مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الأولى
حياة نيتشه
1 - الفكر والحياة
2 - وقائع حياته
3 - نيتشه وفاجنر
فلسفة نيتشه
1 - نيتشه الفيلسوف
2 - انقلاب القيم
3 - المعرفة والحياة
صفحه نامشخص
4 - الأخلاق
5 - فلسفة نيتشه الاجتماعية
6 - الدين والعود الأبدي
نصوص مختارة من مؤلفات نيتشه
مدخل إلى مؤلفات نيتشه
1 - أصل المعرفة
2 - إلى دعاة إنكار الذات
3 - [أخلاق السادة وأخلاق العبيد]1
4 - العلاء على الذات
5 - وسيلة السلام الحقيقي
صفحه نامشخص
6 - المسجونون
المراجع
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الأولى
حياة نيتشه
1 - الفكر والحياة
2 - وقائع حياته
3 - نيتشه وفاجنر
فلسفة نيتشه
1 - نيتشه الفيلسوف
صفحه نامشخص
2 - انقلاب القيم
3 - المعرفة والحياة
4 - الأخلاق
5 - فلسفة نيتشه الاجتماعية
6 - الدين والعود الأبدي
نصوص مختارة من مؤلفات نيتشه
مدخل إلى مؤلفات نيتشه
1 - أصل المعرفة
2 - إلى دعاة إنكار الذات
3 - [أخلاق السادة وأخلاق العبيد]1
صفحه نامشخص
4 - العلاء على الذات
5 - وسيلة السلام الحقيقي
6 - المسجونون
المراجع
نيتشه
نيتشه
تأليف
فؤاد زكريا
مقدمة الطبعة الثانية
عشر سنوات مضت منذ أن ظهر هذا الكتاب في طبعته الأولى، عشر سنوات حاسمة في عمر العالم، وفي عمر الوطن، وفي عمر الفرد. في هذه السنوات العشر ازداد العالم تباعدا عن تفكير نيتشه وعن كثير مما يمثله تفكير نيتشه، وازداد وقع القضايا التي أثارها هذا الفيلسوف المنعزل غرابة على الآذان. وعلى الرغم من أن العالم كان يشهد من آن لآخر فترات انتعشت فيها فلسفة نيتشه بعد موته، فإن الشواهد كلها تدل على أن من الصعب أن تصل تعاليمه مرة أخرى إلى مثل هذا الازدهار، أو أن تثير موجة أخرى من موجات الحماسة الجارفة التي مر بها العالم خلال النصف الأول من القرن العشرين، وأكاد أقول: إن نيتشه الذي ظل «مفكرا حيا» حتى أواسط هذا القرن، يتحول الآن تدريجا، وبحركة بطيئة قد لا يشعر بها الكثيرون، إلى «فيلسوف تاريخي».
صفحه نامشخص
على أن هذا التحول في موقع نيتشه من العالم المعاصر، أو في موقف العالم المعاصر منه، لا يدفعني إلى أن أعيد النظر في شيء مما قلته عن نيتشه من قبل. فقد ألفت هذا الكتاب وفي ذهني صورة محددة لنيتشه، عرضت معالمها العامة في مقدمة الطبعة الأولى؛ وهي صورة ما زلت أعتقد اليوم أنها أقرب إلى الصواب. ولو كنت قد نشرت هذا الكتاب لأول مرة في أيامنا هذه، لكان من الجائز أن تجيء بعض فصوله أوسع نطاقا وأكثر إسهابا مما هي عليه، ولكني ما كنت لأغير شيئا من الأفكار الرئيسية الموجودة فيه، أو من الموقف العام الذي اتخذته من هذا المفكر. ومن هنا آثرت أن يعاد طبع الكتاب على ما هو عليه؛ فيما عدا بعض التصويبات المطبعية واللغوية الشكلية. •••
ولكن، ماذا عسى أن تكون مبررات القول بأن العالم يزداد تباعدا عن نيتشه يوما بعد يوم، وأن كل عام يمر يزيد من غرابة وقع كلماته على الآذان؟ إن نيتشه كان قبل كل شيء مفكرا حضاريا، ورسالته في الحياة لم تكن رسالة فيلسوف صاحب مذهب نظري، وإنما كانت أساسا رسالة ناقد للحضارة التي يعيشها. وعلى الرغم من كل ما امتازت به نظرته إلى الحضارة الأوروبية المعاصرة له من عمق ومن قدرة على النفاذ إلى أبعد الأغوار، فإنه كان ابنا لحضارة لم تكتمل؛ فنيتشه نتاج أصيل للقرن التاسع عشر، وما كان في وسعه، وهو يعيش في ذلك القرن، أن يصدر حكما دقيقا شاملا على الحضارة الغربية المعاصرة له، لسبب واضح هو أن تلك الحضارة كانت تمر بفترة انتقال إلى عهد جديد لم تكن عناصره قد اكتملت بعد، بل لم يكن بعضها قد ظهرت بوادره أصلا.
ففي القرن التاسع عشر كان النمط الفكري الشائع - في ميدان الفلسفة الحضارية - هو النمط القلق المضطرب، ولم يكن من المستغرب على الإطلاق أن تظهر نماذج شاذة لمفكرين يدعون إلى الفردية المطلقة، أو إلى الفوضوية، أو إلى القومية الضيقة الأفق؛ إذ إن اضطراب التفكير وعدم استقراره كان أمرا طبيعيا في عصر انتقل فيه العالم الغربي من حياة قديمة إلى حياة جديدة، دون أن يدرك المعالم الكاملة لتلك الحياة الجديدة أو يستكشف أبعادها الحقيقية أو يهتدي بوضوح إلى طريقه خلالها. في ذلك القرن اختفت طبقات كاملة - طبقات النبلاء والأشراف والإقطاعيين الوراثيين - وظهرت طبقات جديدة لم يكن لها من قبل أي صوت مسموع - طبقات العمال وأصحاب الأعمال - وكان هذا التغيير الأساسي مقترنا في البداية باختفاء بعض المعالم الثقافية التي كان يرعاها النبلاء، وظهور معالم أخرى أكثر ملاءمة للطبقات الناشئة التي لا تتميز بعراقة الأصل أو بامتداد جذورها في الماضي البعيد. وكان من الواضح أن تحولا ضخما يطرأ بالفعل على حياة الإنسان الأوروبي، ولكنه بدا للكثيرين عندئذ تحولا إلى الأسوأ، وخيل إليهم أن التاريخ يتدهور وأن القيم تنهار، وأن العصر الجديد لن يكون إلا عصر التفاهة والسطحية والابتذال. كان ذلك إذن «عصر تجربة» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، ولم يكن من الممكن أن تثمر البذور التي غرست في القرن التاسع عشر إلا في القرن العشرين، بل إن بعضها لم يؤت ثماره كاملة إلى اليوم. وعلى أية حال فإن الرؤية قد أصبحت الآن واضحة، ومعالم الطريق قد استبانت، والتجارب قد تبلورت، وبدأ يتحقق ما كان في القرن الماضي مجرد «مشروع» مبهم.
ولقد كان نيتشه يفخر دائما بأنه يتحدث للمستقبل، وبأن أفكاره لن تفهم إلا بعد مائة عام. وقد تكون بعض اتجاهاته الفكرية سابقة لأوانها بالفعل؛ غير أن موقفه العقلي العام، ونظرته إلى الحضارة الغربية بوجه خاص، تبدو لنا اليوم متخلفة عن ركب العصر إلى حد بعيد. إن الإنسان الأرقى، أو «ما فوق الإنسان»، كما تصوره نيتشه، لن يظهر بوصفه امتدادا وارتقاء للفرد الأرستقراطي المنعزل، بل إن الشواهد كلها تدل على أنه سيظهر من «المجموع»؛ من أولئك الذين كان نيتشه يعدهم عبيدا لا سادة. والصراع الثقافي والأخلاقي والفني في عصرنا الحالي لا يحمل شيئا من آثار «تنبؤات» نيتشه، وإنما يسلك طرقا لم يكن في مقدوره أن يتنبأ بها على الإطلاق.
ومع كل ذلك، فإن نيتشه سيظل دائما مفكرا يقرأ الناس له ويقرءون عنه بشغف واهتمام. ومهما تباعد تيار العصر عن أفكاره الأصلية، فسيظل الناس يجدون متعة في كتابات ذلك المفكر الذي لا يستطيع أحد أن ينكر إخلاصه حتى للقضايا الخاسرة، والذي نادى الإنسان بأسلوب غنائي رائع، وتغلغلت بصيرته النفاذة في أعماق النفس البشرية، وخاطبنا بصراحة لا تخلو من القسوة، وعالج كثيرا من أمراضنا التقليدية المزمنة بطريقة الصدمات العنيفة المفاجئة. إن نيتشه يمثل نمطا فريدا من المفكرين والكتاب، نجد متعة في الرجوع إليه من آن لآخر، وقد نجد في بعض الأحيان صعوبة في الامتناع عن الانسياق وراءه والاستسلام لتياره الجارف، ولكن من علامات الاتزان العقلي أن نلتزم جانب الحذر إزاءه؛ إذ إنه كان - إلى حد بعيد - مراهقا في عنفه ورومانسيته، ولا بد للعقل الناضج أن يتجاوز دور المراهقة الفكرية.
فؤاد زكريا
القاهرة في 15 مارس 1966م
مقدمة الطبعة الأولى
لي مع تفكير نيتشه
Nietzche
صفحه نامشخص
قصة ما كنت أرويها للقارئ إلا لعلمي أنها قصة الكثيرين معه؛ فمنذ ما يزيد عن ثلاث سنوات، قدمت بحثا جامعيا بعنوان: «النزعة الطبيعية عند نيتشه»، عرضت فيه فلسفته عرضا حاولت أن يكون موضوعيا إلى أبعد حد. واليوم، حين أعود بذاكرتي إلى هذا البحث، أتساءل: كيف أمكنني أن أوافق نيتشه على آرائه هذه؟ ذلك لأن صوت نيتشه، الذي بدا لي في ذلك الحين معبرا عن موقف الإنسان في عصرنا الحالي تعبيرا أمينا، أصبح اليوم يبدو لي بعيدا عن هذا الموقف كل البعد. أصبح مجرد صدى خافت، لا يلبث أن يتلاشى رنينه في موجات الزمان. وأخذت أفكر في هذا التغير الذي طرأ على نظرتي إلى نيتشه؛ فهل يعقل أن يناقض الإنسان نفسه في مثل هذه الفترة القصيرة إلى هذا الحد؟ ولكنني سرعان ما اهتديت إلى التبرير، ولم يكن ذلك تبريرا لموقفي من نيتشه، بقدر ما كان تبريرا لموقف نيتشه من عالمنا الحاضر.
