نور و پروانه
النور والفراشة: رؤية جوته للإسلام وللأدبين العربي والفارسي مع النص الكامل للديوان الشرقي
ژانرها
وترجح السيدة مومزن أن تكون الأبيات الأربعة العجيبة قد نظمت في النصف الثاني من شهر ديسمبر سنة 1816م، أي في الوقت الذي كان فيه جوته - إلى جانب انشغاله بالديوان وبعالم الشرق وشعرائه والاطلاع على كل المصادر المتاحة عنه - يطل بعيون الكهل الزاحف نحو الشيخوخة على أيام شبابه بحلوها ومرها، ويواصل العمل في كتابة سيرة حياته، وينظم أشعارا حكيمة قصيرة جمعها بعد ذلك فيما يعرف بالحكم الأليفة واستوحاها من شعراء المعلقات، ومن معلقة زهير بوجه خاص. ويعزز هذا الرأي أن القصيدة التي نحن بصددها تنتمي من ناحية الشكل والمضمون لتلك المجموعة من الحكم القصيرة التي أشرنا إليها، كما تمت بصلة وثيقة للقصائد التي يضمها كتاب الأمثال من الديوان، وربما فكر شاعر الديوان الشرقي أثناء كتابته لقصيدة الهجرة - وهي أولى قصائد كتاب المغني - التي كتبها في اليوم الرابع والعشرين من شهر ديسمبر عام 1814م، ربما فكر في ألف ليلة وليلة، وفي تلك الحكاية التي تسللت إلى أعماقه ورسخت فيها عن الشاكي الباكي والبرمكي، والمصير الفاجع الذي آل إليه هذا البطل المسكين بعد نكبة البرامكة وطرده من الوزارة وتجريده من كل شيء وفراره من بغداد، وربما توحي بعض أبيات قصيدة الهجرة التي تتحدث عن تصدع العروش وارتجاف الممالك، بأن المخاوف قد ساورت شاعر الديوان من جراء العاصفة النابوليونية التي كان من الممكن أن تصيبه بما أصاب الشاكي الباكي.
وأخيرا، فهل نوافق الباحثة الأمينة المجتهدة على هذا التفسير الذي يدور في دائرة الإمكان والاحتمال، أم نرفضه أو على الأقل نتردد في الاقتناع الكامل به؟ أحسب أننا يمكن أن نقبله ونرحب به بحكم كوننا ورثة ألف ليلة وليلة أو جزء كبير منها على الأقل، وإن كنت أشك في أن عقولنا قد اقتنعت به كل الاقتناع. (3) عالم الديوان الشرقي-الغربي وعالم الباطن (أ)
الشيء الرائع لا تسبر أغواره، فليفهمه كل منا كيف يشاء.
هذان البيتان لجوته يلخصان الخواطر التالية التي سنحاول فيها الاقتراب من الشيء الرائع الذي بين يديك، وهو الديوان الشرقي. فليس الديوان في حقيقته سوى طريق شعري إلى العالم الخفي الرحب الذي نسميه عالم الروح أو عالم الباطن، ولأنه طريق يتجه إلى الأعمق والأعلى في نفس الوقت، فقد حير القراء والشراح منذ ظهور طبعتيه الأوليين في حياة صاحبه (في عامي 1819م و1827م) ولم يزل يحيرهم إلى اليوم مع كل طبعة جديدة، بل ويواجه من أهله وفي بلاده نفسها بسوء الفهم أو الضيق أو حتى بالتجاهل، على الرغم من أن الكثير من حكمه وقصائده قد جرى هناك على كل لسان وانسكبت ألحانه في كل الآذان.
ولأنه كتاب من تلك الكتب التي لا تسبر أغوارها بسهولة، وكل واحد متكامل يزخر بالحياة وتنبثق فيه كل موجة من الموجة التي سبقتها كما تحرك اللاحقة لها،
15
فهو يتطلب منا أن نغوص فيه ونجربه تجربة باطنة كي يتسنى لنا السياحة في مياهه النقية (التي سنفتقد سماع خريرها الحلو بطبيعة الحال في هذه الترجمة أو أية ترجمة سواها في أي لغة). وليس أصعب علينا اليوم من هذه التجربة الباطنة، إن كان عالم الباطن نفسه قد تبقى له أثر بعد أن غمرتنا السطحية من كل ناحية، وأغرقتنا الضوضاء من كل الجهات، ولكن ما العمل إذا كانت تجربة أشعار هذا الكتاب مستحيلة بغير المشاركة، مستحيلة بغير الحب، الحب الذي تحرر من الشهوة، وتطهر من الأنانية، وتبرأ من التحيز والتسرع والغرور؟ وكيف نطمع في الاقتراب مما سميناه الباطن، والروح، إذا لم تستعد للرحلة الشاقة والمشوقة بالنظرة الصافية، والقلب السمح، والعقل اليقظ، والبصيرة النافذة المتعاطفة؟ ومن أين يتأتى لنا أن نعرف جوهره أو نلمس لمحة واحدة من نوره ونحن على ما نحن عليه من تشوش وتشتت واضطراب وتشذر لجوهر وجودنا نفسه، إن كان ثمة من يتذكر اليوم هذا الجوهر أو يسأل عنه؟!
