فقال: لي: ان صاحبك هذا نأخذه معنا ويكون معك يقرأ عند المعلم.
فأتى بنا إلى المكتب وأجلسنا فيه، فقرأت أنا وصاحبي حروف الهجاء، فأتيت اليوم الآخر إلى والدتي وقلت لها: ما أريد المكتب بل أريد اللعب مع الصبيان، فحدثت والدي فما قبل منها، فأيست من قبوله، فقلت: ينبغي أن أجعل جدي وجهدي في الفراغ من قراءة المكتب، فما مضت أيام قلائل حتى ختمت القرآن وقرأت كثيرا من القصائد والاشعار في ذلك الوقت، وقد بلغ العمر خمس سنين وستة أشهر.
فلما فرغت من قراءة القرآن جئت إلى والدتي وطلبت منها اللعب مع الصبيان، فأقبل إلي والدي - تغمده الله برحمته - وقال لي: يا ولدي خذ كتاب الأمثلة وامض معي إلى رجل يدرسك فيها، فبكيت فأراد إهانتي وأخذني إلى رجل أعمى، لكنه كان قد أحكم معرفة الأمثلة والبصروية وبعض الزنجاني، فكان يدرسني، وكنت أقوده بالعصا وأخدمه، وبالغت في خدمته لأجل التدريس.
فلما قرأت الأمثلة والبصروية واردت قراءة الزنجاني انتقلت إلى رجل سيد من أقاربنا كان يحسن الزنجانية والكافية، فقرأت عليه وفي مدة قراءتي عنده كان يأخذني معه كل يوم إلى بستانه ويعطيني منجلا ويقول لي: يا ولدي حش هذا الحشيش لبهائمنا، فكنت أحش له وهو جالس يتلو علي صيغ الصرف والاعلال والادغام، فإذا فرغت شددت الحشيش حزمة كبيرة وحملته على رأسي إلى بيته، وكان يقول لي: لا تخبر أهلك بهذا.
فلما مضى فصل الحشيش وأقبل فصل رود الإبريسم، فكنت كل يوم أحمل له حزمة من خشب التوت حتى صار رأسي أقرع، فقال لي والدي رحمه الله: ما لرأسك؟ فقلت:
لا أعلم، فداواني حتى رجع شعر رأسي إلى حالته.
فلما فرغت من قراءة الزنجاني وأردت قراءة الكافية قصدت إلى قرية تسمى كارون، ونحن في قرية يقال لها: الصباغية في شط المدك، فقرأت في تلك القرية عند رجل فاضل وأقمت عندهم، فكنت يوما في المسجد، فدخل علينا رجل أبيض الثياب عليه عمامة كبيرة كأنها قبة صغيرة، وهو يرى الناس أنه رجل عالم، فتقدمت إليه وسألته بصيغة من صيغ الصرف، فلم يرد الجواب وتلجلج، فقلت له: إذا كنت لا تعرف هذه الصيغة فكيف وضعت على رأسك هذه العمامة الكبيرة؟ فضحك الحاضرون وقام الرجل من ساعته وهذا هو الذي شجعني على حفظ صيغ الصرف وقواعده، وأنا أستغفر
صفحه ۹