فما الذي نأخذه اليوم على نيتشه؟ إننا نأخذ عليه، قبل كل شيء، نزعته إلى اللامعقول، وإلى الفردية المفرطة. والأمران مرتبطان؛ ذلك لأن العقل هو أساس اتفاق الناس وتوحيد اتجاهاتهم، وما إن تستقر عقولنا على فكرة معينة، حتى تقف كلها من الفكرة موقفا واحدا. أما المشاعر والانفعالات، فهي بطبيعتها فردية، تتباين من شخص إلى آخر؛ وعلى ذلك فهي أساس للتفرق والتميز. وهكذا نجد الفلسفات العقلية تصطبغ على الدوام بصبغة العمومية، بينما تصطبغ الفلسفات اللاعقلية - أعني المبنية على المشاعر في مقابل العقل - بصبغة فردية. وبالمثل، فمن المحال أن نجد فيلسوفا ينادي بالفردية المطلقة، ويكون ذا اتجاه عقلي، بينما تغلب النزعة العقلية على من يضعون للإنسانية مثلا عامة مشتركة. فوقع كلمات نيتشه يبدو اليوم غريبا على آذاننا لأن نغمته الأساسية هي التي تدعو إلى اللامعقول، وإلى الفرد المطلق. ومع ذلك، فقد حاولت من قبل أن أستخلص من فيلسوف اللامعقولية هذا نوعا من المذهب المترابط المتماسك الأطراف، وأن أكشف الخيط الجامع بين شعاب فلسفته المتفرقة. وعلى هذا النحو تبينت أنني لم أكن متناقضا مع نفسي؛ فقد التزمت جانب المعقول على الدوام، حتى في بحثي لأعنف الفلاسفة نقدا للعقل.
ولكن، هل ينبغي علينا أن نتخذ من نيتشه موقفا كهذا على الدوام؛ أعني أن نستخلص من فلسفته العناصر المشتركة الموحدة الهدف، ونغفل العناصر الأخرى، المتنافرة المتضاربة؟ الواقع أن لهذا التنافر والتضارب ذاته مغزاه العميق. والمهمة الكبرى بالنسبة إلى دارس نيتشه في عصرنا الحالي ليست هي أن يتساءل: هل كان نيتشه فيلسوفا عقليا، فرديا، متناقضا مع نفسه؟ وإنما أن يتساءل: «لم» كان نيتشه فيلسوفا لا عقليا، فرديا، متناقضا مع نفسه؟ فإذا توصلنا إلى مثل هذا التعليل، فعندئذ تكون المشكلة كلها قد حلت.
والحق أن الحملة على العقل كانت في وقت ما مظهرا من مظاهر التحرر الفكري، بل من مظاهر تكريس الفكر من أجل التقدم بالإنسانية؛ ذلك لأن العقل كان في ذلك الحين مبدأ مضادا للحياة، يحمل على الطبيعة الإنسانية، ويحارب الواقع ويدعو إلى الهروب منه، كان ذلك في الوقت الذي ظن فيه أن للعقل مبادئه الثابتة التي ينبغي أن يخضع لها الواقع، بحيث إنه لو ظهر بينهما تعارض كانت مبادئ العقل هي الصحيحة دائما، وكان علينا أن نفسر الواقع تبعا لما تقضي به هذه المبادئ. في تلك الفترة الكلاسيكية كان ينظر إلى العقل إذن على أنه ملكة رفيعة ذات محتوى فطري، مصدره إلهي مباشر؛ فهو ليس قوة تيسر للمرء سبيل السلوك في هذه الحياة، بل هو قوة تعلو على هذه الحياة وتترفع عنها وترسم لها خطتها مقدما. وهكذا أدرك المفكرون الأحرار، في وقت من الأوقات، أن العقل قوة مضادة للطبيعة، تعوق الإنسان عن ممارسة ملكاته وإطلاق قواه في هذا العالم، وتربطه بعالم آخر فيه من الجمود والأزلية والثبات ما لا تطيقه طبيعة البشر، ولا يعرفه الواقع الإنساني؛ ومن هنا كانت حملتهم على العقل، ودعوتهم إلى اللامعقول.
فمثل هذه الدعوة إلى اللامعقول كانت إذن - في الوقت الذي ظهرت فيه - دعوة حرة ترمي إلى أهداف إنسانية خالصة. وموقفنا بإزاء مثل هذه الدعوات لا ينبغي أن يبنى على تلك الثنائية القاطعة، التي تؤكد أن الدعوة إلى العقل خير وإلى اللامعقول شر. فمثل هذا التقويم المطلق يغفل الظروف الخاصة التي مر بها الفكر الإنساني في مختلف عصوره، ويتجاهل أن دلالة الاتجاه إلى العقل قد تغيرت، ويحكم على التاريخ من خلال منظورنا الحالي وحده. وهكذا يكشف لنا مثل هذا التحليل أن النزعات الرومانتيكية في مظاهرها المختلفة - ومن ضمنها تفكير نيتشه في اتجاهه إلى اللامعقول - قد أدت إلى البشرية، بالنسبة إلى عصرها، خدمات جليلة، وساهمت مساهمة كبرى في السير بها إلى الأمام؛ إذ ساعدت على تقويض صرح العقل بمعناه القديم؛ معنى الأزلية والثبات الأبدي، والعلو على الواقع والحياة.
على أنه إذا كان من الخطأ أن تحمل على هذه النزعات من خلال حكم عام مستمد من ظروف عصرنا نحن، فليس أقل من ذلك خطأ أن نتحمس لها حتى نعممها على عصرنا ذاته. فإذا قلنا إن الاتجاه إلى اللامعقول كان في وقت من الأوقات اتجاها إنسانيا سليما. فليس معنى ذلك أن هذا الحكم ينسحب عليه في عصرنا الحالي؛ ذلك لأن الحملة على العقل بمعناه القديم قد أدت إلى نتيجة كبرى، هي إعطاء معنى جديد له، بحيث لم يعد قوة مضادة للطبيعة أو عالية على الواقع، وإنما أصبح هو ذاته تعبيرا عن الإيقاع المنتظم للطبيعة وللواقع؛ فهو قوة تخدم الحياة وتنظمها. وليس قوة مترفعة تفرض عليه من مصدر عال، وإني لأذهب إلى أن الاتجاهات الرئيسية في العلم والفكر الحديث إنما كانت ، في صورتها الأخيرة، تدعيما لهذا المعنى الجديد للعقل.
وحين يصبح للعقل مثل هذا المعنى، وحين يغدو وسيلة تعين على تقدم الإنسان لا عائقا يقف في وجه هذا التقدم، فعندئذ لا يعود ثمة مبرر للحملة على العقل وللعودة إلى مبدأ اللامعقول مرة أخرى، بل تغدو مثل هذه الحملة مظهرا من مظاهر التأخر الفكري فحسب.
وفي ضوء هذا التحليل ينبغي أن يكون موقفنا من تفكير نيتشه؛ فعلينا أن ندرك أن نزعته اللاعقلية كانت تبدو ضرورية، بالنسبة إلى عصره وإلى الفهم السائد فيه وقبله، للعقل. أما بالنسبة إلى عصرنا الحالي، فلا بد أن نقابل مثل هذه الحملة بالنقد.
ومثل هذا يمكن أن يقال على نزعة نيتشه إلى الفردية؛ ففي عصور التحول الكبرى - ولا جدال أن القرن التاسع عشر كان من هذه العصور - تضيق النفوس الحرة بالمثل السائدة، ولكنها لا تدري إلى أين تسير، فلا تجد أمامها إلا الترفع والانعزال والدعوة إلى الفردية؛ فالاتجاه الفردي، وتمجيد الأرستقراطية والترفع، ليس إلا تعبيرا عن هذا الضيق بالأحوال السائدة. ولا شك في أن هذا التعبير سلبي تماما، فضلا عن أن نيتشه قد بالغ فيه كل المبالغة، ومع ذلك فدلالته الحقيقية هي السخط على كل ما هو شائع، والهرب من الأوضاع الباطلة، والاعتصام في قلاع الفردية والأرستقراطية. وقد يكون لمثل هذا الحل ما يبرره في فترة معينة، ولكن تعميمه على كل الفترات والعصور، والاعتقاد بأنه سيظل هو الحل الأمثل لمشكلة الإنسان الفكرية؛ يعني أننا قد حكمنا على الإنسان بالسلبية إلى الأبد.
ولنستخلص النتيجة الضرورية لكل هذه المقدمات؛ فنيتشه قد سار في الاتجاه إلى اللامعقول، وإلى الفردية، لأن عصره كان يقتضي منه ذلك. وإذن فنيتشه هو ابن العصر، مهما قال عنه أصحاب النزعات الأدبية والشعرية في التفكير، ومهما وصفه كهنة الفلسفة، مثل كارل ياسبرز
صفحه نامشخص
K.Jaspers ، بأوصاف الاستثناء المطلق. وإذا كنا نحس في كل صفحة مما كتبه بنفوره من عصره، وبعده عن ظروف الجماعة التي تعيش حوله، وبحثه عن مثله العليا في عصور ماضية بعيدة، فما ذلك إلا لأن الصورة المنفرة التي رسمها عصره في أذهان مفكريه قد أرغمته على أن يهرب منه، ويحلق بتفكيره بعيدا عنه.
وأخيرا، فقد قلت في مستهل هذه المقدمة إن قصتي مع نيتشه هي قصة الكثيرين. ولست أشك في أن المرء، إذا بدأ حياته العقلية بداية سليمة، سيشعر حتما بحاجته إلى مفكر ثائر على الأفكار والمثل السائدة، يدعو إلى تحطيمها بقسوة وعنف، ولا يعرف في ذلك توفيقا أو مهادنة؛ وعندئذ لن يجد المرء خيرا من نيتشه في ثورته، ولن يجد عونا له خيرا من مطرقته التي هدم بها أصنام العصر؛ غير أن فترة الثورة هذه تعقبها - في كل تطور طبيعي سليم - فترة البناء الإنساني الهادئ. وعندئذ لن يجد المرء في نيتشه مرشدا له؛ إذ إن قدرته كلها تنحصر في حملاته ذات النتيجة السلبية وحدها. فإذا سار تطورنا الفكري في طريقه الصحيح، فلا جدال في أننا لن نقنع بما قال به نيتشه طويلا، وسنبحث عن مثل إيجابية أخرى لا يرشدنا تفكيره إليها، ومع ذلك سنظل نذكر دائما صيحة الاحتجاج الأولى التي لا بد أن يبدأ بها كل تطور عقلي سليم.
فؤاد زكريا
حياة نيتشه
الفصل الأول
الفكر والحياة
شيء واحد اتفق عليه كل من كتبوا عن نيتشه، وأكده هو ذاته في كتاباته؛ وأعني به أن فلسفته قد امتزجت بحياته وأصبحت تكون قطعة منها، وأنه يتفلسف بكيانه كله، وبوجوده الكامل، ولا يتفلسف نظريا، أو يفكر في مشاكل تجريدية جامدة فقدت صلتها بالحياة. وهكذا كان نيتشه يمثل نوعا فريدا من الفلاسفة؛ نوعا يجعل حياته في هوية مع فكره، ويقضي على كل حد فاصل بينهما، ولا يثق بأية مشكلة عقلية لا تسري مع الحياة في تيارها، ولا تنبع من أعماق شخصية من يفكر فيها.
