا يبوح به إلا لمن جرب الحب وتعذب بنعيمه أو نعم بعذابه!
ومما يذكر أن جوته أرسل هذه القصيدة مكتوبة بخط يده مع خطاب إلى روزينة شتيدل، الابنة الكبرى لفون فيلمر زوج حبيبته، وذلك في السابع والعشرين من شهر سبتمبر سنة 1815م، كما عثر على نسخة خطية أخرى منها كتب تحتها: تذكارا لأيام سبتمبر السعيدة. ويقول بعض الشراح إنه أرسلها إلى مريانة نفسها ومعها ورقة من تلك الشجرة العجيبة، وذلك بناء على الملاحظة التي دونها بواسريه صديق جوته في الخامس عشر من الشهر نفسه. (10) زليخا طلعت الشمس! يا له من منظر بديع! لهذه القصيدة مناسبة طريفة؛ فقد كانت مريانة تعرف مدى حب جوته لكل ما هو شرقي، كما كانت هي نفسها لا ترى شيئا من الشرق إلا ربطته بشخصه، وكان قيصر النمسا فرانز الأول قد أهدى جوته وساما، واغتنمت مريانة هذه الفرصة، فاشترت له هدية لطيفة على سبيل الدعاية من معرض فرانكفورت، وكانت عبارة عن شعار تركي من الورق المقوى يمثل الشمس التي يعانقها الهلال (وكان سلاطين الأتراك العثمانيين يضعونه وساما على صدر الشجعان والأصفياء المخلصين س5-8). وقد احتفظ جوته بهذه الهدية المحبوبة حتى وفاته، كما فسرها في القصيدة تفسيرا مرحا وشائقا من منظور العاشق السعيد. وجدير بالذكر أنه كتبها في مدينة هيدلبرج في الثاني والعشرين من شهر سبتمبر سنة 1815م الذي انفتحت له فيه - فيما يبدو - أبواب جنة مريانة التي لم تضن عليه بخمرها وعسلها. وقد ذكرته بهذه القصيدة بعد ذلك بحوالي عشر سنوات في رسالة كتبتها إليه في بداية شهر مارس سنة 1824م. (11) تعال أيها الحبيب تعال ! يوضح آخر بيتين مغزى القصيدة؛ إذ يرجع الشاعر مرة أخرى إلى موضوع العظمة أو التعاظم الذي تناوله في قصائد سابقة، وإن كان الحب يجعله في هذه المرة أعظم من عباس الأكبر شاه إيران المشهور (حكم من 1586-1608م)، كما تحل العمامة الملفوفة بشال من الموصلين محل القلنسوة (راجع قصيدة خاطر حر، رقم 3، س4 من كتاب المغني)، وتيجان القياصرة التي لا تختلف كثيرا عن العمامة (س9 وبعده). أما العمامة التي تدلت من رأس الإسكندر (س5-8) فهي «الدياديم» أو غطاء الرأس الذي كان ملوك الفرس يزينون به رءوسهم، وقد لبسه الإسكندر فيما يلبسه من ثيابهم الفخمة بعد فتحه لإيران. (12) قليل ما أطلبه: لعلها أحلام يقظة تصور لخيال المحب نفائس الهدايا الشرقية التي يتمنى أن يقدمها لها؛ الياقوت من بدخشان (على نهر سيجون)، والفيروز من بحر هرقانيا (البحر الكاسبي أو بحر الخزر، وتجيء هذه التسمية القديمة من كلمة فاركانا الفارسية التي تعني بلد الذئب)، والفواكه من بخارى فيما وراء النهر (تركستان)، ودواوين الشعر على ورق الحرير من سمرقند عاصمة ممالك تيمور، بجانب الأقمشة من الهند بلد البراهمة، والماس من سلمبور في البنغال، واللؤلؤ من ميناء هرمز على الخليج الفارسي، والتوابل والعطور من البصرة، وكل هذه الروافد البديعة المتألقة تصب في النهاية في بحر الحب السعيد الذي يوحد الأنا مع الأنت. (13) هل كان من الممكن أن أتردد؟ تواصل موضوع الهدايا في القصيدة السابقة، مع التأكيد على التعاظم أو الشعور بالعظمة والتفوق - الذي يتيحه الحب الصادق - حتى على القيصر نفسه (من س7-12)! والكلام بطبيعة الحال على لسان حاتم دون تدخل من زليخا كما تصور أحد الشراح وهو (أرنست بويلتر). لاحظ اللغة الحية المتوثبة التي تتراوح بين التساؤل والخطاب المباشر، وراجع ما سبق قوله عن موضوع التعاظم الذي تحس به الأنا من خلال الأنت المحبة وحدها (راجع الشروح السابقة على القصائد الأولى من كتاب الضيق). (14) الصحائف المكتوبة بخط جميل: أهم ما في هذه القصيدة هي قوة الإبداع التي يحملها الشاعر الكهل في صدره، كما كانت تلح عليه وتتفجر منه في أشعار شبابه. ويمكن القول إن قصة كتاب زليخا هي قصة الإبداع الشعري المتجدد على هيئة عطاء متجدد أيضا في صور شرقية متنوعة (س26 وما بعده). ويلاحظ أن حاتم هنا هو التاجر الذي يؤرقه البعد عن الحبيبة ويدفعه الشوق إليها، وهو كذلك الشاعر الذي يهديها ما سبق أن أهدته هي إليه؛ لآلئ شعرية ألقتها عواطفها المشبوبة على شاطئه الموحش. لاحظ كذلك ارتباط الإبداع بالحب المتبادل كالكرة التي يتقاذفها الحبيبان (س16-20). والفرنجي والأرمني (س22-23) هم التجار المسيحيون الذين يشاركهم حاتم في التجارة، وكانوا كما وصفهم أولياريوس في وصف رحلته إلى بلاد فارس، هم أغنى التجار في إيران. أما قطرات المطر الإلهي (السطر قبل الأخير) فسوف يذكرها الشاعر في كتاب الأمثال في قصيدته البديعة «تحدرت قطرة خائفة من السماء»، وهي أولى قصائد الكتاب الأخير. (15) حب بحب: هنا يتضح التبادل في الحب - الذي سبق أن ذكرناه - بأجلى صورة وبأسلوب جديد؛ فإذا كان قد قدم من قبل في صور فنية (مثل ورقة شجرة الجينجو ولعبة الكرة والقافية التي سيأتي ذكرها في قصيدة بهرمجور فيما يقال، رقم 33) فهو يقدم الآن بطريقة لغوية ترتبط فيها كل كلمتين بحرف الباء، كما سنراه بعد ذلك في شكل حواري بين زليخا وحاتم. والأبيات الأخيرة من هذه القصيدة تمهد لفكرة التفاني في الحب وإنكار الذات. (16) الشعب والخادم والحكام: المقصود بالشعب في الاستخدام اللغوي للكلمة في القرن الثامن عشر هم العامة. أما كلمة الحكام فقد فضلناها على المعنى الظاهر للكلمة الأصلية، ومعناها القاهرون أو الغالبون مثل تيمور ونابليون، أو الطغاة بالمفهوم الإغريقي الذي يدل على الحاكم الفرد الذي لا يكون بالضرورة حاكما ظالما (نيرانوس). ولا بد من القول بأن كلمة الشخصية تعبر عن اقتناع جوته العميق بوحدة الشخصية الحية وحقها في الوجود والاستقلال الذاتي، وإيمانه بالتفرد شبيه بإيمان «ليبنتز» (1646-1716م) ب «الموناد» أو الجوهر الروحي الفرد، من حبة الرمل وورقة الشجر إلى الخالق سبحانه الذي سماه المونادة العظمى أو مونادة المونادات. واعتقاد جوته بالخلود بعد الموت قائم على اقتناعه بأن الشخصية - التي قضت حياتها على الأرض في تثقيف نفسها واستيعاب كل ما يمكنها من معرفة وتحقيق أقصى ممكناتها - يستحيل أن يسري عليها الفناء. وقد عبر عن هذا لصديقه يوهانيس فالك ليلة تشييع جنازة الأديب فيلاند الذي كان يحبه ويقدره (في 25 من يناير 1813م). كما عبر عنه في كتابه «تاريخ نظرية الألوان»، حيث يقول في الفقرة التي يتحدث فيها عن شخصية نيوتن: «إن كل كائن يشعر بوحدته تتجه إرادته إلى التمسك بحالته التي هو عليها، وهذه هبة أبدية وضرورية من هبات الطبيعة. ومن هنا يمكن القول بأن كل كائن فرد يحافظ على طبعه، حتى الدودة التي تنكمش على نفسها إذا داستها الأقدام. وبهذا المعنى يجوز لنا أن ننسب طبعا للضعيف، بل للجبان؛ لأنه يتجلى عما يقدره سائر الناس فوق كل شيء؛ أي يتخلى عن الشرف والمجد في سبيل المحافظة على شخصه، غير أن الحالة مع الحب تختلف عن هذا كل الاختلاف؛ فالمحب - كالمتصوف - لا يجد ذاته إلا إذا فقدها، ولا يشعر بوحدة شخصيته حتى يبذلها للمحلوب، ولن يحس بهذه المفارقة الجدلية إلا عاشق أو عابد أو متصوف.» ويلاحظ أن القسم الثاني من القصيدة يؤكد هذا المعنى؛ فحاتم يرد على زليخا بقوله: «هذا جائز، وهو كذلك رأي الناس، لكني أتبع أثرا آخر؛ إذ لا أجد نعيم الدنيا إلا في حب زليخا، إن بذلت من أجلي النفس، كبرت نفسي في عيني، وإذا هجرت أو صدت، ضيعت النفس على الفور.» ثم تستطرد المقطوعتان الأخيرتان فتؤكدان أن حاتم سيغير مصيره إذا أحس أنه «راحت عليه». عندئذ سيتقمص روح العاشق الجميل الذي تغازله، وربما اختار أن تحل روحه في جسد الفردوسي أو المتنبي بوجه خاص؛ لعلو إحساسهما بشخصيتهما الطموحة إلى المجد، أو إلى المكافأة الجزيلة وصدامهما مع الشاه أو الخليفة أو الأمير الذي حرمه منها وسبب لهما الإحباط والغضب. أما الفقيه في السطر الأول من المقطوعة الأخيرة فهو في الأصل الرابي؛ أي المتفقه في الدين بوجه عام لا في الدين اليهودي وحده. (17) كما يزدان بازار الصائغ بالجواهر: يدور الحوار في هذه المرة بين حاتم وبين بعض الحسناوات اللاتي يحسدن زليخا لأنه يخصها بأغانيه، مع أنها قد لا تكون جميلة إلا في عينيه، على نحو ما كان جميل يتصور أن بثينة العجوز التي تغضن وجهها وانحنى ظهرها لا تزال تسحره بفتنتها. ويجاملهن حاتم مجاملة الفارس النبيل، فيثني على السمراء ويبدي إعجابه بالشقراء، ولا يبخل بكلماته الرقيقة حتى على اللعوب الماكرة (وفي هذه الفقرة الثامنة - كما يقول بورداخ الباحث المشهور وناشر أعمال جوته - تأثر جوته بشكسبير في مسرحيتيه الشهيرتين روميو وجولييت، الفصل الخامس، المنظر الأول، 39، وهنري الخامس، الفصل الثالث، المنظر الأول، 6)، ولكن حاتم ينتهي في الفقرة العاشرة بالقول إن جمالهن ليس إلا العلامة التي تدل على حبيبته زليخا (راجع القصيدة رقم 11، البيتين 15-16
في كتاب زليخا (رقم 46) وهي في وسعك أن تتخفى في آلاف الأشكال). وتذكر الحسناوات أنهن يقلن الشعر أيضا، فيجد حاتم الفرصة مناسبة للإشادة لأول مرة بشعر زليخا أو مريانة (راجع القصيدة رقم 32 بدءا من الفقرة الثالثة، وكذلك القصيدة التالية لها بهرامجور فيما يقال). عندئذ تقتنع الفتيات بأن زليخا ليست إلا صورة خيالية من اختلاق الشاعر، ويتمنين في النهاية ألا تزاحمهن هذه الحورية الأرضية. ويرجح بعض الشراح (مثل فايتس، ص320) أن تكون هذه القصيدة - التي كتبها جوته في مدينة ميننجن في العاشر من أكتوبر 1815م، وهو في طريق عودته إلى فيمار بعد وداعه الأخير لمريانة - قد دونت تحت تأثير زيارته في الثلاثين من شهر سبتمبر من نفس العام (1815م) لبعض الحسناوات، ومنهن الممثلة كارولينه ياجمان التي كانت عشيقة أميره كارل أوجست، وتعرفه إلى شقيقتها وصاحباتها، وقد ألححن عليه في الرسالة التي بعثن بها إليه في الخامس من شهر أكتوبر أن يزورهن مرة أخرى في مدينة مانهايم ليتفرج على بعض عروضهن الفنية - كما ذكر صديقه سولبيس بواسريه في مذكراته - ولكنه كان في حالة نفسية لا تسمح له بذلك العبث؛ الأمر الذي جعله يسرع بالسفر ومغادرة هيدلبرج في السابع من الشهر نفسه. (18) أيتها الغدائر: تعبر هذه القصيدة بالذات عن التجربة الأساسية في كتاب زليخا، وهي تجربة الحب الجارف المشبوب التي كابدها كهل يقترب من الشيخوخة، وحاول أن يغطيها بقناع الدعابة واللعب والسخرية، وأن يضعها في إطار شكلي وإيقاعي محكم رفيع (لاحظ البداية المرحة ثم الصور الرائعة التي يستمدها الشاعر دائما من الطبيعة ببراعة فائقة). وقد لاحظ كثير من الشراح، متابعين في ذلك ريكرت (1822م) وسيمروك (1821م)، أن الفقرة الثالثة خرجت على الإيقاع التروخي الخفيف، وأن القافية كانت تستلزم وضع اسم جوته
Goethe
بدلا من حاتم؛ لكي تتسق مع القافية في البيت الأول منها وهي
Morgen röthe ؛ أي الفجر. والمهم أن القصيدة تجمع بين حرارة الاعتراف والعاطفة واللعب والتنكر الذي جرى عليه الشاعر في معظم قصائد الديوان. يلاحظ أخيرا أن البيتين الختاميين (23-24) يعبران عن روح الديوان كله، لا عن روح الحب والحياة وحسب. ويذكر أن جوته قد رأى بنفسه بركان أتنا إبان رحلته الإيطالية (في سنة 1787م). أما القمم في السطر العاشر فهي قمم الجبال المحيطة بمدينة هيدلبرج التي كتب فيها هذه القصيدة أثناء إقامته بها (من 20 سبتمبر إلى 2 أكتوبر سنة 1815م). (19) لا تدعي فمك الياقوتي العذب: إعادة صياغة لأبيات شرقية أوردها دييز في كتابه «ذكريات من آسيا» (ج2، ص236) عن الشاعر التركي السابق الذكر وهو كاتبي رومي، كما ذكرها الدكتور بدوي (ص238) على هذه الصورة: «من العار، أيها الساقي، أن تقابل بين القمر وياقوت الحبيب. أي غاية لآلام الحب غير البحث عن دواء؟!» والقصيدة التالية مستلهمة أيضا من أصول شرقية: «لو كان ما بينك وبين الحبيبة بعد ما بين الشرق والغرب، فاجر أيها القلب؛ لأنه عند المحبين بغداد ليست بعيدة» (الكتاب السابق الذكر لدييز، ج2، ص232، وبدوي ص238). (20) ألا ليت عالمكم المكسور: هنا أيضا استلهم جوته حافظا الشيرازي في ترجمة هامر (ج1، ص184): «منذ الآن لم يبق شيء أعلمه في أمور الدنيا، فإن طلعتك زينت لعيون الدنيا» (بدوي، ص239). (21) من أين لي صفاء البال؟ يظهر في هذه القصيدة موضوع البعد والفراق الذي وجدناه في القصيدة السابقة رقم 23: «إن قدر الدهر يوما، بالنأي عمن تحب.» بيد أن هذا الموضوع ستسوده في القسم الثاني من هذا الكتاب نغمة مأسوية فاجعة (كما في قصيدة صدى التالية رقم 37). (22) عندما أتفكر فيك: في هذه القصيدة والقصيدة السابقة نجد الشاعر وحيدا، كما يظهر الساقي لأول مرة. وهذا الأخير يحزنه أن تتسبب وحدة الشاعر في حرمانه من دروسه ومن حكمته التي يبدو أنه (أي الشاعر) يريد أن يحتفظ بها لنفسه. لاحظ أن كلمة الساقي الفارسية والعربية تستخدم هنا أحيانا كاسم علم. (23) إلى الأغصان المتشابكة الكثيفة: ربما كان انفجار القشرة (س13) كناية عن تفجر الإبداع الشعري من وجدان الشاعر، وكأن تساقط أغنياته في حجر الحبيبة (س15-16) رمز لوجوده أو لحبه الذي جعله ممتلئا بالصور الشعرية، من هنا تشابكت الأغصان الكثيفة وكثرت الثمار التي تحملها (س1-2)، ومن هنا أيضا يحاول الشاعر في القصيدة السابقة (رقم 29) أن يبرر طول كتاب زليخا بالنسبة لسائر كتب الديوان. والجدير بالذكر أن هذه القصيدة كتبت في اليوم الرابع والعشرين من شهر سبتمبر سنة 1815م، وهو ثاني الأيام الثلاثة التي التقى فيها بمريانة قبل أن يودعها الوداع الأخير ويرجع إلى فيمار. والأغصان المتشابكة الكثيفة هي أغصان أشجار الكستناء في حديقة القلعة المشهورة في مدينة هيدلبرج. (24) ما إن ألقاك من جديد: يستمع حاتم من زليخا إلى أغنيات حب جديدة، وهي أغنيات لم ينظمها شاعر كلاسي من الشعراء الذين يعرفهم من الغرب والشرق، فهل صدرت عن شاعر آخر أحبها وأهداها إليها؟ كلا؛ فهذه القصائد من نظم زليخا - مريانة - نفسها، كما سبق وأن أخبرتنا قصيدة سابقة (القصيدة رقم 20، كما يزدان بازار الصائغ بالجواهر، س50-52)، وكما سنعرف من قصائد أخرى نظمتها مريانة وضمها جوته - كما سبق القول - إلى الديوان (مثل قصيدة رقم 35 - ما معنى هذه الحركة؟ والقصيدة رقم 38 - آه أيتها الريح الغربية، وهما المعروفتان بقصيدتي الريح الشرقية والريح الغربية)، وقد كتبت في اليوم السابع من أكتوبر الذي بدأ فيه الشاعر رحلة العودة والوداع الأخير . (25) بهرامجور فيما يقال: تروي حكاية فارسية قديمة أن بهرامجور الملك الساساني (المتوفى سنة 440م) خاطب حبيبته وجاريته ديلارام (أي راحة القلب) بكلمات متوهجة بلهيب الحب، فردت عليه بكلمات من نفس الوزن والقافية؛ وبهذا نشأت أول أبيات مقفاة في الشعر الفارسي. وقد استغل جوته هذه الحكاية البسيطة العميقة وجعلها رمزا للواحد والاثنين؛ أي للحب الذي يجعل المحب واحدا واثنين في وقت واحد (كما يتجلى في القصيدة رقم 10، وهي جنجوبيلوبا، س11-12، التي سبق الحديث عنها). وهذه القصيدة التي كتبت في الثالث من شهر مايو سنة 1818م بالقرب من مدينة يينا تواصل الموضوع الذي طرقته القصيدة السابقة مباشرة، وهو شاعرية زليخا - مريانة - وإن كانت ترتفع إلى مستوى رمزي، كما تكرر موضوع التبادل في الحب، الذي عالجته قصائد عديدة سابقة في صور وتشبيهات مختلفة (كما في القصيدة رقم 10 التي ذكرناها قبل قليل، والقصائد الحوارية بين زليخا وحاتم، والقصيدة رقم 17 حب بحب)، وهذه القصيدة تتناوله من ناحية تبادل القوافي بين بهرامجور وحبيبته، وكذلك بين حاتم وزليخا، بحيث تبقى الكلمة الشاعرية حتى ولو تلاشى النغم والصوت، وبحيث يتجلى فيها «الكل السامي للحب» (س14، س16). ويبدو أن الشاعر قد شغله هذا الموضوع حتى أواخر حياته؛ إذ نجده يعود إليه في حوار فاوست مع هيلينا (القسم الثاني من فاوست، الفصل الثالث، من س9365) الذي تقول فيه هيلينا: «معجزات كثيرة أراها وأسمعها فتصيبني الدهشة، وأود أن أسترسل في السؤال. ومع ذلك أحب أن أعرف؛ لماذا رن كلام الرجل في سمعي رنينا غريبا، غريبا وودودا؟ فالنغمة تبدو وكأنها تأتلف مع النغمة، وما إن تصافح الكلمة الأذن، حتى تأتي كلمة أخرى لتلاطفها في حب.» ويرد عليها فاوست قائلا: «إذا كانت قد أعجبتك طريقة شعوبنا في الكلام، فيقينا سيسحرك غناؤهم، وسيرضى السمع والإحساس رضاء عميقا، لكن أضمن وسيلة هي أن نجربه على الفور؛ فالحديث المتبادل يدعو إلى هذا ويهيب به.» وتسأله هيلينا: «قل لي إذن. كيف يمكنني أن أتحدث بهذا الجمال؟» ويجيبها فاوست: «هذا أمر في غاية البساطة، فلا بد أن يأتي الحديث من القلب، وعندما يفيض الصدر بالحنين، يتلفت المرء حوله ويسأل.» وتقاطعه هيلينا قائلة: «عمن يشاركه في الاستمتاع.» ويستطرد فاوست قائلا: «والآن لا تتطلع الروح إلى الأمام ولا تتلفت للوراء؛ فالحاضر وحده ...» وتقول هيلينا: «هو سعادتنا.» وأخيرا يقول فاوست: «إنه (أي الحاضر) هو الكنز، والكسب العظيم والملك والضمان، لكن من الذي يؤكد صدقه؟» وتمد هيلينا - أجمل الجميلات - يدها وهي تقول: يدي! (26) كانت سعادتي بنظرتك: يتجدد هنا موضوع الفراق الذي تتصاعد نغماته الحزينة في قصائد تالية. والسطران السابع والثامن يكرران الفكرة التي نجدها كثيرا عند جوته، وهي أن كل شيء، حتى ما يبهج القلب ويسره، تترتب عليه نتائج لا يمكن التنبؤ بها، كأنما قضي على الإنسان أن يدفع الثمن الباهظ عن كل لحظة سعيدة مر بها، ويتحمل ذنب كل لذة تمتع بها وظن أنه عاشها في غفلة من الدهر والبشر. وأحسب أن القارئ سيشعر هنا بعمق مأساة اللحظة ومأساة الحب؛ أي بعمق مأساة وجود الإنسان بوجه عام. (27) ما معنى هذه الحركة؟ هنا أيضا نسمع نغمة الفراق، ولكن على لسان زليخا، ومن نظم مريانة نفسها، وهي نغمة غنائية رقيقة لا تخلو - مع الأسى الحنون والشوق الحميم الذي يسري فيها - من الإيحاء ببارقة أمل في أن تتحقق وعود الريح الشرقية (أو ريح الصبا التي طالما تغنى بها الشعراء العرب وحملوها رسائلهم للأحباب!) والقصيدة نظمتها مريانة على طريق رحلتها من فرانكفورت إلى هيدلبرج؛ أي في اليوم الثالث والعشرين من سبتمبر سنة 1815م (وهو التاريخ الذي أثبته جوته - كعادته - في النسخة التي كتبها بخط يده). وقد لمست ريشة جوته بعض أبيات القصيدة (من 13 إلى 20) بتغيير طفيف، ربما كان الهدف منه هو تصعيد حرارة العاطفة، ولكنه لم يرق لمريانة التي لم ترض عن تعديل «نظمها الجميل». وقد كانت الأبيات التي غيرها جوته في الأصل على هذه الصورة: وعلى همسها الناعم أن يحمل لي، تحية رقيقة من الحبيب، وقبل أن يلف الظلام هذه الروابي، سأجلس ساكنة عند قدميه. ويمكنك أن تواصلي المسير، وتعيني الفرحين والمحزونين، وهناك، حيث تتوهج الأسوار العالية، سأجد المحبوب العزيز (13-20). ولا شك أن القارئ يحس في القصيدة بروح جوته وأنفاسه الشعرية ونغمه المتزن المشحون بالألم والحنين. (28) صورة سامية: إذا كانت القصيدة السابقة قد بعثت نسمة أمل يمكن أن تلطف من عذاب الفراق، فإن نغمة الحزن الفاجع لا تلبث أن تفاجئنا - كما نجد في موسيقى موتسارت المتأخرة - في غمرة الانتشاء بالألحان العذبة المنسجمة، وهذا هو الذي نحسه من هذه القصيدة التي كتبت في السابع من شهر نوفمبر 1815م؛ أي بعد الفراق الأخير لحبيبة القلب؛ فالألم الذي يخبئه القدر أو الضرورة العمياء يتحول إلى صورة طبيعية رائعة. إن الشمس المنتصرة (هليوس) تحب المطر، ولا تهتم إلا بزخاته المتوالية لكي تغمر كل قطرة ببريقها الساطع، ولا يلبث قوس قزح البديع الألوان أن يتشكل، وتقبل عليه الشمس بحبها وحنانها، فيتراجع مبتعدا عنها ومعه المطر، وذلك تحت تأثير أشعتها الساطعة. وتتشابك الصورة الطبيعية مع صورة إله الشمس (هليوس) وإلهة الغيوم وقوس قزح (إيريس)، ويتحول الصراع الفاجع بينهما إلى موقف مأسوي لا حيلة لأحد الطرفين فيه، فكل خطوة تقربنا من السعادة تحمل معها ألما أفدح، وكل ما بذله هليوس ليشرق وجه حبيبته إيريس قد جعل لقاءه معها مستحيلا. وفي النهاية يرجع الشاعر - وكثيرا ما كان يشبه نفسه بالشمس! - إلى الأنا بكل ما فيها من مرارة وخيبة أمل، ولا نسمع كلمة واحدة عن الظروف أو الأسباب التي فرقت بين الحبيبين؛ إذ يكفي أن القدر قد اتخذ قراره القاسي، وأن هذا القرار لم ينج منه إنسان. هل نقول إن الصورة الطبيعية تكشف رغم كثافتها الشديدة عن شخصية الشاعر وشخصية حبيبته اللتين مثلهما بالإلهين الأسطوريين؟ أم نقول إن المقطوعة الأخيرة لم يكن لها داع لأنها أشبه بالشرح الزائد للمعنى الدال أو السر المكشوف؟ لكن هذا سيكون على حساب الصورة الرائعة المستقلة بذاتها، وسيكون لونا من التحليل أو التشريح الجارح لكيان حي باسم النقد أو التفسير. وقد قال جوته في كتابه عن «نظرية الألوان» في القسم التاريخي تحت عنوان «تاريخ الزمن الأقدم»: إن الإغريق حولوا قوس قزح إلى فتاة محبوبة، وجعلوها ابنة تاوماس (أي الدهشة في اليونانية). (29) صدى: لعلها أن تكون صدى أو ترجيعا لصوت القصيدة السابقة والقصائد التي قبلها، والتي ورد فيها التشبيه بالشمس (كما في القصيدة السابقة مباشرة وهي صورة سامية) وبالقيصر (القصيدة رقم 13 تعال أيها الحبيب تعال، والقصيدة رقم 14 قليل ما أطلبه، والقصيدة رقم 51 هل كان من الممكن أن أتردد؟).
وتبدأ القصيدة بداية بسيطة أقرب إلى الحياد والبعد عن الانفعال، وفجأة نهبط معها إلى طبقة أعمق ونغمة أبطأ (س3-4) تذكرنا بقصيدة عزاء سيئ (رقم 9 من كتاب العشق). ويستدعي الوجه الحزين المتسلل في الليالي المعتمة صورا أخرى أكثر حزنا - كسيور السحب ودموع القلب الكابية (س5-7) - وأشبه ببقع لونية غامقة على لوحة القلب المعبرة عن شيخوخة الحزن في ضمير الشاعر الشيخ. وبعد أن يظهر صوت الأنا (س7) نجده ينفجر على حين فجأة من البيت التاسع بما يشبه الاستغاثة بالأنت المحبوب، بعد أن غاصت الأنا في قرار الألم الوحيد المظلم ولم يبق أمامها إلا أن تستنجد بشمعة حياتها وشمسها ونورها المفتقد (وربما كان هذا التفجر المفاجئ هو الذي فرض علي نظم المقطوعة الأخيرة شعرا ممزقا كالصوت الصارخ فيها!) لاحظ أيضا تكرار الصور التي تعبر عن النور، ومن الواضح أن تشبيه الحبيب بوجه القمر تشبيه شائع في الشعر الفارسي والعربي والشرقي عموما، كما أن النور الذي يغمر الأبيات الثلاثة الأخيرة يتحول إلى استعارة حية في مواجهة الليل وصوره المتعددة في المقطوعتين السابقتين. وللنور - كما يعلم كل من قرأ لجوته أو حاول دخول عالمه - دلالة عظيمة عنده، وأهمية لا تعدلها أهمية في كل إنتاجه الشعري والعلمي والفكري، وفيه انعكاس لتأثره بأفلاطون وأفلوطين والتصوف الغربي والشرقي، بقدر تعبيره عن الصورة المحسوسة التي تعكس الألوهية الفعالة في كل شيء. ولعل تنوع الأصوات والصور والأحوال الوجدانية في هذه القصيدة أن يكون كذلك خير تعبير عن استعارة النور وأطيافه المتعددة التي تتخلل قصائد الديوان كله لا هذه القصيدة وحدها. وربما لا يكون من قبيل التزيد أن أقول إن آخر كلمات الشاعر مع آخر نفس خرج من صدره (وكان ساعتها يجلس في مواجهة النافذة في حجرة مكتبه) هي: مزيدا من النور ... (راجع كذلك ما قاله العقاد - رحمه الله - عن النور في كتيبه الرائع في بيتي). (30) آه أيتها الريح الغربية: هذه القصيدة أيضا - شأنها شأن القصيدة رقم 35 عن الريح الشرقية - من نظم مريانة، وكأنما هي صوت مضاد يقابلها كما يقابل قصيدتين أخريين على لسان حاتم، وهما: صورة سامية (رقم 36) وصدى (رقم 37) اللتين تحدثنا عنهما قبل قليل. وإذا جاز لنا القول بأن القصيدتين الأوليين للريح الغربية والريح الشرقية تمثلان القطب الأنثوي أو السلبي الذي يتسم بالرقة والحنان والاستعداد للبذل والتضحية، وأن القصيدتين على لسان حاتم تمثلان القطب الإيجابي أو الرجولي، فلا بد من القول إن كلتيهما تعبران عن مبدأ الاستقطاب الأساسي عند جوته، والذي تقوم عليه الطبيعة والحياة والحب والفن في كل تجلياتها الدينية والكونية والعاطفية (وتجد أوضح تعبير عنه في القصيدة رقم 4 وهي قصيدة تمائم من كتاب المغني: «في التنفس نعمتان»، التي تؤكد هذا المبدأ في صورة البسط والقبض أو الزفير والشهيق). وإذا كان كلا القطبين يعبر عن نفس الشعور بالحزن واليأس والحرمان، فما أشد اختلاف النغمة من شفتي زليخا عنها من فم حاتم. ويذكر أن مريانة كتبت هذه القصيدة في اليوم السادس والعشرين من شهر سبتمبر سنة 1815م وهي على طريق العودة من هيدلبرج إلى بيتها (الجربرميلة) بالقرب من مدينة فرانكفورت، وأغلب الظن أنها كتبتها بعد اليوم التاسع من شهر أكتوبر عندما بلغها أن جوته رجع إلى فيمار عن طريق مدينة فيرتسبورج؛ أي عندما أحست أن لقاءهما الأخير قد أطلق في سمعها رنين أجراس الفراق الأخير. (31) لقاء من جديد: بعد المقطوعة الأولى، التي تفيض بلوعة المغترب النائي عن حبيبه، وشوقه وحنينه لأن يضمه إلى قلبه من جديد، وارتجافه وخوفه من الحاضر الذي لا يعرف ماذا يدخره للمستقبل، نجد القصيدة تقفز قفزة مفاجئة في أبعاد كونية مهولة، أو هكذا يبدو لنا الأمر للوهلة الأولى؛ فها هو ذا العالم كما كان في أصل نشأته، راقد في أعمق أعماقه كالهاوية اللانهائية «على الصدر الأبدي لله». كان عماء موحشا مختلطا، وكل شيء فيه وحيد منفرد (س22-24)؛ لهذا خلق سبحانه - بسر كن! - قوة قادرة على ربط كل شيء بكل شيء برباط الحب والاتصال بعد التفرق والانفصال (س31-32) وتجلت هذه القوة في صورة الألوان؛ فالنور - كما تقول نظرية الألوان عند جوته - يتحول إلى لون عن طريق وسط عكر أو معتم، والله جلت قدرته هو النور، والمادة هي الظلام، لكن المادة تتخفف شيئا فشيئا من ثقله وترتفع إلى مستوى روحاني لطيف، ويسقط عليها الضوء ويتخللها، فينشأ منظور الألوان وفي وسطه اللون الأحمر (س27)، حتى الأصوات والأنغام تتحد وتنتظم وتتجانس بعضها مع بعض (س24، 30)، ويتحد الله والعالم كما تتحد كل الأشياء، وتتجاذب الأقطاب المتضادة فيحب ويتآلف من جديد كل ما تفرق بعضه عن بعض (س31-32)، ويجد في هذا التلاقي سعادته وغاية سعيه ومناه؛ لأن الوحدة الكلية هي جوهر الطبيعة الإلهية وماهيتها، وكل اتحاد يتم في الكون هو رمز دال عليها وشوق للاتحاد بها. ولقد عرف الكون أو الكل في البداية الأولى تلك «الآهة الأليمة» (س14)؛ آهة افتراق كل شيء جزئي وانفصاله عن كل شيء، ثم عرف «الحياة غير المحدودة» (س36) حين اتحد مع غيره في اتحاد مبارك وسعيد. والأمر كذلك مع الأنا والأنت حين يفترقان وحين يتحدان؛ ولهذا كان مثلين نموذجين للعذاب والفرح (س45-46). وعندما نصل إلى المقطوعة الأخيرة نكتشف أننا رجعنا أو رجعت هي بنا إلى المقطوعة الأولى، وأن التجربة الإنسانية والشخصية لا تنفصل عن التجربة الكونية التي تتصل بها أوثق اتصال وأعمقه. وليس هذا بالأمر الغريب على شاعرنا الذي نظر دائما إلى «الأنا» في سياق كوني، ولم يغص مرة إلى عمق «الأنا» إلا وغاص في نفس الوقت في عمق الكل والكون. وإذا كان الله سبحانه - وهو الكل أو الوحدة الكلية السامية - قد خلق العالم ليكون بمثابة «الموضوع، أمامه»، أو المرآة التي ينعكس على صفحتها جماله وجلاله (كما يقول الحديث القدسي الشريف المعروف، ويقول كثير من الصوفية وعلى رأسهم ابن عربي)؛ فإن العالم مشروط ومحدود، وهو لهذا مكون من أضداد أو ثنائيات أو أقطاب متقابلة؛ نور وظلام، نهار وليل، ذكر وأنثى، حياة وموت، مادة وعقل، سعادة وتعاسة، وفرح وألم (س14). ومن ثم لم تكن النقلة من المقطوعة «الذاتية» الأولى في القصيدة إلى المقطوعات الأخرى حتى المقطوعة الختامية، لم تكن نقلة مفاجئة كما تصورنا الأمر في البداية؛ بهذا ترجع النهاية إلى البداية - كما نرى ذلك كثيرا عن جوته - وتجد تجربة «الأنا» - كما قلت قبل قليل - مكانها داخل السياق الكوني الكلي. وإذا كانت الأنا المحبة تنجذب «بأجنحة فجرية» (س41) إلى ثغر «الأنت»، فليس ذلك إلا سعيا إلى الوحدة والاتحاد؛ أي سعيا إلى الاتحاد الأسمى بجوهر الألوهية الخالدة، وتجاوز لحدود الفردية عن طريق الحب (أو عن طريق الموت الذي اقترن دائما بالحب!) وكأن وحدة المحبين اللذين فصل بينهما الفراق ليست إلا عودة للاتحاد بمعنييه: الجزئي والكلي الأخير معا؛ أي إلى الاتحاد الذي لا يكون بعده افتراق (س47-48). إن عنوان القصيدة الذي يوحي بلقاء الحبيبين بعد الغيبة والفراق، يكشف في الواقع عن أكثر من ذلك بكثير؛ فكل لقاء جديد في حقيقته اتحاد بين الأقطاب المتباعدة في العالم، وكل لقاء جديد بين حبيبين صادقين؛ أي حبيبين خلقا لبعضهما واختار كل منهما الآخر اختيارا حرا من كل الضرورات التي تفرضها التقاليد والمصالح والأطماع والمنافع؛ هو في حقيقته لقاء كوني أصيل؛ لأنهما قد كانا - كما كان كل موجود سواهما - في أصل النشأة متحدين على الصدر الأبدي للإله (س10). وهكذا يعود الموضوع المحبب إلى نفس جوته من جديد، وقد اتخذ في هذه المرة بعدا كونيا هائلا غير محدود. إنه الموضوع الذي تناوله بصورة رمزية في ورقة شجرة «الجنجوبيلوبا» (القصيدة رقم 10 في هذا الكتاب)، وهو موضوع «الواحد والاثنان»، كما عبر عنه في صور مختلفة تؤكد أن زليخا خلقت لحاتم كما خلق حاتم لزليخا (وكل حبيب لحبيبه!) من وقت طويل. ولعل هذا العمق الكوني والزمني هو الذي يقرب القصيدة منا ويقربنا منها، كما يدنو بنا من منطقة الكمال والجلال التي نشعر حيالها بالرهبة والرجفة التي تهزنا منذ بدايتها (س8)، ولعلها أيضا تذكرنا بأساطير الوحدة الأولى قبل الانفصال مع التجسد والهبوط إلى العالم عند أفلاطون (الجمهورية وفايدروس)، كما تذكرنا بالصدور أو الفيض عند أفلوطين والأفلاطونية المحدثة وعند بعض فلاسفة المسيحية والإسلام. فهل يفسر الحب الأسطورة؟ أم تفسر الأسطورة الحب؟! مهما يكن الأمر، فإن القصيدة تستمد العمق والشمول والجلال من الحب والدين والطبيعة التي اتحدت في رؤية جوته وحدة لا تنفصم عراها؛ ولهذا لا نعجب لقول بعض الشراح إن هذه القصيدة تمثل الذروة بالنسبة لبقية قصائد كتاب زليخا، كما تتصل اتصالا حميما بالذروة الأخرى لكتاب المغني، وهي قصيدة «حنين مبارك» آخر قصائد هذا الكتاب؛ فكلتا القصيدتين تضع «الأنا» داخل سياق الكون الذي تتغلغل فيه الروح الإلهية، كما تؤكد وحدة الطريقين أو اتحادهما - طريق الحب وطريق الدين - وذلك في نغم تتردد فيه معاني الجلال والكمال والجدية التي لا نكاد نجدها في سائر قصائد الديوان التي تراوح دائما بين الجد والدعابة، والوجه والقناع، والحكمة والسخرية، والعذوبة واللعب اللغوي والصوتي. وقد كتبت القصيدة في اليوم الرابع والعشرين من شهر سبتمبر 1815م في مدينة هيدلبرج؛ أي في غمرة السعادة بلقائه لمريانة. (32) ليلة البدر: كانت هذه القصيدة هي الرد الذي أرسله جوته (وهي مؤرخة بخط يده في 24 من أكتوبر 1815م) على الرسالة الرمزية أو السرية التي بعثتها إليه مريانة في الثامن عشر من الشهر نفسه بطريقة الشفرة التي اتفقا على التراسل بها، وهي ذكر رقم القصيدة والصفحة من ديوان حافظ في ترجمة همر، كما نعلم ذلك من التعليقات والأبحاث الملحقة بالديوان. وقد أنهت مريانة رسالتها ببيت من شعر حافظ يقول فيه: «أريد أن أقبل، هذا ما أقوله» (ص433 من الترجمة المذكورة).
