ملوک الطوائف و نظرات در تاریخ اسلام
ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام
ژانرها
وكان ذلك العربي الداهية، والثعلب الماكر، يعرف كيف يستفيد من شفقة المسيحيين، ولو أنه كان يسخر من فرط هذه الشفقة إذا خلا مع نفسه.
وقد أحس من نفسه أن عليه جزية واجبة الأداء، فرأى أن يتظاهر بأنه شديد الاهتمام ببقايا «إيزيدور» التي لا يفرط فيها إلا مرغما كارها، والتي يعدل إخراجها من قصره انتزاع روحه من جسده. •••
وعول على استغلال هذا الموقف لفائدته، فكان يفعل فعل المدين الذي إذا ما ألح عليه دائنوه وأحرجوه، عرف كيف يدخل في الحساب ذلك الأثر الخالد النادر ويغالي في ثمنه، ويحمل دائنيه على قبوله، وهكذا لعب المعتضد دوره إلى النهاية، فإنه عندما أراد «استورجه» وقد توفي أخيرا زميله «الڤينوس» أن يأخذ الأهبة لمبارحة إشبيلية وحمل رفات «إيزيدور» في مركب جاء المعتضد ووضع على التابوت غطاء من الديباج المحلى بالنقوش والكتابات العربية البديعة وجعل يصعد الزفرات، ويتصنع الحسرات، وهو يقول: «ها أنت ذا تبرح المدينة يا «إيزيدور» المبجل، وأنت تدري ما بين بلدينا من أوثق روابط المودة والعلائق.»
وكان العام التالي (1064) من أسوأ الأعوام وأشدها على المسلمين، فاضطر أحد أمرائهم إلى الاستسلام والنزول على حكم «فردينند» بعد أن شدد عليه الحصار ستة أشهر، وقضت شروط الصلح أن يعطى للظافر خمسة آلاف من المدافعين، وأن يغادر الباقون مساكنهم غير مزودين إلا بما يلزمهم من النقود لسفرهم، وفضلا عن ذلك فقد أمر جميع المسلمين النازلين بين «دويرو» و«منتاجو» بأن يجلوا عن بلادهم.
ووجه «فردينند» بعد ذلك قوته إلى مملكة بلنسية، وعليها ذلك الضعيف المتراخي «عبد الملك المظفر» الذي خلف أباه عبد العزيز سنة (1061).
وحاصر «القشتاليون» العاصمة، ولكنهم - بعد أن وجدوها منيعة - رأوا أن يلجئوا إلى الحيلة ليخلو العاصمة من الحامية، فتظاهروا بالانسحاب، فخرج البلنسيون في ثياب العيد يتعقبونهم، وهم يظنون أن الانتصار أمر سهل، على أن هذه الجرأة قد كلفتهم ثمنا باهظا، فقد باغتهم القشتاليون بالقرب من الطريق المؤدية من بلنسية إلى «مورس» وقتلوا أكثر رجالهم، ونجا ملكهم على ظهر سابح، وكان الاستيلاء على قلعة «باريسترو» وهي من أهم القلاع في الشمال الشرقي بعد نكبة أخرى مروعة.
وقد سقطت هذه القلعة في يد جيش من النورمنديين كان يقوده «غليوم دي منتري» كبير قواد البابا، ويطلق عليه في روايات الفروسية اسم «أوركوني» أي القصير الأنف، وكانت خاتمة المقهورين خاتمة أليمة، فقد سلم جنود الحامية على شريطة الإبقاء على حياتهم، ولكنهم - حين خرجوا - من الحصن قتلوا على بكرة أبيهم، ولم يكن حظ العامة أحسن من حظ الجند، فقد أمنوهم أيضا على حياتهم، وبينما هم يتأهبون للرحيل من المدينة، إذ نظر «غليوم دي منتري» فراعه كثرة عددهم، واستولى عليه القلق والاضطراب، فمنعهم من الخروج وأمر رجاله أن يصفوهم صفوفا متقاربة، وأعمل فيهم القتل، ولم يكف عن المذبحة إلا بعد أن قتل منهم ستة آلاف رجل، ثم أمر البقية الباقية أن يعود كل إلى منزله ومعه زوجه وولده، وذهب النورمنديون واقتسموا - فيما بينهم - كل شيء وصلت إليه أيديهم، وأصاب كل فارس لنفسه منزلا - كما روى ذلك بعض مؤرخي العرب في ذلك العهد - فكان له كل ما في المنزل من أزواج وبنات وأولاد ونقود ومتاع، وكان له بحكم الاستيلاء والأسر أن يفعل برب الدار ما أراد