ولسنا ندعي أننا سوف نخرج على هذا الإجماع، ونقرر أمرا مخالفا لما شهد به نيتشه ذاته، وأكده كل الباحثين عنه؛ غير أننا نود أن نوضح المعنى الحقيقي لهذا الاتفاق بين حياة الفيلسوف وتفكيره، وأن نستخلص الدلالة الصحيحة لتلك الفلسفة التي تنبع عن الحياة، وتتقلب معها في كل ما يطرأ عليها من تغيرات.
ذلك لأن القول بأن فكر الفيلسوف في هوية مع حياته، وبأن كل الحدود الفاصلة بينهما قد أزيلت، هذا القول لا يوضح الأمور كثيرا؛ فمن الممكن أن تكون حياة الفيلسوف سائرة في مجراها الطبيعي، ويكون تفكيره تابعا لهذه الحياة، مستمدا كله منها، ومما اكتسبه من خبرات فيها، ومن الممكن أيضا أن يكون تفكير الفيلسوف هو الأصل، وتكون حياته كلها دائرة حول محور هذا التفكير؛ في الحالتين تكون حياة الفيلسوف هي وتفكيره شيئا واحدا، ولكن شتان ما بين الموقفين.
إن الشخصية الأولى شخصية ذات تجارب زاخرة، وحياتها مليئة بالخبرات الواقعية التي تزيدها عمقا على الدوام، وتظل هذه التجارب والخبرات منطلقة في طريقها الطبيعي، لا يعوقها شيء، ولا يحول بينها وبين الحركة الدائمة حائل، ومن خلال هذه التجارب الممتلئة المتجددة، ينمو تفكير الفيلسوف، وعليها يتغذى كأي كائن حي. فإذا ما تسنى لك أن تطلع على هذا التفكير مدونا، لما وجدته إلا ثمرة لتجارب الفيلسوف التي تستمد من الحياة التلقائية وتكتسب من الواقع المتجدد.
صفحه نامشخص
أما الشخصية الثانية فهي ضحلة التجارب، صلتها بالواقع الحسي هزيلة، وخبرتها بالحياة سطحية؛ غير أن هذا الافتقار إلى التجربة الحية يعوضه عندها تجسيم للمشاكل الفكرية وإضفاء الحياة عليها؛ فالمفكر في هذه الحالة منعزل عن الحياة، زهدا فيها أو عجزا عن مجاراتها، ولكنه إذ فقد صلته بما هو حي واقعي، يخلق حياة جديدة من فكره، وينفخ في مشاكله العقلية من روحه. فإذا بالحياة تنبض في هذه المشاكل. وإذا بها كائنات حية يتعامل معها كما لو كان يتعامل مع الأحياء ذاتهم، وهنا أيضا تكون حياة الفيلسوف وتفكيره شيئا واحدا؛ غير أن الأصل هنا هو الفكر، وما الحياة إلا صفة أضفاها هو على هذا الفكر، وظل تابع له.
وأحسب أن الناس إذا صادفوا مفكرا يوصف تفكيره بأنه قطعة من حياته، وبأنه ساير هذه الحياة ولم ينفصل عنها، كان أول ما يتبادر إلى ذهنهم هو المعنى الأول، وظنوا أنهم إزاء شخصية استمدت فلسفتها من واقع حياتها الزاخر بالتجارب . وهذا بالفعل هو أول ما يطرأ على الأذهان كلما رددت أمامها هذه العبارة العامة، القائلة إن فلسفة نيتشه إنما استمدت من حياته ومن وجوده الشخصي؛ غير أن في هذا سوء فهم ينبغي أن نحذر الوقوع فيه؛ فنيتشه في واقع الأمر فيلسوف من ذلك النمط الآخر، الذي جعل فكره حيا عن طريق إثراء الفكر وبعث روح الحياة فيه، لا عن طريق إثراء الحياة واستخلاص الفكر من حكمة تجاربها. وهو لم يقف أمام الحياة وجها لوجه، بل وقف أمام أفكار ومشاكل أحياها ذهنه، وحلت لديه محل الواقع المباشر الذي نتعامل معه في تجربتنا الحية، وكانت الفكرة الواحدة لديه قادرة على أن تبعث فيه الغضب والثورة أو الراحة والسرور، وكل المشاعر التي لا تبعثها فينا عادة إلا المواقف الواقعية الحية.
وهنا نجد أنفسنا إزاء نتيجة غريبة كل الغرابة؛ ذلك لأن هذا المفكر الذي كان يسخر من كل فيلسوف تجريدي، ويؤكد أن أحط صور الإنسان وأكثرها تشويها هي صورة «الإنسان النظري»؛ هكذا المفكر نظري بدوره، تجريدي هو الآخر، وتفكيره إنما هو وجه من أوجه نشاط عقله الخالص؛ ألم نقل إن تجاربه الحية هزيلة، وإن حياته كلها كانت تدور حول محور الفكر، الذي هو أساسها، وهو الذي يعطيها معناها؟ وماذا يكون الإنسان النظري، إن لم يكن إنسانا تتلون حياته بلون مشاكله العقلية، وتدور كلها حول مركز واحد، هو الفكر المنفصل عن الواقع؟ ...
إن نيتشه قد وجه نقده اللاذع إلى أولئك الذين يتفلسفون بين جدران أربعة، وعلى كرسي وثير ... فأين كان يتفلسف هو؟ ألم يكن أكثر الناس عزلة وتفردا؟ ألم تكن حياته كلها تسير في طريق موحش، يزداد بعدا عن الناس بالتدريج؟ ألم يكن يفخر بانطوائه، وبترفعه؟ ففي أي شيء يفترق إذن عن تلك العقول التي كانت تنحصر بين أربعة جدران، وتحيا في جو مفارق لواقع الناس؟
تلك هي النتيجة الغريبة التي ينتهي إليها تحليلنا السابق. ولكن أكان نيتشه بحق متناقضا مع ذاته إلى هذا الحد الصارخ؟ وهل كان هو الآخر إنسانا نظريا له نفس الصورة المقيتة التي حمل عليها ونفر منها؟ الحق أننا لا نهدف إلى إثبات ذلك، ولا ندعي أن طريقة نيتشه وطريقة كنت
Kant
في التفكير تنتميان إلى نمط واحد، بل إن اختلافهما الأساسي أمر مشاهد لا يحتاج إلى دليل. فكيف نخرج إذن من هذا الموقف المحير، الذي نرى فيه نيتشه من جهة شبيها بالمفكرين النظريين، لترفعه التام على كل ما ينتمي إلى واقع الناس بسبب، ونراه من جهة أخرى مختلفا عن المفكرين النظريين، بما يضفيه على مشاكله من حركة دائمة وانفعال حي؟
إن حل الإشكال إنما يكون في تلك التفرقة التي وضعناها من قبل بين نوعين من التفكير المرتبط بالحياة: نوع يرتبط بالحياة المليئة الزاخرة، التي تتوالى تجاربها لتكسب التفكير عمقا مستمدا من خبرة عينية واقعية، ونوع تنحصر حياته في مشاكله ذاتها، ويجسد هذه المشاكل ليجعل منها عناصر كاملة للحياة.
هذا النوع الأخير هو الذي ينتمي إليه نيتشه، وهو نوع إذا تعمقنا في تحليله وجدناه يحتل موقعا وسطا بين التفكير النظري الخالص، والتفكير العيني الحي؛ فهو نظري لأن العالم الذي يحيا فيه هو عالم العقل، ولكنه أيضا عيني، لأنه لا يتأمل مشاكله بتلك النظرة الهادئة الباردة التي يتأملها بها المفكر النظري الخالص، ولا يشاهد أفكاره كما يشاهد المرء عرضا مسرحيا لا تربطه بما يجري فيه أية صلة عميقة. وإذن، فإن شئت أن تجري مقارنة بين كنت ونيتشه، لكان لزاما عليك أن تنفي عن العلاقة بينهما صفة التضاد الكامل؛ إذ هما معا فيلسوفان يتعاملان مع مشاكل عقلية صرف يستمدان، أولا تفكيرهما من حياة مليئة وتجارب واقعية عميقة. وكل ما في الأمر هو أن أولهما يتأمل مشاكله بعقل محايد، ويشاهدها وهو في موقف المتفرج، أو الحكم الذي يلاحظ عن بعد دون أن يتدخل في الصراع. أما الآخر، فهو طرف أصيل في ذلك الصراع، وهو مندمج فيما يحاول أن يحله من المشاكل على نحو تصبح معه هذه المشاكل هي وحدها قوام حياته. ومن جهة أخرى. فإذا أجرينا مقارنة بين تفكير نيتشه وبين مفكر ينتمي إلى ذلك النمط الآخر، الذي توجه حياته المنطلقة تفكيره وتحل له مشاكله، لوجدنا أن حياة نيتشه لم تكن هي التي تقود تفكيره، بل كان تفكيره هو الذي يقود حياته. وبينما يكون في وسعنا في الحالة الأخرى أن نلقي ضوءا ساطعا على الفكر إذا درسنا الحياة، فإننا في حالة نيتشه نستطيع - على العكس من ذلك - أن نفهم كل تفاصيل الحياة إذا درسنا الفكر.
ومجمل القول إن تلك الهوية القائمة بين الحياة والفكر عند نيتشه، لا تعني أن تفكيره يستمد من حياته، وإنما تعني أن حياته هي التي تستمد من تفكيره.
صفحه نامشخص
هذه الحقيقة الأولى، التي حرصنا على إيضاحها في مستهل حديثنا عن حياة نيتشه، ترسم لنا المنهج الذي ينبغي أن نتبعه في دراسة هذه الحياة؛ فالوقائع الخارجية في حياة نيتشه قليلة. وليست لها أهمية خاصة. وأهم وقائع تلك الحياة ترتد في نهاية الأمر إلى مشاكل فكرية. وعلى ذلك فسوف نمر سريعا بتلك الحوادث الخارجية، حتى نفسح المجال لبحث المشاكل الحقيقية التي تحكمت في حياته، وطبعت فلسفته كلها بطابعها الخاص.
الفصل الثاني
وقائع حياته
في أواسط القرن التاسع عشر، وعلى التحديد في 15 أكتوبر من عام 1844، ولد نيتشه في ريكن
Rœcken
وهي بلدة صغيرة قرب ليبتسج. وأهم ما ينبغي أن نذكره عن أسرته أن أجداده لأبيه؛ أعني عائلة نيتشه، كان معظمهم من رجال الدين، وكذلك تنحدر أمه من أسرة إيلر
Œhler
وهي بدورها أسرة شغل كثير من أفرادها مناصب دينية. وهكذا كان الدين يلعب دورا أساسيا في طفولة ذلك الذي أسمى نفسه «عدو المسيح»، والذي كرس جهد حياته ليوجه إلى الروح الدينية أعنف نقد تعرضت له خلال ألفي عام.