والحوار يدور في القصيدة بين السيدة وخادمتها، ونحس من أول فقرة أنه في ليلة صيف تغمرها أضواء البدر وتسري فيها همسات الرغبة والشوق، وكأن كل شيء حسي أو واقعي قد فقد كثافته وحدوده ومعالمه وتحول إلى روح ترف رفيف الفراشة غير المنظورة ملتهبة بالحنين ، أو كأن أبيات حافظ مجرد ذريعة لإطلاق عالم من الصور والألوان والأنغام التي كان يختزنها الشاعر في صدره وينتظر شيئا يثيرها في هذه اللغة الشفافة. ويلاحظ الناقد ماكس كوميريل (في كتابه أفكار عن جوته، ص276-279) أن زليخا هنا ليست هي نفسها صاحبة قصيدتي الريح الشرقية والريح الغربية؛ فهي تكاد تذوب في حرارة عواطفها، وليس لها حضور إلا كحضور المسحور أو المأخوذ في دائرة الأسر المطبقة عليه بسعادة اللحظة التي يحياها ولا يحيا سواها. والدليل على هذا أنها لا تفعل شيئا غير تكرار العلامة أو الشفرة: «أريد أن أقبل أن أقبل! قلت لك هذا.» (33) كتابة سرية: تذكر القصيدة - التي تشبه أن تكون أغنية فرحة! - موضوع الرسائل السرية التي سبقت الإشارة إليها في التعليق السابق، هذه الرسائل التي كانت بالنسبة إليه «باقة زهور ملونة» قطفت من بين آلاف الزهور في ديوان حافظ أو في بستانه الشعري، وهي تصرح بالفرح بتلك الرسائل وبالشكر والامتنان للشاعر الفارسي الذي استمدت شفرتها منه. أما أن الكتابة سرية مزدوجة (س25) فلأن الحبيبين يلجآن إليها، وينعكس قلبهما على مرآة حافظ، وأما أنها تعبر عن طموح مطلق، فلأنها - فيما أقدر - ترتفع بالحب البشري إلى أبعاد أوسع وأشمل؛ دينية وكونية ورمزية، كما سبق القول في شرح القصيدة رقم 39 «لقاء من جديد». وقد كتبت القصيدة في 21 / 9 / 1815م؛ أي قبل القصيدة السابقة (رقم 39 «لقاء من جديد») بثلاثة أيام، وفي لحظة الحب الممتدة التي اتفقا فيها على «شفرة» رسائلهما المقبلة تحاشيا لعيون الحساد والمتطفلين. (34) انعكاس: اللغة خفيفة صافية، لكن القصيدة كلها أشبه باللغز. وفي البيتين 3-4 إحالة ضمنية إلى القصيدة رقم 12 من هذا الكتاب، وهي قصيدة «طلعت الشمس، يا له من منظر بديع» التي يشبه فيها حاتم بالشمس، وزليخا بالهلال، والوسام التركي الذي يجمعهما - أي الشمس والهلال - باتحاد العاشقين. أما عن بيت الأرمل الذي يذكره جوته، فلا يمكن أن يؤخذ مأخذا حرفيا واقعيا، بل رمزيا؛ لأن كرستيانة زوجة جوته توفيت في السادس من شهر يونيو سنة 1816م؛ أي بعد تاريخ كتابة القصيدة (في 26 / 10 / 1815م ) بثمانية شعور. ولعل الأصح، كما يقول بورداخ، أن يفهم بيت الأرمل كما تفهم المرآة بمعنى شعري؛ إذ خلا بيت الشاعر في فيمار من حبيبته التي تزوجته زواجا شعريا فأنجبت له قصائد الديوان، ولكن ما معنى المرآة؟ إن النظرة السريعة إلى المقطوعة الثانية (س15) توحي بأنها - أي المرآة - هي نفسها قصائد كتاب زليخا وأغنياته التي كانت مريانة هي منبع إلهامها، وهذا هو رأي بعض الشراح مثل بورداخ وبويتلر، ولكن القصيدة إذا فسرناها هذا التفسير تصبح واضحة بلا لغز؛ ولهذا يرجح بيرتس، ومعه أريش ترونس ناشر الديوان الشرقي وشارحه في طبعة هامبورج، أن الأغاني التي ينظر فيها الشاعر (س15) فتظهر له حبيبته فيها، إما أن تكون هي أغاني حافظ - التي تعتمد عليها الرسائل السرية بينهما كما سبق القول - أو أغاني مريانة نفسها (مع العلم بأن القصيدة التالية رقم 43 من نظمها وأنها هي الرد على قصيدتنا الحالية) أو هي الرسائل نفسها التي يتبادلانها. يدل على هذا سياق القصيدة السابقة (وهي كتابة سرية) التي تتصل بها اتصالا مباشرا، وكذلك عنوان القصيدة نفسها التي يفهم منها أنها تعكس مشاعرهما المتبادلة، وأن الشاعر يجد نفسه وحبيبته في مرآتها. (35) بأي ارتياح عميق: القصيدة - كما سبق القول في الشرح السابق - من نظم مريانة، وهي رد على قصيدة انعكاس، ويرجح أن تكون مستوحاة بصورة مباشرة من أبيات قرأتها في ترجمة همر لديوان حافظ (ج1، ص141) وشرحها المترجم بقوله: «أريد أن أرسل قلبي إليك؛ لكي تستطيع أن ترى نفسك فيه كما تراها في مرآة.» وقد كتبتها مريانة في 23 من ديسمبر سنة 1815م. (36) دع مرآة العالم للإسكندر: أصبح الإسكندر في العصور الوسطى، سواء في الشرق أو في الغرب، شخصية أسطورية تروى عنها حكايات أقرب إلى الخرافات، ومنها أنه كانت لديه مرآة يستطيع أن يرى فيها أشياء تفصله عنها مسافات شاسعة، وأن يشاهد على سطحها أعداءه ويعرف ما يدبرونه له. وقد عرف جوته ومريانة هذه الخرافات من قراءتهما لترجمة ديوان حافظ (ج1، ص9، وص111) وتعليقات المترجم عليه. والقصيدة على لسان زليخا، وهي توحي بأن الإنسان لا يمكنه أن يحس بعظمة العالم واتساعه إلا في تجربة الحب بما تنطوي عليه من تحدد ومن تجاوز لكل الحدود في نفس الوقت. بهذا ترجع بنا إلى أحد الموضوعات التي بدأ بها كتاب زليخا، وهو ضرورة العزوف عن العالم اليومي بتفاهاته لكي نجد العالم الحق (راجع قصيدة دعوة، س5، 6، وهي أولى قصائد هذا الكتاب). وقد نشرت القصيدة لأول مرة في عام 1827م مع الطبعة الكاملة لأعمال جوته التي أشرف عليها بنفسه. (37) في وسعك أن تتخفى في آلاف الأشكال: تأتي هذه القصيدة - التي حاولت أن أحافظ فيها على نوع من الإيقاع الذي يخل أحيانا بموازين الخليل بن أحمد! ختاما لكتاب زليخا، وكأنها الحركة الأخيرة المندفعة في سرعة وتدفق لسيمفونية الحب الذي تابعنا رفرفته بين الأرض والسماء، وعايشنا صوره الفنية الحية التي استمدها من الطبيعة التي يعدها الشاعر العاشق طريقه إلى الله. وهذه القصيدة - التي يمكن أن نصفها بأنها غزلية مدورة تكرر كلمات بعينها، مثل الكل وعلى الفور، كما يكرر المسلم التقي تسابيحه! - تشبه أن تكون مسبحة يردد عليها الشاعر الغربي أسماء الحبيب، فتنساب ضراعاته السابحة بين السماء والأرض في نغم مسترسل ودافئ وعميق، وتنهمر صور التبتل وتشبيهاته التي تسبح بحمد المعبود الحاضر في كل شيء، اللطيف بكل موجود، والمتجلي في كل مظاهر الطبيعة، أشبه باللحن المنسكب في تنويعات مختلفة. والقصيدة تسير في خط لولبي يبدأ من المنبع الإلهي ليعود إليه، وكأن المحبوبة صارت هي الطبيعة، أو كأن الطبيعة أصبحت هي المحبوبة والأنثى الخالدة (التي تغنى بها في ختام قصيده الأكبر فاوست). راجع كذلك قصيدة «تمائم» من كتاب المغني، الفقرة الخاصة بجلال الدين الرومي في التعليقات والأبحاث الملحقة بالديوان (في ترجمة بدوي).
كتاب الساقي
عرف جوته بكتاب الساقي (ساقي نامه) في إعلانه عن الديوان الشرقي في صحيفة الصباح لعام 1816م بقوله: «يدب الخلاف بين الشاعر وبين صاحب الحان المعتاد، فيختار صبيا جميلا يزيد من متعة الشراب بخدمته اللطيفة. وسوف يكون الفتى تلميذه وموضع ثقته، وسيفضي إليه بآرائه السامية، والميل المهذب النبيل المتبادل بينهما سيشيع الحياة في الكتاب.»
ثم قدم الشاعر الكتاب بشكل أكثر تفصيلا في «التعليقات والأبحاث»، وحاول أن يلقي الضوء على علاقته بذلك الصبي التي تختلف عن المأثور لدينا عن الغلمان وتعلق بعض الشعراء الفرس والعرب بهم، اختلاف علاقة المعلم والمربي بتلميذه عن تدله العاشق بمعشوقه: «لم يكن من الجائز أن يخلو الديوان من الميل المفرط إلى الخمر التي تكاد أن تكون محرمة، ولا من الشعور الرقيق بجمال غلام، لكن هذا الموضوع الأخير كان من الواجب أن يعالج، وفق تقاليدنا وأخلاقنا، بطهارة تامة. إن الميل المتبادل بين الشباب والشيخوخة يدل في الواقع على علاقة تربوية أصيلة، والتعلق الشديد من الطفل بالعجوز ليس على الإطلاق حادثا نادرا وإن كان ظاهرة يندر الإفادة منها، وليتأمل المرء هنا علاقة الحفيد بالجد، وكذلك العلاقة بين الوارث الذي جاء متأخرا وبين الأب الحنون الذي فوجئ بولادته؛ ففي مثل هذه العلاقة تتاح الفرصة لنمو ذكاء الأطفال؛ إذ يتنبهون لمعاني الكرامة والخبرة وسلطة الكبار، وتستشعر النفوس الطاهرة في ذلك الحاجة إلى العطف المفعم بالاحترام والتوقير، وتتأثر به الشيخوخة وتحس بالثقة والاطمئنان. وإذا استشعر الشباب تفوقه واستغله في التوصل لأهدافه الصبيانية وإرضاء حاجاته الطفولية، فإن رقة «الشباب» وجماله يجعلنا نتسامح مع مكره المبكر، لكن أكثر ما يؤثر فينا ويلمس قلوبنا هو ذلك الشعور المتنامي لدى الصبي، الذي أثرت عليه روح الشيخ العالية، وإحساسه في دخيلة نفسه بالدهشة التي تجعله يستشعر أن شيئا مشابها يمكن (مع الزمن) أن ينمو في داخله. ونحن نحاول أن نشير إلى هذه العلاقات الجميلة في «كتاب الساقي»، وأن نشرحها هنا شرحا أكثر تفصيلا. وقد خلف لنا سعدي الشيرازي بعض الأمثلة اللطيفة، التي لا شك في أنها معروفة للجميع وتهيئ لنا الفهم الكامل لهذه الأمور» (بتصرف عن بدوي، ص267، ص460-461، وكذلك طبعة هامبورج، ص269، ص202-205). ثم يورد جوته حكايتين مؤثرتين من جلستان سعدي الشيرازي ترويان قصة هذا الشاعر العظيم مع غلامين فتنا قلبه، وخلف الموت المبكر لأحدهما الحسرة الفاجعة في قلبه (وقد ذكرهما أستاذنا بدوي عن الترجمة العربية البديعة التي قام بها الخواجة جبرائيل بن يوسف الشهير بالمخلع لجلستان سعدي، من ص111-ص112، القاهرة، طبعة بولاق، سنة 1263ه/1847م).
ويلاحظ أن جوته قد وضع عنوان هذا الكتاب متأثرا بحافظ الشيرازي الذي وضع نفس العنوان لأحد الكتب التي يتألف منها ديوانه. والواقع أن تأثر الشاعر الغربي ب «توءم روحه الشرقي»، والعلاقة الصافية الحميمة التي تربط الغرب بالشرق، كما صورها جوته في ديوانه كله، تبلغ ذروتها في هذا الكتاب، غير أن مدخل الشاعر الغربي إلى الموضوعات والمعاني التي يطرقها الشعراء الشرقيون في مثل هذا الكتاب مدخل مختلف؛ فالعلاقة الروحية بين الشاعر الشيخ والساقي تختلف - كما رأينا من كلامه هو نفسه - أشد الاختلاف عن علاقة الشاعر الفارسي أو العربي بالغلام الذي يروي ظمأه إلى الشراب. والخمر تبدو هنا روحية، وأكاد أقول ملائكية، وليست هي الخمر المسكرة التي ينتشي بها البشر؛ لأن نشوة الشاعر نشوة روحية خالصة. ولعل كلام مؤرخ الفن «فنكلمان» الذي تأثر به جوته في شبابه، وأخذ منه مفهومه عن بساطة الفن الكلاسيكي وعظمته، لعل كلام ذلك المؤرخ السيئ الحظ (إذ مات مقتولا على يد لص آثار غادر سرق منه بعض التحف القديمة) عن الصداقة قد استدعته إلى وعيه قصائد هذا الكتاب (راجع عن فنكلمان مقال كاتب هذه السطور «الألم الجميل» في كتابه البلد البعيد، القاهرة، 1967م)، فراح يتأمل وجه الصبي الساحر في تأمله في حافة الكأس التي يشربها ويشرب معها ذكريات حبه القصير العمر. (1) نعم في الحانة
القصيدة تمثل الانتقال من كتاب زليخا والتمهيد لهذا الكتاب. ويذكر أن جوته قد ضمن السطرين 10-11 الرسالة التي بعث بها إلى روزيته فون شتيدل (وهي الابنة الكبرى لفليمر زوج مريانة) في السابع والعشرين من شهر سبتمبر سنة 1815م؛ مما يدل على أن القصيدة قد كتبت في نفس الفترة أو قبلها بقليل؛ أي بعد توديعه لحبه وحبيبة قلبه مريانة. (2) لقد وصل الحال
لم تعرف حتى الآن هوية هذا اللص (عن بدوي، ص268). (3) هل القرآن قديم؟
ربما يكون جوته قد قرأ شيئا عن مشكلة خلق القرآن المشهورة في عهد المأمون في أحد المصادر الكثيرة التي رجع إليها عن الإسلام، وإن لم أجد أثرا لهذا المصدر في طبعات الديوان التي تحت يدي، والمهم أن الشاعر يقر بالاحترام الواجب على كل مسلم للقرآن الكريم، ولكنه لا يحرم نفسه - شأنه في ذلك شأن كثير من شعراء الفرس والعرب الذين يهيمون في كل واد - من تذوق الخمر ونشوتها، وهو مصداق ما ذكرنا قبل قليل من أن الخمر في هذا الكتاب خمر روحية قبل كل شيء، وربما أوحت للشاعر كما أوحت للصوفية المسلمين بمعاني الحب الإلهي بجانب الحب البشري والأرضي الذي لا يمكن أن يكون الشاعر «الدنيوي» قد غفل عنه.
