أما أن آراءه في مشكلة الحرب لم تكن واضحة كل الوضوح، فهذا ما يتضح من تضارب مدلولات النصوص التي تحدث فيها عن الحرب. فهو أحيانا يحمل على الروح العسكرية المتطرفة، وعلى فكرة السلم المسلح، ويرى أن التسلح يفترض مقدما عدم الثقة بالجار، ونسبة الشر إليه، وهذه كلها مقدمات الحرب. ووسيلة السلم عنده هي تحطيم الأسلحة، بواسطة شعب قوي يكون متفوقا على كل الأمم في تسلحه، يحطم أسلحته بإرادته، فينتزع بذلك بذور الخوف والكراهية.
20
ولكنه بينما يرسم مثل هذه الخطة للسلم، ويراها ممكنة التحقيق، فإنه يؤكد في موضع قريب أن الحرب محتومة، وأن تحقيق السلم محال، وإذا افترضنا تحققه، فلن يكون ذلك إلا على حساب تقدم الإنسانية؛ «فمن الخيال والهوس المغرور أن نظل ننتظر من الإنسانية الكثير ... إذا ما كفت عن شر الحروب. فلسنا نعرف حتى الآن وسيلة أخرى يمكن بها إيقاظ نشاط الجندية الخشن في الشعوب التي اعتادت الخمول، وتنمية تلك الكراهية اللاشخصية العميقة، وذلك الإصرار على القتل عن يقين كامل، وذلك الاندفاع الجماعي المنظم إلى تحطيم الخصم، وتلك الكبرياء التي تجعل المرء لا يأبه بالخسائر الكبيرة، ولا يعبأ بما يلحقه منها في حياته، أو بما يلحق أصدقاءه، وتلك الهزة الغامضة العنيفة للنفوس؛ لسنا نعرف حتى الآن وسيلة لتحقيق هذا كله بطريقة مؤكدة مثلما تفعل كل حرب كبرى.»
21
وهو يبدي إعجابه بما يطرأ على أوروبا من تقدم في الميدان العسكري، ويرى في ذلك بشيرا بانتهاء عهد الهدوء والمسالمة، ومظهرا من مظاهر الرجولة، والاعتناء بالجسم، ودليلا على أن الأبدان القوية قد عادت لتحتل مكانتها.
22
وهكذا يتخذ نيتشه دائما من الحرب مواقف متناقضة، فيحمل عليها حينا، ثم يدعو إليها حينا آخر، أو يجمع بين الموقفين في وقت واحد فيقول: «من مساوئ الحرب أنها تجعل الظافر أبله والمهزوم حقودا. ومن محاسنها أنها تثير هذه المشاعر ذاتها في نفس الطرفين بقسوة، وتجعل هذه المشاعر أقرب إلى الطبيعة.»
23
ومن الواضح في كل هذا أن نيتشه يمجد في الحرب صفات الرجولة والخشونة التي يعتقد أن الحرب وحدها هي التي تثيرها. وإذا كان يحمل على السلم، فإنما يحمل عليه لما يظنه مؤديا إليه من هدوء وخمول. وهكذا وقع نيتشه في ذلك الخطأ الذي ظل يتردد طويلا، إلى أن نبذته الإنسانية نهائيا في وقتنا هذا؛ وأعني به الاعتقاد بأن الحرب هي المجال الوحيد لإثارة الهمم، وللقضاء على روح الخمول التي تنتاب البشر إذا ظلت حياتهم تسير على وتيرة واحدة؛ وكأن التنافس السلمي ليس فيه ما يثير حماسة البشر، ولا يسوده إلا الهدوء الممل! وكأن الرجولة والبطولة لا تتبدى إلا في تلك المجازر الحيوانية التي تولدها الحروب! على أننا نستطيع أن نلتمس لنيتشه بعض العذر في أخطائه هذه؛ إذ لم تكن الحروب في ذلك الحين قد بلغت من العنف والقسوة ما يجعلها تهدد بالقضاء التام على الإنسانية، وعلى كل فضائل الإنسان، وضمنها البطولة والرجولة، وكانت لا تزال فيها سمة من الطابع الشخصي، بحيث إن المنتصر فيها قد يكون هو الأصلح جسميا بالفعل، بينما لم تعد الحروب الحديثة مقياسا للصلاحية البدنية على الإطلاق، أو تدريبا على الخشونة وقوة التحمل، وإنما تخلق جيلا مشوها محطما هو أبعد ما يكون عن تلك الصفات التي تغنى بها نيتشه.
والذي لا شك فيه أن نيتشه لو كان قد شهد حروبنا العالمية الحديثة، وأدرك مدى الخطر الذي تهدد به الإنسانية، لتغيرت فلسفته في الحرب تغيرا تاما، ولدعا إلى السلام بكل قواه؛ ذلك لأنه قبل كل شيء يحرص على أن يظل الإنسان مسيطرا على الطبيعة، متحكما فيها بفضائله وقواه التي لا تقف عند حد. وإذا كانت الحروب في شكلها الحالي تهدد بالقضاء على سيطرة الإنسان على القوى الطبيعية، فتجعل هذه القوى تنقلب عليه وتعمل فيه الفناء، فلا جدال في أن أحدا من المفكرين - وبخاصة نيتشه - لن يجرؤ على أن يسوق مثل هذه الحجج للدفاع عن حرب تتصف بمثل هذا الطابع المدمر.
صفحه نامشخص