ويبدو أن وفاة أبيه وهو في سن الخامسة جعلته يرسم له صورة أسطورية، ويمتدح فيها صفات لا شك أنه لم يلمسها فيه عن كثب؛ إذ لا يعقل أن يكون قد حلل شخصية أبيه وهو دون الخامسة! وعلى أية حال، فقد عاش نيتشه بعد وفاة أبيه في بيئة نسائية خالصة، ولا بد أن هذه البيئة لم تكن تروق له ، إذا حكمنا على الأمر في ضوء حملة نيتشه العنيفة على المرأة فيما بعد.
وفي عام 1858 التحق نيتشه بمدرسة بفورتا
صفحه نامشخص
، ثم غادرها إلى جامعة بون
Bonn
بعد ست سنوات، وعندما انتقل أستاذه في اللغويات ريتشل
Ritschl
إلى ليبتسج، تبعه نيتشه إليها. وخلال تلك الفترة بدأ اتجاهه يتبلور في دراسة اللغويات والآداب الكلاسيكية، وأخذ ينصرف عن اللاهوت، بعد أن كان في الأصل ينتوي التخصص فيه. وظل نيتشه في الجامعة أربع سنوات، تخللتها فترة خدمة عسكرية انتهت بحادثة. ومن العجيب أن يختار نيتشه في نفس العام الذي أنهى فيه دراسته الجامعية أستاذا لفقه اللغة في جامعة بازل، بعد توصية من أستاذه ريتشل، الذي وصفه لدى المسئولين هناك بأنه عبقري. وهكذا بدأت مرحلة شاذة في حياة نيتشه، هي مرحلة الأستاذية الجامعية.
وفي هذه الفترة اهتدى نيتشه إلى مصدرين أساسيين من المصادر التي استقى منها تفكيره، ودارت فلسفته حولها، إما بالعرض أو بالنقد؛ وأعني بهما شوبنهور
Schopenhauer ، وفاجنر
Wagner . أما شوبنهور فسوف يتسع المجال لبحث مدى تأثيره في نيتشه خلال بحث الآراء الفلسفية لهذا الأخير، وأما فاجنر، فسوف نفرد له جزءا خاصا من هذا العرض لحياة نيتشه.
وحين نشبت الحرب السبعينية بين ألمانيا وفرنسا، ساهم نيتشه فيها أولا، فلم يفد منها سوى سلسلة من الأمراض التي انتقلت إليه بالعدوى من الجنود المصابين، وظل يقاسي منها طوال حياته. وكان نيتشه في أول الأمر متحمسا لبني وطنه، ولكن حين أدرك أن الألمان هم الذين بدءوا العدوان حمل على هذه الحرب ونتائجها، وعلى نمو روح التعصب القومي للألمان، واحتقارهم للفرنسيين، الذين كان نيتشه دائم الإعجاب بهم.
ولم يكن نيتشه متحمسا حين عاد لمتابعة إلقاء محاضراته في الجامعة؛ ذلك لأن محاضراته لم تلق النجاح الكافي، بل إن أبحاثه الفيلولوجية المختلفة في تلك الفترة لم تصادف اهتماما كبيرا، وكذلك الحال في أول كتاب له، وهو «ميلاد المأساة من روح الموسيقى». وبدأت وطأة الأمراض تشتد عليه؛ مما جعله يتوقف في فترات متقطعة عن العمل بالجامعة.
صفحه نامشخص
ويبدو أن نيتشه كان في هذه الفترة يوفي دينا لأساتذته ؛ ففيها كتب عن شوبنهور، وعن فاجنر، وعن بعض معاصريه، في تلك المجموعة التي أطلق عليها اسم «خواطر في غير أوانها»، فضلا عن الكتاب السابق الذي ألفه متأثرا بفاجنر.
على أنه حين بدأ ينقطع عن الجامعة، ويطوف أرجاء إيطاليا وسويسرا، كان قد تجاوز مرحلة التأثر المباشر بشوبنهور وفاجنر، وبدأت فترة من التأليف العقلي النقدي، ظهر فيها تحرره بوضوح، وبدأ فيها يوجه نقده إلى كل مقومات العصر، فظهر له كتاب «أمور إنسانية، إنسانية إلى أقصى حد» في جزأين، بدأ الأول في سنة 1876، وانتهى من الثاني في سنة 1879. وفي العام التالي، وفي جو فينيسيا المتحرر، كتب نيتشه «الفجر»، ثم بدأت فترة من التأليف الخصب، ظهر له فيها «العلم المرح» (1882)، و«هكذا تكلم زرادشت» (1883-1885)، و«بمعزل عن الخير والشر» (1885)، و«أصل نشأة الأخلاق» (1887). وفي خلال كل ذلك، كان يعد مواد كتابه الأكبر الذي كان ينوي فيه تدوين خلاصة فلسفته بطريقة منهجية منظمة، والذي لم تتح له فرصة إتمامه وتنسيقه، فنشر كما تركه ضمن مؤلفاته المختلفة؛ وأعني به كتاب «إرادة القوة» (1884-1888). وحتى العام الأخير من حياته الواعية، ظل نيتشه يؤلف بغزارة، فأخرج رسالتين عن فاجنر، هما قضية فاجنر، ونيتشه ضد فاجنر. وانتهى عهده بالتأليف بكتاب «هو ذا الرجل!
Ecce homo » الذي عرج فيه على شخصيته هو، فتناولها هي وكتاباته بالتحليل، وكأنه لم يشأ أن ينتهي من التأليف دون أن يعرض على الناس رأيه في نفسه.
وعندما وصل تفكيره إلى هذه القمة، وبلغ في نقده أقصى الحدود التي يمكن ذهنه أن يبلغها، لم يقو عقله على المضي في طريقه، فإذا بأعراض الجنون الحقيقية تظهر عليه؛ ففي ديسمبر سنة 1888
1
وصلت منه إلى أصدقائه خطابات بإمضاء «نيتشه - قيصر»، وتلقت كوزيما - زوجة فاجنر - خطابا منه يقول فيه: «أريان، إنني أحبك. ديونيزوس» (وهو اعتراف سنفسره فيما بعد)، وبينما كان يسير في شوارع تورين، شاهد فرسا يضربه صاحبه ضربا أليما، فألقى بنفسه عليه ليحميه، ثم سقط على الأرض صريع الجنون. وقضى نيتشه ما يقرب من اثني عشر عاما في فيمار
Weimar
بعيدا كل البعد عن عالم العقلاء، إلى أن مات في 25 أغسطس سنة 1900.
ومن الظواهر المؤسفة أن جنون نيتشه الأخير قد استغل أسوأ استغلال، فذهب بعض الكتاب إلى أن مؤلفاته كلها تتسم بطابع الجنون، وأن اللوثة العقلية تظهر فيها كلها - بدرجات مختلفة - منذ البداية. وليس هناك أدنى شك في أن حياة نيتشه لو لم تكن قد انتهت على هذا النحو؛ أعني لو كانت قد انتهت مثلا بحادثة وقعت له في عام 1888، لما خطر هذا الاتهام على بال أحد؛ ذلك لأن البحث الموضوعي الدقيق لكتابات نيتشه لا يؤدي إلى أي تأييد لهذا الادعاء الباطل. وكل ما في الأمر هو أن خصائصه النفسية، التي كانت تنعكس بوضوح على كتاباته، كانت ذات طابع فريد؛ ومن من كبار الكتاب أو الفنانين لم يكن له طابع نفسي فريد؟ إن العزلة القاتلة التي عاش فيها نيتشه قد صبغت أسلوبه بصبغة خاصة، وشعوره بالوحدة قد أضفى على كتاباته نوعا من الترفع والتعالي؛ غير أن هذا كله ليس جنونا على الإطلاق، وما هو إلا تعبير عن النمط النفسي الخاص الذي ينتمي إليه نيتشه، وهو نمط مألوف بين العقلاء، بل بين الكثيرين من أعمق العقلاء تفكيرا.
والحق أن المرض بوجه عام كان يؤثر دائما في نيتشه تأثيرا عكسيا؛ أعني أنه كلما اشتدت عليه وطأة المرض، كان يدعو إلى إنسانية سليمة صحيحة، وكانت نغمة الصحة والقوة تزداد وضوحا في كتاباته. قد يكون هذا تعويضا، ولكنه لا يؤثر مطلقا في قوة الدعوة وروعة الهدف ذاته.
صفحه نامشخص
بل لقد كان نيتشه يحاول أن يدخل أمراضه، حتى أكثرها ارتباطا بالناحية العضوية، في عداد الظواهر الواعية، ويدرجها ضمن عناصر حياته الشعورية، فلا يرى المرض «سببا» لاتجاهات معينة يتبعها في كتاباته، بل «نتيجة» لهذه الاتجاهات.
2
ومع اعترافنا بمبالغته في هذا الحكم المطلق، فإننا نستطيع أن نجد له مع ذلك مبررا فيما قلناه من قبل، من أن حياة نيتشه كلها كانت تدور حول فكره، وأن مشاكله الفكرية هي عناصر هذه الحياة، وهي أشخاصها، وهي التي كان في وسعها أن تعلو أو تهبط بها؛ فمثل هذا الشخص الذي كانت مشاكله قادرة على أن تثير فيه مختلف الانفعالات التي تثيرها فينا المواقف الحية، لا يستبعد أن تؤدي به هذه المشاكل ذاتها - في بعض الأحيان - إلى المرض أو الصحة، وفي هذه الحالة يكون المرض نتيجة لفكره الواعي، لا سببا في توجيه ذلك الفكر في اتجاه معين. ولنضرب لذلك مثلا: ففي الفترة التي دعاه فيها فاجنر إلى حضور أعياد بايرويت
Bayreuth ،
3
والتي كان نيتشه فيها قد بدأ يفكر بفن فاجنر، كان يشعر دائما بغثيان وصداع أليم، وكثيرا ما كان يعتذر عن الحضور لمرضه. وليس من المستبعد أن تكون هذه الأعراض ذاتها - في مثل هذه القضية النفسية الحساسة الشفافة - «نتيجة» لتقزز عقلي بدأ يشعر به نحو أعمال فاجنر، لا سببا له؛ بل إن في وسع المرء أن يمضي إلى ما هو أبعد من ذلك فيرى في جنونه الأخير تعبيرا آخر عن هذه الظاهرة؛ ذلك لأن الحياة التي تتخذ كل عناصرها من مشاكل فكرية صرف، لا بد أن تعجز عن المضي في طريقها إذا وصلت هذه المشاكل إلى الحد الذي لا يمكنها أن تتجاوزه. والحق أن نيتشه في نهاية فترة تفكيره الواعي كان قد وصل في تفكيره إلى حد لا يستطيع أن يمضي بعده خطوة واحدة؛ فهو قد حلل نفسه وحياته تحليلا عميقا، ولخصها كلها في كتبه الأخيرة. وهو قد وصل في تفكيره إلى النقطة التي لا يكاد المرء يتصور بعدها مزيدا بالنسبة إليه؛ فهو يقف الآن ضد المسيح، وهو يمثل الدعوة الإيجابية إلى الحياة في مقابل الدعوة السلبية إلى التخلي عن الحياة. وحين تصل المشاكل الفكرية - أعني عناصر حياته - إلى نقطة التوتر هذه، يكون الانفجار أمرا محتوما. وهكذا كان الجنون.