وفي بعض أبيات القصيدتين التاليتين تأثر بما قرأه الشاعر في ترجمة دييز لكتاب قابوس، ص419، 444 (عن بدوي، ص270). (4) ما الذي يجعلك فظا سمجا في أكثر الأحيان؟
من الواضح أن موضوع القصيدة قديم ومعروف في التراث الشرقي والغربي (سواء الأفلاطوني - راجع محاورة فيدون على وجه الخصوص - أو المسيحي)، وهو أن النفس أو الروح سجينة البدن، وقد كانت حرة قبل دخولها فيه، وستكون حرة بعد خروجها منه. وقد تكرر الموضوع في قصائد أخرى في الديوان بصورة عابرة وبلهجة صافية مفعمة باللعب والعبث (كما ترى مثلا في قصيدة شدو البلبل في الليل، وهي القصيدة الثانية من كتاب الأمثال الذي سيأتي بعد هذا الكتاب) غير أنه يتخذ صورة باقية وتشكيلا فنيا رائعا ومعاني روحية عميقة في «درة عقد الديوان» - كما أحب أن أسميها! - وهي قصيدة حنين مبارك من كتاب المغني (القصيدة رقم 17). (5) الشاعر يقول للنادل «الألفر» بمعناه الحرفي هو الحادي عشر، وقد احتفظت بالكلمة الأصلية التي أطلقت على محصول الكروم في وادي نهر الراين عام 1811م. والمعروف أن جوته كان يفضل شرب هذا النوع من النبيذ (وهو الألفر) على غيره من الأنواع، وذلك خلال رحلات حبه (القدرية) في سنتي 1814 و1815م في منطقة الراين وبين مدينتي هيدلبرج وفرانكفورت، ولقاءاته مع حبيبة قلبه مريانة (راجع عن موضوع هذه القصيدة العبارات التي قالها جوته عنها وعن كتاب الساقي في إعلانه عنه في «صحيفة الصباح» لعام 1816م، وقد ذكرناها في بداية التمهيد لهذا الكتاب). ويحتمل أن تكون هذه القصيدة قد كتبت تحت تأثير جمال النادل الأشقر الشاب الذي رآه جوته في مدينة فيزبادن، كما يقرر صديقه سولبيس بواسريه في مذكراته اليومية بتاريخ 8 من أغسطس 1815م، غير أن النموذج الحقيقي للساقي الذكي الجميل هو ابن المستشرق باولوس، الذي رآه جوته أثناء زياراته المتكررة له في خريف 1815م ومحاولاته لتعلم مبادئ اللغة والكتابة العربية على يديه. والظاهر أن ابن هذا المستشرق كان يحضر هذه اللقاءات، كما كان شديد التعلق بجوته (عن شروح طبعة فايتس، ص323). (6) أنت بغدائر شعرك السمراء
بعد أن عبر حاتم في القصيدة السابقة عن ميله للصبي الذي يسقيه، نجد أن هذه القصيدة على لسان الساقي تكشف عن حبه وتعلقه بالشاعر من خلال التعبير عن غيرته من الفتاة ذات الغدائر السمراء والبسمة الماكرة الخبيثة. وفي القصيدة محاكاة حرفية لحافظ الشيرازي في تغنيه بالساقي وتفضيله له على المحبوبة (ترجمة همر لديوانه، ج1، ص82، ص392). (7) طالما لامونا على السكر
تعبر هذه القصيدة - من وراء الكلام الظاهر عن الخمر والسكر وحتى عن الحب! - عن نشوة الخلق والإبداع المضطرمة الأوار في نفس الشاعر. ولعل تكرار كلمة السكر تسع مرات في قوافي القصيدة الأصلية يدلنا على أن الشاعر أراد لها أن تكون «غزلية» على غرار غزليات حافظ وغيره من شعراء الفرس الكبار، وإن كان قد بالغ في المحاكاة وألزم نفسه بما لا يلزم؛ إذ لم يكتف بتكرار القافية كل بيتين (أي 1-3-5 وهكذا)، بل كرر كلمة السكر نفسها تسع مرات! (8) أنت أيها الوغد الصغير أنت
تؤكد هذه القصيدة الموجزة ذات الإيقاعات الحرة ما قلناه في التعليق على القصيدة السابقة من أن نشوة الشاعر هي نشوة الإبداع، ومن المعروف أنها حالة سكر فريدة مصحوبة بالوعي واليقظة التامة، أو هي حالة وعي وصحو - يستلزمها الجهد المبذول في البناء وتشكيل العمل الفني - لا تستغني أبدا عن الشعور بحالة النشوة والسكر التي تصاحب عملية الخلق؛ ولذلك لا نستغرب أن يقول الناقد الكبير ماكس كوميريل - الذي سبق أن رجعنا لرأيه في شروح سابقة - إن جوته قد وصل في هذه القصيدة إلى الحكمة وقمة النزعة الأبولونية (أي نزعة الوضوح العقلي والتشكيلي الفني كما يسميها نيتشه؛ تمييزا لها عن النزعة الديونيزية التي تتعلق بنشوة الإبداع والتأمل في هاوية الحقيقة والوجود!) فصار على ديونيزيوس أن يخدم أبولو؛ أي أن يتحول الدم إلى روح؛ لأن الخمر روح (بدوي، ص276). ومع أن حالة الإبداع شديدة الغموض، وكم حيرت علماء النفس ودارسي العبقرية وشخصيات العباقرة! وليس من حقي ولا في طاقتي أن أدلي فيها برأي محدد، أو أختزل علاقتها المعقدة في صيغة معينة؛ فربما توحي القصيدة على ضوء الشرح السابق بأن الشاعر يتغنى بحالة الوعي أو الصحو التي تقترن بحالة الإبداع أو المحو التي يمر بها المبدع - وهو هنا الشاعر - في ذروة الوجد والنشوة الإبداعية. وإذا صح ما قلته على سبيل الترجيح فهي - بلغة التحليل النفسي - حالة يمتزج فيها الوعي باللاوعي، أو الشعور باللاشعور. (9) يا للضوضاء في الحانة
تصف هذه القصيدة الأسباب التي تجعل الشاعر يختلف إلى الأماكن، ويختلط بالناس، ويعايش البيئة التي يحيا فيها، وإن بقي بينه وبين نفسه وحيدا مع خواطره و«بنات أفكاره» على الرغم من ازدحام الحانة واضطرابها بالفتيات والراقصين والراقصات. والمقطوعة الثانية تغلب عليها روح الحكمة ولغة الأمثال التعليمية، ومن الواضح للشراح أن المقطوعة الأولى محاكاة شبه كاملة لأبيات حافظ الشيرازي من ترجمة همر (ج1، ص392)، نقلها أستاذنا بدوي كما يلي: «آه! آه! كم في الحانة صباح اليوم من ضجيج، حيث الساقي والحبيب والمشعل والنور كانت كلها في أشد اضطراب، وحيث (وإن كانت أقاصيص الحب ليست في حاجة إلى تفسير!) الناي والطبلة في اصطحاب، ومن دخل في هذه الزمرة من المجانين حبا في النزاع والعراك، ابتعد عن نزاع المذاهب والمنابر» (بدوي، ص277). وواضح من العبارة الأخيرة أن جوته يتبنى رأي حافظ في أن ألفاظ السباب البذيئة أحب إلى الشاعر من المنازعات والمشاحنات التي تتبادلها المدارس والمذاهب المختلفة حول الأخلاق. وقد كتبت القصيدة في الثامن من شهر سبتمبر 1818م في كارلزباد، ولكنها لم تنشر إلا سنة 1827م في المجلة التي كان يصدرها جوته وهي «عن الفن والعصور القديمة.» (10) تلك العجوز القبيحة
إن سب الدنيا ولعنها، ووصفها بالعجوز القبيحة أو البغي الفاجرة، موضوع شائع في الشعر الشرقي، الفارسي والعربي على السواء، لا سيما عند أبي العلاء.
وفي تقديري المتواضع أن القصيدة - برغم التأثر الملحوظ في عنوانها بكتاب قابوس وفي سطورها الأولى بحافظ الشيرازي (ترجمة همر، ج1، ص61) - تردد عددا من الأفكار التي لا يمل جوته من ترديد نغماتها القوية الصريحة في أعماله، ومن أهمها الإحساس الرائع بالحاضر الراهن، لا سيما في تجربة الحب وفي الإقبال النشط على العمل والفعل والإنجاز «الفاوستي» وعدم التعلق بالأمل الغامض في غد غير مأمون ولا مضمون. ولعل من أهم ما نخرج به - بشكل تعليمي مبسط - من حياة هذا الشاعر العظيم وجهوده الإبداعية والعلمية الضخمة، هو هذه الحكمة البسيطة التي يمكن أن تهدينا إلى الرضا بالحياة إذا تمسكنا بها وعملنا على ضوئها: «أد واجب اللحظة، وسوف تحل من نفسها كل المشكلات، فلا تحزن على ماض فات، ولا تلق كل أمالك على كنفي غد لم يأت بعد.» ولا شك عندي - كما سبق القول - أن هذا الإيمان العظيم بملء اللحظة الخصبة المبدعة بالعمل الخصب المبدع قد أثر على نيتشه تأثيرا هائلا، ربما بقي في لا وعيه ولم يعه تماما عندما نادى بفكرته الرائعة المحيرة عن عودة الشبيه الأبدية، كما أثرت في عصرنا الحاضر على الفيلسوف الماركسي المستقبلي أو اليوتوبي أرنست بلوخ (1885-1977م)، وبخاصة في كتابه الأكبر «مبدأ الأمل». (11) اليوم أكلت بشهية
يختلف النقاد والشراح في تفسير معنى كلمة «البجعة الصغيرة»
Schwänchen
في البيت الخامس. والمعنى الأصلي للكلمة في لغتها الأصلية هي الهدية التي تقدم للصديق، وهي كذلك البجعة أو البلشون. وقد رأى البعض أن للكلمة في هذا البيت ثلاثة معان محتملة: التحلية التي تقدم بعد الطعام، والبجعة التي ينسب إليها تعبير «تغريدة البجع»، وهو أشجى وآخر ما تغنيه قبل موتها وكأنها تنعى نفسها بنفسها، وثالث هذه المعاني هو الشاعر نفسه الذي يتمنى عليه الساقي في البيتين الأخيرين ألا يسمعه «تغريدته» أو أغنيته الأخيرة. والرأي عند كاترينا مومزن - الباحثة الشهيرة في أدب جوته وعلاقته بالأدب العربي والإسلام - هو أن المعنى ينصرف إلى الشاعر نفسه، وأن البيتين السابع والثامن يشيران إلى ذلك بالفعل قبل أن تتضح الإشارة في الأبيات الأخيرة. وقد شاع تعبير «تغريدة البجع» في لغتنا وثقافتنا العربية في الفترة الأخيرة، ويكفي أن يطلع القارئ على الفصل الأول من أروع وآخر كتاب لأستاذنا المرحوم زكي نجيب محمود وهو «حصاد السنين»، ليسمع تغريدته المؤثرة قبل اعتزاله الكتابة ووفاته، وليطلع على خلاصة تجربته الخصبة الأمينة مع العلم والتعليم والحياة والناس. وأخيرا، فإن وصف الشعراء بالبجع أمر مألوف منذ عهد قديم، فقد وصف شكسبير مثلا بأنه «بجعة» أفون
Swan og Avon . ومما يذكر أن جوته قد أرسل نسخة بخط يده إلى ابن المستشرق باولوس (الذي سبق ذكره وقلنا عنه إن جوته رأى فيه نموذج الساقي الذكي الجميل) مع إضافة هذه الملاحظة «عن اللاتينية». وبعض النقاد يرجعون السطر التاسع وما بعده إلى تأثر جوته بالشاعرين الرومانيين مارسيال وهوراس (الأغاني، 2-20). (12) إنهم يسمونك الشاعر العظيم
تكشف القصيدة - على لسان الساقي - عن جوانب لا يعرفها الناس في «السوق» من حياة الشاعر وغنائه وصمته. وكأن تعاطف الساقي معه يجعله يتكلم في صمته بأعذب مما تنطق به أغانيه، أو كأنه ينظر إلى الأعماق الخفية التي تستقر فيها قبلة الشاعر الأبوية له، وتظل محجوبة عن أعين المعجبين والمتطفلين و«المستهلكين» لشعره وإنتاجه. ويذهب الناقد الأدبي فولفجانج كايزر (في دراسة نشرت في العدد 23 من مطبوعة جمعية جوته الإنجليزية 1954م، ص290-295) إلى أن هذه القصيدة واحدة من أجمل قصائد الديوان الشرقي؛ فهي تسعد القلب باللعب المنغم بالأضداد، وتأسر اللب بسحر الإيقاع، وتهز النفس بالمباشرة أو التلقائية التي يعبر بها الإحساس عن النفس، هذا الإحساس الذي هو أعمق بما لا نهاية له مما يتصور المتحدث (أي الساقي). وربما كانت الأضداد التي يذكرها «كايزر » هي التي تقابل في القصيدة بين الكلام والصمت، بين حياة الشاعر كما يظهر للناس وحقيقته الباطنة الخافية، بين القبلة والتفكير والغناء، مهما رقت ألحانه. أما جمال النغم وعذوبة الإيقاع التي يتحدث عنها الناقد، فلا بد من الاستماع إليها كما تتردد في الأصل؛ لأن أية ترجمة في أية لغة يستحيل عليها بطبيعة الحال أن تأتي بصيغة مكافئة لجرس الكلمات ونغم الإيقاعات المرتبط بالضرورة بالكلمات الأصلية (انظر الفقرة الخاصة بالترجمة في المقدمة العامة لهذا الكتاب). (13) تذكر يا سيدي
يلاحظ في هذا الحوار الشعري، الذي يجمع بين التفكه المرح والعمق الفكري، أن موضوع الخمر - الذي تردد كثيرا في قصائد كتاب الساقي - قد بدأ يفسح مكانه للحكمة (ولعل الشاعر قد قصد هذا لكي يمهد لكتاب الأمثال الذي سيأتي بعد هذا الكتاب)، وربما كان التضاد الحاد هنا بين الساقي الفتى الذي يحافظ على «حكمته» واتزانه، وبين الشاعر الشيخ الذي «يعلم كل ما تطويه السماء وما تحمله الأرض»، ومع ذلك يضطرب وجدانه ويشيع الاضطراب من حوله كلما انتشى بالخمر والشعر، ربما كان هذا التضاد نفسه من العلامات الدالة على حقيقة الشعر نفسه وماهيته الضدية؛ فهو يشب في حضن الأسرار ويليق به الكتمان، لكن طبيعته اللغوية والتواصلية مع متلقيه تفرض عليه باستمرار أن «يخون نفسه» ويلجأ في الحياة الأرضية إلى «الغش أو الخداع»، وكأن خروج الشعر من كهف سره وقوقعة صمته، وتشكله في «الكلمة» التي يسمعها الناس هو في حد ذاته نوع من انكشاف السر أو هتك الحجاب أو «الخيانة». ويبدو لي أن اللمسة الصوفية في فهم الشعر هنا غير خافية. (14) ليلة صيف
تمثل هذه القصيدة الطويلة ذروة كتاب الساقي وفي الوقت نفسه لحن الوداع له؛ فالشاعر يسأل الساقي إلى متى يستمر الأصيل (وهو يمتد صيفا في بعض البلاد الشمالية حتى الصباح!) وهو يسأله لأن الأضواء - في ليالي الصيف - «متداخلة» في بعضها ولا تمكن ظلام الليل من الانتصار عليها تماما. والساقي يعلن عن استعداده لإبلاغه بهذا النبأ حتى ولو تحول من أجله إلى بومة تجثم على درج الشرفة؛ وذلك عرفانا بفضل الشاعر والمعلم عليه وردا لجميله وأملا في تأمل العالم اللانهائي معه. وبعد أن يسترسل الصبي في تمجيد الطبيعة والإعجاب بأضوائها وطيورها ورياحها، يتدخل الشاعر ليعلمه شيئا جديدا يأخذه من مخزون الأسطورة، ويحس بينه وبين نفسه أن الصبي لن يستطيع أن يفهمه، فأورورا أو إليوس الإغريقية (الفجر) هي السيدة المتقدمة في العمر (أو هي الشرق) التي تقع في حب هسبيروس (نجم المساء أو الغرب) وتطارده لكي يتزوجها. وعلى الصبي أن ينتبه ويحاذر من أن تحسبه العجوز نجم المساء؛ لأن جماله يمكن أن يختلط بجمال هذا النجم. ويسترسل الشاعر بدوره في وصف المحبة العجوز وتتبع خطاها الملهوفة لمحاصرة ذلك الذي لاذ بالفرار مع الشمس، وكأن الشاعر قد هدهد الصبي لينام ، وأقنعه أيضا باللجوء إلى داخل البيت بعد أن ظل قلقا ومؤرقا طوال الليل. ولا يصحو الصبي إلا في القصيدة التالية رقم 22 التي يكرر فيها وهو نعسان بعض ما تعلمه من الشيخ أو أهم ما تعلمه منه: إن الله حاضر في جميع العناصر. والأهم من ذلك كله أن الشيخ علمه بحب وبلا قهر أو عقاب، وينصت الشاعر ولا يقول شيئا، ويواصل صمته وهو يشرب لكي يتيح للصبي الذي شرب منه حكمة عمره وتجربته أن ينام ويشبع من النوم. ولعله - أي الشاعر - قد شعر بالرضا والطمأنينة لأنه أخذ عنه جوهر هذه الحكمة، وهو أن الأبدي الباقي ينعكس في الموجودات الجزئية المتفرقة التي تأمل معها أضواءها وألوانها وأصواتها في دهشة وإعجاب. وتقول الأسطورة اليونانية إن إيوس أو (أورورا عند الرومان) قد خطفت الشاب تيثونوس، وأقنعت كبير الآلهة زيوس بأن يهبه الخلود، دون أن يخطر على بالها أن تطلب منه أن يمنحه خلود الشباب. وهكذا يشيخ الشاب وينكمش إلى حجم الطفل أو في بعض الروايات إلى حجم الجندب، ولا يبقى منه إلا صوته، وتخفي إيوس ذلك السر وتواصل إطعامه ورعايته من وراء الأبواب المغلقة، كما تواصل أثناء النهار لهاثها وراء الشبان ... وهسبيروس في نجمة المساء التي تجسدت على هيئة صبي يحلق في السماء ويصعد ويهبط وهو يحمل في يده شعلة ملتهبة. أما عن انقلاب النجم الشمالي فهو يتم عندما يحيط الدب الأكبر والدب الأصغر بالنجم القطبي.
