ألا يا بانة الحادي
بشاطئ نهر بغداد
شجاني فيك صباح
طروب فوق مياد
يذكرني ترنمه
ترنم ربة الوادي
وإن جادت بنغمتها
فمن (أنجشة الحادي)
والحقيقة أن الموسيقى لم يعرف لها واضع، وكل من حدد واضعا لها فقد أخطأه الجد وخدعه الباطل، ولم يدرك حقيقة العمران وأطوار بني الإنسان، فإن الإنسان في أي طور ظهر وأرض انتشر، فالغناء حليفه والشعر أليفه - أو ما تراك ترى الأمم الهمجية والقبائل الوحشية لها ألحان وأنغام تلائم طبعها تناسب حالها - نعم إنها تختلف في الأمم اختلافا هائلا وتتباين تباينا عظيما، ومنشأ هذا تفاوتهم في المدنية ودرجاتهم في العلم والحضارة - فالذي ينظر مثلا إلى الزنجي في أفريقيا - والأديب في أوربا يضع كل واحد منهما في كفة ميزان - يرى أن الأول كأنه بالنسبة إلى الآخر ليس من نوع الإنسان، بل هو من نوع آخر يشبهه في اعتدال القامة وتقاطيع العضلات - وكما أن الفرق الذي تراه في شكلهما وعلمهما تراه بين لحنهما وغنائهما.
وقصارى القول في الموسيقى أن النفس عند سماع النغم والأصوات يدركها الفرح والطرب بلا شك، فيصيب مزاج الروح نشوة يستسهل بها الصعب ويستميت في ذلك الوجه الذي هو فيه، وهذا موجود حتى في الحيوانات العجم بانفعال الإبل بالحداء والخيل والحمير بالصفير كما علمت - ويزيد ذلك تأثيرا إذا كانت الأصوات متناسبة كما في الغناء، وأنت تعلم ما يحدث لسامعه من مثل هذا المعنى - ولأجل ذلك تتخذ العجم في مواطن حروبهم (الآلات الموسيقية) لا طبلا ولا بوقا فيحدق المغنون بالسلطان في موكبه بآلاتهم، ويغنون فيحركون نفوس الشجعان بضربهم إلى الاستمالة. ولقد سمعنا أيضا أن في حروب العرب الأقدمين من كان يتغنى أمام الموكب بالشعر ويطرب، فتجيش همم الأبطال بما فيها ويسارعون إلى مجال الحرب وينبعث كل قرن إلى قرنه - وكذلك زناتة من أمم المغرب يتقدم الشاعر عندهم أمام الصفوف، ويتغنى فيحرك بغنائه الجبال الرواسي، ويبعث على الاستمالة من لا يظن بها، ويسمون ذلك الغناء (تاصوكايت) - وأصله كله فرح يحدث في النفس، فتنبعث عنه الشجاعة كما تنبعث نشوة الخمر بما يحدث عنها من الفرح.
صفحه نامشخص