وعلى هذا النحو يبدو الجنون «نتيجة» منطقية لتطور لا بد منه.
ولسنا ندعي أن هذا التفسير هو وحده الصحيح، أو أنه يعلل كل الوقائع، ولكنه لا يبدو مستحيلا إذا فهمت حياة نيتشه على النحو الصحيح؛ حياة لا قوام فيها إلا للمشاكل الفكرية، ولا يستطيع أن يرتفع بها شيء أو يهبط بها شيء ما عدا الأفكار.
وفي ضوء هذه الفكرة ذاتها سوف ندرس بشيء من التفصيل ما نعتقد أنه الواقعة الأساسية في حياة نيتشه - وهي بطبيعة الحال واقعة فكرية بدورها - وأعني بها علاقته بفاجنر؛ ففي هذه العلاقة سوف نجد تأييدا آخر لما نذهب إليه من تركز حياة نيتشه حول مشاكله العقلية وحدها؛ إذ إن تقلبات هذه العلاقة، وما نجم عنها من سعادة أو شقاء أحس بهما نيتشه خلال حياته، إنما كانت تخضع لنظرة «عقلية» خاصة عند نيتشه، بحيث لا تبدو تلك الواقعة الرئيسية في حياته إلا على صورة مشكلة فكرية فحسب.
الفصل الثالث
صفحه نامشخص
نيتشه وفاجنر
في نوفمبر سنة 1868، وفي خلال إقامة قصيرة لفاجنر في ليبتسج، قيل له إن هناك شابا ألمانيا شديد الإعجاب بموسيقاه، يحفظ مقطوعات عديدة من إنتاجه الأخير (في ذلك الوقت) وهو «أساطين الطرب
Die Meistersinger »، فأبدى فاجنر رغبته في مقابلة هذا الشاب المتحمس له. وفي الثامن من نوفمبر، تقدم ذلك الشاب لمقابلته وصافحه ذاكرا اسمه «فريدرش نيتشه».
وفي تلك الفترة، كان نيتشه في مستهل حياته العقلية، يشق طريقه بعزم فتى في الرابعة والعشرين. أما فاجنر، فكان قد اقترب من نهاية حياته الفنية، وأتم التعبير عن ذاته أو كاد، ولم يعد يعرف الهجوم العنيف ولا الثورة الهوجاء، بل انتهى إلى هدوء ساخر لا يخلو من استسلام، عبرت عنه «أساطين الطرب» أحسن تعبير. كان الأول لم يزل مغمورا، لا يعرفه أحد، وإن يكن شديد الثقة بمستقبله. أما الثاني فكان اسمه على كل لسان، ومجده الماضي يكفيه في مستقبل حياته.
على أن التفاهم سرعان ما ساد بين الرجلين، ولم تكن الموسيقى وحدها هي مصدره، بل جمع بينهما الإعجاب المشترك بفلسفة شوبنهور، وبتفسيره الفني للحياة وللعالم. وهكذا تقابل الرجلان مرة أخرى في تريبشن
Triebschen
في العام التالي، وتكررت مقابلاتهما في ذلك المكان الذي اتخذه فاجنر مهبطا لوحيه. ووجد نيتشه في فاجنر فنانا أحيا آراء شوبنهور النظرية وحققها عمليا، ووقفت لديه الموسيقى مع الفكر جنبا إلى جنب، واجتمع الشعر والنغم في دراماته الموسيقية ، على نحو يذكره بما كان في «التراجيديا» اليونانية من فن متكامل، وهكذا كتب نيتشه إلى صديقه إرفين روده
Erwin Rhode
يقول: «... إن ما أتعلمه وأراه وأسمعه وأعقله هنا شيء يفوق الوصف. ولتصدقني إذا قلت لك إن شوبنهور وجيته، وإسخيلوس وبندار، ما زالوا أحياء.» ومن جهة أخرى أعجب فاجنر وزوجته كوزيما بذلك الشاب المتحمس، ووجداه يفوق في ثقافته وعلمه كل من دخل في دائرة معرفتهما، وأدرك فاجنر أنه في حاجة إلى مثل هذه العقلية الفنية المتحمسة، التي تستطيع أن تأتي بأقوى الدعامات لآرائه الفنية في ميدان الفلسفة والفكر. وهذا بالفعل هو ما حدث في بداية الأمر؛ فقد ألف نيتشه كتابه الأول «ميلاد المأساة من روح الموسيقى»، محاولا فيه أن يهتدي إلى الصلة بين الدراما الفاجنرية والمأساة الإغريقية، ويدعو فيه إلى نهضة متكاملة في الحياة الحديثة، يؤدي فيها فن فاجنر وفلسفة شوبنهور الدور نفسه الذي أداه فن إسخيلوس في حياة اليونان القديمة، ويحلم بعصر تسوده الغريزة المنطلقة، وتخفت فيه أضواء العقل الخالص، الذي أضفى على حياة الإنسان لونا باهتا.
وبقدر ما لقي الكتاب في دائرة فاجنر من ترحيب، فإنه أخفق في لفت أنظار الباحثين خارج هذه الدائرة؛ إذ تجاهله النقاد تجاهلا يكاد يكون تاما، ووصفه القليلون الذين انتبهوا إليه بأنه «سنتور»
صفحه نامشخص
1
مشوه لا وحدة فيه ولا ارتباط. وهذا ما كان يحس به نيتشه ذاته، حين صرح في كتاب إلى روده، في سنة 1871، بأنه يخشى «ألا يقرأ علماء اللغة ذلك الكتاب لما فيه من موسيقى، وألا يقرأه الموسيقيون لما فيه من علم لغة، وألا يقرأه الفلاسفة لما فيه من موسيقى وعلم لغة!»
على أن التفاهم بين الرجلين لم يدم طويلا، وما كان له أن يدوم. وكم قيل في تفسير القطيعة بينهما من تعليلات، وتعصب كل باحث لرأيه الخاص، ظانا أنه قد أتى بالتعليل الأوحد. ولكن الواقع أنه لا يستبعد، إذا كنا بصدد شخصية معقدة كشخصية نيتشه، أن يكون لكل من هذه التعليلات نصيب من الصحة.
وأغرب هذه التعليلات هو التعليل النفسي؛ فقد تبين في نهاية الأمر ، وفي الوقت الذي وقف فيه نيتشه على حافة الجنون، أنه كان يحب كوزيما زوجة فاجنر، وتصور أنها هي أريان، وهو ديونيزوس، في الأسطورة اليونانية، وكتب إليها: «أريان، إنني أحبك!» ولم تكن إشارته الرمزية في كتبه السابقة عن أريان وديونيزوس مفهومة من قبل، ولكنه حين أفلت منه زمام عقله الواعي، وكشف عن هذا الحب الصامت القديم، قد أوضح معنى تلك الإشارات على نحو لا يدع مجالا للشك في أن حبه لكوزيما قد لعب دورا هاما في حياته النفسية. فإذا أضفنا إلى ذلك قوة النزعة الذاتية لدى نيتشه، وهي النزعة التي تجعله يحكم على العالم وعلى الآخرين تبعا لشعوره الخاص نحوهم، لوجدنا أنه ليس من المستبعد على الإطلاق أن تكون كراهيته التالية لفاجنر تعبيرا غير مباشر عن حبه لزوجته، أو إحساسا منه - كما صرح في بعض الأحيان - بأن فاجنر لا يستحق هذه المرأة التي لم يصادف بين النساء من تعادلها ذكاء وجرأة. ليس لنا إذن أن نرفض هذا التعليل؛ إذ تنهض به في كتابات نيتشه ذاتها شواهد قاطعة. ولكن ليس لنا في نفس الوقت أن نعده التعليل الوحيد؛ فقد كان لا بد من عوامل أخرى تتضافر مع عامل التطلع الخفي إلى كوزيما، لتؤدي بنيتشه إلى حملته العنيفة على فاجنر، وكان لا بد من مبررات عقلية أخرى، يستطيع أن يصرح بها على الأقل، أو يستطيع أن يبرر بها لعقله الواعي هذا التغير الذي طرأ على شعوره نحو فاجنر. فلنمض إذن في بحثنا ملتمسين تعليلات أخرى لهذه القطيعة.
في الوقت الذي وصل فيه فاجنر إلى قمة المجد، ونجح في بناء مدينة موسيقية كاملة على النحو الذي تخيله طيلة حياته في بايرويت
Bayreuth ، وبدأ يحقق من المشروعات ما كان يبدو قبل ذلك خيالا واهما، كتب نيتشه في الجزء الرابع من كتابه «خواطر في غير أوانها» مقالا لخص فيه كل ما كان يجذبه إلى فاجنر من قبل، هو مقال «رتشارد فاجنر في بايرويت». والحق أن أحدا لم يمدح فاجنر ولم يمجده مثلما فعل نيتشه في هذا المقال . ويبدو أن نيتشه كان ينبه فيه فاجنر إلى ما كان ينتظره منه؛ فقد كان ينتظر تقدما شاملا وإصلاحا عاما في كل أوجه الحياة البشرية، من أخلاق وسياسة وعلاقات اجتماعية؛ إذ إن المسرح صورة مصغرة للمجتمع بمختلف مجالاته، وفيه تقدم لمشكلة الحياة حلول لو أحسن اختيارها لكان أثرها على الإنسانية كلها عظيما. وهكذا تستطيع بايرويت أن تعيد لنا عهده الأولمب، ويستطيع العبقري الذي شادها أن يخاطبنا بلغة شاملة لا توجه إلى جماعة أو شعب معين، بل إلى البشرية كلها. على هذا النحو سار نيتشه في مؤلفه هذا عن فاجنر، ولكن هل كان هذا كله مدحا فحسب؟ الحق أنه، كما قلنا، تعبير عما يتوقعه نيتشه من فاجنر، لا عما قام به فاجنر بالفعل. والدليل على ذلك أنه في نفس الوقت الذي كان فيه فاجنر يحتفل بأعياد بايرويت الأولى، كان نيتشه قد انطفأت حماسته وتبخر إعجابه.