من ضروب القهر، وصنوف التعذيب حتى يضطره للإذعان والاعتراف بما عساه أن يكون قد أخفاه من مقتنيات وأموال، وكان من الخير الكثير للمسلم أن يقضي نحبه خلال هذا التعذيب؛ لأن حياته كانت مقرونة بما لا يطيق من الألم والتبريح والعذاب المطرد، ومن أشد ما كان يفعله هؤلاء من النكاية والعار والفضيحة للمسلمين أنهم كانوا يهتكون أعراض الزوجات والبنات أمام أزواجهن وآبائهم وإخوتهم وعلى مرأى منهم، وهم موثقون بالسلاسل والأغلال ليكرهوهم على شهود هذه المناظر الفاضحة المخزية، وكان أولئك الأسرى المساكين لا يملكون بإزاء هذه الحالة المخزية المحزنة غير صياحهم وإسبال دموعهم الغزيرة هلعا وتأثرا من تلك المناظر التي كانت تتحطم بإزائها قلوبهم، وتنشق لها مرائرهم. •••
ولم تدم هذه الحوادث طويلا، فقد كان من حسن حظ المسلمين أن غادر «غليوم» وجنوده إسبانيا عائدين إلى بلادهم، حيث ينعمون بما أصابوه من مغانم وأموال، ولم يبق في المدينة غير حامية ضعيفة، وقد أمكنت الفرصة المنذر ملك سرقسطة من الاستيلاء عليها حيث أمده المعتضد بخمس مئة فارس فاستولى عليها في ربيع السنة التالية.
وكان «فردينند» يواصل جهوده للاستيلاء على بلنسية؛ ولذلك كان مركز صاحب هذه المدينة في نهاية الحرج والخطورة بالرغم من أن صهره المأمون أمده بما في استطاعته من المدد الكافي، ولكن الذي نفس عنه هذا الضيق مرض «فردينند» واضطراره للعودة إلى ليون، على أنه - بعد سفر عدوه المفاجئ - لم يدم سروره، ولم يسكن فزعه، ولم يهدأ روعه، فقد خلعه صهره من المملكة، وأدمجها في مملكته بعد أن اعتقله بعض حصونه، ولم يمض على هذا العاهل المريض والعدو المفزع الرهيب غير برهة من الزمن يسيرة ثم قضى نحبه، فتنفس المسلمون بموته الصعداء، وقد كان «فردينند» مثالا حسنا، وقدوة صالحة لغيره من الملوك في البسالة والإقدام والتقوى وسلامة الضمير ونقاء الجيب، وختمت حياته الحافلة الرائعة، بخاتمة حسنة رائعة، وذلك أنه حين أسرع بالعودة إلى بلاده وصل إلى ليون يوم السبت 24 ديسمبر فذهب - من فوره - إلى الكنيسة، وصلى فيها صلوات وهبها إلى روح القديس «إيزيدور»، ودخل قصره فلبث فيه بضع ساعات، وبدأ يشعر إلى درجة اليقين أن حينه قد حان، وأن ساعته الأخيرة قد دنت، فعاد - حين أرخى الليل سدوله - إلى الكنيسة حيث كان القساوسة يحيون ليلة عيد الميلاد بترتيلاتهم وأنغامهم الشجية، وبينما كانوا يرتلون الصلاة الأخيرة في سحر تلك الليلة، على نظام الطقوس في طليطلة حسبما كان متبعا في ذلك الحين، شارك «فردينند» القساوسة في صلواتهم، ومزج صوته الضعيف بأصواتهم، وطلب إليهم - عند طلوع الفجر - أن يسمعوه «القداس»، وبعد أن نال سر القربان المقدس خارت قواه، فأقيم إلى سريره، وهو يمشي غير مستمسك معتمدا على بعض رجال الحاشية، وفي صبيحة اليوم التالي ارتدى ملابسه الملكية، وأخذ إلى الكنيسة فخلع المعطف الملكي والتاج، وجثا على ركبتيه أمام المذبح، وقال بصوت واضح: «لك القوة والملك يا رب، أنت ملك الملوك، لك ملك السموات والأرض، إنني راد إليك ما أعطيتني من الملك الذي وليته ما شاءت إرادتك، ضارع إليك أن تدخل في وسيع رحمتك روحي الذي طهرته وخلصته من أدران هذا العالم.»
ثم سجد على الأحجار يجأر بالبكاء، ويستغفر من ذنوبه، وأمر عليه يده أحد القساوسة فنال المسحة الأخيرة، وسجي بالمسوح، وغطي رأسه برماد، وأخذ يرتقب الموت وهو مملوء إيمانا ويقينا وطمأنينة.
صفحه نامشخص