وتبدأ الحيرة إزاء «الديوان الشرقي-الغربي» أو النفور منه والتحيز ضده من العنوان نفسه: ينظر فيه الغربي بامتعاض: ما لهذا الشيخ الذي بردت شعلة قلبه التي طالما تدفأنا على نارها وهو في شبابه ورجولته، ما لصوابه يطيش به فيندفع إلى الأجنبي البعيد والغريب عنا وعنه ويترك ما هو حميم وقريب منه؟ ويتساءل الشرقي متبرما خائب الأمل: أي شرق هذا الذي يتغنى به الشاعر العجوز، وما هذه الأقنعة الكثيرة التي يطرحها عليه وعلى نفسه؟ ألم يجد في الشرق الذي كان يعاني على عهده - ولم يزل يعاني إلى اليوم! - من التخلف والبؤس والقهر والتسلط والاستبداد والتجمد والركود، إلا المسك والعنبر، والوردة والبلبل، والندامى والساقي والحانات، والشعراء والحكماء والعشاق والصوفية والدراويش؟
والرد على الطرفين بسيط؛ فالديوان كله - لمن يعرف كيف يقرأ الشعر ويحس بالروح الكامنة وراء الكلمة والنغمة والحرف والصورة والتركيب - كشف عن الأقنعة لا تنكر وراءها، والأقنعة تشف - لمن يجيد الرؤية - عن وجه الحقيقة الواحدة أو الواحد الخالد الذي لا يعرض نفسه إلا خلال الأقنعة، لأننا لا نقوى على التحديق مباشرة في نوره الباهر الذي يعشى العيون، وكما نعرف الشمس عن طريق الدفء والألوان والأشياء التي تنعكس عليها، كذلك لن نعرف الواحد والحق والجمال إلا من خلال صورها وأقنعتها الأرضية، لأن مداركنا المحدودة تعجز عن إدراكها في ذاتها. ثم إن الشرق الذي يتغنى به الديوان ليس هو الشرق الجغرافي أو التاريخي، ولا السياسي أو الاجتماعي، ولا حتى الحضاري والثقافي. إنه الشرق الشعري الذي تحيا فيه الأحداث والوقائع والأشخاص والموضوعات والعادات والتقاليد والحكم والخرافات ... إلخ، ثم تصفى في النهاية لكي يبقى ما كان في البداية، ويظل القديم هو الجديد، ويصب كل ما مضى في لحظة الحضور الأبدي التي تحيا بالوحدة والنقاء، والحب والإيمان. صحيح أن هذا لا يتم إلا من خلال التضاد أو الاستقطاب الثنائي بين الشرق والغرب، وأن كليهما يحتفظ بطابعه المميز وخصوصيته الملازمة له، ولكن مصفاة الشعر ترتفع بهما إلى الأعلى والأعلى، وتجمع بينهما في وحدة الأصل أو الجذر الأول الذي تفرعا عنه، والوطن الأول الذي يلتقي فيه البدء والمنتهى بعد رحلة التغير والتحول، وملحمة الاختلاف والصراع، واللعب بكل الأقنعة، والاندماج في كل الكائنات، وتجربة الحياة والأحياء في جميع ظواهرها التي لا تخرج في النهاية عن أن تكون صورا وانعكاسات لما يسميه بالظواهر الأولية أو الأصلية.
ومع أن قصائد الديوان كلها أشبه باللآلئ التي تنتظم في سلك العقد الحي المنغم الذي يتخذ شكل الدائرة ويحيط بالكل، أو أشبه بالعذارى اللائي تأخذ كل منهن بيد الأخرى ليسترحن جميعا على صدر الأصل الأول أو في عمق المنبع الفوار بالحياة والإقبال على مباهج اللحظة الممتلئة، مع هذا يمكنك أن تهتدي بسهولة إلى أبرز القصائد التي تغزل بأناملها الرقيقة كل الخيوط لتنسج منها - إذا جاز التعبير - سجادة الوجود؛ هجرة، وتمائم، والماضي في الحاضر، وحنين مبارك (من كتاب المغني) والقصائد الموجهة إلى حافظ وبالأخص قصيدة «أنت تعرف ما يريده الجميع»، وقد فهمته بالفعل (من كتاب حافظ) ومن أين أتيت بهذا؟ كيف تيسر أن يصل إليك؟ (من كتاب الضيق) واللقاء من جديد (من كتاب زليخا) وليلة صيف (من كتاب الساقي) ووصية الديانة الفارسية (من كتاب البارسي) ورجال موعودون (من كتاب الفردوس). وإذا لم تكشف لك هذه القصائد عن سرها، فعسى أن تكشف عنه الشروح الأخيرة في هذا الكتاب، وأن يكون كلاهما كالمرآة التي تتأمل فيها زليخا جمالها الفاتن، حتى إذا أنذرها العشاق المحيطون بأن جمالها إلى زوال، ردت عليهم بقولها: «كل شيء خالد في عين ربي، فاعشقوه الآن فيا، هذه اللحظة حسبي!» (ب)
صفحه نامشخص