ذلك لأن نيتشه حين اهتدى إلى ذاته، وعرف الطريق الذي يتعين عليه أن يسلكه، أدرك أن فاجنر عاجز تماما عن أن يقدم إلى البشرية شيئا مما يريده هو. لقد كان نيتشه يريد انقلابا في الأخلاق، وفي الفكر، وفي الفن، وفي كل ما يقدسه الإنسان الحديث من قيم، فأين فاجنر من كل هذا؟ لقد شاهد نيتشه بعض حفلات بايرويت، فلم يجد إلا مسرحا ذا جدران أربعة، وستارا يفتح من الجانبين، وعازفين مختفين، وموسيقى ممتزجة بالشعر؛ وهذه كلها تجديدات فنية لا شك فيها، ولكن أتبدأ من هنا نهضة الإنسان الحديث كما أرادها نيتشه؟! وأين هم رهبان الفكر الذي كان نيتشه يتصور أنهم سيفدون خاشعين إلى محراب الفن؟ أين ذلك الصمت المقدس الذي طالما حلم به، من تلك الجلبة والضوضاء وذلك الغدو والرواح؟ أين بخور معبد الفن من رائحة الخمر والدخان وعطور النساء التي حفل بها مسرح بايرويت؟ لقد انتهى نيتشه من زياراته لبايرويت بنتيجة واحدة، هي أن من المحال أن تشع شمس الإصلاح من ذلك الأولمب الزائف، أو أن تبعث الحضارة الديونيزية من بعد حفل لاه كذلك الذي وضع فيه فاجنر كل آماله! ومنذ هذه اللحظة، يئس تماما من أي إصلاح يأتي عن طريق فاجنر.
وهكذا أصبح الطريق ممهدا للانفصام التام. ولم يبق إلا أن يعلم نيتشه أن فاجنر ليس عاجزا عن بلوغ هدفه الإصلاحي فحسب، بل إنه يسعى إلى هدف مضاد له. وهذا ما أدركه نيتشه أخيرا؛ فقد تقابلا بعد بايرويت عدة مرات، إلى أن كان يوم تريضا فيه معا على الساحل في سورنتو
Sorrento
بإيطاليا، وأخذ فاجنر يشرح له أهم الموضوعات التي تشغل ذهنه في ذلك الحين، وهي الدراما الموسيقى الجديدة «بارسيفال». فإذا بها عمل يقدمه فاجنر إلى الكنيسة راجيا منها المغفرة والصفح في نهاية حياته. وإذا به يقول إنه يجد في فكرتها هذه لذة لا يجدها في أعماله السابقة التي كان بعضها يصطبغ بصبغة الإلحاد. وتبينت الحقيقة لنيتشه بوضوح؛ فها هو ذا فاجنر يتبدى أمامه تائبا مفكرا، يردد آلام المسيح وعذابه، ويركع تحت الصليب، في الوقت الذي أراده فيه ثائرا يمجد الحياة ويقلب القيم. بل إن في الأمر شيئا أخطر من مجرد كون فاجنر مسيحيا؛ إذ إن نيتشه على كل حال يحترم المسيحي المخلص، ولكن الذي آلمه أن يجد فاجنر قد انقلب وتدهور إلى هذا الحد. وعلى أية حال، فقد ظل نيتشه صامتا في ذلك اليوم، وحين انتهى فاجنر من حديثه، خطا نيتشه بعيدا عنه، وانصرف دون أن يجيب، ولم يره بعد ذلك أبدا.
صفحه نامشخص
والحق أنه كان من المحال أن يسود التفاهم بين فاجنر وبين ذلك الذي أراد أن يكون «عدو المسيح» وأن ينقد كل ما يمت إلى المسيحية بسبب؛ فالروح الدينية كانت تثيره على الدوام، وما كانت جريرة الأخلاق السائدة، التي كرس نيتشه كتبا بأسرها لنقدها، إلا أنها في أساسها متأثرة بالتعاليم الدينية، وبالمسيحية على وجه الخصوص، وتدعو إلى الضعف والاستسلام. وما كانت حملته على الفلسفات الكبرى إلا لدعوتها إلى مبادئ قريبة من المبادئ الدينية، كمبدأ الفضيلة العقلية الخالصة عند سقراط وأفلاطون. فأين آراء فاجنر المحافظة من هذه الثورة العاتية؟ إن فاجنر الذي عبر عن ولائه وإخلاصه للمسيحية تعبيرا صريحا في بارسيفال، كان في واقع الأمر مسيحيا مخلصا من بداية الأمر؛ فلو حللت أية واحدة من دراماته الموسيقية، لوجدت فيها فكرة التكفير والتوبة تلعب دورا أساسيا، حتى في خاتم النيبلونجن
Niebelungenring
التي خلق فيها فاجنر شخصيته زيجفريت، محطم التقاليد الثائر، حتى في الدراما، يعود فاجنر في النهاية إلى نغمته المعهودة، فينادي بالتوبة والخلاص، ويتوق أخيرا إلى الفناء وإنكار الحياة.
فإذا تركنا أفكار فاجنر جانبا، وانتقلنا إلى موسيقاه، لوجدنا نيتشه يوجه إليها هي الأخرى حملة عنيفة، يمكننا أن نلتمس لها تعليلا واضحا من حالة نيتشه الصحية. ويبدو أن موسيقى فاجنر العميقة كانت تسبب له إجهادا فكريا عنيفا، وكان يحتاج في تتبعها إلى توتر ذهني يستهلك من طاقته العقلية قدرا هو أحوج ما يكون إليه. ومن هنا كان نيتشه في حاجة إلى موسيقى خفيفة راقصة، تجدد نشاطه وتفكيره ولا تستهلكهما. ولقد صرح نيتشه بذلك حين قال: «إن كل ما هو جيد خفيف، وكل ما هو إلهي يسير على أرجل دقيقة حساسة.» وهذا هو ما وجده نيتشه في ألحان بيزيه
Bizet ، الذي كانت أوبراه المشهورة «كارمن» بمثابة كشف عالم جديد بالنسبة إلى نيتشه. فأين تلك الرقة الرفيعة من تعقد فاجنر الذي أدرك أن موسيقاه لا يمكن أن تأخذ طريقها إلى الأذهان مباشرة، فأخذ يخرج الكتب واحدا تلو الآخر لتبريرها وشرحها؟ لقد كان نيتشه ولا شك محبا للحن
Mélodie ، وكان يؤثره على التناغم المعقد الذي سيطر على موسيقى فاجنر. كان يريد في الموسيقى - كما قال - شيئا يمكن تصغيره، وكان يرى الألمان جميعا عاجزين في ميدان اللحن، ولا شك أن أقوال نيتشه في هذا الصدد إنما تخضع لمنطق التبرير فحسب؛ بدليل ما صرح به في كتابه الأخير من أن مواجهته فن فاجنر بموسيقى بيزيه لا ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد. وعلى أية حال، فقد أراد نيتشه بكل هذا النقد شيئين: أولهما أن يتابع في مجال الموسيقى حملته على فاجنر في مجال الفكر؛ إذ كان عدم التوافق في الأفكار هو الأصل، وثانيهما أن يبرر الضعف الطبيعي الذي انتاب أعصابه، والذي جعل هضم موسيقى فاجنر أمرا ثقيلا بالنسبة إليه، ودليل ذلك قوله في كتاب العلم المرح: «إن دوافعي ضد موسيقى فاجنر دوافع عضوية ... فما أشعر به فعلا عندما أستمع إلى تلك الموسيقى هو العجز عن التنفس بسهولة؛ ولذا تثور أقدامي وتغضب؛ إذ إنها في حاجة إلى الإيقاع والرقص والمشية المنتظمة، وكل ما ترمي إليه من الموسيقى هو قبل كل شيء ذلك الطرب الذي ينبعث من انتظام المشي والخطو والقفز والرقص. وفضلا عن ذلك، ألا تحتج معدتي وقلبي ودورتي الدموية وأمعائي بدورها؟ ... ما الذي يريده جسمي حقا من كل موسيقى؟ إنه يريد أن يصبح خفيفا، وكأن كل الوظائف الحيوية فيه تزداد سرعة ونشاطا بفعل إيقاع خفيف جريء منطلق واثق من نفسه.» وهكذا تنعكس حالة نيتشه الصحية على هذا النقد بوضوح، ويبدو إيثاره لإيقاع بيزيه المنتظم على تناغم فاجنر المعقد أمرا هين التفسير بالنسبة إلى من كانت لديه أدنى فكرة عن وظيفة الإيقاع المنتظم في تخفيف التوتر العصبي.
ولعل القارئ قد لاحظ من خلال تطورات تلك العلاقة التي تمثلت فيها أهم وقائع حياة نيتشه، تردد ظهور تلك الصفة التي قلنا من قبل إنها أهم ما يميز حياته؛ وأعني بها تركز هذه الحياة حول المشاكل الفكرية، واتخاذها عناصرها ومقوماتها كلها من هذه المشاكل؛ ذلك لأن الخلاف بينه وبين فاجنر - وهو الخلاف الذي كان له أبلغ الأثر في تطور حياته - إنما كان خلافا حول «أفكار» قبل كل شيء. ولا جدال في أن نيتشه لو وجد لدى فاجنر من الأفكار ما يلائمه، لخفت حملته على موسيقاه إلى حد بعيد.
وتبدو تلك الصفة الأساسية في حياة نيتشه؛ أعني سيطرة الأفكار الخالصة لا الواقع العيني على هذه الحياة سيطرة تامة؛ تبدو تلك الصفة واضحة في حملة على فاجنر خلال أعياد بايرويت. لقد كان يطمع من فاجنر في أن يأتيه بالحقيقة كاملة صريحة. كان يريد منه أن يصبح فيلسوفا ذا دعوة عقلية مثله، وأن يحارب من أجل الأفكار الجديدة حربا مباشرا. ولكم كان نيتشه ساذجا حين تصور أن الفن وسيلة لإثبات فكرة فلسفية بطريق مباشر، وسبيل يكفي وحده لبعث نهضة إنسانية شاملة. إن غاية ما يصل إليه الفنان هو أن يشير من بعيد، ويلمح، ويرمز. وحين ينقلب الفن إلى خطب منبرية ذات مدلول مباشر، فإنه يفقد ماهيته ذاتها، مهما كان نبل الدعوة التي يدعو إليها. وليس معنى ذلك أن على الفن أن ينطوي على ذاته، أو يكتفي بالطابع الشكلي الصرف، ويخضع لهذا الشعار الزائف: «الفن لأجل الفن ...» فلكل فنان صادق رسالة، ولكنه لا يستطيع وحده أن يصلح الناس إصلاحا شاملا، أو أن يبعث نهضة جديدة بفنه فحسب، بل كل ما يمكنه أن يفعله هو أن يتضافر مع غيره في مجهود مشترك، يكون نصيبه منه منحصرا في الحدود التي لا يتعداها التعبير الفني؛ غير أن نيتشه «صدم» حين وجد أن بايرويت لم تكن إلا مسرحا معتادا كسائر المسارح! فما الذي كان ينتظره إذن؟ أكان يريدها منبرا يدعو فيه فاجنر إلى الحياة الجديدة؟ وماذا كان يملك من وسائل لهذه الدعوة؟ ألم يكن التعبير الموسيقي والشعري، في حدود الإمكانيات المسرحية، هي وسيلته الوحيدة من حيث هو فنان؟ وهل يسمح له واقع هذه الحياة بأن ينتقي مستمعين «مختارين» تتأثر نفوسهم بفئة المتكامل فينتشروا في الأرض ليبشروا بالحياة الجديدة؟ لا شك أن مطلب نيتشه هذا كان وهما وخيالا، إن دل على شيء فإنما يدل على أن الفكرة الخالصة التي لا تعترف بحدود الواقع ولا تخضع لمقتضياته تحتل جميع أركان نفسه، ومن خلالها وحدها يقوم العالم ويصدر حكمه على الناس.