كتاب الأمثال
الأمثال هي أوعية الحكمة الشعبية التي يتناقلها الناس جيلا بعد جيل، ولا يخلو منها شعب ولا أدب على مر العصور، والكثير منها موجود في لغات مختلفة، قديمة وحديثة، وفي صيغ متشابهة تكاد في بعض الأحيان أن تكون حرفية، وقد سبق أن نقلت ودرست الأمثال السومرية - من الألف الثالثة والألف الثانية قبل الميلاد - وهي التي أخذ البابليون معظمها وأضافوا إليها أمثالا أخرى تلخص خبرتهم في الحياة وزبدة تجربتهم الوجودية والتاريخية والعقلية والوجدانية في معيشتهم اليومية (راجع إذا شئت كتابي المتواضع جذور الاستبداد، قراءة في أدب قديم، سلسلة عالم المعرفة، ديسمبر 1994م). وقد كان من الأمور الطبيعية ألا يخلو الديوان الشرقي من كتاب مخصص للأمثال التي تأثر فيها جوته بما اطلع عليه من حكم وأمثال شرقية عند شعراء الفرس والعرب (لا سيما في المعلقات، وبالأخص معلقة زهير التي أخذ عنها عددا من حكمه الساخرة الموجودة، التي اشترك معه صديقه شيلر في كتابة بعضها، وتعرف باسم الحكمة الأليفة أو المدجنة، وكان الهدف من ورائها هو التهكم على بعض الأوضاع الفاسدة في الحياة الأدبية في عصره، بجانب الغرض التعليمي والأخلاقي الملازم لأدب المثل بوجه عام). وقد كان للأديب وفيلسوف التاريخ هيردر (1744-1803م) فضل كبير في توجيه نظر جوته الشاب إلى الأمثال وأغاني الشعوب الشرقية، التي ترجم هو نفسه عددا كبيرا منها في كتابه المعروف بهذا الاسم، كما يرجع إليه الفضل في إشاعة كلمة المثل - أو الأمثولية (البارابيل
) في اللغة الألمانية، وهي الكلمة التي احتفظ بها جوته في عنوان هذا الكتاب الصغير الحجم، وأضفى عليها معاني دينية وروحية تجعلها بمثابة تمهيد مناسب للكتابين التاليين.
ويقول جوته عن هذا الكتاب في تعريفه بالديوان الشرقي في «صحيفة الصباح» لعام 1816م: «يحتوي كتاب الأمثال على تصويرات متنوعة مع تطبيقها على الأحوال البشرية.» كما يقول عنه في تعليقاته وأبحاثه التي تعين على الفهم الأفضل للديوان الغربي-الشرقي: «على الرغم من أن الأمم الغربية قد أخذت الكثير من ثروة الشرق، فسوف نجد هنا الكثير مما يتعين علينا أن نجني ثماره، ولتحديد ذلك نقدم ما يلي: يمكن تقسيم الأمثال، وكذلك سائر الأنواع الأدبية في الشرق ذات الصلة بالأخلاق، تقسيما غير مخل إلى ثلاثة أبواب؛ أخلاقية وعرفية وزهدية. والقسم الأول (من الأمثال) يشمل أحداثا وإشارات تتعلق بالإنسان بوجه عام وأحوال وجوده، دون محاولة للتعبير الصريح عما هو خير أو شر. وهذا الأخير هو الذي يبرزه القسم الثاني بحيث يهيئ للسامع اختيارا معقولا. أما القسم الثالث فيضيف إلى ذلك «نوعا من» الإلزام القاطع؛ إذ يتحول الإرشاد الأخلاقي إلى قاعدة وقانون. ويمكن أن نضيف إلى هذه الأقسام الثلاثة طائفة رابعة من الأمثال التي تصور التوجهات العجيبة التي تصدر عن الأوامر التي يستحيل تفسيرها وإدراك كنهها، وهي تعلم وتؤكد الإسلام الصحيح؛ أي التسليم المطلق بمشيئة الله، والاقتناع بأن أحدا لا يمكنه الإفلات من نصيبه المقدر له. وإذا أردنا أن نضيف طائفة خامسة يتحتم أن تسمى الأمثال الصوفية؛ فهي تلك التي تدفع بالإنسان خارج الموقف السابق، الذي يظل باعثا على القلق والشعور بالضيق والعناء، نحو الاتحاد بالله في هذه الحياة الدنيا نفسها، ونحو الزهد المؤقت في تلك الخيرات التي يمكن أن يؤلمنا فقدانها. فإذا عرفنا كيف نميز بين الأغراض المتنوعة في مختلف التصويرات الرمزية في الشرق، فسوف يكون في هذا كسب كبير؛ لأن الخلط بين هذه الأغراض يعوق المرء على الدوام؛ إذ يجعله يبحث فيها مرة عن تطبيق عملي لا وجود له، أو يجعله مرة أخرى يغفل عن المعنى العميق الكامن وراءها. وتقديم أمثلة لافتة لكل هذه الأنواع سيجعل بالضرورة كتاب الأمثال شائقا ومفيدا. أما عن ترتيب الأمثال التي سنقدمها في هذه المرة، فإننا نترك الحكم عليه للقارئ اللبيب» (بتصرف بدوي، ص463-464، طبعة هامبورج، ص269، ص205-206 من المجلد الثاني لأعمال جوته). (1) تحدرت قطرة خائفة من السماء
تعتمد هذه القصيدة على مثل أو أمثولة فارسية اطلع عليها جوته في ترجمة أولياريوس المبكرة لبستان سعدي (وذلك في الطبعة الأخيرة التي ترجع لسنة 1696م لكتاب أولياريوس الذي استعاره جوته من مكتبة فيمار، وهو وصف مزيد ومنقح لرحلاته في الشرق). كما يحتمل أن يكون الشاعر قد قرأ تلك الأمثولة أيضا في كتاب جان دي شاردان (وهو رحلة إلى بلاد فارس وأماكن شرقية أخرى، أمستردام 1735م) أو في أحد المجلدات التي كان ينشرها المستشرق النمسوي النشيط يوسف فون همر تحت عنوان كنوز الشرق، أو في كتاب وليم جونز أشعار آسيوية وشروحها (راجع نص الأمثولة الأصلية التي حاكاها جوته محاكاة شبه تامة في طبعة بدوي، ص290-291). وقد سبق أن قلنا في التمهيد لهذا الكتاب إن معظم الأمثال الواردة فيه توحي بمعان دينية، وكان العنوان الأصلي الذي وضعه جوته لهذه القصيدة أو المثل المنظوم في المخطوطة هو «لؤلؤة مؤمنة» (كما كان العنوان الأصلي لقصيدة «حنين مبارك» التي نوهنا بها أكثر من مرة - وهي من كتاب المغني - هو «التضحية بالذات»). إن القطرة في هذه القصيدة لم تعد قطرة، لقد تحولت أو ماتت فوجدت ذاتها الحقيقية (على نحو ما يقول أحد أبيات المقطوعة الأخيرة من قصيدة الحنين المبارك: مت كيما تكون). والتضحية بالذات علو وارتفاع في سلم الوجود؛ فالفراشة تحقق وجودها بالفناء في لهب الشمعة، والقطرة أيضا تحقق وجودها عندما تموت وتتحول إلى لؤلؤة، وكأن تحقيق الذات قهر للموت، وتلك هي عقيدة الشاعر عن الخلود كما شرحناها من قبل (في التعليق على قصيدة الشعب والخادم والحكام من كتاب زليخا). ولعل العمل الفني - في تحولاته المختلفة حتى يصبح عملا فنيا بحق! - يشبه هذه القطرة التي كافأها الله على تواضعها وإيمانها الشجاع، فوهبها القوة والبقاء، وصاغ منها لؤلؤة يزهو بها تاج القيصر المجيد (أو دوق فيمار وراعى جوته وصديقه كارل أوجست!) أقول ربما يكون هذا هو قصد جوته من ضرب هذا المثل، فإن لم يكن الأمر كذلك فهو اجتهاد في التفسير. (2) شدو البلبل في الليل
البلبل هنا تعبير مجازي عن الروح الحبيسة في قفص الجسد. وقد تأثر الشاعر بحافظ الشيرازي (في ترجمة همر، كنوز الشرق، ج2، 1811م، ص108، 109) حيث يقول: «هذا البلبل الحبيس، الذي يسمى الروح، لا يخدم البدن، الذي هو على العكس قفصه.» وفكرة حبس الروح في سجن الجسد أو في قفصه فكرة معروفة في التراث الغربي - على الأقل منذ عهد الأورفيين والفيثاغوريين وأفلاطون - وفي التراث الشرقي كما سبق القول في موضع آخر من هذه الشروح (راجع كذلك قصيدة: ما الذي يجعلك فظا سمجا في أكثر الأحيان؟ وهي القصيدة رقم 8 من كتاب الساقي). (3) إيمان عجيب
استلهم الشاعر هذه القصيدة كما تصرف فيها تصرفا لا يخلو من الدعابة والتهجم حتى في عنوانها، مثل فارسي أورده شاردان (ج4، ص28)، وذكره رودلف ريشتر في طبعته للديوان الشرقي (ليبزيج، 1926م، ص331)، وجاء على هذه الصورة في ترجمة بدوي (ص292): «إن الزجاجة المكسورة تشعب، فكم بالأحرى يعاد سبك الإنسان بعد أن يحطمه الموت؟» وإذا كان هذا المثل - الذي لا أعرف مصدره وإن كنت أرجح أنه قيل بعد الفتاح الإسلامي لبلاد الفرس - إذا كان يكرر ما سبق أن أكده القرآن الكريم في سور عديدة للرد على الكفار الذين أصروا على إنكار البعث، فلا أدري لماذا يضمن جوته صياغته له نبرة الدعابة، على الرغم من إيمانه الراسخ بالخلود، كما سبق القول في شرحنا لقصيدة «الشغب والخادم والحكام» من كتاب زليخا. (4) تركت جوف محار لؤلؤة
واضح من معنى القصيدة أو مغزاها (إذ إنها مثل أو أمثولة قبل كل شيء!) أن الفرد ينبغي عليه أن يضحي بنفسه في سبيل كل أسمى منه وأرقى. ومع أن الفرد غاية في ذاته، فلا يجوز له أن ينسى أنه في نفس الوقت وسيلة إلى غاية أكمل منه وأشمل، حتى اللؤلؤة النفيسة أو الدرة اليتيمة، تعاني بقسوة من الصائغ وتجبر على الانتظام في عقد يضم أحجارا غير نفيسة، تماما كما يضطر العبقري أو حتى الإنسان الطيب النقي للحياة وسط الأشرار والاختلاط بالأراذل والأوغاد. (5) رأيت بدهشة وابتهاج
بداية القصيدة مستلهمة من جلستان سعدي (في ترجمة أولياريوس السابقة الذكر)، وإن كان جوته قد أضفى عليها معنى يتفق مع رؤيته الكونية والدينية (أي المعبرة عن إيمانه بوحدة الوجود تأثرا بفيلسوفه الأثير اسبينوزا)، هذه الرؤية التي تجعله يدرك عظمة الله في أكبر الكائنات وأصغرها؛ لأنه سبحانه يتجلى في كل مخلوقاته، وإن كان المؤمن يعلم تمام العلم أنه متعال على كل شيء و«ليس كمثله شيء». (6) كان عند أحد القياصرة
يلاحظ أن هذه القصيدة تتسم بطابع عملي ودنيوي يجعلها مختلفة - إلى حد التضاد - عن القصيدة السابقة. لا يعرف مصدرها الشرقي على وجه التحديد، وإن كان أستاذنا بدوي يرجح - بالاستناد إلى بعض الشراح - أنها متأثرة بفقرة وردت في ترجمة دييز لكتاب قابوس أو قابوس نامه (بدوي، ص295). (7) قال القدر الجديد للمقلاة
في هذه القصيدة تعريض بالخلاف الشديد الذي نشب بين المستشرقين فون دييز وفون همر على ترجمة أحد الأمثال الشرقية. (8) الناس جميعا من كبيرهم إلى صغيرهم
تواصل التهكم اللاذع في القصيدة السابقة من التافهين المغرورين الذين تصور لهم نرجسيتهم أنهم قد أبدعوا الروائع، مع أن نسيجهم أوهى من نسيج العنكبوت. وكم ملأ هؤلاء التافهون حياة جوته بالنكد والتنغيص، وما زالوا ينغصون عيش العاملين في صمت في كل مكان وزمان (وبخاصة في زماننا الذي اتفقت آراء المخلصين على أنه زمان رديء). (9) لما نزل يسوع من السماء
تشير هذه القصيدة من طرف خفي إلى علاقة جوته بالدين، والدين المسيحي بوجه خاص؛ فقد قال على سبيل المثال في سيرة حياته «شعر وحقيقة» (القسم الثالث، الكتاب الثاني عشر) وهو في معرض الكلام عن اهتمامه الجاد في شبابه بالمأثورات المقدسة، لا سيما بالعهدين القديم والجديد: «إن كتاب الأناجيل يمكنهم أن يتناقضوا كما يشاءون، ما دام الإنجيل لا يتناقض مع نفسه» (طبعة هامبورج لأعمال جوته، المجلد التاسع، ص511). كما قال في الحكم والتأملات: «إن في الحق شبها بما هو إلهي، وهو لا يظهر بشكل مباشر، وإنما يجب علينا أن نحدس بوجوده من خلال مظاهره أو تجلياته» (طبعة هامبورج، المجلد 12، الحكم والتأملات، الحكمة رقم 11، ص366). ومصدر القصيدة هو كتاب شاردان وصف لرحلة إلى بلاد فارس. (10) حسن
في هذه القصيدة التي يختم بها كتاب الأمثال أصداء من القصيدة الرائعة «لقاء من جديد» من كتاب زليخا، وهي التي قدمنا شرحا مفصلا لها في تعليقنا على قصائد كتاب زليخا (القصيدة رقم 39). والأبيات الأخيرة تؤكد المعنى الديني، وهل ينتظر المحبوب تبريرا للحب أسمى من رضا الله على آدم وحواء الراقدين جنبا إلى جنب في جنة الفردوس؟ وهل هناك ما يرضيه سبحانه أكثر من أن يقول كل منهما لصاحبه: «أنت يا أحلى ويا أجمل ما صور ربي»؟ (قارن سفر التكوين 2: 18، وكذلك 1: 31).
كتاب البارسي أو المجوسي
يرجع الشاعر في هذا الكتاب إلى موضوع الدين، وإن بقي في حدود العالم الدنيوي، على العكس من الكتاب التالي وهو كتاب الفردوس الذي يرسم فيه للآخرة والجنة صورة مرحة صافية تتفق - في ظنه - مع تصور الإسلام والمسلمين. وقد جمع مادة الكتاب مما وجده عند أولياريوس وشاردان وغيرهما عن ديانة البارسيين أو المجوس القدماء من عبدة النار في إيران، ثم ربط تلك المادة بتدينه «الطبيعي»، كما نظر إلى عبادة النار نظرة تقربها من رمزية النور الذي شغله طوال حياته، ورأى فيه أسمى تجل للقدرة الخالقة الفاعلة في كل الموجودات. ويقتصر هذا الكتاب - مثل كتاب تيمور - على قصيدتين اثنتين؛ إحداهما في شكل غنائي يكاد أن يكون ملحميا في طول نفسه واتساع رقعته، والأخرى قصيرة ولا تخلو أيضا من التغني بالنور والشمس، التي تنضج الكرمة بفضل نارها التي تتوهج من جديد في نار النشوة بالخمر.
قال عنه جوته في الإعلان عن ديوانه الشرقي في صحيفة الصباح لسنة 1816م: «هنا نجد عرضا لديانة عبدة النار، وهو أمر حتمته الضرورة؛ إذ بغير فكرة واضحة عن هذه الديانة الممعنة في القدم، ستظل التحولات التي طرأت على الشرق غامضة.»
ثم يقول عنه كذلك في عرضه لمضمون كتب الديوان في «التعليقات والأبحاث»: «إن المشاغل العديدة هي وحدها التي حالت بين الشاعر وبين عرض عبادة الشمس والنار - التي تبدو مجردة في ظاهرها وإن كانت مؤثرة من ناحية نتائجها العملية - عرضا شعريا وافيا تقتضيه المادة الرائعة. ونرجو أن يقيض للشاعر التوفيق في تدارك هذا النقص» (بتصرف عن بدوي، ص303، ص464، وطبعة هامبورج، ص269، ص206). (1) وصية الديانة الفارسية القديمة
هذه القصيدة ترنيمة طقسية وليست عرضا وصفيا للأساطير المرتبطة بعبادة النار المقدسة في الديانة الإيرانية القديمة، سواء قبل زرادشت أو بعده، وهي تقوم على موقف إنساني مؤثر ابتدعه خيال الشاعر، وهو وداع رجل بارسي أو ومجوسي - لعله كان أحد الكهنة المساكين المتواضعين في تلك الديانة - لإخوته وأبنائه الذين رعاهم ورعوه أثناء حياته، وهي كما يدل عنوانها وصية هذا الكاهن المخلص المغمور التي تعبر عن قانون الطهر والقداسة المرتبطة بالنار والنور، وهو القانون الذي يحاول الكاهن أن ينقش أوامره ونواهيه على صدورهم ساعة احتضاره وتوديعه لهم وللأرض والطبيعة والشمس التي تعد أعظم وأسمى رموزه. ويبدو أن جوته يجعل من هذه الوصية «إنجيل» تدينه الطبيعي، ويضمنها عقيدته الراسخة عن ضرورة التزام الإنسان بتقديس الحياة واحترامها، عن طريق فعله الدءوب المنتج والمبدع في كل لحظة من لحظات حياته المؤقتة على الأرض؛ والسبب في ذلك ببساطة هو أن الوجود في صميمه فعل دائم، وأن كل الموجودات من أعظمها إلى أصغرها تعبر عن تجلي الفعال الأبدي في هذا الفعل الشامل الذي ينسج منه الخالق «ثوب الألوهية الحي على نول الزمان العاصف» (كما يعبر البيتان المشهوران (508-509) اللذان تقولهما الروح لفاوست في المنظر الأول من القسم الأول من فاوست). والحق أن هذه الرسالة الروحية التي يوجهها جوته على لسان الراعي المحتضر تصدر عن موقف فريد في الديوان الشرقي كله، وهو موقف الإطلال على الأرض والبشر قبل الموت، من خلال إنسان يقف على الجسر الموصل للأبدية، ويستطيع أن يغوص بنظرته في الكل، وأن يحلق صاعدا إلى أعلى مستوياته ويهبط إلى أدناها بعاطفة الراحل الذي أحب كل شيء وبارك كل مخلوق، وحاول أن يعلم «رعيته» كيف يطهرون أرواحهم وأجسادهم. ومعلوم أن موقف الاحتضار هو أنسب موقف للتعبير عن مثل هذا الكشف أو التجلي الذي يتوحد فيه النور الجزئي مع الإنسان مع النور الكلي، أو الذي يرجع إليه رجوع الشعاع إلى شمسه وقطرة الماء إلى بحرها. ومما يذكر أن جوته كتب هذه العبارة في مذكراته اليومية «الاعتراف الديني للبارسي»، وكان ذلك في نفس اليوم الذي كتب فيه هذه القصيدة المطولة، وهو اليوم الثالث عشر من شهر مارس سنة 1815م. والجدير بالذكر أيضا أن جوته قد صور بقلمه الخلفية الحضارية والتاريخية للديانة الإيرانية القديمة بشكل مفصل ومفعم بالحب والتعاطف، يمكن أن يغني القارئ عن المزيد من الشرح والتفسير، وذلك في تعليقاته وأبحاثه التي ذكرناها مرارا في فقرة بعنوان «قدماء الفرس»، ويكفي أن نورد منها هذه السطور التي يمكن أن تلقي الضوء على حقيقة تلك الديانة الطبيعية والعملية القديمة، التي عني جوته ببحثها ومعرفة آثارها الفكرية والأدبية الشحيحة؛ حتى يتعرف على بعض أصول الأدب والشعر الفارسي الحديث الذي كان له التأثير الأكبر على ديوانه الشرقي: «قامت عبادة الله عند البارسيين القدماء على تأمل الطبيعة؛ فقد كانوا يتوجهون أثناء تعبدهم للخالق إلى الشمس المشرقة، بوصفها أروع تجلياته وأكثرها لفتا للانتباه، هنالك كانوا يعتقدون أنهم يرون فيها عرش الله الذي تحف به ملائكته تشع بالأنوار المتألقة، وكان كل واحد منهم، حتى أقلهم شأنا، يستطيع أن يشارك يوميا في مجد هذه العبادة التي تسمو بالقلب، وكان الفقير يخرج من كوخه، والمحارب يغادر خيمته، فيتم أكثر الأعمال تدينا، وكان الطفل المولود يعمد ببركة الأشعة الصادرة من تلك النار، كما كان البارسي يشعر، طوال اليوم كله وطوال العمر، بأنه مصحوب في كل أعماله بالكوكب الأصلي العظيم. والقمر والنجوم كانت تضيء الليل، وكانت هي أيضا بعيدة عن متناول يده وتنتمي إلى اللامحدود. أما النار فكانت موجودة إلى جوارهم تضيء وتدفئ على قدر قوتها. وكان أداء الصلوات في حضرة هذا الممثل للألوهية، والركوع أمام ذلك الذي شعروا بلا نهائيته، كان واجبا دينيا ممتعا لهم، ولا يوجد شيء أطهر من شروق الشمس الصافي؛ ولذلك يجب على الإنسان إشعال النار والمحافظة عليها، إذا أراد أن يبقى مقدسا وشبيها بالشمس. والظاهر أن زرادشت كان أول من حول هذه الديانة النبيلة الطاهرة إلى عبادات ذات طقوس معقدة. والمهم مع ذلك هو ملاحظة أن قدماء البارسيين لم يقتصروا على عبادة النار؛ فديانتهم تقوم في الحقيقة على إضفاء الكرامة على جميع العناصر، وذلك بقدر ما تعلن عن وجود الله وقدرته؛ ومن هنا جاء تورعهم المقدس عن تدنيس الماء والهواء والتراب. وهذا التوقير لكل الأشياء الطبيعية التي تحيط بالإنسان يقود إلى جميع الفضائل المدنية؛ فالانتباه والطهارة والاجتهاد يتم الحث عليها وتنميتها، وعلى أساسه أيضا قامت فلاحة الأرض، فكما أنهم لا يدنسون أي نهر، كذلك كانت القنوات تحفر - مع الاعتناء الشديد بالادخار في الماء - ويحافظ على نظافتها، ومن جريان تلك القنوات كانت توفر الخصوبة للبلاد، حتى إن الزراعة في المملكة كانت تبلغ آنذاك في اتساعها عشرة أضعاف مساحتها اليوم. فكل «الأعمال» التي كانت الشمس تبتسم لها، كانت تؤدى بكل اجتهاد ونشاط، وكانت زراعة الكروم - وهي أعز بنات الشمس - تحظى قبل غيرها بعناية فائقة» (بتصرف عن ترجمة بدوي، من ص382-ص386، وكذلك طبعة هامبورج، المجلد الأول، من ص335-ص338). ولا شك عندي أن الشاعر قد كتب العبارة الأخيرة من النص الذي اخترناه من تعليقه الطويل وفي ذهنه القصيدة التالية لوصاية الديانة الفارسية القديمة؛ إذ يذكر في هذه القصيدة القصيرة (رقم 2 من هذا الكتاب) مدى توقير الإنسان للأرض التي تشرق عليها الشمس، ويخص بالتقدير الكرمة «التي تبكي تحت السكين الحادة»؛ لأنها تشعر أن عصيرها سينعش الدنيا. والفضل كله في نمو الكرمة وتوهج النشوة إنما يرجع للنار المقدسة والشمس المقدسة، وكلتاهما تمثل بصورة مجانية أسمى رمز للألوهية المتجلية في كل شيء «تبتسم له الشمس المشرقة». وقد استمد جوته التفصيلات والمعلومات الواردة في القصيدة من تقرير وضعه الجغرافي الفرنسي نيكولا سانسون (1600-1667م)، وفيه وصف لمقر الكاهن البارسي في ضاحية جاورآباد - بالقرب من مدينة أصفهان - التي سمح الشاه عباس الأكبر بالإقامة فيها لأتباع تلك الديانة القديمة الذين تحملوا الاضطهاد والمطاردة زمنا طويلا. ودرناوند، وصحتها ديماوند، هي الاسم الذي كان يطلقه الرحالة في القرنين السابع عشر والثامن عشر على الجبال الواقعة جنوبي أصفهان. أما سندرود فهو اسم النهر الذي ينبع منها ويشق مجراه المدينة. وأما «الحي» الذي يوصي الكاهن المحتضر في المقطوعة التاسعة بأن يسلموا الأموات إليه، فهو التعبير المهذب عن الطيور الجارحة التي تعيش على نهش الجثث.
كتاب الفردوس
إذا كان الكتاب السابق - وهو كتاب البارسي - قد صور الطبيعة والأرض والشمس بوصفها رموزا لقانون الطهر والقداسة الذي ينبغي أن يحكم حياة الإنسان، كما حكم حياة البارسيين أو المجوس القدماء عبدة النار، فإن هذا الكتاب يولي وجهه شطر الآخرة، ويقدم تصور الشاعر عن جنة الفردوس «الإسلامية» كتعبير مجازي عن القيمة الأخروية والميتافيزيقية لوجود الإنسان في الحياة الخالدة، لا سيما حين يكون هذا الإنسان قد قضى حياته في الجهاد في سبيل الله مثل الشهداء، أو في سبيل الإبداع مثل شاعرنا الذي يدخل هنا في ألوان مرحة صافية من الحوار مع رموز الجمال الأنثوي الخالد وهن الحوريات.
والقصائد التي يضمها الكتاب تمثل وحدة مترابطة؛ فكل واحدة منها تفترض السابقة عليها وتمهد للآتية بعدها، وتحس منها جميعا أننا بإزاء لعبة متبادلة كلعبة المرايا المتعاكسة التي تتبادل الصور والوجوه على صفحاتها؛ فهي تبدأ بما هو سماوي فوق الأرض، ثم تصور ما هو أرضي كرمه الله يرفعه إلى السماء؛ الرجال الذين أنعم عليهم بدخول جنة الفردوس، وهم الشهداء الأبرار، ثم الصفوة من النساء المسلمات اللائي اجتباهن الله في الدنيا والآخرة، وأنعم عليهن بدخول الجنة. وأخيرا يأتي دور الشاعر الغربي نفسه الذي يلتمس في البداية من الحورية دخول الجنة، ويظهر فيها بعد ذلك ويتحرك بحرية؛ لأنه أثبت أنه يحمل آثار جراح لا تقل ألما وعمقا عن جراح المجاهدين. ويحكي الكتاب بعد ذلك قصة الحيوانات التي كرمها الله بدخول الجنة، ثم يرفع هذا كله (كما يقول هيجل عن المرحلة الثالثة من مراحل جدله المثالي التي تجمع بين الضدين في المرحلتين السابقتين في لحظة ثالثة أكثر خصوبة وغنى) في قصيدة أعلى والأعلى التي تعد - بجانب قصيدة «الحنين المبارك» من كتاب المغني وقصيدة «اللقاء من جديد» من كتاب زليخا اللتين سبق شرحهما في هذه التعليقات - أروع قصائد الديوان إن لم تكن من أروع أشعار جوته على الإطلاق؛ ففي هذه القصيدة تصوير لما يمكن أن نصفه بأنه الشمس المركزية للنور الإلهي الذي يتعذر وصفه، والذي يستوعب في داخله كل ما هو إنساني ويحوله. ويتردد صدى «الحنين المبارك» إلى الآخر المطلق أو الأنت الأزلية الأبدية الذي يتوق المحب للاتحاد به وهو الله عز وجل علاه. ويرتبط الحب الإلهي بالحب البشري ارتباطا عميقا، ومن هنا تكاد صورة السماء أن تقتصر على صورة الحورية التي يتعلق بها قلب الشاعر، كما يسود شكل الحوار الذي وجدناه في كتاب «زليخا» التي تظهر الآن على هيئة حورية من حوريات الجنة. وتبدو الحياة السماوية كأنها امتداد للحياة الأرضية التي غمرتها نعمة الحب، كما يبدو الحب الأرضي - الذي عرفنا مدى عمقه وصفائه وعذابه أيضا في كتاب زليخا - وكأنه نوع آخر من الحب الإلهي، أو على الأقل قبس من نوره أو قطرة من بحره اللانهائي.
هكذا يكتمل في هذا الكتاب أسلوب الديوان الذي يقوم على الحوار - أو بالأحرى اللعب! - المتبادل بين الأرضي والسماوي، والدنيوي والإلهي، والشرق بألوانه الزاهية وزخارفه المجازية والغرب بجديته وقلقه وشوقه إلى المطلق، وطموحه الدائم للارتفاع إلى مناطق أعلى وأعلى. وتكتمل كذلك دائرة الديوان في هذا الكتاب، الذي يشبه قبة سماوية تمتد فوق الكتب الأخرى، وتعكس أضواءها كما تعكس ذات الشاعر وحياته وتجاربه مع الحب ورؤيته للعالم والإنسان «من منظور الأبدية»، كما يقول فيلسوفه الأثير اسبينوزا في تعبيره المعروف. ومع كل هذا تظل تتردد داخل هذه الدائرة العجيبة نغمة المرح الصافي والدعابة الحلوة. كيف نفسر هذا كله؟ لا بد أن يسأل كل منا قلبه؛ إذ لا يلمس القلب إلا ما يأتي من القلب. وأخيرا يناشد الشاعر قصائد الديوان أن تنام على صدر الشعب، ويلتمس من جبريل أن ينشر بفضله سحابة مسك فوق الجسد المكدود المتعب؛ كي يمضي وهو معافى مرح - كالعهد به - وودود، ويجوب سعيدا جنات الخلد.
ويقول جوته في إعلانه عن الديوان الشرقي في صحيفة الصباح لعام 1816م: «إن كتاب الفردوس (خلد نامه) يحتوي على عجائب الفردوس كما يتصوره المسلمون، وكذلك على السمات الرفيعة للشعور بالتقوى والورع، وهي السمات المتعلقة بالسعادة الخالصة في الدار الآخرة.» ويجد القارئ هنا الحكاية الخارقة عن أهل الكهف السبعة وفقا للمأثورات الشرقية، كما يجد حكايات أخرى تصور بالمعنى نفسه الاستبدال المرح للمتع السماوية بالمتع الأرضية. ويختتم الكتاب بتوديع الشاعر لشعبه، وبهذا ينتهي الديوان نفسه (طبعة هامبورج، المجلد الثاني، ص270).