فلسفة نيتشه
الفصل الأول
صفحه نامشخص
نيتشه الفيلسوف
هل كان نيتشه فيلسوفا بالمعنى المألوف لهذه الكلمة؟ إن الفلاسفة عادة يأتون بمذاهب شاملة، تقدم حلولا متحدة الهدف لمختلف المشاكل التي تواجه العقل البشري. فإذا كنا نعني بالفيلسوف أنه صاحب مذهب، فعندئذ سوف نلقى معارضة شديدة من جانب نيتشه، ومن معظم من كتبوا عنه، في أن يعد فيلسوفا بهذا المعنى؛ ذلك لأن المذهب في هذه الحالة إنما هو تعبير عن نظرة جامدة متحجرة إلى العالم، وفهم ثابت لا يريد أن يتحرك عن الموضع الذي وقف فيه؛ لأن في الحركة عناء للذهن، وفيها مسئولية وخطورة لا تقوى عليها تلك العقول التي تنشد الراحة والهدوء. وهكذا وجه نيتشه حملته إلى أصحاب المذاهب، وكان أخشى ما يخشاه أن يعد واحدا منهم، وسايره في ذلك من كتبوا عنه، فتفنن كل منهم في كشف مواقف متناقضة له، وأكدوا أنهم إنما يعلون بذلك من قدره، وينزهونه عن كل تحجر وجمود.
ومن الرائع حقا أن يدعو مفكر إلى الابتعاد عن الجمود الفكري، وأن يترك المجال متسعا دائما لمزيد من التطور والتجديد الذي يساير الحياة في نموها الدائم. ولكن ما صفة هذه الحياة النامية عند نيتشه؟ لقد بينا أنها كانت فكرية صرف، خلت من التجارب الواقعية المثيرة، وإنما المثير فيها أفكار فحسب. وعلى ذلك. فإذا قلنا إن فلسفة نيتشه تخضع لحياته، فمعنى هذا القول في حقيقة الأمر تحصيل حاصل؛ إذ لن تخضع هذه الفلسفة في نهاية الأمر إلا لمنطقها الداخلي فحسب، ما دام عالم الأفكار لديه متماسكا، لا ينفذ إليه من الخارج ما يؤثر فيه.
ولنتساءل بعد ذلك عن المعنى الحقيقي لهذه «الفلسفة النامية مع الحياة»، أيعني هذا النمو والحركة تناقضها بالضرورة؟ إن الباحثين عادة يجدون في هذا الخضوع للحياة مبررا لتناقض أفكار الفيلسوف. ولكن مهما تقلبت هذه الأفكار وتنوعت، ألن تظل دائما «خاضعة للحياة»؟ ألن تكون هذه صفة مشتركة لكل هذه الأفكار، وهلا تكون هذه هي البادرة الأولى التي يمكننا منها أن نصل إلى خيط واحد ينتظم تفكير الفيلسوف في كل تطوراته؟
الحق إننا لا نستطيع أن نستسيغ تلك الصورة التي يصور بها نيتشه، والتي يتمثل فيها مفكرا لا يخضع لمنطق أو نظام، ويظل تفكيره يلهو بين المتناقضات دون مبالاة، ثم يقال لنا بعد ذلك إن نيتشه في هذه الصورة يسمو على الفلاسفة «التجريديين»! فنحن لا نكاد نتصور أن يتصف مفكر عميق - ولا جدال في أن نيتشه كان عميقا - بمثل هذه الصفات التي يأبى أي إنسان عاقل أن تنسب إليه . وإن أبسط فهم للنفس البشرية ليؤدي بنا إلى القول بضرورة وجود وحدة للشخصية الإنسانية، مهما تباينت الأحوال التي تمر بها. وليس معنى ذلك أن لهذه الشخصية طابعا جامدا؛ فالتطور والنمو حقيقة لا شك فيها، ولكنه لا يمكن أن يتم في فراغ مطلق، وأن يشكل الشخصية تشكيلا كاملا بحيث تتباين طبيعتها تماما تبعا لتقلبات هذا التطور. وإن تحليل التشبيه الذي يقدمه أولئك المفكرون؛ أعني تشبيه النمو العضوي، ليثبت ما نريد نحن أن نبرهن عليه؛ ذلك لأن النمو العضوي ليس إضافة من الخارج. وليس زيادة تطرأ على أصل معين دون أن تؤثر فيه أو تتأثر به، بل إن النمو العضوي هو قبل كل شيء نمو من الداخل، وكل زيادة فيه إنما تتم عن طريق «الأصل» الباطن، الذي يؤثر في كل ما يضاف إليه. وإن مجرد وجود نمو، أو تطور، ليستلزم وجود نوع من الثبات، وإلا لكان كثرة وتغايرا، لا نموا وتطورا. وما كان من طبيعة العقل البشري أن يتخذ مواقف متضادة على النحو الذي ينسبونه إلى نيتشه؛ إذ إن الوحدة هي أبرز صفات الشخصية الإنسانية، والاتساق في المسلك هو أول ما يميزها عن الحيوان، فلا بد إذن من نوع من الثبات حتى يسمو الإنسان على المرتبة الحيوانية، ولكن هذا الثبات لا ينبغي أن يصل إلى حد التحجر، وإلا وقع فيما هو شر من الحيوانية؛ أعني في الجمادية!
وعلى ذلك. فإذا كان المقصود بكلمة «المذهب» هو الجمود المطلق، والتوقف التام عن النمو والحياة، فلا شك أن نيتشه لم يكن من أصحاب المذاهب، ولا جدال عندي في أن هذا هو المعنى الذي كان في ذهن نيتشه حين نقد المذهبية وأصحابها من الفلاسفة، ولكن إذا فهمت كلمة المذهب بمعناها الواسع، من حيث إنها هي اللون الغالب على الشخصية، وهي مظهر وحدتها واتساقها مع ذاتها، فلا شك في أن نيتشه - في الفترة العاقلة من حياته على الأقل - كان ذا مذهب، شأنه شأن أي عاقل آخر! ومهما قرأت له من عبارات تدعوك إلى نبذ النظرة الموحدة إلى العالم، وإلى تغيير المنظور الذي تتأمل من خلاله كل مشكلة، فلتعلم أن هذه الدعوة إلى التجديد وتغيير المنظور هي ذاتها مذهبه، وهي الوحدة الجامعة بين أطراف شخصيته.
ولكن، أيصلح مذهب من المذاهب المعروفة في تاريخ الفلسفة للتعبير عن هذا العنصر المشترك بين مختلف اتجاهات نيتشه في تفكيره؟ علينا إذا شئنا أن نجيب عن هذا السؤال، أن نقارن بين تفكير نيتشه وبين مختلف المذاهب التي قد تقترب منه، لنرى مدى صلاحية كل منها للتعبير عن أطراف هذا التفكير.
الواقعية
الواقعية، بوجه عام، مذهب يرى أن الوجود مستقل عن المعرفة الحالية التي تعرفه بها الذوات المدركة؛ فهو لا يستمد من هذا الإدراك، ولا يعبر عنه تعبيرا شاملا بالفكر؛ لأن فيه شيئا يتجاوز الفكر. فإذا استخلصت من هذا الرأي الذي ينطبق أصلا على مجال المعرفة، نتائجه الأخلاقية، فلا شك أن الأخلاق الواقعية ستكون متعلقة بهذه الأرض، وسوف تتخلى عن كل تطرف مثالي يربط الأخلاق بعالم آخر، بالمعنى اللاهوتي أو المثالي لهذه الكلمة. وتلك هي أبرز صفات الأخلاق عند نيتشه. ولكن إذا كانت الواقعية تقترب من تفكير نيتشه في ميدان الأخلاق، فقد كانت بعيدة عنه كل البعد في ميدان المعرفة. فهو ينقد الواقعيين لاعتقادهم بأن العالم كما يظهر لنا هو العالم الحقيقي، وأن العالم في ذاته لا يختلف عما نراه.
1
صفحه نامشخص
وفي نظرية المعرفة عنده - كما سنرى فيما بعد - عناصر مثالية لا تنكر؛ وذلك حين يؤكد أن العالم كما نتصوره هو العالم كما يصلح لوجودنا فحسب، لا كما هو في ذاته. ولا شك أن هذا الرأي في المعرفة يباعد بينه وبين الواقعيين، ويجعل فلسفته تختلف عن مذهبهم اختلافا أساسيا.
الوضعية
يرتبط لفظ الوضعية في نشأته باسم أوجست كونت، ولكنه استخدم بعد ذلك ليعبر عن آراء طائفة خاصة من المفكرين، تأثروا بالتقدم الكبير الذي أحرزه المنطق والرياضة في نصف القرن الماضي، فحاولوا أن يوحدوا بين أسس المنطق والرياضة، ويجعلوا منها دعامة لتحليل فلسفي يقضي على المشاكل الميتافيزيقية من جذورها؛ فالوضعية الحالية؛ أعني الوضعية المنطقية، تشترك مع وضعية أوجست كونت في أنها تستلهم العلم في كل مراحلها، وتتأثر في نقطة بدايتها بالتقدم الذي تحرزه علوم معينة، فتحاول اصطناع مناهجها وتعميمها على التفكير الفلسفي ذاته.
ولقد تأثر نيتشه ذاته بالتقدم العلمي تأثرا كبيرا، بل إن إحدى فترات تفكيره الفلسفي يطلق عليها عادة اسم «الفترة الوضعية».
2
والذي نلاحظه أن إعجابه بالمنهج العلمي التجريبي لم يكن يقتصر على المرحلة الوسطى من مراحل تفكيره، بدليل أنه حاول في الفترة الأخيرة أن يضع لفكرة العود الأبدي - وهي في أصلها فكرة ذات طابع صوفي - أساسا علميا، وكان ينوي أن يكرس عشر سنوات من حياته لدراسة العلم الطبيعي والرياضي، حتى يمكنه أن يبرر الفكرة علميا، ولكن صحته لم تساعده على ذلك. وهو على أية حال لا يكف عن إبداء إعجابه بالمنهج العلمي التجريبي، فيقول: «إنني لأعجب بذلك الشك الذي يجعلني أجيب عنه بقولي؛ فلنجرب ذلك! ولست أريد أن أسمع شيئا عن كل الأمور والمشاكل التي لا تسمح بإجراء التجربة عليها، تلك هي حدود معنى الحقيقة في نظري، وهنا تفقد الشجاعة كل مبرر لها.»
3
وهكذا يعترف نيتشه بمبدأ التحقيق التجريبي
Vérification
الذي أصبح فيما بعد أساسا للوضعية، ولا يرى للشجاعة التي تحاول تعدي نطاق التجربة أي مبرر.