ويقول عنه كذلك في تعريفه بكتب الديوان في تعليقاته وأبحاثه: «وهذه الناحية من نواحي العقيدة الإسلامي تحتوي كذلك على مواضع رائعة كثيرة، وجنات في جنات، بحيث تطيب للإنسان الحياة والإقامة فيها.» ويمتزج الهزل والجد هنا بألطف صورة، ويعيرنا اليومي المتسامي أجنحة للصعود إلى الأعلى فالأعلى منه. وما الذي يمنع الشاعر من أن يركب فرس محمد الرائع (البراق)، وأن يحلق به في أرجاء السموات جميعا؟ ولماذا لا يحتفل في خشوع بتلك الليلة المقدسة التي أنزل فيها القرآن كله على النبي؟ إن ها هنا فوائد جمة يمكن اكتسابها (بتصرف عن بدوي، ص465، وطبعة هامبورج، ص206). (1) تذوق
في القصيدة دعابة خفيفة ولطيفة، وفي المقطوعة الثالثة منها تعبير مضمر عن فكرة الصدور أو الفيض التي تأثر فيها جوته بأفلوطين والأفلاطونية المحدثة في عدد كبير من أشعاره المتأخرة (انظر على سبيل المثال قصيدته الشهيرة التي يقول فيها: «لو لم تكن العين مشمسة، لما أمكنها أن ترى الشمس، ولو لم تكن قوة الله كامنة فينا، أكان يتسنى لما هو إلهي أن يفتن قلوبنا؟» طبعة هامبورج، المجلد الأول، ص367). فالمخلوقة السماوية المحبوبة التي تهبط إليه من أعلى هي نموذج للشباب، وصورة من مثال الجمال الخالد. وفي القصيدة كذلك بعض الأفكار والصور التي تكررت في عدد من قصائد كتاب زليخا (كالقصيدة رقم 3 لما كنت تسمين الآن زليخا، ورقم 7 أمن الممكن؟ وكذلك القصيدة الأخيرة: في وسعك أن تتخفي في آلاف الأشكال). وإن كانت هنا ترف في زرقة سماوية أشد صفاء. (2) رجال موعودون
تبدأ برثاء النبي
صلى الله عليه وسلم
لشهداء المسلمين في غزوة بدر (في العام الثاني للهجرة، يناير سنة 624م)، ثم لا يلبث الشاعر أن يستلهم قصة الإسراء والمعراج، التي قرأ عنها في القرآن الكريم وفي كتابي «أولزنز» و«ي. ف. رييندر» عن النبي محمد وغيرهما، فنحس بعد قليل أنه يمزج أوصاف الملأ الأعلى وجنة الفردوس بتصوراته ورغباته وأحلامه الخاصة بالعثور على حوريته (أي زليخا) بين حوريات الجنة. (3) صفوة النساء
بعد أن يلهج الشاعر بالثناء على هذه النخبة الطاهرة من صفوة النساء (ومنهن زليخا امرأة العزيز التي أحبت سيدنا يوسف وراودته عن نفسه ثم تابت وأنابت وهداها الله للإيمان، ولكن هنا زليخا أخرى غير التي وصفها الشاعر في القصيدة الأولى من كتاب العشق، وهي قصيدة نماذج، س6-8، وغير زليخا التي سمى حبيبته باسمها، وراح في هذا الكتاب يبحث عنها بين حوريات الجنة حتى وجدها واتصل الحوار بينهما بعد ذلك في قصائده كلها) بعد أن يفعل ذلك تجد الحورية التي سيحاورها في القصيدة التالية أنه يستحق أن يسمح له بالدخول إلى جنة الفردوس لينعم بوجوده إلى جوارهن. (4) سماح
هنا يسمح للشاعر بدخول الجنة مع الموعودين من شهداء المسلمين؛ فقد حقق الشروط التي وضعتها الحورية (من س5-12) وفسر هذه الشروط تفسيرا شاعريا استخدم فيه كلمات الحورية نفسها ودوافعها وأغراضها (إذ يذكر الجهاد والجراح التي تثبت انتماءه - الشعري والإنساني - للموعودين من الشهداء والصالحين). ويختم الشاعر كلامه بالدعابة كما بدأه؛ إذ يعبر عن رغبته في أن يحصي عدد الدهور على أناملها الرقيقة، وهنا يتردد صدى خافت للصوت الرنان الطنان الذي سبق أن سمعناه في قصائد عديدة سابقة، عبر فيها الشاعر عن إحساسه بالتفوق والتعاظم حتى على القيصر نفسه، وإن كان هنا أقرب إلى الثقة بالنفس والاعتزاز بالإنجاز، وأبعد ما يكون عن «آليات الدفاع عن النفس» من ألسنة الخصوم الصغار وسهام النقد المسمومة بالحقد. والنغمة هنا على كل حال نغمة خفيفة ولطيفة، تذكرنا بالأغنيات العذبة في كتاب زليخا، وربما يرجع هذا مرة أخرى إلى ثقة الشاعر بأن الحوريات قد تقصين أمره في القصيدة رقم 2، وعرفن حقيقته ، وتأكدن من بطولته الشعرية التي تنبع أيضا من الحب والإيمان كبطولات «الرجال الموعودين». (5) رنين
إذا كان الشاعر قد أكد من قبل (في أول قصائد الديوان، وهي قصيدة الهجرة من كتاب المغني، من س39-42) أن كلماته تحوم دائما حول أبواب الفردوس، متوسلة الدخول لتحظى بالخلود، فإن قصائده أيضا تريد الآن أن تدخل معه جنة الفردوس؛ لأن أنغامها تختلف كل الاختلاف عن أنغام قصائد شعراء آخرين، تبقى في الأسفل عاجزة عن الصعود إلى أعلى. كلاهما إذن يريد الخلود؛ الشاعر لأنه عرف كيف يحب ويحيا بحق، والقصائد لأن جمال نظمها وسحر ألحانها يؤهلها للبقاء، فإذا رجعت للأرض حق لها الخلود في صدور البشر بفضل الأصداء السماوية التي جلبتها معها من الفردوس، كما صار من حقها أن ترقد في النهاية على صدر «شعبه» في سلام (كما ستقول القصيدة الأخيرة في الديوان). ولا يفوتنا أن نذكر أخيرا أن الشاعر لا ينسى أن يطالب بمكافأة غيره من الشعراء والفنانين على أعمالهم المتميزة (س26-32)؛ لأن الفن الحقيقي لا بد أن يكون خيرا يعم الجميع (س29-30)، ولأن جوته لم يكن أنانيا بالقدر الذي تصوره كثير من معاصريه، أوحى به هو نفسه في بعض قصائده التي تردد نغمة التعاظم والتفوق، والأصح من ذلك بالنسبة له أو لغيره من الفنانين أن الفن نفسه - إذا صح تجسيده وتشخيصه! - هو الأناني الذي يستحوذ على صاحبه استحواذا كليا. (6) إن حبك وقبلتك يسحرانني
السماء هنا كما يقول ماكس كوميريل (في كتابه أفكار عن قصائد، ص287-289) هي الحب نفسه كما عاشته الحبيبة التي يتعرف إليها الشاعر، ولكنه حب خال من قدر الفراق (الذي لم يكن منه مفر كما بينا في الفصل الخاص بقصة الديوان الشرقي). وفي الحوار بين الشاعر والحورية - أو زليخا السماوية! - يتأسس نوع من الاتحاد الجديد الذي يقوم فيه القلب الشاعر - إذا جاز هذا التعبير - بنظم العالم وتحويله إلى شعر. ما أقصر لحظات الحب أو لحظته التي عاشها العاشقان على الأرض! لكن ما كان أطولها بحيث يمكن أن تصبح الآن سماء شاسعة الأرجاء يصعب تعيين حدودها! (7) ها أنت ذا تلمس إصبعي من جديد
عودة إلى لحظة الحب التي يرفض الشاعر (س7-8) أن يحددها بمقاييس الوقت وحساباته العادية؛ لأنها لحظة اهتزاز الكيان وارتجافه التي تعلو على التحديد؛ ولهذا يأتي الحوار المختصر عن عالم غير زماني أو فوق الزمان والتاريخ، كما تتتابع الأفكار والموضوعات وتتجاوز ألوانها الرقيقة كالغيوم في سماء ليلة من ليالي الصيف. والسطور الأولى تشير إلى كلمات الحوار السابق في قصيدة سماح (31-33) والشاعر هنا لا يزال هو الشاعر المستغرق في أفكاره (س9)؛ ولهذا تتوسل إليه الحورية - بعد أن تشيد بجسارته التي جعلته يخاطر بنفسه في الأعماق الإلهية - أن يكون حاضرا بجوار حبيبته (زليخا) التي تعترف صراحة بأنها هي حبيبته الغالية. فالحضور إذن هو محور القصيدة التي تسأله الحبيبة أن يرددها ليجدد حضور لحظة الحب ذات الحضور الدائم هنا في السماء كما كانت على الأرض. والقصيدة هي نفس القصيدة التي سمعتها تحوم على باب الفردوس (والبيت رقم 15 يشير إلى قصيدة رنين، وهي القصيدة الخامسة في هذا الكتاب)، وإن كانت سعادة الحب الأرضية-السماوية لا تنتهي بانتهائها. وجدير بالذكر أن القصائد التي ناقشناها حتى الآن - باستثناء القصيدة رقم 2 وهي «رجال موعودون» - يرجع تاريخ نظمها إلى عام 1820م؛ أي بعد أن خبت شعلات الحب المتوهجة في القصائد التي كتبت بين عامي 1814م و1816م؛ ومن ثم يلاحظ النقاد أن أسلوبها ينتمي لأسلوب جوته الشعري المتأخر (راجع الكتاب السابق الذكر لكوميريل، وهو أفكار عن قصائد، فرانكفورت على الماين، 1943م، ص289، وما بعدها). (8) حيوانات مرضي عنها
أخذ جوته قصة الذئب بصورتها الموجودة في الفقرة الثالثة عن كتاب شاردان الذي سبق ذكره (رحلة إلى بلاد فارس وأماكن أخرى في الشرق)، وقد أوردها الدميري بالتفصيل في كتابه حياة الحيوان؛ إذ روى كيف كلم الذئب أهبان بن أوس الأسلمي الذي ذهب إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم
في المدينة وحدثه بحديث الذئب وأسلم على يديه. أما الكلب الصغير فهو قطمير «الباسط ذراعيه بالوصيد» في قصة أهل الكهف في القرآن الكريم. وأما هرة الصحابي المعروف وراوي الحديث النبوي الشريف أبي هريرة، فالظاهر أن جوته أخذها عن جلستان سعدي أو من تعليق أولياريوس، الذي ترجم الجلستان، على الموضوع الذي ذكرت فيه (راجع بالتفصيل ترجمة بدوي، ص325-327). (9) أعلى والأعلى
تشير «مثل هذه الأشياء» (س1) إلى القصائد السابقة في هذا الكتاب، كما يشير البيتان (س7-8) بصورة ضمنية إلى القصيدة رقم 3 من كتاب الأمثال وهي «إيمان عجيب»، التي تؤكد أن الله ينجي عبده ويحقق رغباته وآماله حتى ولو عرف الغضب والقنوط طريقهما إلى قلبه، وفي السطر 26 تصرفنا في الصفة «خطابي» التي تفيد هنا اللغة الخالية من الكلمات وهي لغة النظرات.
ويلاحظ أن الأبيات (من س19-32) تصور حركة التصعيد في تجاوز الإنسان لبشريته الأرضية، وعلوه بوجه خاص إلى نوع من الوجود غير اللغوي - أو بالأحرى فوق اللغوي - الذي يرمز هنا رمزا جديدا ومعبرا عن التجربة الصوفية العريقة، التي لا تجد في مثل هذه الحالة - أو هذا المقام! - إلا الصمت تعبيرا عما يستعصي على التعبير (تذكر على سبيل المثال عبارة النفري الدالة: كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة)، حتى الحواس الخمس التي لمسنا فعلها ونشاطها في القصائد السابقة من هذا الكتاب (س33-36) ستندمج هنا في حاسة واحدة أو حس حدسي قادر على الرؤية والنفاذ والارتفاع بصاحبه - بغير وسيط لغوي ولا إدراكي - إلى رحاب الألوهية، و«الدوائر الأبدية التي تنفذ فيها كلمة الله بصورة خالصة حية» (س37-40). ونرتفع على السلم الصاعد إليها درجة درجة، مدفوعين بأقوى وأسمى الدوافع، وهو الحب (41-44). وهناك يتلقفنا النور الإلهي الذي «يذيبنا» فيه كما يذيب كل «موناد» (بلغة ليبنتز)؛ أي كل موجود متفرد يحثه الشوق للاتحاد بالروح الكلية، أو يدفعنا للرجوع ل «الواحد» الأسمى (بلغة أفلوطين) الذي فاض عنه العالم الروحي والعالم المادي بطبقاتهما المختلفة؛ لأنه هو المنبع الأصلي أو مركز الإشعاع الأول. وكل هذه صور طالما التقينا بها في قصائد سابقة، ويمكن أن نجدها في أعمال أخرى عديدة كلما تطرق الشاعر إلى «المسائل الأخيرة» - كما يقال في الفلسفة - وبخاصة في أشعار الشيخوخة، كما نجد مثلا في قصيدة «الواحد والكل» التي يقول في المقطوعة الأولى منها: «كي يجد الواحد نفسه في اللامحدود، سيطيب له أن يتلاشى فيه، عندئذ يتبدد كل سأم أو ضيق، وبدلا من الرغبة الحارة والإرادة الشرسة، بدلا من الطلب اللحوح والواجب الصارم، ستصبح متعته في إنكار الذات.» وكذلك في المشهد الأخير من القسم الثاني من فاوست، ثم في قصائد سابقة عديدة من الديوان الشرقي نفسه، مثل القصيدة القصيرة من مجموعة القصائد تحت عنوان تمائم، وتحمل رقم 5 من كتاب المغني، وتقول: «ما فكرت في شأن من شئون دنياي، إلا خرجت منه بالنفع العظيم، ومهما حدث فالروح لا تتناثر كالغبار؛ لأنها في أعمق أعماقها ترتفع إلى أعالي السماء.» ومثل الأبيات الأربعة من القصيدة الكبرى وصية الديانة البارسية، ص69-72، والقصيدة رقم 4 من القصائد التي جمعت ونشرت بعد وفاة الشاعر: «ألا يحق لي أن أستخدم تشبيها كما يحلو لي، والله نفسه قد ضرب مثلا للحياة من البعوضة؟! ألا يحق لي أن أستخدم تشبيها كما يحلو لي، والله يتجلى لي في عيون حبيبي على سبيل التشبيه؟» وأخيرا وقبل كل شيء وبعد كل شيء في قصيدة «حنين مبارك» من كتاب المغني، التي نرجع إليها دائما كلما صعدنا مع الشاعر إلى المناطق العلوية من الوجود!
والمهم أن هذه القصيدة بمثابة الذروة الأخيرة للموضوع الذي عالجه الديوان في تنويعات مختلفة؛ لأنه يمثل عمود رؤيته الدينية والكونية الشاملة التي يرقى فيها الحب شيئا فشيئا حتى يتحول إلى حب روحي شفاف - دون أن يتخلى تماما عن جذوره الأرضية والبشرية! - وكأن هذا التصاعد إلى المستويات العليا يقترن بالحنين المتزايد أيضا نحو النجاة أو الخلاص، وكأن الإنسان يبلغ مع ارتقائه درجات الحب شكلا أسمى جديدا من أشكال وجوده، بحيث يصبح الحب هو «الحس الباطن» الذي يستغنى به عن بقية الحواس الخمس (س33-36 من هذه القصيدة)، وينفذ به في صميم العالم وسره القائم على الحب؛ لكي يتلاشى فيه أخيرا، أو يتخلى عن إنسيته ويذوب ذوبان قطرة الماء في المنبع الذي خرجت منه، والشعاع في نور الشمس التي انطلق منها. (10) أهل الكهف السبعة
ربما يكون الشاعر قد تعمد وضع هذه القصة المعروفة في التراث المسيحي (وهو عصر الشهداء في منتصف القرن الثالث بعد الميلاد، وعلى عهد الإمبراطور الروماني دقيوس) والتراث الإسلامي، وبالأخص في سورة الكهف في القرآن الكريم، بالإضافة إلى بعض المصادر التي اطلع عليها أثناء عمله في الديوان (مثل كنوز الشرق ليوسف فون همر، ج3، ص347 نقلا عن النص الإنجليزي لقصة النائمين السبعة لريتش)، أقول ربما يكون قد وضع هذه القصة الشهيرة (أو بالأحرى الحكاية الخارقة كما يسميها أساتذة الأدب والمأثور الشعبي!) قبل القصيدة التي يختتم بها الديوان كله لكي يضفي عليه طابعا مرحا لطيفا لا يخلو مع ذلك من مغزى دال على ما هو عجيب ومقدس. بهذا قدم لقارئه - قبل توديعه له - قصة شعرية مطولة ذات إيقاعات «ترويخية» رباعية سلسة وخالية من التقفية، ومفعمة بحيوية متدفقة تجعل منها حكاية أو ترنيمة شعرية - بالاد - تضاف إلى حكاياته الرائعة السابقة التي تزخر بكل مقومات القصة الشعرية وتفصيلاتها ومشاهدها ولهجة الخطاب والحوار الحي فيها. ويلاحظ أن هذه الحكاية الشعرية تعبر أيضا عن روح الديوان؛ إذ تتناول حدثا خارقا يمكن أن يمثل حدا أو بداية نرتفع منها - من خلال عالمنا الأرضي نفسه - إلى منطقة الألوهية التي تعلو عليه، وكأنما نلمس هنا للمرة الأخيرة نفس الخشوع الذي لمسناه تجاه كل الموجودات من أصغرها إلى أعظمها شأنا؛ لأن العالي اللامحدود يتجلى حضوره فيها بأشكال مختلفة. والطريف في هذه القصيدة القصصية أننا نجد فيها بعض التفصيلات التي خلت منها - على حد علمي - المصادر الإسلامية المعروفة، كما خلت منها رائعة توفيق الحكيم رحمه الله.
وأفيسوس (55) مدينة أسسها الإغريق على ساحل بحر إيجه في آسيا الصغرى، وبها إلى اليوم آثار قبور يظن أنها كانت مقبرة أهل الكهف. (11) طابت ليلتكم
يدل عنوان هذه القصيدة الخاتمة للديوان على أمل الشاعر المودع لنا نحن قراءه وللحياة في أن يباركه جبريل كما بارك أهل الكهف وأظلهم برعايته وحنانه (4-5) في المطولة السابقة، وهو يتمنى كذلك أن يخلصه من الحاضر ويرقى به إلى مملكة يحيا فيها في صحبة الأبطال من كل زمان، وينمو فيها الجمال ويتجدد، وليست هذه المملكة في الحقيقة إلا مملكة الفن أو العمل الفني والأدب العالمي بوجه عام؛ ومن ثم يكون الأبطال الذين يقصدهم هم أبطال الفن والأدب لا أبطال القتال والحرب! وهو يتوق أخيرا إلى أن يصحبه شعره إلى هذه المملكة الخالدة، التي سيسعد فيها بوجوده في نادي المبدعين - كما يعبر يحيى حقي رحمه الله - أو جمهورية المفكرين كما يقول ياسبرز فيلسوف الوجود المعروف، ولكنه لا يكتفي بذلك، وإنما يتمنى في النهاية أن يأخذ معه قطمير الطيب الذي كان نعم الرفيق لأصحاب الكهف والرقيم.
قصائد نشرت بعد وفاة جوته وضمت للديوان
كتبت هذه القصائد على مدى سنوات طويلة، لا تقل عن اثنتي عشرة سنة، سواء أثناء توهج الحالة الشعرية والعاطفية التي نشأ فيها الديوان وتنامى قصيدة بعد قصيدة، أو بعد أن خبت نيرانها وانشغل جوته انشغالا جادا بتاريخ الشرق وحضارته وخصائص الشعر الشرقي وغير ذلك من الموضوعات الهامة، التي أودعها تعليقاته وأبحاثه التي ألحقها بالديوان قبيل طبعته الأولى مباشرة (وكان قد بدأ هذه التعليقات في سنة 1816م، وانتهى منها في سنة 1818م). ولكن الشاعر لم يضع القصائد التالية للطبعتين اللتين نشرهما في حياته سنتي 1819م و1827م، وأسباب ذلك مختلفة ولا يمكن ذكرها إلا على سبيل الترجيح؛ فربما يرجع بعضها إلى أنها (أي القصائد) تكرر موضوعات عبرت عنها قصائد الديوان الأخرى تعبيرا أنضج؛ ولهذا لم يقتنع بها ولم يرض كل الرضا عن لغتها وصورها، أو لأنه لم يجد لها مكانا مناسبا داخل البناء المحكم لكتب الديوان (الذي يحتوي عدد منها على قصائد ليست في مكانها المناسب تماما، كما بينا هذا في موضعه من الشروح السابقة). وأخيرا فقد حجب إحدى هذه القصائد (وهي القصيدة رقم 5 من المجموعة التالية: «أيتها الطفلة الرقيقة»، هذه الأسماط من اللآلئ) خوفا من جرح الشعور الديني عند رجال الدين المسيحي وسائر المؤمنين من مواطنيه، وبناء على نصيحة صديقه سولبيتس بواسريه الذي استبشع القصيدة وأعجب بها في آن واحد! ومهما تكن الأسباب، فقد نشر سكرتيره «ريمر» وتلميذه وأمين سره إيكرمان - صاحب الأحاديث البديعة معه - جزءا من هذه القصائد في سنة 1833م ضمن الأجزاء التي ضمت كتابات الشاعر بعد وفاته فيما يسمى بالطبعة الأولية، ثم نشرا جزءا آخر سنة 1836م في الطبعة المسماة بطبعة الربع، إلى أن ظهرت كاملة في نشر بورداخ للديوان في المجلد السادس من طبعة فيمار الكبرى (سنة 1888م) والمجلد الثالث والخمسين في طبعة سنة 1914م. ويختلف عدد هذه القصائد وترتيبها من طبعة إلى أخرى، ولقد اقتصرنا هنا على أهمها كما جاءت في طبعة بويتلر وفي طبعة هامبورج (المجلد الثاني، من ص121-125)، وهي التي اعتمدنا عليها اعتمادا أساسيا في هذا الكتاب (ومن أراد الاطلاع على المزيد منها، وهو لا يخرج عن تغيير في الصياغة المذكورة هنا، فليرجع إلى طبعة هانز فايتس، دار النشر إنزل، فرانكفورت، 1988م، ص279-289، أو ترجمة أستاذنا عبد الرحمن بدوي، من ص338-368). (1)
تتألف كل واحدة من هاتين المقطوعتين في الأصل من أربعة أبيات، وقد أخطأت بعض الطبعات في نشرهما كقصيدة واحدة، كما صنفتهما الطبعات المبكرة مع غيرهما ضمن كتاب المغني أول كتب الديوان. يرجح أن يكون الشاعر قد كتبها في سنة 1826م. (2)
حافظ، أؤسوي نفسي بك ؟ ربما يكون السبب الذي دعا جوته لاستبعاد هذه القصيدة من الديوان هو أن قصيدة «بغير حدود» (رقم 6 من كتاب حافظ)، وكذلك قصيدة «لقب»، وقصيدة «محاكاة» من نفس الكتاب، تعبر عن علاقته بحافظ بصورة أفضل وأعمق، وربما يرجع السبب أيضا إلى أن بعض الصور الجميلة فيها غير متسقة مع بعضها (مثل قوله إن السفينة تمخر أمواج البحر في سرعة واندفاع، وقوله بعد ذلك إن السيل الرطيب يغلي ويمور كأمواج حريق. س3-4، ثم س11-12). أما المقصود بالسفينة - التي تمخر عباب الماء بجسارة ثم تحطمها أمواج المحيط فتسبح فيه كقطعة خشب متهرئ - فهي قصيدة الشاعر الغربي التي تحاول أن تكون شرقية فتضطرب على نحو ما رأينا، أو يضطرب الشاعر نفسه الذي يحمله التواضع والنبل وكرم النفس على القول بأنه لا يساوي نفسه بزميله الشرق، وإن كان ينصف نفسه بعد ذلك أو يطمئنها على الأقل بأنه زار بلاد الشمس (أي إيطاليا إبان رحلته المشهورة، أو منطقة الراين الصافية الأديم)، وهناك جرب الحياة ونعم بالحب.