صفحه نامشخص
وسوف تتاح لنا في خلال هذا الكتاب فرص مختلفة لإبداء أوجه الشبه بين آراء نيتشه وبين الآراء الوضعية الحديثة في مشاكل عديدة، وخاصة في أصل القيم والنسبية الأخلاقية، ولكن الوضعية السائدة في عصر نيتشه لم تكن لترضيه على الإطلاق؛ فمبدأ «الغيرية» الذي وضعه «كونت» قد تعرض لنقد شديد من جانب نيتشه. ويمكن أن يقال إن تلك الوضعية كانت تحاول أن تعطي صورة علمية للمبادئ الأخلاقية العامة الشائعة، التي كرس نيتشه حياته للحملة عليها. وفضلا عن ذلك، فإن تفكير نيتشه لا يمكن أن تستوعبه كلمة الوضعية؛ إذ إن النزعة الصوفية الواضحة فيه تتجاوز نطاق الوضعية تماما. وإن الجانب الشعري والفني، الذي سيطر على أروع كتب نيتشه؛ أعني كتاب زرادشت، ليبعد تماما عن كل ما هو وضعي؛ فأقصى ما يمكننا أن نقوله هو أن نيتشه قد اعترف للوضعية بالفضل، ولكن في مجالها الخاص الذي تعداه هو في أهم أفكاره ومؤلفاته.
البرجماتية
رأى بعض الباحثين في فلسفة نيتشه استباقا للبرجماتية؛ إذ هما يشتركان في الحملة على العقل الخالص ورده إلى المقتضيات الحيوية للإنسان، ويعبر «مارسيل بول»
M. Boll
عن هذا التقارب فيقول: «في نهاية القرن الماضي، نادى فلاسفة معينون من القارتين بأن العقل خاضع لحاجاتنا النفعية، وبأن عليه أن يخلي مكانه لمشاعرنا الباطنة، ولمثلنا الأخلاقية، أو لعقائدنا الدينية، ولقد كانت ألمانيا - وهي لم تزل عندئذ واقعة تحت تأثير شلنج وشوبنهور - هي البادئة بهذه الحركة، وذلك بظهور فلسفة نيتشه، ثم ظهر بعده مذهب البرجماتية في أمريكا عند بيرس أولا، وعند وليم جيمس من بعده.»
4
والواقع أن الوجه السلبي للبرجماتية؛ وأعني به نقد الأسس الميتافيزيقية القديمة، يكاد في كثير من الأحيان يكون ترديدا مباشرا لآراء سبق ظهورها عند نيتشه؛ فالاتجاه نحو العينية، ونقد فكرة الجوهر القديمة، وإخضاع القيم للوجود، كل هذا يمثل عاملا مشتركا بين الطرفين. بل إن التشابه ليمتد أيضا إلى الوجه الإيجابي في تفكير البرجماتية؛ فنظرية الحقيقة عند نيتشه تحمل شبها واضحا للنظرية البرجماتية. وقد لخص «جان فال» هذه النظرية بقوله: «إن المرء يحكم على الشيء بأنه حقيقي، ويكون في مسلكه سائرا في الاتجاه الصحيح، حينما يقول أو يفعل - بإزاء موقف خارجي ما - شيئا لا يتعارض مع ذلك الموقف، ويكون بينه وبين الموقف صلة معينة. فغياب البطلان والزيف، ووجود علاقة معينة مع الشيء، قوام الحقيقة.»
5
فالحقائق من خلق الإنسان، ومقياس صحة الأفكار هو نفعها أو صلاحيتها للعمل، ومن هنا تغيرت الحقائق بتغير المواقف وما يصلح لكل منها، واختفت الحقيقة الثابتة. فإذا أدركنا مدى تحمس نيتشه في الدفاع عن الحقيقة النسبية، وتأكيده أن الحقيقة هي ما ينفع الحياة، بل هي خطأ وبطلان ثبت نفعه، وبأن الحياة هي أساس الحقيقة ومصدرها الوحيد، فعندئذ يتبين لنا مدى التشابه بين آراء نيتشه وبين المذهب الذي عرف من بعده باسم البرجماتية.
ومع ذلك، فقد تطرف كثير من فلاسفة البرجماتية في النزعة اللاعقلية، إلى حد مهاجمة العلم واتخاذ منهج غير علمي تماما. وفي هذا ما يباعد بينهم وبين نيتشه، الذي ظل على احترامه للعلم - بالصورة التي كانت سائدة في عصره - إلى النهاية. بل لقد كان نقده للنزعة العقلية التجريدية راجعا، في رأيه، إلى تمسكه بالروح العلمية الصحيحة، التي تأبى أن تجعل من المجردات الخالصة أساسا لفهم الواقع الحي المتغير، ولنضف إلى ذلك ما لاحظناه عن بعض المذاهب الأخرى، فالبرجماتية بدورها لا تستنفد كل الميادين التي تناولها تفكير نيتشه، الذي كان أوسع من أن ينحصر في الحدود التي اقتصر عليها هذا المذهب.
صفحه نامشخص
الوجودية
يحرص كثير من الفلاسفة الوجوديين على أن ينسبوا تفكير نيتشه إلى مذهبهم، ويعدوه واحدا منهم. ولا شك في أن المرونة الكبيرة التي كانت يتصف بها أسلوب نيتشه، تعين هؤلاء في دعواهم إلى حد بعيد؛ إذ تقبل كتابات نيتشه تفسيرات عدة، وتستطيع كثير من المذاهب - كما رأينا من قبل - أن تجتذبه إلى فلكها الخاص. وربما كانت الوجودية أكثر من غيرها نجاحا في هذا الصدد. ومن هنا، فسوف نتحدث عن العلاقة بين تفكير نيتشه وبين الوجودية بمزيد من الإسهاب لنتبين في آخر الأمر إلى أي مدى يمكن أن يعد نيتشه فيلسوفا وجوديا.
لا شك في أن الارتباط بين حياة نيتشه وبين تفكيره، على النحو الذي عرضناه في الفصل الأول، يقرب بينه وبين كثير من الوجوديين. وإذا كنا قد لاحظنا أن هذا الارتباط إنما يتم عن طريق إثراء الفكر وبعث الحياة فيه، لا عن طريق امتلاء الحياة واستخلاص الفكر منها، فإننا سوف نجد له في ذلك بين الوجوديين نظيرا؛ وأعني به كيركجورد
Kierkegoard ، الذي كانت تجاربه الحية هو الآخر هزيلة شحيحة، وكان ما في هذه التجارب من عنف راجعا إلى أنها هي وحدها - على قلتها - مدار حياته، وإلى أنه قد وجه إليها وركز عليها من باطن ذاته شحنات عاطفية وانفعالية جعلتها تبدو مليئة بحق.
وفي فهم نيتشه للإنسان ما يقربه من الوجودية كثيرا؛ فمن أهم صفات التفكير الوجودي، تأكيده تجدد الوجود الإنساني ؛ فليس للإنسان ماهية ثابتة، بل إن وجوده سابق على ماهيته، أو هو الذي يكون ماهيته؛ فمن خلال وجود الإنسان تتحقق ماهيته. وليست له أية ماهية ثابتة تتحدد مقدما. ويكاد نيتشه يعبر عن هذه الفكرة ذاتها حين يصرح بأن الإنسان في محاولة دائمة لا تعرف الاستقرار؛ فهو لا يرضى بشيء، ولا يقف عند حد. والإنسان، على حد تعبيره، هو الحيوان الذي لم يثبت بعد، وهو الحيوان الذي لم يصنف أو يحدد نوعه؛ «ففي الإنسان شيء أساسي ناقص.» وبرغم ذلك، فإن هذا النقص هو ما يعلي من قدر الإنسان؛ فعدم تحدد ماهيته هو الذي مكنه من أن يجدد وجوده على الدوام. ومن هنا عرف الإنسان في كتاب زرادشت بأنه «خالق ذاته
Selbstschaffender »؛ أي إن هذا النقص الأساسي هو مصدر حريته، وهو الذي يمكنه من تجديد ذاته وخلقها على الدوام. وفي وسعنا أن نفسر فكرة أساسية من أفكار نيتشه؛ أعني فكرة إرادة القوة، على نحو يجعل منها مظهرا من مظاهر هذا المبدأ العام الذي تميزت الوجودية بالتنبيه إليه؛ أعني أن الإنسان كائن يتجاوز ماهيته على الدوام، ولا يقف بها عند حد.
وللإنسان في كل فلسفة وجودية موقف أساسي، يعبر عما تتميز به أهم اللحظات التي تتبدى فيها إنسانيته. في هذا الموقف يتخلى الإنسان عن كل ثبات، ويقف في مفترق الطرق، بين الثبات الذي تركه وتجاوزه، وبين الطرق المتشعبة التي ترتسم لحريته. هذا الموقف الأساسي هو عند كيركجورد، القلق، الذي يراه خير تعبير عن عدم تحدد ماهية الإنسان؛ لأنه الحالة التي تتفتح فيها أمانة آفاق عديدة قبل أن يستقر على واحد منها. وقد حاول بعض الوجوديين أن يجدوا عند نيتشه موقفا مشابها، فأشاروا إلى فكرة «الخطر» عنده، والخطر هو «السير في الطريق»؛ فالإنسان الحقيقي هو الذي يسير في الطريق؛ أي هو الذي يحاول دائما أن يترك حالته السابقة ليتوجه إلى حالة تعلو عليها؛ أما الذي يقف حيث هو، ولا يسير في الطريق، ولا يمارس الشعور بالخطر، فلم تتحقق إنسانيته بعد، وهو الذي يسميه نيتشه «بالإنسان الأخير»، وهنا يكون أوان الكلام عن فكرة أخرى من أفكار نيتشه، يمكن أن تخضع بدورها لهذا التفسير الوجودي؛ أعني فكرة «الإنسان الأرقى» التي يمكن أن تفسر على أنها تعبير عن تلك الدعوة إلى تجاوز الماهية الثابتة، وحشد القوى الخالقة للإنسان حتى يعلو بها على ذاته دواما.
ومن قبيل ذلك التقريب أيضا، تفسير خاص لفكرة العود الأبدي،
6
على نحو يجعل منها تعبيرا عن رغبة النفس في السيطرة على الزمان؛ فحين يعود كل ما مضى عددا لا متناهيا من المرات، يستوي عند النفس الماضي والمستقبل، ويصبح كل ماض قمت به، مستقبلا سأقوم به فيما بعد. وهكذا تتحرر النفس من قيد الماضي بإحالته إلى مستقبل، وتسيطر الإرادة الخالقة على الزمان في كل مظاهره، لا في مستقبله فحسب. وفي هذا الفهم لفكرة العود الأبدي يبدو نيتشه وجوديا أكثر من الوجوديين، الذين اقتصروا على تأكيد سيطرة النفس على المستقبل وتحكمها فيه.
صفحه نامشخص