كتبت القصيدة في الثاني والعشرين من شهر ديسمبر 1815م، ولم يضمها الشاعر لكتاب حافظ للأسباب السابقة. أما عن بلاد الشمس - إيطاليا - التي ظل جوته يحن إلى دفئها وصفاء سمائها طوال حياته، فراجع عنها كذلك قصيدة «حياة كلية»، المقطوعة الرابعة، من كتاب المغني (رقم 16). (3)
نشرت هذه القصيدة لأول مرة في طبعة الربع التي سبق ذكرها (سنة 1836م)، ووضعها الناشران مع قصائد كتاب الضيق. ويمكن أن نستدل من المقطوعة الأولى فيها على تاريخ كتابتها، وهو حوالي عام 1823م. أما جماعات الشباب الوحشية فهي تذكر بمرحلة العصف والدفع المشبوبة بوهج التمرد والإبداع في حياة جوته الأدبية. (4)
ألا يحق لي أن أستخدم مثلا: تعبر القصيدة عن حكمة جوته التي لخصتها الأبيات المشهورة في نهاية القسم الثاني من فاوست أبدع تلخيص: «كل ما هو فان، ليس إلا رمزا أو مثلا» (البيت رقم 12104-12105). فالبعوضة التي تطير في النور رمز أو مثل للموناد (الكائن المتفرد) الذي يرجع للروح الكونية والأصل الإلهي، وذلك كما رأينا في قصيدة حنين مبارك (رقم 17 من كتاب المغني ). أما الحبيبة التي يتجلى له الله في عينيها، فهي رمز أو مثل ضربه الشاعر للامتناهي، على نحو ما فعل من قبل في قصائد عديدة بالديوان (مثل: «أمن الممكن يا حبيبي الصغير؟» رقم 7 من كتاب زليخا، و«تذوق» رقم 1 من كتاب الفردوس، و«حسن» من كتاب الأمثال س9-12)، وكلها تعبر عن التوازي بين طريق الحب وطريق الإيمان أو عن التداخل بينهما. ولعل السبب في استبعادها هو أنها بدت للشاعر تكرارا ضعيفا للقصائد السابقة، مع أنها كانت خليقة بأن تأخذ مكانها بين قصائد كتاب الأمثال. وواضح أن ضرب المثل بالبعوضة مستوحى من القرآن الكريم. يحتمل أن تكون القصيدة قد كتبت في سنة 1815م، ثم صنفها الناشرون ضمن كتاب المغني. (5)
أيتها الطفلة الرقيقة : سبق أن ذكرنا أن الشاعر نحى هذه القصيدة جانبا ولم ينشرها في طبعتي الديوان أثناء حياته؛ وذلك عملا بنصيحة صديقه بواسريه الذي سمع منه القصيدة في اليوم الثامن من شهر أغسطس سنة 1815م، وكتب في مذكراته في اليوم نفسه يقول: «كراهية الصليب. اشترت شيرين دون أن تعلم صليبا من الكهرمان، ورآه حبيبها خسرو على صدرها، فأخذ يصب هجومه على بلاهة الغرب» (لقد وجدت أن القصيدة شديدة القسوة والحدة وضيق الأفق، ونصحت باستبعادها، وأخبرني أنه ينوي أن يسلمها لابنه ليحفظها مع سائر قصائده التي لا يرضى عنها).
س7:
راجع عن الأبراكساس قصيدة «ضامنات البركة»، وهي القصيدة رقم 2 من كتاب المغني، وتعليقنا عليها.
س14:
تصرفت هنا في النص الأصلي الذي يقول: «ليكون جده الأعلى»، واستبدلت به ليكون «ربه الأعلى»؛ وذلك تمشيا مع مضمون الآيات الكريمة من سورة الأنعام (74-79)، التي تشير إليها هذه القصيدة بصورة ضمنية، كما أشارت إليها صراحة «أغنية محمد» التي كتبها في شبابه، وتأثر فيها بقصة سيدنا إبراهيم الخليل مع النجوم واهتدائه إلى الواحد الأحد، وناقشناها في الفصل الخاص بجوته والإسلام.
س37:
هما الإلهان المصريان المعروفان، وتحمل إيزيس رأس بقرة، وأنوبيس رأس ابن آوي.
س45-46:
وزر الردة تعبير عن إحساس الشاعر بالذنب أو الخطأ في حق عقيدته التي ولد عليها، وفي حق مواطنيه المسيحيين بسبب أقواله التي تؤذي مشاعرهم عن السيد المسيح. ومما يذكر في هذا المقام أن الأبيات من 21 وما بعدها متأثرة بما ردده الأديب والمفكر والكاتب المسرحي ليسينج (1729-1781م) من ضرورة التفرقة بين دين المسيح - أي دين يسوع التاريخي الذي آمن بالله الواحد - وبين الدين المسيحي الذي ذهب المؤمنون به إلى عبادة يسوع نفسه بوصفه ابن الله. ولعل جوته الذي أخذ برأي ليسينج وتحمس له أن يكون قد تأثر أيضا بالإسلام الذي اهتم به منذ شبابه المبكر، وعرف من قراءته للقرآن الكريم أنه يؤكد في مواضع مختلفة أن المسيح ابن مريم ليس إلا رسولا قد خلت من قبله الرسل (المائدة: 15، 71-72، 116)، وأن الله أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد (سورة الإخلاص). وقد اشتهر عنه على كل حال أنه لم يكن مسيحيا تقليديا، وأنه برغم تدينه الراسخ كان أقرب إلى وحدة الوجود والتدين الطبيعي منه إلى الرسالات السماوية.
وفي السطر قبل الأخير من المقطوعة الأخيرة ترد كلمة «فيتسلي بوتسلي
Vitzli-putzli
التي تصرفنا فيها فجعلناها الغول». ويحتمل أن يكون جوته قد قرأ عن هذا الاسم في معجم تسيدلر (سنة 1730م) الذي يشرحه بقوله إنه اسم إله مكسيكي قديم ومخيف الصورة؛ فقد كان له رأس أسد، وكانت جبهته مطلية باللون الأزرق التي تمتد خطوطه إلى الأنف والعنق، وكان يطلع من رأسه قرنان، ومن ظهره جناحان كجناحي الخفافيش، وفي قدميه اللتين تشبهان أقدام الماعز أظافر حادة، أما أبشع ما فيه فكان هو الوجه ذا الحلق المتسع والأسنان الحادة.
وقد وضعت هذه القصيدة المثيرة في الطبعات الأولى التي ذكرناها مع قصائد كتاب زليخا. (6)
دعوني أبكي: سبق الحديث عن هذه القصيدة ومدى تأثرها بالأبيات الأولى من معلقة امرئ القيس في الفصل الخاص بجوته والأدب العربي. وقد كتبت في إيقاعات حرة شأنها شأن قصيدتي «كتاب مطالعة» و«عزاء سيئ»، وهما القصيدتان رقم 3، 9 من كتاب العشق، وفيها نفس الألم واللوعة من فراق حبيبته زليخا أو مريانة فون فيليمر. والأرمني في السطر الرابع هو أحد التجار المسيحيين الذين كانوا من أغنى التجار في إيران ، والسطر العاشر عن أخيل وحبيبته مأخوذ عن الإلياذة، النشيد الأول، س348 وما بعده، والسطر الحادي عشر عن إكسيركسيس ملك الفرس (حكم من 486 إلى 465ق.م) الذي بكى رجال جيشه الجرار الذين لن يفلت أحد منهم من الموت بعد مائة سنة، مأخوذ عن تاريخ هيرودوت، الفصل السابع، كتاب بوليميا 45 وبعدها. أما السطران الثاني عشر والثالث عشر، فقد ذكر فيهما باختصار قصة غضب الإسكندر وقتله لرفيق عمره كليتوس، التي رواها بالتفصيل في تعليقاته وأبحاثه الملحقة بالديوان في فقرة تحت عنوان «رد فعل»، ناقش فيها قضية الطاغية وموقف الأحرار منه (ترجمة بدوي، ص429-432). وأما اخضرار التراب فقد سبق أن ذكره الشاعر في البيتين رقم 20، 27 من قصيدة حياة كلية (رقم 16 من كتاب المغني)، وقد وضع القصيدة في الطبعات الأولى مع قصائد كتاب زليخا. (7)
ولماذا لا يرسل: هذه قصيدة إلى زليخا، وقد وضعت بعد وفاة جوته في الكتاب المسمى باسمها، والنسخ هو الخط العربي المعروف، والتعليق فرع فارسي منه شائع الاستعمال (س7-8)، ومعنى السطور من 16-19 هو أن زليخا مريضة، ولا يمكن أن تشفى إلا إذا تلقت نبأ من حبيبها. وقد كتبت القصيدة بمناسبة تلقي جوته رسالة رمزية من مريانة، وهي إحدى الرسائل التي اتفقا على تبادلها بالشفرة التي تفاهما عليها؛ أي بأرقام تحدد قصيدة أو بيتا معينا من الترجمة الألمانية لديوان حافظ، مع رقم الصفحة وأرقام الأبيات التي يحيل كل منها صاحبه إليها (راجع الفصل الخاص بقصة الديوان الشرقي).
وكان البيتان اللذان أحالته مريانة إليهما من شعر حافظ هما: «لم يرسل لي كلمة ولا تحية، كتبت إليه مائة مرة، لكن قائد الفرسان لم يشأ أن يرسل إلي رسولا، ولا أن يبعث بتحية» (يحتمل أن تكون القصيدة قد كتبت في شهر فبراير سنة 1816م، وفيها ترديد للكثير من الخواطر والصور في بعض قصائد كتاب زليخا، مثل: «قليل ما أطلبه» المقطوعة الرابعة، و«أعرف نظرات الرجال» س18-22). (8)
ما عدت أكتب أبياتا: اختلف الشراح حول تاريخ كتابة هذه القصيدة؛ فرجح بعضهم أن تكون قد كتبت في شتاء 1815م، ورأى بعضهم الآخر أنها كتبت (كما يقول بيرتس استنادا على بورداخ) في اليوم الأخير من شهر ديسمبر سنة 1818م، أو في شهر يناير سنة 1819م، كما تم نشرها في طبعة الربع سنة 1836م. والاختلاف أشد حول تفسيرها؛ فالخطاب فيها على لسان حاتم السعيد-التعس، شأنه شأن العشاق الصادقين الذين وصفهم كتاب العشق، وبخاصة مجنون ليلى الذي يتشبه به حاتم، فيكتب على رمال الصحراء أبياته التي تذروها الريح، ومع ذلك تبقى قوتها السحرية، ويحسها أي عاشق معذب تطأ قدماه المكان الذي نقشها فيه. والمقصود بالوسادة الناعمة (س21) هي قصائده أو أغنيات حبه التي تذكر محبوبته به، فتصحو وأعضاؤها ترتعش شوقا إليه، وهي كذلك جمعت في الديوان الشرقي الذي تتغلغل قوته حتى مركز الأرض، بحيث يشعر بها كل رحالة متجول في صحاري الحب؛ أي كل قارئ لأشعار الديوان تيمه العشق. وفي السطرين الأخيرين نحس نغمة توراتية من نشيد الإنشاد الذي كان جوته قد ترجمه بنفسه إلى الألمانية في سنة 1775م، ربما عن اليونانية أو عن العبرية التي كان قد تعلمها في صباه؛ رغبة منه في قراءة الكتب المقدسة في لغاتها الأصلية؛ لاستشعار الحقيقة الدينية الجوهرية (وقد بذل في شيخوخته مع المستشرق باولوس جهدا أقل لتعلم العربية، كما أشرنا لذلك من قبل). ضمت القصيدة بعد وفاة جوته إلى كتاب زليخا، ثم أضيفت إلى مجموعة القصائد التي لم ينشرها في حياته. ولعل القصيدة - إذا نظرنا إليها من وجهة النظر الأبدية على حد تعبير اسبينوزا - أن تكون تأكيدا لوحدة الحب وقداسته رغم اختلاف المحبين في الوطن واللغة والأسماء، هذا الحب الذي يسعد بقدر ما يشقي ويعذب، والذي يرفعنا دائما صوب الأعلى والأعلى، كما قلنا بالتفصيل في شرح هذه القصيدة الأخيرة (من كتاب الفردوس). (9)
مبعوث الشاهنشاه: توشك هذه الأبيات أن تكون ترجمة حرفية لسطور كتبها السفير الإيراني ميرزا أبو الحسن خان المولود سنة 1776م في شيراز، أثناء زيارته لمدينة بطرسبورج (ليننجراد سابقا) عندما طلب منه صديق في مايو سنة 1916م/جمادى الثانية 1231ه أن يكتب بخط يده بعض انطباعاته عن المدينة وأهلها، فكتب صفحة نذكر منها هذه السطور التي استوحاها الشاعر : «طوفت بالعالم كله، وعاشرت أشخاصا عديدين. كل ركن قدم لي شيئا نافعا، وكل عود أخضر منحني سنبلة، ومع ذلك لم أر مكانا يعدل هذه المدينة وحورياتها الجميلات، فلتحل عليها دائما بركة الله» (ص419-420 من ترجمة بدوي، وص166-168 من طبعة هامبورج، المجلد الثاني، وص196 من طبعة بويلتر).
وأخيرا، فقد وردت المقطوعتان التاليتان في معظم الطبعات التي اطلعنا عليها بعد فهرس الأعلام المنشور في آخر الديوان والتعليقات والأبحاث الملحقة به. وذكر النص الألماني مع ترجمته العربية في المقطوعة الأولى المهداة لعميد المستشرقين الأوروبيين في أوائل القرن التاسع عشر ، وهو سلفستر دي ساسي، كما ذكر النص الألماني أيضا مع ترجمته الفارسية في المقطوعة الثانية: (1) سلفستر دي ساسي:
يا أيها الكتاب، سر إلى سيدنا الأعز،
فسلم عليه بهذه الورقة،
التي هي أول الكتاب وآخره؛
يعني أوله في المشرق وآخره في المغرب. (2) ها نحن قد قدمنا النصيحة الطيبة،
وأنفقنا في ذلك الكثير من أيامنا،
فإذا لم يجد أذنا صاغية من البشر،
فما على الرسول إلا البلاغ.
أهم المصادر
(1) جوته، يوهان فلفجانج - الديوان الشرقي للمؤلف الغربي، نشره أرنست بويتلر - بريمن، مطبعة كارل شينمان، 1956م (سلسلة كتب ديتريش، 125).
Goethe; West-östlicher Divan-Herausgegeben und erläuter von Ernst Beutler-Bremen, carl Schönemann Velag, 1956-(Ssmmlung Dietrich, Band 125). (2) جوته، الديوان الشرقي، طبعة هامبورج، المجلد الثاني، عني بنشره والتعليق عليه إريش ترونس، الطبعة الخامسة، 1960م.
Goethes Werke, Hamburger Ausgabe, Bad II-Textkritisch durchgesehen und mit Anmerkungen verschehen von Erich Trunz. (وتحتوي على ببليوجرافيا مفصلة عن طبعات الديوان الشرقي والدراسات المختلفة عنه والمصادر التي استقى منه جوته معلوماته عن الشرق.) (3) كاترينا مومزن، جوته والإسلام. (4) كاترينا مومزن، جوته والمعلقات، برلين، مطبعة الأكاديمية، 1961م.
Mommsen, Katharina; Goethe und der Islam. Mommsen, Katharina; Goethe und die Moallakat-Berlin, Akademie-Verlag, 1961. (5) جوته، الديوان الشرقي للمؤلف الغربي، ترجمة عبد الرحمن بدوي، القاهرة، دار النهضة العربية، 1967م. (6) عبد الرحمن صدقي، الشرق والسلام في أدب جوته، سلسلة كتاب الهلال، العدد 195 - يونيو 1967م - القاهرة، دار الهلال. (7) يوهان فلفجانج فون جوته، في شواهد ووثائق مصورة، عرض بيتر بورنر، سلسلة روفولت، هامبورج 1966م.
Johann Wolfganga von Goethe-in Selbzeugnissen und Bilddokumente-Dargestellt von Peter Bqerner-Hamburg, Rowohlt, 1966 (Rowohts Monographien). (8) جيرون فون فيلبرت، المعجم الموضوعي للأدب، شتوتجارت، كرونر، 1964م.
Wilpert, Gero von; Sachwörterbuch der Literatur-Stuttgart, Kroner, 1964. (9) جوته، الديوان الشرقي-الغربي - نشره وعلق عليه هانز فايتس - مع مقالات عن الديوان لهوجو فون هوفمنستال وأوسكار لوركه وكارل كرولو، فرانكفورت على الماين، دار النشر إنزل، الطبعة الثامنة، 1988م.
Goethe, West-Oslicher Divan, herausgegeben und erläautert von Hans-I. Weitz-Mit Essays zum Divan von Hugo von Hofmannsthal, Oskar Loerke und Karl Krolow. Frankfurt am Main. Insel-Verlag. Achte Auflage, 1988. (10) كاترينا مومزن، جوته والعالم العربي، فرانكفورت على الماين، دار نشر إنزل، الطبعة الثانية، 1989م (وله ترجمة عربية للدكتور عدنان عباس علي، ومراجعة المؤلف، سلسلة عالم المعرفة، العدد 194، فبراير 1995م، الكويت).
Mommsen, Katharin; Goethe und die Arabische Welt. Frankfurt am Main, Insel-Verlag, 2
te
Auflage, 1989.
صفحه نامشخص